التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

استخرجوا الكتاب ، فقالوا : إنّ سليمان تملّككم بهذا الكتاب ، به كانت تجيء الريح ، وبه سخّرت الشياطين! فعلّموه الناس ، فأبرأ الله ـ عزوجل ـ منه سليمان (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) فتركت اليهود كتاب الأنبياء واتّبعوا ما تلت الشياطين من السحر. (١)

قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ)

اختلفوا في تأويل هذه الآية : كيف تعلّم الناس السحر ممّا أنزل على الملكين؟

[٢ / ٢٨٤٦] فروى ابن جرير بالإسناد إلى السدّي قال : إنّ كلام الملائكة فيما بينهم ، إذا علمته الإنس ، فصنع وعمل به كان سحرا. (٢)

[٢ / ٢٨٤٧] وهكذا قال ابن عبّاس ـ وكذا عن الربيع ـ : إنّ الله لم ينزل السحر عليهما. (٣)

وعليه فقد كان عمل الناس بما تلقّوه من الملكين ، سحرا بسوء تصرّفهم.

وزعم بعضهم أنّ المراد بالملكين هنا هما علجان (٤) من أهل بابل.

[٢ / ٢٨٤٨] كما رواه ابن أبي حاتم بالإسناد إلى الضحّاك ، قال : هما علجان من أهل بابل. (٥)

ومن ثمّ قرأه بعضهم بكسر اللام «الملكين» هما من ملوك بابل وعلوجها. هكذا روي في الشواذّ عن ابن عبّاس والحسن والضحّاك ويحيى بن كثير. (٦) قال البغوي : قرأ ابن عبّاس والحسن «الملكين» بكسر اللام.

[٢ / ٢٨٤٩] وقال ابن عبّاس : هما رجلان ساحران كانا ببابل.

[٢ / ٢٨٥٠] وقال الحسن : علجان. لأنّ الملائكة لا يعلّمون السحر. (٧)

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٢) الطبري ١ : ٦٣٤ / ١٣٩٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٩٣ / ١٠١٤.

(٣) الطبري ١ : ٦٣٣ / ١٣٨٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٨٨ / ٩٩٧.

(٤) العلج : الرجل الضخم من كفّار العجم. وأصله : حمار الوحش السمين القويّ.

(٥) ابن أبي حاتم ١ : ١٨٩ / ١٠٠٢ ؛ ابن كثير ١ : ١٤٢.

(٦) الثعلبي ١ : ٢٤٥ ؛ البغوي ١ : ١٤٨ ؛ القرطبي ٢ : ٥٢ ؛ الروض ٢ : ٨٠ ؛ التبيان ١ : ٣٧٣.

(٧) البغوي ١ : ١٤٨.

٤٤١

وفي مقابل هؤلاء من يرى ويروي أنّهما ملكان من الملائكة.

[٢ / ٢٨٥١] أخرج ابن أبي حاتم بالإسناد إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «هما ملكان من ملائكة السماء» وهكذا ابن مردويه من وجه آخر عنه عليه‌السلام. (١)

[٢ / ٢٨٥٢] وقال الزجّاج : وروي عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال : «أي والذي أنزل على الملكين وأنّ الملكين كانا يعلّمان الناس تعليم إنذار من السحر ، لا تعليم دعاء إليه».

قال الزجّاج : وهذا القول ، الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر. ومعناه : أنّهما يعلّمان الناس على النهي ، فيقولان لهم : لا تفعلوا كذا ، ولا تحتالوا بكذا ، لتفرّقوا بين المرء وزوجه. والذي أنزل عليهما هو النهي. كأنّه : قولا الناس : لا تعملوا كذا. فيعلّمان ، بمعنى : يعلمان. كما قال : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ)(٢) أي أكرمنا. (٣)

***

[٢ / ٢٨٥٣] ومن الغريب ما أخرجه البخاري في تاريخه وابن المنذر عن ابن عبّاس : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) يعني جبريل وميكائيل (بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) يعلّمان الناس السحر. (٤)

قلت : وتأويل الملكين بجبريل وميكائيل ، ينظر إلى فرض «ما» نافية تنفي أن يكون النازل على الملكين سحرا وإنّما هو زعم زعمته سحرة اليهود.

[٢ / ٢٨٥٤] فقد أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس أنّه يقول : لم ينزل الله السحر. (٥)

[٢ / ٢٨٥٥] وعن الربيع بن أنس قال : ما أنزل الله عليهما السحر. (٦)

[٢ / ٢٨٥٦] وأخرج ابن أبي حاتم عن عطيّة قال : ما أنزل على جبريل وميكائيل السحر. (٧)

قال أبو جعفر الطبري : فيكون معنيّا بالملكين جبريل وميكائيل ، لأنّ سحرة اليهود ـ فيما ذكرت ـ كانت تزعم أنّ الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داوود ، فأكذبهم

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٣٦ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٨٨ / ١٠٠١ ؛ ابن كثير ١ : ١٤٣.

(٢) الإسراء ١٧ : ٧٠.

(٣) القرطبي ٢ : ٥٣ ـ ٥٤.

(٤) الدرّ ١ : ٢٣٦ ؛ التاريخ ٧ : ١٦٨ / ٧٥٢.

(٥) الطبري ١ : ٦٣٣ / ١٣٨٩.

(٦) المصدر / ١٣٩٠.

(٧) ابن أبي حاتم ١ : ١٨٨ / ٩٩٩ ؛ ابن كثير ١ : ١٤٢.

٤٤٢

الله بذلك وأخبر نبيّه أنّ جبريل وميكائيل لم ينزلا بالسحر ، وبرّأ سليمان ممّا نحلوه من السحر وأخبرهم أنّ السحر من عمل الشياطين وأنّها تعلّم الناس ذلك ببابل. وأنّ الّذين يعلمونهم السحر رجلان اسم أحدهما هاروت والآخر ماروت. فيكون هاروت وماروت ـ على هذا التأويل ـ ترجمة عن الناس وردّا عليهم. (١)

غرائب وعجائب عن هاروت وماروت ومدينة بابل البائدة!

لقد سطّرت نسائج إسرائيليّة حول مدينة بابل القديمة أحاديث هي بالخرافة أشبه منها إلى الواقع كما تعقّبها حكايات حاكتها عقول هزيلة كانت أشبه بسلوة أهل السّمر الفارهين.

والعجب اعتناء القدامى بهكذا مهازيل فارغة ، وولعهم بجمعها وضبطها في مجاميع الحديث والتفسير وبذلك شوّهوا وجه النقل عن السّلف ، والذي كان من شأنه الحفاظ على قدسيّته النزيهة وإليك طرفا منها :

الآثار بشأن البلاد

[٢ / ٢٨٥٧] أخرج الدينوري في المجالسة وابن عساكر من طريق نعيم بن سالم عن أنس بن مالك قال : لمّا حشر الله الخلائق إلى بابل ، بعث إليهم ريحا شرقيّة وغربيّة وقبليّة وبحريّة ، فجمعتهم إلى بابل ؛ فاجتمعوا يومئذ ينظرون لما حشروا له ، إذ نادى مناد : من جعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره ، واقتصد إلى البيت الحرام بوجهه ، فله كلام أهل السماء! فقام يعرب بن قحطان فقيل له : يا يعرب بن قحطان بن هود أنت هو ، فكان أوّل من تكلّم بالعربيّة ، فلم يزل المنادي ينادي : من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا حتّى افترقوا على اثنين وسبعين لسانا ، وانقطع الصوت وتبلبلت الألسن ، فسمّيت بابل ؛ وكان اللسان يومئذ بابليّا.

وهبطت ملائكة الخير والشرّ ، وملائكة الحياء والإيمان ، وملائكة الصحّة والشقاء ، وملائكة الغنى ، وملائكة الشرف ، وملائكة المروءة ، وملائكة الجفاء ، وملائكة الجهل ، وملائكة السيف ،

__________________

(١) الطبري ١ : ٦٣٣.

٤٤٣

وملائكة البأس ، حتّى انتهوا إلى العراق فقال بعضهم لبعض : افترقوا!

فقال ملك الإيمان : أنا أسكن المدينة ومكّة ؛ فقال ملك الحياء : أنا معك ، فاجتمعت الأمّة على أنّ الإيمان والحياء ببلد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

وقال ملك الشقاء : أنا أسكن البادية ؛ فقال ملك الصحّة : وأنا معك ، فاجتمعت الأمّة على أنّ الصحّة والشقاء في الأعراب!

وقال ملك الجفاء : أنا أسكن المغرب ، فقال ملك الجهل : وأنا معك ، فاجتمعت الأمّة على أنّ الجفاء والجهل في البربر!

وقال ملك السيف : أنا أسكن الشام ؛ فقال ملك البأس : أنا معك.

وقال ملك الغنى : أنا أقيم هاهنا (أي أرض بابل بالعراق). فقال ملك المروءة : أنا معك. فقال ملك الشرف : وأنا معكما. فاجتمع ملك الغنى والمروءة والشرف بالعراق! (١)

[٢ / ٢٨٥٨] وأخرج ابن عساكر عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله عزوجل خلق أربعة أشياء وأردفها أربعة أشياء ، خلق الجدب وأردفه الزهد وأسكنه الحجاز ، وخلق العفّة وأردفها الغفلة وأسكنها اليمن ، وخلق الريف وأردفه الطاعون وأسكنه الشام ، وخلق الفجور وأردفه الدرهم وأسكنه العراق». (٢)

[٢ / ٢٨٥٩] وأخرج عن سليمان بن يسار قال : كتب عمر بن الخطّاب إلى كعب الأحبار أن اختر لي المنازل! فكتب إليه يا أمير المؤمنين إنّه بلغنا أنّ الأشياء اجتمعت ، فقال السخاء : أريد اليمن ، فقال حسن الخلق : أنا معك. وقال الجفاء : أريد الحجاز ، فقال الفقر : أنا معك. وقال البأس : أريد الشام ، فقال السيف : أنا معك. وقال العلم : أريد العراق ، فقال العقل : أنا معك. وقال الغنى : أريد مصر ، فقال الذلّ : أنا معك! فاختر لنفسك يا أمير المؤمنين ، فلمّا ورد الكتاب على عمر قال : فالعراق إذن ، فالعراق إذن! (٣)

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧ ؛ ابن عساكر ١ : ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

(٢) الدرّ ١ : ٢٣٧ ؛ ابن عساكر ١ : ٣٥١ ـ ٣٥٢ ؛ كنز العمّال ١٢ : ٣٠١ / ٣٥١٢٠.

(٣) الدرّ ١ : ٢٣٧ ؛ ابن عساكر ١ : ٣٥٢ ـ ٣٥٣.

٤٤٤

[٢ / ٢٨٦٠] وأخرج عن حكيم بن جابر قال : أخبرت أنّ الإسلام قال : أنا لا حق بأرض الشام ، فقال الموت : وأنا معك. وقال الملك : وأنا لا حق بأرض العراق ، فقال القتل : وأنا معك. وقال الجوع : وأنا لا حق بأرض المغرب ؛ فقالت الصحّة : وأنا معك! (١)

[٢ / ٢٨٦١] وأخرج عن دغفل قال : قال المال : أنا أسكن العراق. فقال الغدر : أنا أسكن معك. وقالت الطاعة : أنا أسكن الشام. فقال الجفاء : أنا أسكن معك. وقالت المروءة : أنا أسكن الحجاز. فقال الفقر : وأنا أسكن معك. (٢)

الآثار بشأن مدينة بابل

[٢ / ٢٨٦٢] قال مقاتل بن سليمان : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) أي واتبعوا ما أنزل على الملكين : يعني هاروت وماروت وكانا من الملائكة مكانهما في السماء واحد ثمّ قال : ببابل. أي وهما ببابل. وإنّما سمّيت بابل لأنّ الألسن تبلبلت «بها» حين ألقي إبراهيم عليه‌السلام في النار. (٣)

[٢ / ٢٨٦٣] وقال الحسن : هي بابل العراق سمّيت بابل لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود ، أي : تفرّقها. (٤)

[٢ / ٢٨٦٤] وعن السدّي : أنّ بابل هي دماوند. (٥)

[٢ / ٢٨٦٥] وأخرج ابن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قصّة ذكرتها عن امرأة قدمت من العراق وأنّها أتت هاروت وماروت ببابل وتعلّمت منهما السحر. (٦)

[٢ / ٢٨٦٦] وعن قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين. (٧)

[٢ / ٢٨٦٧] وعن ابن مسعود : بابل أرض الكوفة ، حيث قال مخاطبا لأهل الكوفة : أنتم بين الحيرة

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٣٧ ؛ ابن عساكر ١ : ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

(٢) الدرّ ١ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ؛ ابن عساكر ١ : ٣٢١ ـ ٣٢٢.

(٣) تفسير مقاتل ١ : ١٢٧.

(٤) البغوي ١ : ١٤٨.

(٥) مجمع البيان ١ : ٣٣٠ ؛ البغوي ١ : ١٤٨ بلفظ : قيل : جبل دماوند.

(٦) الطبري ١ : ٦٤٣ / ١٤٠٥.

(٧) التبيان ١ : ٣٧٤ ؛ القرطبي ٢ : ٥٣ ؛ مجمع البيان ١ : ٣٣٠ مع عدم ذكر الراوي.

٤٤٥

وبابل. (١)

[٢ / ٢٨٦٨] وعن الحسن : إنّ الملكين ببابل الكوفة إلى يوم القيامة وأنّ من أتاهما سمع كلامهما ولا يراهما. (٢)

[٢ / ٢٨٦٩] وأخرج عبد الرزّاق عن معمر عن جعفر الجزري عن يزيد بن الأصم قال : سئل المختار : هل يرى هاروت وماروت اليوم أحد؟ قال : أمّا منذ ائتفكت بابل ائتفاكتها الآخرة فإنّ أحدا لم يرهما. (٣)

[٢ / ٢٨٧٠] وعن مجاهد : إنّ هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ويختلف فيما بينهما شيطان في كلّ مسألة اختلافة واحدة. (٤)

مدينة بابل بين الأسطورة والواقع

الذي جاء في هذه الآثار هي لقطات من أسطورة إسرائيليّة قديمة جاء في سفر التكوين (أص ١١) : «وكانت الأرض كلّها لسانا واحدا ولغة واحدة. وحدث في ارتحال قبائل بني نوح شرقا أن وجدوا بقعة في أرض شنعار (٥) وسكنوا هناك. وقال بعضهم لبعض : هلمّ نبن لنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء (٦). ونصنع لأنفسنا اسما لئلّا نتبدّد على وجه كلّ الأرض.

لكن الربّ لمّا أشرف على المدينة والبرج يبنيان جاس في نفسه : أن لو بنى بنو آدم المدينة وسكنوها واجتمعوا على لسان واحد ولغة واحدة ، أن سوف لا يؤمن عاقبة أمرهم في كلّ ما ينوون ويعملون في سبيل الرقيّ والحضارة وهذا ابتداء عملهم.

__________________

(١) القرطبي ٢ : ٥٣ ؛ البغوي ١ : ١٤٨.

(٢) التبيان ١ : ٣٧٤.

(٣) عبد الرزّاق ١ : ٢٨٤ / ١٠٢ ؛ الثعلبي ١ : ٢٤٩.

(٤) البغوي ١ : ١٥٢.

(٥) شنعار بمعنى النهرين اسم أطلقته التوراة على أرض العراق وعلى أواسطها بالذات ، باعتبار وقوعها بين النهرين دجلة والفرات .. ومن ثمّ يقال للعراق : أرض الرافدين .. (قاموس الكتاب المقدس ـ جيمز هاكس : ٥٣٦) وجاء في تراجم البلاد : أنّ بابل مدينة قديمة في أواسط ما بين النهرين. تقع أنقاضها على الفرات ، قرب الحلّة ، على مسافة ٨٠ كم جنوب شرقيّ بغداد.

(٦) قيل : لعلّهم حاولوا بذلك إمكان التخلّص من ورطة طوفان آخر قد يداهمهم!! (المصدر : ١٥٥).

٤٤٦

قال : هلمّ ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتّى لا يتفاوض بعضهم مع بعض فبدّدهم الربّ من هناك على وجه كلّ الأرض ، فكفّوا عن البنيان ، ولذلك دعي اسمها «بابل». لأن الربّ بلبل لسانهم وبدّدهم على وجه كلّ الأرض!!» (١)

وهذا يعني : إنّ بني الإنسان هم وحسب جبلّتهم ينزعون إلى التآلف والتفاهم ويرغبون في التجمّع والتوافق على وحدة اجتماعيّة شاملة في الحياة غير أنّه تعالى لموضع خشيته ـ وحاشاه ـ من توحّد بني الإنسان ، هو الذي بدّدهم وفرّق شملهم!!

الأمر الذي نتحاشاه وننزّه ساحة قدسه تعالى عن مثل هذه الخسائس والتي تعتور ذهنيّة اليهود العاثرة!!

ولكن ما بال المسلمين يغفلون رصيدهم الثريّ ويركضون وراء خزعبلات نسجتها إسرائيل نسج العنكبوت!!

وكلّ ما ذكروه هنا لا تعدو إملاءات أبناء القردة وعلى رأسهم كعب الأحبار.

***

وأمّا مدينة بابل فهي من أقدم مدن العالم ، وأصل الاسم ـ باللغة الكلدانيّة ـ «باب ايلو» أي باب الله. ويرادفه بالعبرانيّة : باب إيل وعرّب إلى بابل.

وهي بلدة كانت على ضفّتي الفرات ، بحيث كان يخترقها الفرات. يقرب موضعها من موقع بلد الحلّة الآن ، على بعد أميال من ملتقى الفرات ودجلة وعلى مسافة (٨٠ كم) جنوب شرقيّ بغداد.

وبابل كانت من أعظم مدن العالم القديم ، بناها أوّلا ـ فيما يقال ـ بقايا آل نوح بعد الطوفان. ثمّ توالى عليها اعتناء أصحاب الحضارة بمواطن العراق جيلا بعد جيل. ولكن اعتلاء عظمة بابل كان في حدود سنة ٣٧٥٥ ثلاثة آلاف وسبعمأة وخمس وخمسين قبل الميلاد فكانت إحدى عواصم أربعة لمملكة الكلدانيّين ، وهي أعظمها وأشهرها. ولم تزل همم ملوك الدولتين الكلدانيّة والآشوريّة متّجهة نحو عمارة هذا البلد وتنميقه ، فكان بلد العجائب من الأبنية والبساتين ومعهد الثقافة الآسويّة ومنبعث المعارف والعلوم والآداب وقد نسبوا إليها قديما الخمر المعتقة ، كما قال أبو الطيّب :

__________________

(١) العهد القديم : ١٧.

٤٤٧

سقى الله أيّام الصّبا ما يسرّها

ويفعل فعل البابليّ المعتّق (١)

وهذه المدينة العريقة في القدم ، أنشئت حولها في أوائل الألف الثاني قبل الميلاد دولة كبرى ازدهرت على مرحلتين :

١ ـ الدولة البابلّية الأولى ، حلّت محلّ سومر (٢) واكد (٣) وبلغت عصرها الذهبيّ مع حمورابي (٤) المشترع الكبير ١٧٩٢ ـ ١٧٥٠ ق. م. فبسطت سيادتها على سائر البلاد ما بين النهرين وازدهرت فيها العلوم الفلكيّة والرياضيّة والآداب. ثمّ أفل نجمها فخضعت للحثيّين (٥) والقسيّين (٦) والآشوريّين. (٧)

__________________

(١) التحرير والتنوير ١ : ٦٢٤.

(٢) سومر : منطقة في جنوب ما بين النهرين. استوطنها السومريّون. وهم شعب غير سامي استوطنوا بلاد سومر في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد. أسّسوا حضارة رفيعة امتدّ أثرها امتدادا واسعا.

(٣) اكد : مدينة قديمة في وسط العراق كانت عاصمة الإمبراطوريّة الاكديّة التي أسّسها سوجون الأوّل في القرن : ٢٤ قبل الميلاد. وإلا كديّون شعب ساميّ استوطنوا بلاد ما بين النهرين وأسّسوا دولة قويّة استمرّت نحو قرنين : ٢٤ ـ ٢٢ ق. م ، كانت لهم حضارة مزدهرة ولغة حلّت محلّ اللغة السومريّة وأصبحت في الألف الثاني ق. م. لغة دول الشرق الرسميّة. عنها تفرّعت البابليّة والآشوريّة.

(٤) أشهر ملوك الدولة البابليّة. قضى على الإمارات الصغيرة وحقّق وحدة ما بين النهرين. ساعد على استقرار البدو الرّحّل بتوزيع الأراضي الملكيّة عليهم وعلى الجنود. اشتهر بشرائعه الإداريّة والاجتماعية واكتشفت شريعته المعروفة في شوش سنة ١٩٠٢ م ونقل إلى متحف اللوفر (پاريس) ، يمثّل في أعلاه الملك حمورابي أمام الإله الشمس ، ويحمل في أسفله بالحروف المسماري نصّ شريعة حمورابي في ٢٨٥ بندا. وهي مجموعة اجتهادات لتنظيم القضاء ، خاصّة فيما يتعلّق بالحياة الاجتماعيّة.

(٥) الحثيّون : من شعوب آسيا الصغرى القديمة ، عاصمتهم حتّوزا (بغازكوى ـ قرية في شمال تركيا الآسيويّة. كشفت التنقيبات فيها عن آثار قيّمة : ١٩٠٦ م) ازدهرت حضارتهم في الألف الثاني قبل الميلاد وأنشأوا امبراطوريّة امتدّت حتّى سوريّة الشماليّة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. ألّهوا القوى الطبيعيّة وعبدوها.

(٦) القسيّون : أقوام غازية ، قضت على الدولة البابليّة الأولى وأنشأت سلالة حكمت نحو ستّة قرون : ١٧٣٠ ـ ١١٥٥ ق. م.

(٧) آشور : بلاد قديمة في شماليّ ما بين النهرين. استوطنها منذ الألف الثاني قبل الميلاد شعب سامّي وأنشأوا فيها دولة ازدهرت في القرن الرابع عشر قبل الميلاد فبسطت سيادتها على سائر بلاد ما بين النهرين ، ثمّ امتدّت إلى سائر بلدان

٤٤٨

٢ ـ الدولة البابليّة الحديثة ٦٢٦ ـ ٥٣٩ ق. م. من أشهر ملوكها نبوخذ نصّر الثاني : ٦٠٥ ـ ٥٢٦ ق. م.

دمّر مدينة بابل سنحاريب الآشوري ٦٨٩ ق. م. ثمّ أعاد بناءها أسرحدون (١).

فتحها كورش ٥٣٩ ق. م. فأصبحت قاعدة ولاية أخمينيّة ، حتّى احتلّها الإسكندر المقدوني ٣٣١ ق. م. وجعلها عاصمة القسم الشرقيّ من إمبراطوريّته وفيها توفّي.

من آثارها باب عشتار ، وبلاط نبوخذ نصّر الثاني ، والطريق الملوكي.

هاروت وماروت

هما اسمان كلدانيّان دخلهما تغيير التعريب ، للإجراء على خفّة الأوزان العربيّة. والظاهر أنّ هاروت معرّب (هاروكا) وهو اسم القمر عند الكلدانيّين (٢). وماروت معرّب (ماروداخ) وهو اسم المشتري عندهم ، وكانوا يعدّون الكواكب السيّارة من المعبودات المقدّسة التي هي دون الآلهة (نظير الملائكة عند الإلهيين) لا سيّما القمر فإنّه عندهم أشدّ الكواكب تأثيرا في هذا العالم وكذلك المشتري فهو أشرف الكواكب السبعة عندهم.

__________________

الشرق وكانت لهم إمبراطوريّة واسعة. كانت عاصمتهم أوّلا مدينة آشور ثمّ كالح وأخيرا نينوا الواقعة في شماليّ العراق قرب الموصل. وازدهرت في عهد سنحريب (٧٠٤ ـ ٦٨١ ق. م).

وآخر كبار ملوكهم آشور بانيبال (٦٦٩ ـ ٦٣٠ ق. م) ابن أسرحدون. حمل مرارا على مصر ودمّر ثيبة ٦٣٠ ق. م. أخضع المدن الفينقيّة وآسية الصغرى وبابل. بلغت الدولة الآشورية في عهده أوجها. ثمّ بدأت في الانحطاط. كان هذا الملك مغرما بجمع الكتب والآثار وجمع مكتبة غنيّة تحتوي على الألوف من اللوحات الأثريّة اكتشفت في قصره بنينوا وانتقلت إلى المتحف البريطاني بلندن.

(١) أسرحدون ابن سنحاريب ملك آشور (٦٨٠ ـ ٦٦٩ ق. م) اشتهر بالسياسة والدهاء. أعاد بناء مدينة بابل. غزا مصر ٦٧٧ ق. م. واحتلّ محفيس. وازدهرت الإمبراطوريّة الآشوريّة وبلغت أوجها في عهده.

(٢) نسبة إلى كلده (اسم أطلق على بلاد ما بين النهرين بأسرها). والكلدانيّون عاشوا منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد ، وانقسموا إلى سومر واكد ، كانا قد يتحدّان وقد يتنازعان. وانقرضوا على يد حمورابي حوالي سنة ٢١٠٠ ق. م. وفي أيّام «نبوكد نصّر ـ ٦٠٥ ـ ٥٦٢ ق. م ـ» استولت الدولة البابليّة على مناحي بين النهرين ومن جملتها كلده. وهو الذي احتلّ فلسطين وخرّب أورشليم وسبى اليهود ٥٨٦ ق. م. وأخيرا انقرضت دولته على يد كورش الكبير ٥٣٩ ق. م.

٤٤٩

قال ابن عاشور : ولعلّ إسناد هذا التقديس للكواكب ، ناشىء عن اعتقادهم أنّهم كانوا من الصالحين المقدّسين وأنّهم بعد موتهم رفعوا للسماء في صورة الكواكب ، فيكون هاروكا وماروداخ قد كانا من قدماء علمائهم وصالحيهم والحاكمين في البلاد وهما اللذان وضعا السحر.

قال : ولعلّ هذا وجه التعبير عنهما في القصّة بالملكين ـ بفتح اللام ـ!

قال : ولأهل القصص هنا قصّة خرافيّة من موضوعات اليهود في خرافاتهم الحديثة. اعتاد بعض المفسّرين ذكرها وأشار المحقّقون إلى كذبها وأنّها من مرويّات كعب الأحبار ، وقد وهم بعض المتساهلين في الحديث فنسبوا روايتها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعض الصحابة بأسانيد واهية. (١)

وعليه فقوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) أي ما ألهما من غرائب العلوم ، والعلم برموز الدسائس المفرّقة ، ومعرفة طرائق حلّها وإبطالها.

والتعبير بالملكين حكاية عن زعم زعمته اليهود بشأنهما كما زعمت أنّ ما كانت تتلو الشياطين على ملك سليمان أنّه كان بمرأى ومسمع منه وعن رضاه.

فالله تبارك وتعالى يحكي هذه المزاعم ليفنّدها ولا يتسلّم لها.

***

وقوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) جملة حاليّة من هاروت وماروت. وما نافية. والتعبير بالمضارع لحكاية الحال ، إشارة إلى أنّ قولهما لمتعلّمي رموز السحر : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) ؛ قول مقارن لوقت التعليم لا متأخّر عنه.

والفتنة : لفظ يجمع معنى مرج واضطراب حال وتشتّت بال ، بإحساس الخوف والخطر على الأنفس والأموال ومنها فتنة المال وفتنة الدين.

ولمّا كانت هذه الحالة يختلف ثبات الناس فيها ، كان من لوازمها الابتلاء والاختبار. فكان ذلك من المعاني التي يكنّى بالفتنة عنها كثيرا.

وإخبار الملكين عن أنفسهما بأنّهما فتنة ، إخبار بالمصدر للمبالغة ، وقد أكّدت المبالغة بالحصر الإضافي. والمقصد من ذلك : أنّهما كانا يصرّحان بأنّ في علمهما الذي يعلّمان الناس ، جانبا خطيرا

__________________

(١) راجع : التحرير والتنوير ١ : ٦٢٤.

٤٥٠

قد يفتتن به من لا رجاحة لعقله ولم يكن له قلب سليم ، فيزلّ ويقع في تيه الضلال.

وقوله : (فَلا تَكْفُرْ) أي لا تفتتن به كما افتتن السحرة وضلّوا حين نسبوا التأثيرات للآلهة ، وقد علمت سرّها الذي كشفناه لك! فمعنى (فَلا تَكْفُرْ) : لا تعجل باعتقاد ذلك ، فإنّك إذا توغّلت في معارف السحر وكشفت رموزه ، علمت أنّها معلولة لعلل من خصائص النفوس أو خصائص الأشياء. فالفتنة تحصل لمن يتعلّم السحر حين يرى ظواهره وعجائبه على أيدي السحرة ولمن كان في مبدء التعليم ، ولكنّه إذا تحقّق في علمه اندفعت الفتنة. (١)

وقال السيّد رشيد رضا : تلك أوهام وأكاذيب على نبيّ الله سليمان عليه‌السلام افتجرها بعض الدجّالين من اليهود ووسوسوا بها إلى بعض المسلمين فصدّقوهم في بعض ما زعموه من حكايات السحر ، وكذّبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر.

وإنّك لترى دجاجلة المسلمين إلى اليوم يتلون أقساما وعزائم ، ويخطّون خطوطا وطلاسم ، ويسمّون ذلك خاتم سليمان وعهوده ، ويزعمون أنّها تقي حاملها من اعتداء الجنّ ومسّ العفاريت ولقد رأيت شيئا من ذلك أيّام حداثتي وكنت أصدّقه واعتقد بفائدته!!

وقد زعم اليهود أنّ سليمان سحر ودفن السحر تحت كرسيّة ، وأنّه أضاع خاتمه الذي كان به ملكه ، فوقع في يد آخر وجلس مجلسه إلى آخر ما خلطوا فيه التاريخ بالدّجل. وروي عنهم أنّ سليمان هو الّذي جمع كتب السحر من الناس ودفنها تحت كرسيّه ثمّ استخرجها الناس وتناقلوه

قال : ومن البديهي أنّ ذكر القصّة في القرآن لا يقتضي أن يكون كلّ ما يحكى فيها عن الناس صحيحا ، فذكر السحر في هذه الآيات لا يستلزم إثبات ما يعتقد الناس منه ، كما أنّ نسبة الكفر إلى سليمان ـ التي علمت من النفي ـ لا تستلزم أن تكون صحيحة ، ولو لم تذكر في سياق النفى!

قال الأستاذ الإمام محمّد عبده ما مثاله : بيّنّا غير مرّة أنّ القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار ، لا لبيان التاريخ ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيّات الأخبار عند الغابرين ، وإنّه ليحكي من عقائدهم الحقّ والباطل ، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب ، ومن عاداتهم النافع والضارّ ،

__________________

(١) راجع : المصدر : ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٤٥١

لأجل الموعظة والاعتبار. فحكاية القرآن لا تعدو موضع العبرة ولا تتجاوز موطن الهداية ولا بدّ أن يأتي في العبارة أو السياق وأسلوب النظم ، ما يدلّ على استحسان الحسن واستهجان القبيح وقد يأتي في الحكاية بالتعبيرات المستعملة عند المخاطبين أو المحكيّ عنهم ، وإن لم تكن صحيحة في نفسها.

وهذا الأسلوب مألوف ، فإنّنا نرى كثيرا من كتّاب العربيّة وكتّاب الإفرنج ، يذكرون آلهة الخير والشرّ في خطبهم ومقالاتهم ، لا سيّما في سياق كلامهم عن اليونان والمصريّين القدماء ، ولا يعتقد أحد منهم شيئا من تلك الخرافات الوثنيّة.

وقد جاء ذكر السحر في مواضع متعدّدة في القرآن وأكثره في قصّة موسى وفرعون ، وذكر هنا في الكلام عن اليهود. وإذا أردنا فهمه من عرف أهل اللغة وجدنا أنّ السحر عند العرب : كلّ ما لطف مأخذه ودقّ وخفي ، وقالوا : سحره وسحّره بمعنى خدعه وعلّله. وقالوا : عين ساحرة وعيون سواحر. وفي الحديث : «إنّ من البيان لسحرا». قال الأستاذ الإمام : في قوله : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) وجهان : أحدهما متّصل بقوله : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) أي إنّ الشياطين هم الّذين يعلّمون الناس السحر.

والثاني ـ وهو الأظهر ـ أنّه متصل بالكلام عن اليهود (١) وأنّ الكلام عن الشياطين قد انتهى عند القول بكفرهم. وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهورا في زمن التنزيل ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم.

ثمّ قال تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) فأجمل بهذه العبارة الوجيزة خبر قصّة كانوا يتحدّثون بها ، كما أجمل في ذكر تعليم السحر فلم يذكر ما هو؟ أشعوذة وتخييل ، أم خواصّ طبيعيّة ، وتأثيرات نفسيّة؟ وهذا ضرب من الإعجاز في الإيجاز ، انفرد به القرآن. يذكر الأمر المشهور بين الناس في وقت من الأوقات ، لأجل الاعتبار به ، فينظّمه في أسلوب يمكن لكلّ أحد أن يقبله فيه مهما يكن اعتقاده. ألا ترى كيف ذكر السحر هنا وفي مواضع أخرى بأساليب لا يستطيع

__________________

(١) في قوله : وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ ... يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ جملة حاليّة عن ضمير الجمع من اتّبعوا.

٤٥٢

أن ينكرها من يدّعي أنّ السحر حيلة وشعوذة أو غير ذلك ، ولا يستطيع أن يردّها من يدّعي أنّه من خوارق العادات!

قال : في «الملكين» قراءتان : فتح اللام وكسرها. وحمل بعضهم قراءة الفتح على قراءة الكسر. ويؤيّده ما قيل : إنّ المراد بهما : رجلان صاحبا وقار وسمت ، فشبّها بالملائكة ، وكان يؤمّهما الناس بالحوائج الأهليّة ويجلّونهما أشدّ الإجلال فشبّها بالملوك. وتلك عادة الناس فيمن ينفرد بالصفات المحمودة ؛ يقولون : هذا ملك وليس بإنسان. كما يقولون فيمن كان سيّدا عزيزا لا غنى للناس من الرجوع إليه : هذا سلطان زمانه.

قال الأستاذ الإمام : لعلّ الله تعالى سمّاهما ملكين ـ بفتح اللام ـ حكاية لاعتقاد الناس فيهما ، وأجاز أيضا كون إطلاق لفظ الملكين عليهما مجازا ، كما قال بعض المفسّرين. (١)

***

وهكذا ذكر الأستاذ محمّد جمال الدين القاسمي ، قال : والذي ذهب إليه المحقّقون أنّ هاروت وماروت كانا رجلين متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل ، وكانا يعلّمان الناس السحر. وبلغ حسن اعتقاد الناس بهما أن ظنّوا أنّهما ملكان من السماء ، وأنّ ما يعلّمانه للناس هو وحي من الله. (٢)

وللأستاذ أحمد مصطفى المراغي توضيح لهذا الجانب ، لخّص فيه ما ذكره شيخه الأستاذ محمّد عبده قال : والملكان في هذه الآية هما رجلان شبّها ، إمّا بالملائكة ، لانفرادهما بصفات محمودة ، وقد جرت العادة أن يقولوا : هذا ملك وليس ببشر (٣). وإمّا بالملوك ـ في قراءة كسر اللام ـ كما يقال لمن كان سيّدا عزيزا يظهر الغنى عن الناس : هذا من الملوك. وكان الناس في عهد هاروت وماروت كحالهم اليوم لا يقصدون للفصل في شؤونهم الروحيّة إلّا أهل السمت والوقار ، الّذين يلبسون لباس أهل الصلاح والتقوى. (٤)

__________________

(١) راجع : تفسير المنار ١ : ٣٩٨ ـ ٤٠٢.

(٢) تفسير القاسمي ١ : ٣٣٩.

(٣) كما في قوله تعالى ـ حكاية عن نسوة مصر ـ : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (يوسف ١٢ : ٣١).

(٤) تفسير المراغي ١ : ١٨١.

٤٥٣

قلت : وفي القرآن كثير من تعابير جاءت تعبيرا عن معتقد أو مزعومة ، حكاية لها لا تسالما لها كما في قوله تعالى ـ بشأن مدّة لبث أصحاب الكهف ـ : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً)(١). فإنّ هذا التعبير عطف على قوله : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ...). وهي قولهم بشأن المدّة ، كقولتهم بشأن العدد ، حدس محض ومن ثمّ جاء ردّهم في كلا الموضعين : قل : الله أعلم. وكذا قوله : (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ)(٢). وهكذا ذكر ابن عبّاس وتلامذته. إذن فظاهر التعبير قد يوهم أنّه من كلامه تعالى ، في حين أنّه قول الآخرين. (٣)

وعليه فقوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) عطف على قوله : (ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) أي كما أنّ اليهود اتّبعوا ـ في زعمهم ـ ما كانت تنفثه الشياطين من دسائس الشرّ على عهد سليمان كذلك اتّبعوا ـ في زعمهم ـ ما ألهم (٤) الرجلان الصالحان ، المنعوتان بنعوت الروحانيّين ، ملائكة الله المقرّبين.

فالتعبير بالملكين حكاية عمّا كانت جمهرة الناس تعبّر به ، ولو تعبيرا مجازيّا ، لموضع حسن ظنّهم بهما.

وقد استغل اليهود هذا النعت الجليل ، فراحوا ينسبون تزاويرهم وأسالبيهم الماكرة إلى عهد سليمان أوّلا ، بزعم أنّه كان عالما بها ورائجا ذلك العهد من غير نكير. وثانيا ، إلى رجلين صالحين عرفا بسمت الملائكة الروحانيّين في الجلال والوقار. وذلك تبريرا لموقفهم هذا السّيء البذيء.

ومن ثمّ جاء ردّهم بأنّه افتراء على سليمان ، كما هو افتراء على هاروت وماروت. إذ كانا من العلماء الصالحين ، وكان تعليمهما للعلوم الدائرة والغريبة ، مشفوعا بالتذكّر والإرشاد إلى استعمال العلوم في سبيل الأهداف الصالحة دون الأهداف الضالّة الموجبة للكفر والعصيان.

ولأبي مسلم الأصفهاني هنا كلام بديع ، ينفي أن يكون النازل على الملكين السحر. نظرا لأنّ السحر في أصله تمويه وتشويه ، وانحراف عن جادة الحقّ. فلا يناسب أن يكون نازلا من عنده تعالى أو ممّا ألهمه الله على عباده الصلحاء!

__________________

(١) الكهف ١٨ : ٢٥.

(٢) الكهف ١٨ : ١٩.

(٣) راجع التفصيل في كتابنا «التمهيد» ٧ : ٤٩٦.

(٤) هكذا جاء في تعبير العلّامة الطباطبائي : «واتّبعت اليهود ما أنزل بالإخطار والإلهام على الملكين.» (الميزان ١ : ٢٣٨).

٤٥٤

وأيضا لم يأت الأنبياء ليعلّموا الناس الدسائس والتمويهات ولم يعهد منهم ذلك. فكذلك الملائكة أو من كان على شاكلتهم من ذوي النفوس القدسيّة! (١)

وممّا يبعّد أن يكون هاروت وماروت ملكين ـ بالمعنى الحقيقى ـ أنّ المقابلة والمواجهة مع الملك مستحيل مادام على صورته الذاتيّة ، لأنّه من سنخ لطيف يغاير سنخ البشر الكثيف ، الأمر الذي يجعل رؤيته والمفاوضة معه شفاها ممتنعا على البشر ، اللهم إلّا أن يتمثّل الملك بشرا كما تمثّل جبرائيل لمريم بشرا سويّا. (٢)

انظر إلى قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) مقترح غريب : أن ينزل ملك فيشاهدوه ويتساءلوه في حين أنّه مستحيل ومن ثمّ جاء الردّ عليهم بقوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)(٣). أي لو جعل الرسول ملكا لجعل الملك متمثّلا في صورة البشر ، ليمكّنهم رؤيته وسماع كلامه ، ولو جعله ملكا في صورة البشر لوهموه بشرا بذاته ، إذ لا يدركون منه سوى صورته وهندامه البشريّ ، فيعود المحذور : بم يعرفون أنّه ملك؟!

إنّ البشر في حالتهم العاديّة غير مستعدّين لرؤية الملائكة والجنّ على حالتهم الأصليّة ، (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ)(٤) وذلك لأنّ أبصار البشر لا تدرك كلّ الموجودات ، بل إنّما تدرك ما هو من سنخها فتدرك في عالمها هذا بعض الأجسام كالماء وما هو أكثف منه من الأجرام الملوّنة ، دون ما هو ألطف منه كالهواء وما هو ألطف منه كالعناصر البسيطة التي يتألّف منها الماء والهواء والملك والجنّ من عالم آخر غيبيّ ألطف ممّا ذكر. (٥)

***

وهكذا قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً. قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً)(٦).

أي لو وجد في الأرض ملائكة يمكن الاجتماع بهم ، لنزّلنا من السماء رسلا من الملائكة

__________________

(١) التفسير الكبير ٣ : ٢١٧.

(٢) فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (مريم ١٩ : ١٧).

(٣) الأنعام ٦ : ٨ ـ ٩.

(٤) الأعراف ٧ : ٢٧.

(٥) راجع : تفسير المنار ٧ : ٣١٦.

(٦) الإسراء ١٧ : ٩٤ ـ ٩٥.

٤٥٥

ليلتقوا مع البشر ولكن طبيعة الملك لا تصلح للاجتماع بالبشر ، فلا يسهل عليهم التخاطب والتفاهم معهم ، لبعد ما بين الملك وبينهم في السنخ. وإجمال القول في ذلك : أنّه لو جعل الرسل ملائكة لما استطاع الناس التخاطب معهم ، ولما تمكّنوا من التلقّي منهم تلقّيا مباشرا. (١)

إذن يبعد أن يكون هاروت وماروت ملكين حقيقيّين ، إذ لا يمكن للبشر العاديّ أن يتفاوض مع الملك ، وهما على حالتهما الأصليّة ، لا تكاثفا من الملك ، ولا تلطيفا لجانب الإنسان الروحانيّة.

ويقرب أن يكون التعبير عنهما بالملكين تشريفيّا لمقام صلاحهما القدسيّ. وكذا على قراءة الملكين ـ بالكسر ـ تعبير تشريفي أيضا نظرا لهيمنتهما وسطوتهما الروحيّة ومرجعيّتهما لعامّة الناس. (٢)

وبعد فإليك من أحاديث السلف بشأن كوكبة الزهرة والأساطير التي حيكت حولها ، نعرضها اعتبارا لا اعتقادا :

الآثار بشأن كوكبة الزهرة

[٢ / ٢٨٧١] أخرج سعيد بن منصور عن مجاهد قال : كنت مع عبد الله بن عمر في سفر فقال لي : ارمق الكوكبة ـ يعني الزهرة ـ فإذا طلعت فأيقظني ، فلمّا طلعت أيقظته فاستوى جالسا ، فجعل ينظر إليها ويسبّها سبّا شديدا! فقلت : يرحمك الله أبا عبد الرحمان ، نجم ساطع مطيع ، ماله تسبّه؟! فقال : أما إنّ هذه كانت بغيّا في بني إسرائيل ، فلقي الملكان منها ما لقيا! (٣)

[٢ / ٢٨٧٢] وأخرج ابن جرير والخطيب في تاريخه عن نافع قال : سافرت مع ابن عمر ، فلمّا كان من آخر الليل قال : يا نافع انظر هل طلعت الحمراء؟ قلت : لا ، مرّتين أو ثلاثا ، ثمّ قلت : قد طلعت. قال : لا مرحبا بها ولا أهلا. قلت : سبحان الله! نجم مسخّر سامع مطيع! قال : ما قلت لك إلّا ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الملائكة قالت : يا ربّ كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال : إنّي ابتليتهم وعافيتكم. قالوا : لو كنّا مكانهم ما عصيناك! قال : فاختاروا ملكين منكم ، فلم يألوا

__________________

(١) راجع : تفسير المراغي ١٥ : ٩٧.

(٢) راجع : التفسير الكبير ٣ : ٢١٨ ـ ٢١٩.

(٣) الدرّ ١ : ٢٣٨ ؛ سنن سعيد بن منصور ٢ : ٥٨٣ / ٢٠٦ ، وقال : سنده حسن ؛ الثعلبي ١ : ٢٤٧.

٤٥٦

جهدا أن يختاروا ، فاختاروا هاروت وماروت فنزلا ، فألقى الله عليهم الشبق. قلت : وما الشبق؟ قال : الشهوة. فجاءت امرأة يقال لها الزهرة ، فوقعت في قلوبهما ، فجعل كلّ واحد منهما يخفي عن صاحبه ما في نفسه ، ثمّ قال أحدهما للآخر : هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي؟ قال : نعم ، فطلباها لأنفسهما فقالت : لا أمكّنكما حتّى تعلّماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء وتهبطان. فأبيا ، ثمّ سألاها ، أيضا فأبت ففعلا ، فلمّا استطيرت طمسها الله كوكبا وقطع أجنحتهما ، ثمّ سألا التوبة من ربّهما فخيّرهما فقال : إن شئتما رددتكما إلى ما كنتما عليه فإذا كان يوم القيامة عذّبتكما ، وإن شئتما عذّبتكما في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة رددتكما إلى ما كنتما عليه. فقال أحدهما لصاحبه : إنّ عذاب الدنيا ينقطع ويزول ، فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة. فأوحى الله إليهما : أن ائتيا بابل. فانطلقا إلى بابل ، فخسف بهما فهما منكوسان بين السماء والأرض معذّبان إلى يوم القيامة». (١)

[٢ / ٢٨٧٣] وأخرج البيهقي في شعب الإيمان من طريق موسى بن جبير عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أشرفت الملائكة على الدنيا فرأت بني آدم يعصون فقالت : يا ربّ ما أجهل هؤلاء! ما أقلّ معرفة هؤلاء بعظمتك! فقال الله : لو كنتم في مسالخهم لعصيتموني. قالوا : كيف يكون هذا ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك؟ قال : فاختاروا منكم ملكين ، فاختاروا هاروت وماروت ، ثمّ أهبطا إلى الأرض وركّبت فيهما شهوات مثل بني آدم ، ومثّلت لهما امرأة فما عصما حتّى واقعا المعصية ، فقال الله : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة ، فنظر أحدهما إلى صاحبه قال : ما تقول فاختر؟ قال : أقول إنّ عذاب الدنيا ينقطع وإنّ عذاب الآخرة لا ينقطع ، فاختارا عذاب الدنيا فهما اللّذان ذكر الله في كتابه : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) الآية». (٢)

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٣٨ ؛ الطبري ١ : ٦٤٢ ؛ الخطيب ٨ : ٤٢ ـ ٤٣ ؛ وابن أبي حاتم أخرجه عن مجاهد ١ : ١٩٠ ـ ١٩١ / ١٠٠٧.

(٢) الدرّ ١ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩ ؛ الشعب ١ : ١٨٠ ـ ١٨١ / ١٦٣ ؛ الطبري ١ : ٦٣٩ ـ ٦٤٠ / ١٤٠١ ، رواه عن ابن عمر عن كعب ، فذكر الحديث ؛ القرطبي ٢ : ٥١ ـ ٥٢ ؛ بمعناه عن ابن مسعود وابن عبّاس وابن عمر وكعب الأحبار والسدّي والكلبي ، وبعد نقل الخبر عن هؤلاء المذكورين قال : وقال سالم عن أبيه عبد الله : فحدّثنى كعب أنّهما لم يستكملا يومهما حتّى عملا بما حرّم الله عليهما ؛ كنز العمّال ٢ : ٣٦٦ ـ ٣٦٧ / ٤٢٦٩.

٤٥٧

[٢ / ٢٨٧٤] وأخرج ابن جرير عن أسباط ، عن السدّي : أنّه كان من أمر هاروت وماروت أنّهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم ، فقيل لهما : إنّي أعطيت ابن آدم عشرا من الشهوات فبها يعصونني! قال هاروت وماروت : ربّنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ثمّ نزلنا لحكمنا بالعدل! فقال لهما :

انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر فاحكما بين الناس! فنزلا ببابل دنباوند ، فكانا يحكمان ، حتّى إذا أمسيا عرجا ، فإذا أصبحا هبطا. فلم يزالا كذلك حتّى أتتهما امرأة تخاصم زوجها ، فأعجبهما حسنها واسمها بالعربية : «الزّهرة» ، وبالنبطية : «بيدخت» ، واسمها بالفارسية : «ناهيد» ، فقال أحدهما لصاحبه : إنّها لتعجبني! فقال الآخر : قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك. فقال الآخر : هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال : نعم ، ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر : إنّا نرجو رحمة الله. فلمّا جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها ، فقالت : لا حتّى تقضيا لي على زوجي ، فقضيا لها على زوجها. ثمّ واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها ، فأتياها لذلك ، فلمّا أراد الذي يواقعها ، قالت : ما أنا بالذي أفعل حتّى تخبراني بأيّ كلام تصعدان إلى السّماء؟ وبأيّ كلام تنزلان منها؟ فأخبراها فتكلّمت فصعدت. فأنساها الله ما تنزل به فبقيت مكانها وجعلها كوكبا ـ فكان عبد الله بن عمر كلّما رآها لعنها وقال : هذه التي فتنت هاروت وماروت ـ فلمّا كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يستطيعا فعرفا الهلاك فخيّرا بين عذاب الدّنيا والآخرة فاختارا عذاب الدنيا من عذاب الآخرة فعلّقا ببابل فجعلا يكلّمان الناس كلامهما وهو السحر؟! (١)

[٢ / ٢٨٧٥] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : إنّ هاروت وماروت أهبطا إلى الأرض ، فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشدّ النهي ، وقالا له : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) وذلك أنّهما علّماه الخير والشرّ والكفر والإيمان ، فعرّفناه أنّ السحر من الكفر ، فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا ، فإذا أتاه عاين الشيطان فعلّمه ، فإذا تعلّمه خرج منه النور ، فينظر إليه ساطعا في السماء!

__________________

(١) الطبري ١ : ٦٤٠ ـ ٦٤١ / ١٤٠٢ ؛ ابن كثير ١ : ١٤٣ و ١٤٥ ـ ١٤٦. قال : رجاله ثقات ؛ البغوي ١ : ١٥١ عن الكلبي والسدّي ؛ الثعلبي ١ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ؛ الحاكم ٢ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ و ٤ : ٦٠٧ ـ ٦٠٨ وصحّحه ؛ كنز العمّال ١٠ : ٢٧٦ / ٢٩٤٣٤ ؛ العظمة ٤ : ١٢٢٣ ـ ١٢٢٤ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٨٣ / ٩٨ ؛ سنن سعيد بن منصور ٢ : ٥٨١ ـ ٥٨٢ / ٢٠٥ ؛ القمّي ١ : ٥٤ ـ ٥٥.

٤٥٨

فيقول : يا حسرتاه ، يا ويلاه ، ماذا أصنع!! (١)

[٢ / ٢٨٧٦] وأخرج ابن جرير عن أسباط ، عن السدّي ، قال : إذا أتاهما ـ يعني هاروت وماروت ـ إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له : لا تكفر إنّما نحن فتنة. فإن أبى قالا له : ائت هذا الرّماد فبل عليه! فإذا بال عليه خرج منه نور يسطع حتّى يدخل السماء ، وذلك الإيمان ـ وقيل شيء أسود كهيئة الدخان ـ حتّى يدخل في مسامعه وكلّ شيء منه ، فذلك غضب الله ، فإذا أخبرهما بذلك علّماه السحر. فذلك قول الله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) الآية. (٢)

[٢ / ٢٨٧٧] وأخرج الطبراني في الأوسط عن عمر قال : جاء جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حين غير حينه الذي كان يأتيه فيه ، فقام إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «يا جبريل ما لي أراك متغيّر اللون؟! فقال : ما جئتك حتّى أمر الله بمفاتيح النار! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا جبريل صف لي النار وانعت لي جهنّم! فقال جبريل : إنّ الله تبارك وتعالى أمر بجهنّم فأوقد عليها ألف عام حتّى ابيضّت ، ثمّ أمر فأوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت ، ثمّ أمر فأوقد عليها ألف عام حتّى اسودّت ، فهي سوداء مظلمة لا يضيء شررها ولا يطفأ لهبها. والذي بعثك بالحقّ لو أنّ قدر ثقب أبرة فتح من جهنّم لمات من في الأرض كلّهم جميعا من حرّه. والذي بعثك بالحقّ لو أنّ ثوبا من ثياب النار علّق بين السماء والأرض لمات من في الأرض جميعا من حرّه. والذي بعثك بالحقّ لو أنّ خازنا من خزنة جهنّم برز إلى أهل الدنيا فنظروا إليه لمات من في الأرض كلّهم من قبح وجهه ومن نتن ريحه. والذي بعثك بالحقّ لو أنّ حلقة من حلق سلسلة أهل النار التي نعت الله في كتابه وضعت على جبال الدنيا لا رفضّت وما تقارّت حتّى تنتهي إلى الأرض السفلى. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حسبي يا جبريل! فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جبريل وهو يبكي فقال : تبكي يا جبريل وأنت من الله بالمكان الذي أنت به؟! فقال : ومالي لا أبكي؟ أنا أحقّ بالبكاء ، لعلّي أكون في علم الله على غير الحال الّتي أنا عليها ، وما أدري لعلّي أبتلى بما

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٤٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٩٢ و ١٩٤ / ١٠١٠ و ١٠٢١ ؛ ابن كثير ١ : ١٤٧.

(٢) الطبري ١ : ٦٤٦ / ١٤١٠ ؛ ابن كثير ١ : ١٤٨ ؛ القرطبي ٢ : ٥٥ ؛ البغوي ١ : ١٥١ ، عن عطا والسدّي بلفظ : فإن أبى إلّا التعلّم قالا له : إئت هذا الرّماد فبل عليه فيخرج منه نور ساطع في السماء فذلك نور المعرفة وينزل شيء أسود شبه الدخان حتّى يدخل مسامعه وذلك غضب الله.

٤٥٩

ابتلي به إبليس فقد كان من الملائكة ، وما أدري لعلّي أبتلى بما ابتلي به هاروت وماروت. فبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكى جبريل ، فما زالا يبكيان حتّى نوديا أن : يا جبريل ويا محمّد إنّ الله قد أمّنكما أن تعصياه». (١)

[٢ / ٢٨٧٨] وأخرج الثعلبي وابن أبي حاتم بالإسناد إلى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّها قالت : قدمت عليّ امرأة من أهل دومة الجندل تبتغي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به!

قالت : وقفنا ببابل ، فإذا برجلين معلّقين بأرجلهما! فقالا : ما جاء بكم؟! فقلت : نتعلّم السحر. فقالا : إنّما نحن فتنة فلا تكفروا وارجعوا ، فأبيت وقلت : لا. قالا : فاذهبي إلى ذلك التنّور فبولي فيه فذهبت فبلت فيه ، فرأيت فارسا مقنّعا بحديد خرج منّي! حتّى ذهب في السماء وغاب عنّي. فجئتهما وقلت : قد فعلت وقصصت عليهما ما رأيت. فقالا : صدقت ، ذلك إيمانك ، خرج منك. اذهبي.

قالت عائشة : فما علّماك وما قالا لك؟ قالت : لا أعلم شيئا ولا قالا لي شيئا إلّا أنّي ما أريد شيئا إلّا كان فآخذ القمح وأقول : ابذري فتبذر. وأقول : اطلعي فتطلع. وأقول : احقلي فتحقل. وأقول افركي وايبسي واطحني واخبزي فتكون كذلك لوقتها. قالت : فلمّا رأيت أنّي لا أريد شيئا إلّا كان ، سقط في يدي وندمت ـ والله يا أمّ المؤمنين ـ وما فعلت شيئا وما أفعله أبدا. (٢)

قالت عائشة ـ وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد توفّي آنذاك ـ : فسألت أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم يومئذ متوافرون ، فمادروا ما يقولون لها ، وكلّهم يخشى أن يفتيها بما لا يعلمه إلّا أنّه قد قال لها ابن عبّاس أو بعض من كان عنده : لو كان أبواك حيّين أو أحدهما لكانا يكفيانك!! (٣)

***

[٢ / ٢٨٧٩] وهكذا أخرج ابن جرير والحاكم وصحّحه والبيهقي في سننه عن عروة عن عائشة

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ؛ الأوسط ٣ : ٨٩ ـ ٩٠ ؛ مجمع الزوائد ١٠ : ٣٨٦ ـ ٣٨٧ ، كتاب صفة النار ؛ كنز العمّال ١٤ : ٦٥٤ ـ ٦٥٦ / ٣٩٧٨٤.

(٢) الثعلبي ١ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

(٣) ابن أبي حاتم ١ : ١٩٤ / ١٠٢٢. والحديث مبتور أكملناه على الدرّ المنثور ١ : ٢٤٦.

٤٦٠