التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

أنّها قالت : قدمت عليّ امرأة من أهل دومة الجندل تبتغي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد موته حداثة ذلك تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به. قالت عائشة لعروة : يا ابن أختي ، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيشفيها ، كانت تبكي حتّى أنّي لأرحمها وتقول : إنّي لأخاف أن أكون قد هلكت ، قالت : كان لي زوج فغاب عنّي ، فدخلت عليّ عجوز فشكوت ذلك إليها ، فقالت : إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك ؛ فلمّا كان الليل جاءتني بكلبين أسودين ، فركبت أحدهما وركبت الآخر ، فلم يكن كشيء حتّى وقفنا ببابل ، فإذا برجلين معلّقين بأرجلهما ، فقالا : ما جاء بك؟ فقلت : أتعلّم السحر! فقالا : إنّما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي. فأبيت وقلت : لا. قالا : فاذهبي إلى ذلك التنّور فبولي فيه ثمّ ائتي ، فذهبت ، ففرغت ولم أفعل فرجعت إليهما فقلت : قد فعلت. فقالا : ما رأيت؟ قلت : لم أر شيئا! فقالا : كذبت لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فإنّك على رأس أمرك ، فأبيت! فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه وذهبت فبلت فيه ، فرأيت فارسا مقنّعا بحديد خرج منّي حتّى ذهب في السماء وغاب عنّي حتّى ما أراه ، وجئتهما فقلت : قد فعلت. فقالا : فما رأيت؟ فقلت : رأيت فارسا مقنّعا خرج منّي فذهب في السماء حتّى ما أراه! فقالا : صدقت ، ذلك إيمانك خرج منك ، اذهبي. فقلت للمرأة : والله ما أعلم شيئا ولا قالا لي شيئا! فقالت : بلى ، لن تريدي شيئا إلّا كان ، خذي هذا القمح فابذري ، فبذرت وقلت : اطلعي فأطلعت ، وقلت : أحقلي فأحقلت ، ثمّ قلت : أفركي فأفركت ، ثمّ قلت : أيبسي فأيبست ، ثمّ قلت : أطحني فأطحنت ، ثمّ قلت : أخبزي فأخبزت! فلمّا رأيت أنّي لا أريد شيئا إلّا كان سقط في يدي ، وندمت والله يا أم المؤمنين والله ما فعلت شيئا قطّ ولا أفعله أبدا.

قالت عائشة : فسألت أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم يومئذ متوافرون ، فما دروا ما يقولون لها ، وكلّهم خاف أن يفتيها بما لا يعلمه ، إلّا أنّه قد قال لها ابن عبّاس أو بعض من كان عنده : لو كان أبواك حيّين أو أحدهما لكانا يكفيانك! (١)

قلت : حديث غريب وأغرب منه الحديث التالي :

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٤٦ ؛ الطبري ١ : ٦٤٥ ـ ٦٤٦ / ١٤٠٩ ؛ الحاكم ٤ : ١٥٥ ـ ١٥٦ ؛ البيهقي ٨ : ١٣٦ ـ ١٣٧ ؛ الثعلبي ١ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ؛ ابن كثير ١ : ١٤٦ ـ ١٤٧.

٤٦١

[٢ / ٢٨٨٠] أخرج ابن المنذر من طريق الأوزاعي عن هارون بن رئاب قال : دخلت على عبد الملك بن مروان وعنده رجل قد ثنّيت له وسادة وهو متكّىء عليها قالوا : هذا قد لقي هاروت وماروت!. فقلت : حدّثنا. فأنشأ يحدّث ـ ولم يتمالك دموعه ـ فقال : كنت غلاما حدثا ولم أدرك أبي. وكانت أمّي تنفق عليّ وتعطينى من المال ما أفسده وأبذره ولا تمنعني منه. فلمّا كبرت وطال ذلك أحببت أن أعلم : من أين لأمّي هذه الأموال؟! فسألتها يوما ، فقالت : كل وتنعّم ولا تسأل ، فهو خير لك! فألححت عليها فقالت : إنّ أباك كان ساحرا وجمع هذه الأموال من السحر قال : فأكلت ما أكلت ومضى ما مضى ، ثمّ تفكّرت وقلت : يوشك أن يذهب هذا المال ويفنى ، فينبغي أن أتعلّم السحر فأجمع كما جمع أبي! فسألت أمّي : من كان خاصّة أبي وصديقه؟ قالت : فلان في مكان مّا! فتجهّزت وأتيته فقال : من الرجل؟ قلت : ابن فلان صديقك. قال : نعم ، مرحبا. ما جاء بك ، وقد ترك أبوك مالا لا نفاد له! قلت : جئت لأتعلّم السحر! قال : يا بنيّ لا ترده ، لا خير فيه! قلت : لا بدّ من ذلك فألحّ عليّ بالترك وألححت عليه بالوفاق.

فقال : أمّا إذا أبيت ، فاذهب الآن ، وإذا كان يوم كذا فوافني هاهنا ففعلت ووافيته على الموعد وكان يناشدني أيضا وينهاني وأنا مصرّ على العمل فلمّا رآني قد أبيت قال لي : فإنّي أدخلك موضعا ، فإيّاك أن تذكر الله فيه!! فأخذني وأدخلني في سرب تحت الأرض ، فجعلت أدخل ثلاثمأة وكذا مرقاة ولا أنكر من ضوء النهار شيئا. فلمّا بلغت أسفله إذا أنا بهاروت وماروت معلّقان بالسلاسل في الهواء ، وإذا أعينهما كالترسة ولهما أجنحة فنظرا إليّ فقالا : آدميّ؟ قلت : نعم! قالا : من أمّة من؟ قلت : من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! قالا : أو بعث؟ قلت : نعم! قالا : اجتمع الناس على رجل واحد أم هم مختلفون؟ قلت : قد اجتمعوا على رجل واحد! فساءهما ذلك قالا : كيف ذات بينهم؟ قلت : سيّء! فسرّهما ذلك فقالا : هل بلغ البنيان بحيرة الطبريّة؟ قلت : لا ، فساءهما ذلك فسكتا ، فقلت لهما : ما بالكما حين أخبرتكما على الاجتماع ساءكما ذلك؟ قالا : إنّ الساعة لم تقترب مادام الناس مجتمعين على رجل واحد. قلت : فما بالكما سرّكما حين أخبرتكما بفساد ذات البين؟ قالا : لأنّا رجونا اقتراب الساعة! قلت : فما شأن بحيرة الطبريّة؟ قالا : لأنّ الساعة لا تقوم حتّى يبلغ البنيان بحيرة الطبريّة! فقلت لهما :

٤٦٢

أوصياني! قالا : إن قدرت أن لا تنام فافعل ، فإنّ الأمر جدّ. (١)

قلت : وهكذا ذهب القوم في سفاسفهم يستخفّون بعقول الناس ويسردون أقاصيص لا وزن لها ولا اعتبار وقد غفلوا عن أنّ الأمر جدّ ، ولكنّهم في نزواتهم يعمهون.

[٢ / ٢٨٨١] وذكر الزبير بن بكّار في الموفّقيات وابن مردويه والديلمي : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن المسوخ؟ فقال : هم ثلاثة عشر : الفيل والدبّ والخنزير والقرد والجرّيث والضبّ والوطواط والعقرب والدعموص والعنكبوت والأرنب وسهيل والزهرة. فقيل : يا رسول الله وما سبب مسخهنّ؟ فقال : أمّا الفيل فكان رجلا جبّارا لوطيّا لا يدع رطبا ولا يابسا ، وأمّا الدبّ فكان مؤنّثا يدعو الرجال إلى نفسه ، وأمّا الخنزير فكان من النصارى الّذين سألوا المائدة فلمّا نزلت كفروا ، وأمّا القردة فيهود اعتدوا في السبت ، وأمّا الجرّيث فكان ديّوثا يدعو الرجال إلى حليلته ، وأمّا الضبّ فكان أعرابيا يسرق الحاجّ بمحجنه ، وأمّا الوطواط فكان رجلا يسرق الثمار من رؤوس النخل ، وأمّا العقرب فكان رجلا لا يسلم أحد من لسانه ، وأمّا الدعموص فكان نمّاما يفرّق بين الأحبّة ، وأمّا العنكبوت فامرأة سحرت زوجها ، وأمّا الأرنب فامرأة كانت لا تطهر من حيض ، وأما سهيل فكان عشّارا باليمن ، وأمّا الزهرة فكانت بنتا لبعض ملوك بني إسرائيل افتتن بها هاروت وماروت». (٢)

قال ابن الجوزي : هذا حديث موضوع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما وضعه إلّا ملحد يقصد وهن الشريعة بنسبة هذا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو مستهين بالدين لا يبالي ما فعل.

والمتّهم به مغيث. قال أبو الفتح الأزدي : خبيث كذّاب لا يساوى شيئا روى حديث المسوخ وهو حديث منكر. (٣)

***

[٢ / ٢٨٨٢] قال أبو يعقوب وأبو الحسن (٤) : قلنا للإمام أبي محمّد العسكري عليه‌السلام : إنّ قوما عندنا يزعمون أنّ هاروت وماروت ملكان اختارتهما الملائكة لمّا كثر عصيان بني آدم ، وأنزلهما إلى

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٤٦ ـ ٢٤٨.

(٢) الدرّ ١ : ٢٤٩ ؛ كنز العمّال ٦ : ١٧٨ ـ ١٧٩ / ١٥٢٥٤.

(٣) راجع : الموضوعات لابن الجوزي ١ : ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٤) هما راويا التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمّد العسكري عليه‌السلام.

٤٦٣

الدنيا ، وأنّهما افتتنا بالزهرة ، وأرادا الزنا بها ، وشربا الخمر ، وقتلا النفس المحرّمة ، وأنّ الله يعذّبهما ببابل ، وأنّ السحرة منهما يتعلّمون السحر ، وأنّ الله مسخ تلك المرأة هذا الكوكب الذي هو الزهرة!؟

فقال الامام عليه‌السلام : «معاذ الله من ذلك إنّ ملائكة الله معصومون من الخطأ محفوظون من الكفر والقبايح بألطاف الله تعالى : قال الله تعالى فيهم : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)(١). وقال تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ) يعني الملائكة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)(٢) وقال في الملائكة أيضا : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ). (٣)

ثمّ قال عليه‌السلام : لو كان كما يقولون لكان الله قد جعل هؤلاء الملائكة خلفاءه على الأرض ، وكانوا كالأنبياء في الدنيا وكالأئمّة ، أفيكون من الأنبياء والأئمّة قتل النفس والزنا!؟

ثمّ قال عليه‌السلام : أو لست تعلم أنّ الله تعالى لم يخل الدنيا قطّ من نبيّ أو إمام من البشر ، أو ليس الله يقول : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يعني إلى الخلق (إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى)(٤) فأخبر أنّه لم يبعث الملائكة إلى الأرض ليكونوا أئمة وحكّاما ، وإنّما أرسلوا إلى أنبياء الله!

قالا : فقلنا له : فعلى هذا لم يكن إبليس أيضا ملكا؟ فقال : لا. بل كان من الجنّ ، أما تسمعان الله ـ عزوجل ـ يقول : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ)(٥) فأخبر الله ـ عزوجل ـ أنّه كان من الجنّ. وهو الذي قال الله تبارك وتعالى : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ»)(٦). (٧)

ورواه ابن بابويه الصدوق ـ رحمه‌الله ـ في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام. (٨)

__________________

(١) التحريم ٦٦ : ٦.

(٢) الأنبياء ٢١ : ١٩ ـ ٢٠.

(٣) الأنبياء ٢١ : ٢٦ ـ ٢٨.

(٤) يوسف ١٢ : ١٠٩.

(٥) الكهف ١٨ : ٥٠.

(٦) الحجر ١٥ : ٢٧.

(٧) راجع : تفسير الإمام : ٤٧٥ ـ ٤٧٦ ، والبحار ٥٦ : ٣٢١ ، والبرهان ١ : ٢٩٦ ـ ٢٩٧ ، ونور الثقلين ١ : ١٠٧ ـ ١٠٩.

(٨) العيون ١ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣ / ١ ، باب ٢٧ فيما جاء في هاروت وماروت.

٤٦٤

كلام عن عصمة الملائكة

العصمة عبارة عن بصيرة نافذة وحاجزة دون ارتكاب الذمائم تلك الذمائم التي يترفّع عنها ذوو النفوس القدسيّة الملكوتيّة.

وهكذا الأنبياء والأولياء الصالحون يملكون بصيرة نافذة ، يرون من كلّ فضيلة فضيلتها الذاتيّة ليرغبوا فيها رغبة ذاتيّة وبدافع نفسي عريق وكذا يرون من كلّ رذيلة رذيلتها الذاتيّة ، ليجتنبوها ذاتيّا وبحاجز نفسي عميق فلا يكاد أن يمدّوا يدا إلى إثم ، أو يرتكبوا مظلمة ، ماداموا على ذلك الانبعاث النفسي الرشيد.

وهذا لا يعني أنّهم مجبورون على ذلك ، بل مجبولون عليه ، بفضل بصيرتهم وكمال عقلهم ورشد طويّتهم فإنّما هي إرادة ناشئة من صميم الذات الصافية الضاحية على وضح النور.

وكذلك الملائكة (عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ). (١) لهم أنفس نوريّة بيضاء لائحة لا يريدون إلّا ما أراده الله ولا يفعلون إلّا ما أمرهم الله لا عن إجبار وإكراه ، وإلّا لم يكن مدحا لهم ، بل عن إرادة حازمة ، ناشئة عن بصيرتهم الذاتيّة النافذة.

وهم على درجات : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ). (٢)(لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ). (٣)

ومن ثمّ فإنّهم ـ بفضل بصيرتهم وحزم إرادتهم ـ لا يرتكبون خطيئة ، مادام قبحها لائحا لهم بوضوح ، وهكذا كلّ من طابت نفسه ولطفت سجيّته ، لا يقرب إثما ، وإنّما يفعل الخير محضا ويأتي بصالح الأعمال خالصة. (٤)

(لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ). (٥)

فالملائكة مترفّعون في صميم الذات عن ارتكاب الآثام ، ولا تطيق قدسيّة نفوسهم التخطّي عمّا خطّط لهم في مسيرة الوجود.

__________________

(١) الأنبياء ٢١ : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) الصّافات ٣٧ : ١٦٤ ـ ١٦٦.

(٣) التحريم ٦٦ : ٦.

(٤) راجع : الميزان ١٩ : ٣٨٨.

(٥) الأنبياء ٢١ : ١٩ ـ ٢٠.

٤٦٥

وعليه فكلّ ما حيك على غير هذا المنوال ، وهم أو خيال ومن نسج الإسرائيليّات.

وقفة عند مسألة السحر

لا بدّ من وقفة هنا عند مسألة السحر ، ممّا كان اليهود يجرون خلفه ويتركون كتاب الله وراء ظهورهم :

إنّه لا يزال مشاهدا بين حين وآخر أنّ بعض الناس يملكون خصائص لم يكشف العلم عن كنهها بعد. لقد تسمّى بعضها بأسماء ولكن من غير أن يحدّد كنهها ولا طرائقها.

هذا «التيليپاثي» ـ التخاطر من بعيد ـ ما هو؟ وكيف يتمّ؟ وكيف يملك إنسان أن يلهم إنسانا على أبعاد وفواصل شاسعة ، فينتقل منه إليه خاطرة أو فكرة .. من غير أن يشعر الآخر بهذا الإخطار الذهني الذي أتاه من بعد ، وقد يكون من موجود روحاني خارج هذه الحياة ، فيزعم أنّه من فكرته ، وإن كان قد يستغرب خطور مثل هذه الخاطرة في ذهنه ، ومن غير سابقة ولا مناسبة!!

وهو نوع إيحاء عرف باسم الإلهام بفارق : أنّ الملهم لا ينكشف له مصدر الإلهام في حين أنّ الوحي الرسالي مشهود لدى الموحى إليه ، ذات الوحي والذي أوحى إليه ، شهود قطع ويقين. (١)

وهذا «التنويم المغناطيسي» ما هو؟ وكيف يتمّ؟ كيف يقع أن تسيطر إرادة على إرادة ، وأن يتّصل فكر بفكر ، فإذا أحدهما يلقى إلى الآخر ، وإذا أحدهما يتلقّى عن الآخر ، كأنّما يقرأ في كتاب مفتوح؟!

قال سيّد قطب : إنّ كلّ ما استطاع العلم أن يقوله إلى اليوم في هذه القوى التي اعترف بها ، هو : أن أعطاها أسماء! ولكنّه لم يقل قطّ : ما هي؟ ولم يقل قطّ : كيف تتمّ؟

وثمّة أمور كثيرة أخرى يماري فيها العلم ، إمّا لأنّه لم يجمع منها مشاهدات كافية للاعتراف بها ، وإمّا لأنّه لم يهتد إلى وسيلة تدخلها في نطاق تجاربه ، هذه الأحلام التنبّؤيّة : كيف يرى الرائي رؤيا عن مستقبل مجهول ، ثمّ إذا هذه النبوءة تصدق في الواقع بعد حين؟! وهذه الأحاسيس الخفيّة

__________________

(١) حسبما شرحناه في مباحثنا عن أقسام الوحي. (التمهيد ج ١).

٤٦٦

التي ليس لها اسم بعد ، كيف يحسّ أنّ أمرا مّا سيحدث بعد قليل أو أنّ شخصا مّا قادم بعد قليل ، ثمّ يحدث ما توقّع على نحو من الأنحاء؟!

إنّه من المكابرة في الواقع أن يقف إنسان لينفي ببساطة مثل هذه القوى الروحيّة في الكائن البشري ، لمجرّد أنّ العلم لم يهتد بعد إلى وسيلة يجرّب بها هذه القوى؟!

نعم ، ليس معنى هذا هو التسليم بكلّ خرافة ، والجري وراء كلّ أسطورة. إنّما الأسلم والأحوط أن يقف العقل الإنساني أمام هذه المجاهيل موقفا مرنا : لا ينفي على الإطلاق ولا يثبت على الإطلاق ، حتّى يتمكّن العلم بوسائله المتاحة له بعد ارتقاء هذه الوسائل من إدراك ما يعجز الآن عن إدراكه ، أو يسلّم بأنّ في الأمر شيئا فوق طاقته ، فيعرف حدوده ، ويحسب للمجهول في هذا الكون حسابه.

قال سيّد قطب : السحر من قبيل هذه الأمور. وتعليم الشياطين للناس من قبيل هذه الأمور. وقد تكون صورة من صوره : القدرة على الإيحاء والتأثير ، إمّا في الحواسّ والأفكار ، وإمّا في الأشياء والأجسام وإن كان السحر الذي ذكر القرآن وقوعه من سحرة فرعون كان مجرّد تخييل لا حقيقة له : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) ولا مانع أن يكون مثل هذا التأثير وسيلة للتفريق بين المرء وزوجه ، وبين الصديق وصديقه. فالانفعالات تنشأ من التأثّرات وإن كانت الوسائل والآثار ، والأسباب والمسبّبات ، لا تقع إلّا بإذن الله ، حسبما أسلفناه.

قال : أمّا من هما هاروت وماروت؟ ومتى كانا ببابل؟ فإنّ قصّتهما كانت متعارفة بين اليهود ، حيث لم يكذّبوا هذه الإشارة ولم يعترضوا عليها وقد وردت في القرآن الكريم إشارات مجملة لبعض الأحداث التي كانت معروفة عند المخاطبين بها ، وكان في ذلك الإجمال كفاية لأداء الغرض ، ولم يكن هنالك ما يدعو إلى تفصيل أكثر ، لأنّ هذا التفصيل ليس هو المقصود.

وليس من المستحسن لنا الجري خلف الأساطير الكثيرة التي وردت حول قصّة هاروت وماروت ، إذ ليست هنالك رواية واحدة محقّقة يوثق بها.

ولقد مضى في تاريخ البشريّة من آيات وابتلاءات ما يناسب حالتها وإدراكها في كلّ طور من أطوارها فإذا جاء الاختبار في صورة ملكين ، أو في صورة رجلين طيّبين كالملائكة. فليس هذا

٤٦٧

غريبا ولا شاذّا بالقياس إلى شتّى الصور وشتّى الابتلاءات الخارقة ، التي مرّت بها البشريّة ، وهي تحبو ، وهي تخطو ، وهي تقفو أشعّة الشعلة الإلهيّة المنيرة في غياهب الليل البهيم!

والمفهومات الواضحة المحكمة في هذه الآيات ، تغني عن السعي وراء المتشابه فيها بالقياس إلينا ، بعد ذلك الزمن المديد وحسبنا أن نعلم منها ضلال بني إسرائيل في جريهم وراء الأساطير ، ونبذهم كتاب الله المستيقن ، وأن نعرف أنّ السحر من عمل الشيطان ، وأنّه من ثمّ كفر يدان به الإنسان ، ويفقد به في الآخرة كلّ نصيب ورصيد. (١)

وقد أسبقنا الكلام عن السحر وعن أقسامه وما جاءت به الآثار ولهجت به الأخبار في القديم وفي الجديد ، وذكرنا ما يناسبها من نقد وتمحيص ، في كتابنا «التمهيد» (٢) فلا نعيد.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)

[٢ / ٢٨٨٣] أخرج ابن أبي حاتم بالإسناد إلى قتادة في قوله تعالى : (اشْتَراهُ) قال : أي استحبّه (٣) أي آثر السحر والفساد على صالح الأعمال.

[٢ / ٢٨٨٤] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم بالإسناد إلى السدّي في قوله تعالى : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا) قال : يعني اليهود ، باعوا أنفسهم (٤) إزاء ما استلموه من ثمن بخس.

[٢ / ٢٨٨٥] وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عبّاس أنّ نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله عزوجل : (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) قال : من نصيب. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت أميّة بن أبي الصلت يقول :

يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم

إلّا سرابيل من قطر وأغلال (٥)

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ١٣٠ ـ ١٣٢.

(٢) الجزء السابع من التمهيد : ٢٢٣ ـ ٢٥٠.

(٣) ابن أبي الحاتم ١ : ١٩٥ / ١٠٢٤.

(٤) ابن أبي حاتم ١ : ١٩٥ / ١٠٣٠ ؛ الطبري ١ : ٦٥٣ / ١٤٢٨ ؛ البخاري ٥ : ١٤٧ مع عدم ذكر الراوي.

(٥) الدرّ ١ : ٢٥١.

٤٦٨

[٢ / ٢٨٨٦] وأخرج ابن جرير عن وكيع ، قال سفيان ، سمعنا في قوله : (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أنّه ما له في الآخرة من نصيب. (١)

[٢ / ٢٨٨٧] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) قال : من نصيب. وكذا عن مجاهد والسدّي. (٢)

[٢ / ٢٨٨٨] وأخرج عن ابن عبّاس في قوله : (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) قال : قوام. (٣)

[٢ / ٢٨٨٩] وأخرج ابن جرير عن عبد الرزّاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) قال : ليس له في الآخرة حجّة. (٤)

[٢ / ٢٨٩٠] وأخرج ابن أبي حاتم بنفس الطريق عنه قال : ليس له في الآخرة جهة (أي وجهة) عند الله. (٥)

[٢ / ٢٨٩١] وأخرج عبد الرزّاق وابن جرير عن الحسن في قوله : (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) قال : ليس له دين. (٦)

[٢ / ٢٨٩٢] وأخرج عبد الرزّاق عن صفوان بن سليم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تعلّم شيئا من السحر قليلا أو كثيرا كان آخر عهده من الله». (٧)

[٢ / ٢٨٩٣] وأخرج البزّار عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس منّا من تطيّر أو تطيّر له ، أو تكهّن أو تكهّن له ، أو سحر أو سحر له ، ومن عقد عقدة ، ومن أتى كاهنا فصدّقه بما يقول

__________________

(١) الطبري ١ : ٦٥٢ / ١٤٢٤ ؛ التبيان ١ : ٣٨١.

(٢) الدرّ ١ : ٢٥١ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٩٥ / ١٠٢٦.

(٣) الدرّ ١ : ٢٥١ ؛ الطبري ١ : ٦٥٢ ـ ٦٥٣ / ١٤٢٧ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٨٨ ؛ الثعلبي ١ : ٢٥١.

(٤) الطبري ١ : ٦٥٢ / ١٤٢٥ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٨٣ / ٩٩ ، بلفظ : «أي ليس له في الآخرة جنّة عند الله». والظاهر أنّه تصحيف ؛ ابن كثير ١ : ١٤٨ ، بلفظ : «ليس له في الآخرة من جهة».

(٥) ابن أبي حاتم ١ : ١٩٥ / ١٠٢٧.

(٦) الدرّ ١ : ٢٥١ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٨٣ / ١٠٠ ؛ الطبري ١ : ٦٥٢ / ١٤٢٦ ؛ الثعلبي ١ : ٢٥١ ، بلفظ : «ما له في الآخرة من خلاق من دين ولا وجه عند الله» ؛ أبو الفتوح ٢ : ٨٨ ، بلفظ : «ما له من دين ولا وجه عند الله» ؛ التبيان : ١ / ٣٨١ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٩٥ / ١٠٢٨.

(٧) الدرّ ١ : ٢٥٠ ؛ المصنّف لعبد الرزّاق ١٠ : ١٨٤ / ١٨٧٥٣ ؛ كنز العمّال ٦ : ٧٤٣ / ١٧٦٥٣.

٤٦٩

فقد كفر بما أنزل على محمّد». (١)

[٢ / ٢٨٩٤] وأخرج البزّار والحاكم وصحّحه عن عبد الله بن مسعود قال : من أتى كاهنا أو ساحرا فصدّقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٢)

[٢ / ٢٨٩٥] وروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ساحر المسلمين يقتل ، وساحر الكفار لا يقتل ، قيل : يا رسول الله ، ولم ذاك؟ قال : لأنّ الشرك والسحر مقرونان ، والذي فيه من الشرك أعظم من السحر. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ولذلك لم يقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن أعصم اليهوديّ الذي سحره. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : فإذا شهد رجلان عدلان على رجل من المسلمين أنّه سحر قتل ، والسحر كفر ، وقد ذكر الله عزوجل ذلك فقال : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) إلى قوله (فَلا تَكْفُرْ) فأخبر جلّ ذكره ، أنّ السحر كفر ، فمن سحر فقد كفر ، فقتل ساحر المسلمين لأنّه كفر ، وساحر المشركين لا يقتل لأنّه كافر بعد بما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم». (٣)

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)

أي أنّهم لو صدقوا في إيمانهم واستقاموا على الطريقة ، فلم يتعرّجوا إلى منعطفات الطريق ، لكان أصلح لهم مثوبة عند الله ، أي أحسن عاقبة في مآل أمرهم العاجل منه والآجل. (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)(٤). (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ ـ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ـ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ. فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ). (٥)

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٥٠ ؛ مسند البزّار ٩ : ٥٢ / ٣٥٧٨ ؛ مجمع الزوائد ٥ : ١١٧ ، باب السحر والكهانة ، قال الهيثمي : رواه البزّار ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقة.

(٢) الدرّ ١ : ٢٥٠ ؛ مسند البزّار ٥ : ٢٥٦ و ٣١٥ / ١٨٧٣ و ١٩٣١ ؛ الحاكم ١ : ٨ ، بلفظ : «عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أتى عرّافا وكاهنا فصدّقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا حديث صحيح على شرطهما جميعا» ؛ الكامل ٧ : ١٣٣ وفيه : «من أتى عرّافا أو كاهنا أو ساحرا فصدّقه ...» ؛ كنز العمّال ٦ : ٧٤٩ / ١٧٦٧٨ ؛ ابن كثير ١ : ١٤٨ ، وقال : «هذا إسناد صحيح وله شواهد أخر».

(٣) مستدرك الوسائل ١٣ : ١٠٧ ؛ دعائم الإسلام ٢ : ٤٨٢ / ١٧٢٥ ، كتاب الردّة والبدعة ، فصل ٢ ، ذكر الحكم في أهل البدعة والزنادقة.

(٤) الجنّ ٧٢ : ١٦.

(٥) سورة محمّد ٤٧ : ٢ و ٥.

٤٧٠

نعم هيهات من هؤلاء العمه العمي أن يرعووا ويرجعوا إلى الرشد والصواب؟!

[٢ / ٢٨٩٦] أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : كلّ شيء في القرآن «لو» فإنّه لا يكون أبدا. (١)

[٢ / ٢٨٩٧] وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن قتادة في قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) قال : آمنوا بما أنزل الله ، واتّقوا ما حرّم الله. (٢)

[٢ / ٢٨٩٨] وأخرج ابن جرير ، عن الربيع في قوله : (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) يقول : لثواب من عند الله. (٣)

[٢ / ٢٨٩٩] وعن السدّي : أمّا المثوبة فهو الثواب. (٤)

[٢ / ٢٩٠٠] وقال مقاتل بن سليمان : ثمّ قال لليهود : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) يعني صدّقوا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَاتَّقَوْا) الشرك (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يقول لكان ثوابهم عند الله (خَيْرٌ) من السحر والكفر (لَوْ) يعني إن (كانُوا يَعْلَمُونَ) ونظيرها في المائدة (٦٠) : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) يعني ثوابا. (٥)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)

هذه الآية تكشف عن جانب خبيث من دسائس اليهود وكيدهم ضدّ الإسلام والمسلمين ، وتحذّر المسلمين عن الانخداع بألاعيبهم وحيلهم وما تكنّه نفوسهم من الحقد والشرّ للجماعة المسلمة ، فيبيّتون لهم من الكيد والضرّ ، لو لا وعي المسلمين وحذرهم في كلّ حين.

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٥٢ ؛ الطبري ١ : ٥٠٢ ـ ٥٠٣ / ١٠٥٦ ، سورة البقرة الآية ٧١ بلفظ : عن ابن عبّاس : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) يقول : كادوا لا يفعلون ، ولم يكن الذي أرادوا ، لأنّهم أرادوا أن لا يذبحوها ، وكلّ شيء في القرآن «كاد» أو «كادوا» أو «لو» فإنّه لا يكون ، وهو مثل قوله : أَكادُ أُخْفِيها ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٩٦ / ١٠٣٤.

(٢) ابن أبي حاتم ١ : ١٩٥ ـ ١٩٦ / ١٠٣١ ـ ١٠٣٢.

(٣) الطبري ١ : ٦٥٦ / ١٤٣١ ؛ التبيان ١ : ٣٨٦ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٩٦ / ١٠٣٣ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٨٣ ـ ٢٨٤ / ١٠١ ، عن قتادة.

(٤) الطبري ١ : ٦٥٦ / ١٤٣٠.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ١٢٨.

٤٧١

فمن دسائسهم اللئيمة تلك تصرّفاتهم الغاشمة لخداع المسلمين ، ليرافقوهم في الاستهانة بموضع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي ستار خادع.

يتّجه الخطاب نحو الّذين آمنوا يناديهم بالصفة التي تميّزهم عن أولئك المراوغين ، والتي تربطهم بربّهم ونبيّهم ، والتي تستجيش في نفوسهم الاستجابة والتلبية :

فيدعوهم إلى ترك قولة قد تستغلها اليهود اللؤماء للاستهانة بموضع الرسول والاستهزاء بموقفه الكريم. ينهاهم أن يقولوا «راعنا» ـ من الرعاية لحال المخاطبين ـ ليرفق بهم في الكلام ويتريّث كى يسهل عليهم فهمه.

غير أنّ هذه اللفظة كان يستغلها اليهود فرصة لئيمة. فكانوا ينطقون بها مع شيء من تغيير اللهج بها لتصبح كلمة فحش في العبريّة ، فيسخرون من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غوغاء عارم.

قال تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً). (١)

واللّيّ : الفتل. وأصله اللوي ، عن «لوى يلوى ليّا ولويا الشيء ، بمعنى : فتله وثنّاه والمراد ـ هنا ـ العطف باللسان لتحريف اللهج بالكلام.

[٢ / ٢٩٠١] قال ابن عبّاس : كان المسلمون يقولون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : راعنا ، على جهة الطلب ، والرغبة ـ من المراعاة ـ أي التفت إلينا ، وكان هذا بلسان اليهود سبّا ، فاغتنموها ، وقالوا : كنّا نسبّه سرّا فالآن نسبّه جهرا. فكانوا يلهجون بها ويتضاحكون فيما بينهم ، فنهي المسلمون عن التلهّج بها وإبدالها بما يرادفها في المعنى ، تحذيرا من تواجد الفرصة لليهود فيستغلوها مسبّة عارمة. (٢)

قال الحسين بن عليّ المغربيّ (٣) : بحثت عن ذلك فوجدتهم يقولون : راع ، على وزان قال ـ فعلا

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٦.

(٢) راجع : القرطبي ٢ : ٥٧.

(٣) هو الوزير الموفّق أبو القاسم المغربّي من شيوخ النجاشي. كان أديبا شاعرا فاضلا مترسّلا كثير الفنون ، حافظا وكبيرا من العلماء ، عالما بالحساب والجبر والهندسة. قال ابن أبي الحديد : وكان غاليا في تعصّبه لقحطان مع تشيّعه!

٤٧٢

ماضيا ـ بمعنى الشرّ والفساد. (١)

قال الحجّة البلاغي : تتّبعت العهد القديم العبرانيّ ـ وكان رحمه‌الله يعرف العبريّة ـ فوجدت أنّ لفظة «راع» ـ بفتحة مشالة إلى الألف «راعا» ـ تقريبا ، وتسمّى عندهم «قامص». (٢) تكون بمعنى الشرّ والقبيح. وبمعنى الشرّير واحد الأشرار ، وكما في ترجمة الأناجيل الأربعة.

قال : و «نا» ضمير المتكلّم مع الغير ، وفي العبرانيّة تبدل ألفها واوا أو تمال إلى الواو ، فيكون «راعنا» بهذا اللهج بمعنى «شرّيرنا» ونحو ذلك. (٣)

ونظيره ما ذكره صاحب المنار قال : ومن تحريف اللسان وليّه في خطابهم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قولهم في التحيّة : «السام عليك» ـ وهو بمعنى الموت والهلاك ـ يوهمون بذلك أي بفتل اللسان وجمجمته أنّهم يقولون : «السّلام عليك». وقد ثبت ذلك في الصحيح ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد علمه بذلك كان يجيبهم بقوله : «وعليكم» أي كلّ أحد يموت. (٤)

قال الطبرسيّ : كان اليهود يلحدون بهذه اللفظة إلى الرعونة ، يريدون به النقيصة والوقيعة ، فلمّا عوتبوا ، قالوا : نقول كما يقول المسلمون ، فنهى الله عن ذلك وأمر المسلمين أن ينطقوا بلفظة أخرى ترادفها.

[٢ / ٢٩٠٢] قال قتادة : إنّها كلمة كانت تقولها اليهود على وجه الاستهزاء.

[٢ / ٢٩٠٣] وقال عطا : هي كلمة كانت الأنصار تقولها في الجاهليّة فنهوا عنها في الإسلام.

[٢ / ٢٩٠٤] وقال السدّي : كان ذلك كلام يهودي بعينه ـ هو رفاعة بن زيد ـ يريد به الرعونة. قال

__________________

توفّي في النصف من رمضان سنة ٤١٨ ه‍ بميافارقين وكان أوصى بدفن جثمانه في جوار الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فانتقل إليه. كما أوصى أن يكتب على قبره هذان البيتان :

كنت في سوء الغواية والجهل

مقيما فحان منّي قدوم

تبت من كلّ مأثم فعسى

يمحى بهذا الحديث ذاك القديم

(قاموس الرجال ، التستري ٣ : ٤٩٦ ـ ٤٩٨ / ٢٢١٠).

(١) التبيان ١ : ٣٨٩.

(٢) يقال : قمص الفرس وغيره إذا نفر واضطرب. وفلان قموص الحنجرة : كذوب مفتر في حديثه.

(٣) تفسير آلاء الرحمان ١ : ١١٣ ـ ١١٤.

(٤) تفسير المنار ٥ : ١٤٢.

٤٧٣

أبو جعفر : هذه الكلمة سبّ بالعبرانيّة. (١)

***

وبعد فقد نهي المسلمون أن يستعملوا لفظة قد يستغلّها أعداء الإسلام ، وليستبدلوا بها من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أرقّها وبهذه الصفة نهاهم عن التعبير بكلمة «راعنا» من الرعاية والالتفات ، وأن يقولوا بدلا منها ما يرادفها في اللغة ، من نحو قولهم : «انظرنا» أي ارفق بنا في الخطاب. وأمرهم بالسمع والطاعة ، وحذّرهم من مصير الكافرين وهو العذاب الأليم.

نعم ، كان سفهاء اليهود يميلون ألسنتهم في نطق هذا اللفظ ، وهم يوجّهونه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يؤدّي معنى آخر مشتقّا من الرعونه وما شابه ذلك يحتالون بذلك على سبّه عن هذا الطريق الملتوى ، الذي لا يسلكه إلّا صغار السفهاء! ومن ثمّ جاء النهي للمؤمنين عن لفظ يتّخذه اليهود ذريعة ، وأمروا أن يستبدلوا به مرادفه في المعنى ، حيث لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته ، وليفوت على اليهود غرضهم السفيه الحقير.

وإليك من أحاديث السلف بهذا الشأن :

***

[٢ / ٢٩٠٥] أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عبّاس في قوله : (لا تَقُولُوا راعِنا) : وذلك أنّها سبّة بلغة اليهود. فقال تعالى : (قُولُوا انْظُرْنا) يريد اسمعنا ، فقال المؤمنون بعدها : من سمعتموه يقولها فاضربوا عنقه ، فانتهت اليهود بعد ذلك! (٢)

[٢ / ٢٩٠٦] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الدلائل عن قتادة في قوله : (لا تَقُولُوا راعِنا) قال : قولا كانت اليهود تقوله استهزاء فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم. (٣)

[٢ / ٢٩٠٧] وأخرج ابن جرير عن ابن جريج : راعنا قول الساخر ، فنهاهم أن يسخروا من قول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٤)

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ١٧٨.

(٢) الدرّ ١ : ٢٥٢ ؛ الدلائل : ٤٤ / ٦ ؛ القرطبي ٢ : ٥٧.

(٣) الدرّ ١ : ٢٥٣ ؛ الطبري ١ : ٦٥٧ / ١٤٣٧ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٩١ ـ ٩٢.

(٤) الطبري ١ : ٦٥٨ / ١٤٤٤ ؛ ابن كثير ١ : ١٥٣ ـ ١٥٤.

٤٧٤

[٢ / ٢٩٠٨] وقال مقاتل بن سليمان : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) وذلك أنّ المؤمنين قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راعنا سمعك ، كقولهم في الجاهليّة بعضهم لبعض. وراعنا في كلام اليهود الشتم ، فلمّا سمعت ذلك اليهود من المشركين أعجبهم فقالوا : مثل ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال رجل من الأنصار ـ وهو سعد بن عبادة الأنصاري ـ لليهود : لئن قالها رجل منكم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأضربنّ عنقه ، فوعظ الله ـ عزوجل ـ المؤمنين فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا) للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (راعِنا) ولكن (وَقُولُوا انْظُرْنا) قولوا اسمع منّا ثمّ قال : (وَاسْمَعُوا) ما تؤمرون به (وَلِلْكافِرِينَ) يعني اليهود (عَذابٌ أَلِيمٌ) يعني وجيعا. (١)

[٢ / ٢٩٠٩] وأخرج ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عبّاس في قوله : (لا تَقُولُوا راعِنا) أي أرعنا سمعك. (٢)

[٢ / ٢٩١٠] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صخر قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أدبر ، ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين ، فقالوا : أرعنا سمعك ، فأعظم الله رسوله أن يقال له ذلك ، وأمرهم أن يقولوا : انظرنا ليعزّزوا رسوله ويوقّروه. (٣)

***

[٢ / ٢٩١١] وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنّه قرأ : راعنا ، وقال : الراعن من القول السخريّ منه. (٤)

[٢ / ٢٩١٢] وأخرج ابن جرير عن ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : راعنا ، القول الذي قاله القوم قالوا :

(سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ)(٥) قال : قالوا : هذا الراعن ، والراعن : الخطّاء. قال : فقال الله للمؤمنين : لا تقولوا خطّاء كما قال القوم ، وقولوا انظرنا واسمعوا ، قال : كانوا ينظرون إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويكلّمونه ويسمع منهم ، ويسألونه ويجيبهم. (٦)

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٢) الدرّ ١ : ٢٥٣ ؛ الطبري ١ : ٦٥٧ / ١٤٣٤ ؛ ابن كثير ١ : ١٥٣.

(٣) الدرّ ١ : ٢٥٣ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٩٧ ـ ١٩٨ / ١٠٤٢ و ١٠٤٥ ؛ ابن كثير ١ : ١٥٤.

(٤) الدرّ ١ : ٢٥٣ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٩٧ / ١٠٤١ ؛ الثعلبي ١ : ٢٥٢.

(٥) النساء ٤ : ٨٤.

(٦) الطبري ١ : ٦٥٨ / ١٤٤١.

٤٧٥

[٢ / ٢٩١٣] وأخرج عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : (لا تَقُولُوا راعِنا) قال : لا تقولوا خلافا. (١)

[٢ / ٢٩١٤] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (لا تَقُولُوا راعِنا) قال : خلافا. (٢)

[٢ / ٢٩١٥] وقال عليّ بن إبراهيم : وأما قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) أي لا تقولوا : تخليطا وقولوا : أفهمنا. (٣)

[٢ / ٢٩١٦] وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدّي قال : كان رجلان من اليهود مالك بن الصيف ورفاعة بن زيد إذا لقيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالا له وهما يكلّمانه : راعنا سمعك واسمع غير مسمع ، فظنّ المسلمون أنّ هذا شيء كان أهل الكتاب يعظّمون به أنبياءهم ، فقالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا ...) الآية. (٤)

[٢ / ٢٩١٧] وروي عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام : قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قدم المدينة كثر حوله المهاجرون والأنصار ، وكثرت عليه المسائل ، وكانوا يخاطبونه بالخطاب الشريف العظيم الذي يليق به ، وذلك أنّ الله تعالى كان قال لهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)(٥). وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهم رحيما ، وعليهم عطوفا ، وفي إزالة الآثام عنهم مجتهدا ، حتّى أنّه كان ينظر إلى كلّ من يخاطبه ، فيعمل على أن يكون صوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرتفعا على صوته ليزيل عنه ما توعّد الله به من إحباط أعماله ، حتّى أنّ رجلا أعرابيّا ناداه يوما وهو خلف حائط بصوت له جهوريّ : يا محمّد! فأجابه بأرفع من صوته ، يريد أن لا يأثم الأعرابي بارتفاع صوته! فقال له الأعرابي : أخبرني عن

__________________

(١) الطبري ١ : ٦٥٦ / ١٤٣٢ ؛ التبيان ١ : ٣٨٨.

(٢) الدرّ ١ : ٢٥٣ ؛ الطبري ١ : ٦٥٦ ـ ٦٥٧ / ١٤٣٣ ولابن جرير هنا كلام يأتي ؛ ابن كثير ١ : ١٥٣ ؛ الثعلبي ١ : ٢٥٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٩٧ / ١٠٤٠ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٩٥ ؛ التبيان ١ : ٣٨٨ ، عن عطاء ومجاهد.

(٣) القمّي ١ : ٥٨.

(٤) الدرّ ١ : ٢٥٣ ؛ الطبري ١ : ٦٥٩ / ١٤٤٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٩٨ / ١٠٤٩ ؛ ابن كثير ١ : ١٥٤ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٩٤.

(٥) الحجرات ٤٩ : ٢.

٤٧٦

التوبة إلى متى تقبل؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أخا العرب إنّ بابها مفتوح لابن آدم لا يسدّ حتّى تطلع الشمس من مغربها ، وذلك قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وهو طلوع الشمس من مغربها (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً)(١).

ثمّ قال الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : وكانت هذه اللفظة : «راعنا» من ألفاظ المسلمين الّذين يخاطبون بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقولون : راعنا ، أي إرع أحوالنا ، واسمع منّا كما نسمع منك. وكان في لغة اليهود. معناها : اسمع ، لا سمعت. فلمّا سمع اليهود المسلمين يخاطبون بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقولون : راعنا ويخاطبون بها ، قالوا : إنّ كنّا نشتم محمّدا إلى الآن سرّا ، فتعالوا الآن نشتمه جهرا! وكانوا يخاطبونه ويقولون : راعنا ، ويريدون شتمه. ففطن لهم سعد بن معاذ الأنصاري ، فقال : يا أعداء الله ، عليكم لعنة الله ، أراكم تريدون سبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوهمونا أنّكم تجرون في مخاطبته مجرانا ، والله لا سمعتها من أحد منكم إلّا ضربت عنقه ، ولو لا أنّي أكره أقدم عليكم قبل التقدّم والاستيذان له لضربت عنق من قد سمعته منكم يقول هذا. فأنزل الله : يا محمّد (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) إلى قوله (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً)(٢). وأنزل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) يعني فإنّها لفظة يتوصّل بها أعداؤكم من اليهود إلى شتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشتمكم. (وَقُولُوا انْظُرْنا ،) أي قولوا بهذه اللفظة ، لا بلفظة راعنا ، فإنّه ليس فيها ما في قولكم : راعنا ، ولا يمكنهم أن يتوصلوا بها إلى الشتم كما يمكنهم بقولهم راعنا (وَاسْمَعُوا) إذا قال لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قولا وأطيعوا. (وَلِلْكافِرِينَ) يعني اليهود الشاتمين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عَذابٌ أَلِيمٌ) وجيع في الدنيا إن عادوا بشتمهم ، وفي الآخرة بالخلود في النار.» (٣)

__________________

(١) الأنعام : ٦ : ١٥٨.

(٢) النساء : ٤ : ٤٦.

(٣) تفسير الإمام عليه‌السلام : ٤٧٧ ـ ٤٧٩ / ٣٠٥ ؛ البرهان ١ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ / ١ ؛ البحار ٩ : ٣٣١ ـ ٣٣٢ / ١٨ ، باب ٢.

٤٧٧

قال أبو جعفر الطبري : والصواب من القول في نهي الله المؤمنين أن يقولوا «راعنا» إنّها كلمة كرهها الله أن يخاطب بها النبيّ نظير ما روي عنه أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أن يقال للعنب : الكرم ، بل يقال : الحبلة ونهى أن يقال : عبدي ، بل يقال : فتاي وما أشبه ذلك من لفظتين بمعنى واحد ، إحداهما مستحسنة والأخرى مستكرهة ، فينبغي اختيار المستحسن على المستكره.

وهكذا لفظة «راعنا» تحتمل معنى : احفظنا وارقبنا ومعنى : أرعنا سمعك. من قولهم : أرعيت سمعى إرعاء ، وراعيته سمعي مراعاة ، بمعنى : فرّغته لسماع كلامه ، كما قال الأعشى :

يرعى إلى قول سادات الرجال إذا

أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا

يعني بقوله يرعي : يصغي بسمعه إليه ، مفرّغة لذلك.

وكان الله قد أمر المؤمنين بتوقير النبيّ وتعظيمه ، حتّى نهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض وحذّرهم عن حبط أعمالهم على ذلك فتقدّم إليهم بالزجر لهم عن أن يقولوا من القول ما فيه جفاء ، وأمرهم أن يختاروا لخطابه من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أرقّها فكان من ذلك قولهم : راعنا ، لما فيه من احتمال معنى : ارعنا نرعاك ؛ إذ كانت المفاعلة من الطرفين ، كما يقول القائل : عاطنا وحادثنا وجالسنا ، بمعنى : افعل بنا نفعل بك. والاحتمال الآخر : معنى : أرعنا سمعك حتّى نفهمك ، وتفهم عنّا فنهى الله أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقولوا ذلك كذلك ، وأن يفردوا مسألته بانتظارهم وإمهالهم ليعقلوا عنه ، وهذا تبجيل منهم له وتعظيم ، فلا يسألوه على وجه الجفاء والتجهّم منهم له (١) ولا بالغظاظة والغلظة كما تفعله اليهود في خطابهم مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهم : اسمع غير مسمع وراعنا ـ ليّا بألسنتهم وطعنا في الدين.

قال : وأمّا الذي حكي عن مجاهد في قوله : راعنا ، أنّه بمعنى : خلافا (٢) ، فممّا لا يعقل في كلام العرب ، لأنّ «راعيت» في كلام العرب على أحد وجهين : فاعلت من الرعية وهي الرقبة والكلاءة. والآخر ، بمعنى إفراغ السمع بمعنى : أرعيته سمعي وأمّا راعيت بمعنى خالفت ، فلا وجه له مفهوم في كلام العرب. إلّا أن يكون قرأ ذلك بالتنوين «راعنا» على معنى الرعونة والجهل والخطا ، كما ذكره

__________________

(١) يقال : تجهّم له أي قابله بوجه عبوس كريه.

(٢) تقدّم الحديث عنه.

٤٧٨

عبد الرحمان بن زيد. غير أنّه مخالف لقراءة القرّاء المعروفين.

وأمّا ما حكي عن عطيّة والرواة عنه : أنّ «راعنا» كلمة يهوديّة بمعنى السبّ والسخريّة ، فاستعملها المسلمون أخذا منهم اغترارا بهم!!! فإنّ ذلك غير جائز في صفة المؤمنين أن يأخذوا من كلام أهل الشرك والضلال كلاما لا يعرفونه ولا يدرون معناه ، فيستعملونه بينهم وفي خطاب نبيّهم ، نعم يجوز أن يكون ذلك ممّا روي عن قتادة : أنّها كانت كلمة صحيحة مفهومة من كلام العرب ، سوى أنّها وافقت بعض الشيء مع كلام اليهود بالعبريّة ما يؤدّي معنى الفحش والمسبّة فيكون معناها بالعبريّة خلاف معناها بالعربيّة ، فنهى الله المؤمنين عن قيلها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لئلا يجترىء من كان يريد السوء بهذا القيل.

قال أبو جعفر : وهذا تأويل لم يأت الخبر بأنّه كذلك من الوجه الذي تقوم به الحجّة. فالذي هو أولى بتأويل الآية ما وصفناه ، وكان هو الظاهر المفهوم من الآية.

قال : وقد حكي عن الحسن البصري أنّه قرأ «راعنا» بالتنوين ، من الرعونة وهي الحمق والجهل لكنّها قراءة تخالف قراءة سائر المسلمين ، ولا هي جائزة ، لشذوذها وخروجها عن قراءة المتقدّمين والمتأخّرين وخلاف ما قامت به الحجّة من المسلمين. (١)

قوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)

هذه الآية الكريمة تكشف للمسلمين عمّا تكنّه لهم صدور اليهود حولهم ، وكذا المشركون ، من الشرّ والعداء والبغضاء ، وعمّا تنغل (٢) به قلوبهم من الحقد والحسد ، بسبب أن اختص الله هذه الأمّة من الفضل والرحمة والبركة فليحذروا أعداءهم ، وليستمسكوا بما حسدتهم الأعداء عليه من الإيمان والالتفاف حول محور التوحيد : كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ، فليشكروا الله عليه وليستديموا على الحفاظ عليه.

__________________

(١) الطبري ١ : ٦٥٦ ـ ٦٥٧.

(٢) يقال : نغلت نيّته إذا ساءت. ونغل قلبه عليه إذا ضغن وحقد عليه.

٤٧٩

(وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) : هو أعلم حيث يجعل رسالته.

(وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) : حيث أنعم على هذه الأمّة بأفضل النعم وهي النبوّة الخاتمة لرسالات الله الباقية مع بقاء الدهر والشاملة لكافّة الخلائق على مدى الأعصار والأدوار (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) كما في سورة الفتح ٤٨ : ٢٨ (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (كما في سورتي التوبة ٩ : ٣٣ والصفّ ٦١ : ٩). كرّرت الآية ثلاث مرّات!!

[٢ / ٢٩١٨] قال مقاتل بن سليمان : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) منهم قيس بن عمرو ، وعازار بن ينحوم ، وذلك أنّ الأنصار دعوا حلفاءهم من اليهود إلى الإسلام ، فقالوا للمسلمين ، ما تدعونا إلى خير ممّا نحن عليه ، وددنا أنّكم على هدى وأنّه كما تقولون!! فكذّبهم الله ـ سبحانه ـ فقال : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) يعني دينه الإسلام (مَنْ يَشاءُ) نظيرها في هل أتى : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ)(١) يعني في دينه الإسلام فاختصّ المؤمنين (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فاختصّهم لدينه. (٢)

[٢ / ٢٩١٩] وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) قال : القرآن والسّلام. (٣)

[٢ / ٢٩٢٠] وهكذا روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وابن عبّاس ومجاهد وغيرهم : أنّها النبوّة خصّ الله بها محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإسلام والقرآن والجميع واحد. (٤)

__________________

(١) الإنسان ٧٦ : ٣١.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١٢٩.

(٣) الدرّ ١ : ٢٥٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٩٩ / ١٠٥١.

(٤) مجمع البيان ١ : ٣٣٧ ؛ التبيان ١ : ٣٩١ ؛ القرطبي ٢ : ٦١.

٤٨٠