التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

بقيام الساعة ، وما ذاك الذي رأيت منّي إلّا خوفا من قيام الساعة!» (١).

[٢ / ٢٧٩٦] وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجبريل : «وددت أنّي رأيتك في صورتك! قال : وتحبّ ذلك؟ قال : نعم. قال : موعدك كذا وكذا من اللّيل بقيع الغرقد ، فلقيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موعده ، فنشر جناحا من أجنحته فسدّ أفق السماء حتّى ما يرى من السماء شيء»! (٢)

[٢ / ٢٧٩٧] وأخرج أحمد وأبو الشيخ عن عائشة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «رأيت جبريل منهبطا قد ملأ ما بين الخافقين ، عليه ثياب سندس معلّق بها اللؤلؤ والياقوت». (٣)

[٢ / ٢٧٩٨] وأخرج أبو الشيخ عن شريح بن عبيد أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا صعد إلى السماء رأى جبريل في خلقته ، منظومة أجنحته بالزبرجد واللؤلؤ والياقوت ، قال : «فخيّل إليّ أنّ ما بين عينيه قد سدّ الأفق ، وكنت أراه قبل ذلك على صور مختلفة ، وأكثر ما كنت أراه على صورة دحية الكلبي ، وكنت أحيانا أراه كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربال». (٤)

[٢ / ٢٧٩٩] وأخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ جبريل ليأتيني كما يأتي الرجل صاحبه في ثياب بيض مكفوفة باللؤلؤ والياقوت ، رأسه كالحبك ، وشعره كالمرجان ، ولونه كالثلج ، أجلى الجبين ، برّاق الثنايا ، عليه وشاحان من درّ منظوم ، وجناحاه أخضران ، ورجلاه مغموستان في الخضرة ، وصورته التي صوّر عليها تملأ ما بين الأفقين ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أشتهي أن أراك في صورتك يا روح الله. فتحوّل له فيها فسدّ ما بين الأفقين». (٥)

[٢ / ٢٨٠٠] وأخرج ابن جرير عن قتادة عن حذيفة قال : لجبريل جناحان ، وعليه وشاح من درّ

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٢٦ ؛ العظمة ٢ : ٧٠٠ ـ ٧٠١ / ٢٩١ ـ ٣٠. باب ذكر حجب ربّنا تبارك وتعالى ؛ الكبير ١١ : ٣٠٠ ـ ٣٠١ ؛ مجمع الزوائد ٩ : ١٩ ، باب : في تواضعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ شعب الإيمان ١ : ١٧٧ / ١٥٧.

(٢) الدرّ ١ : ٢٢٧ ؛ العظمة ٢ : ٧٧١ ـ ٧٧٢ / ٣٤٦ ـ ٨ ؛ منتخب مسند عبد بن حميد : ٤٣٩ / ١٥١٩ ؛ وزاد في آخره : واجتثّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ذلك.

(٣) الدرّ ١ : ٢٢٧ ؛ العظمة ٢ : ٧٦٨ / ٣٤٣ ـ ٥ ؛ مجمع الزوائد ٨ : ٢٥٧ ؛ كنز العمال ٦ : ١٤٠ / ١٥١٦٨ ؛ مسند أحمد ٦ : ١٢٠.

(٤) الدرّ ١ : ٢٢٧ ؛ العظمة ٢ : ٧٨٠ / ٣٥٦ ـ ١٨.

(٥) الدرّ ١ : ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

٤٢١

منظوم ، وهو برّاق الثنايا ، أجلى الجبينين ، ورأسه حبك حبكا مثل المرجان ، وهو اللؤلؤ كأنّه الثلج ، وقدماه إلى الخضرة. (١)

[٢ / ٢٨٠١] وأخرج ابن المبارك في الزهد عن ابن شهاب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل جبريل أن يتراءى له في صورته ، فقال جبريل : إنّك لن تطيق ذلك! قال : إنّي أحبّ أن تفعل. فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المصلّى في ليلة مقمرة ، فأتاه جبريل في صورته ، فغشي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين رآه ، ثمّ أفاق وجبريل مسنده وواضع إحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما كنت أرى أنّ شيئا من الخلق هكذا! فقال جبريل : فكيف لو رأيت إسرافيل! إنّ له لاثني عشر جناحا ، منها جناح في المشرق وجناح في المغرب ، وإنّ العرش على كاهله وإنّه ليتضاءل أحيانا لعظمة الله عزوجل حتّى يصير مثل الوصع (طائر أصغر من العصفور) ، حتّى ما يحمل عرشه إلّا عظمته. (٢)

[٢ / ٢٨٠٢] وأخرج أبو الشيخ عن ابن عبّاس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما بين منكبي جبريل مسيرة خمسمائة عام للطائر السريع الطيران». (٣)

[٢ / ٢٨٠٣] وأخرج أبو الشيخ عن وهب بن منبه أنّه سئل عن خلق جبريل؟ فزعم أنّ ما بين منكبيه من ذي إلى ذي ، خفق الطير سبعمائة عام! (٤)

[٢ / ٢٨٠٤] وأخرج ابن سعد والبيهقي في الدلائل عن عمّار بن أبي عمّار أنّ حمزة بن عبد المطّلب قال : يا رسول الله أرني جبريل في صورته! قال : إنّك لا تستطيع أن تراه! قال : بلى فأرنيه! قال : فاقعد ، فقعد فنزل جبريل على خشبة كانت في الكعبة ، يلقي المشركون عليها ثيابهم إذا طافوا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارفع طرفك فانظر ، فرفع طرفه ، فرأى قدميه مثل الزبرجد الأخضر ، فخرّ مغشيا عليه. (٥)

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٢٧ ؛ الطبري ٧ : ١٢٠ بعد رقم ١٤٢١١ ، الرواية مطولة (سورة هود ـ الآية ٨١) ؛ ابن كثير ٢ : ٤٧٠.

(٢) الدرّ ١ : ٢٢٨ ؛ الزهد لابن المبارك : ٧٤ / ٢٢١ ، باب تعظيم ذكر الله عزوجل.

(٣) الدرّ ١ : ٢٢٧ ؛ العظمة ٢ : ٨٠٢ / ٣٧٥ ـ ٣٧.

(٤) الدرّ ١ : ٢٢٨ ؛ العظمة ٢ : ٨٠٠ / ٣٧٣ ـ ٣٥.

(٥) الدرّ ١ : ٢٢٨ ؛ الطبقات الكبرى ٣ : ١٢ الطبقة الأولى ، حمزة بن عبد المطلب.

٤٢٢

[٢ / ٢٨٠٥] وأخرج الحاكم عن ابن عبّاس قال : قال لي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لمّا رأيت جبريل ـ : «لم يره خلق إلّا عمي إلّا أن يكون نبيّا ، ولكن أن يجعل ذلك في آخر عمرك». (١)

[٢ / ٢٨٠٦] وأخرج أبو الشيخ عن أبي العلاء بن هارون قال : لجبريل في كلّ يوم انغماسة في نهر الكوثر ، ثمّ ينتفض ، فكلّ قطرة يخلق منها ملك! (٢)

[٢ / ٢٨٠٧] وأخرج عن أبي سعيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ في الجنّة لنهرا ، ما يدخله جبريل من دخلة فيخرج فينتفض ، إلّا خلق الله من كلّ قطرة تقطر منه ملكا». (٣)

[٢ / ٢٨٠٨] وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجبريل : هل ترى ربّك؟ قال : إنّ بيني وبينه لسبعين حجابا من نار أو نور ، لو رأيت أدناها لاحترقت. (٤)

[٢ / ٢٨٠٩] وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية بسند واه عن أبي هريرة. أنّ رجلا من اليهود أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله هل احتجب الله بشيء عن خلقه غير السماوات؟ قال : «نعم ، بينه وبين الملائكة الّذين حول العرش سبعون حجابا من نور ، وسبعون حجابا من نار ، وسبعون حجابا من ظلمة ، وسبعون حجابا من رفارف الاستبرق ، وسبعون حجابا من رفارف السندس ، وسبعون حجابا من درّ أبيض ، وسبعون حجابا من درّ أحمر ، وسبعون حجابا من درّ أصفر ، وسبعون حجابا من درّ أخضر ، وسبعون حجابا من ضياء ، وسبعون حجابا من ثلج ، وسبعون حجابا من ماء ، وسبعون حجابا من غمام ، وسبعون حجابا من برد ، وسبعون حجابا من عظمة الله التي لا توصف! قال : فأخبرني عن ملك الله الذي يليه؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الملك الذي يليه

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٢٨ ؛ الحاكم ٣ : ٥٣٦ كتاب معرفة الصحابة ؛ بلفظ : ... قال : بعث العباس ابنه عبد الله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنام وراءه وعند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل ، فالتفت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : متى جئت يا حبيبي؟ قال : مذ ساعة ، قال : هل رأيت عندي أحدا؟ قال : نعم رأيت رجلا. قال ذاك جبرئيل عليه‌السلام ولم يره خلق إلّا عمي ، إلّا أن يكون نبيّا. ولكن أن يجعل ذلك في آخر عمرك. ثمّ قال : اللهمّ علّمه التأويل وفقّهه في الدين واجعله من أهل الإيمان.

(٢) الدرّ ١ : ٢٢٨ ؛ العظمة ٢ : ٧٤٦ / ٣٢٩ ـ ٢٤. باب ذكر خلق الملائكة وكثرة عددهم.

(٣) الدرّ ١ : ٢٢٨ ؛ العظمة ٢ : ٧٣٥ / ٣١٧ ـ ١٢ ؛ كنز العمال ١٤ : ٤٥٤ / ٣٩٢٣٢.

(٤) الدرّ ١ : ٢٢٩ ؛ العظمة ٢ : ٦٦٩ ـ ٦٧٠ / ٢٦٤ ـ ٢ (١٠) باب ذكر حجب ربنا تبارك وتعالى. كنز العمال ١٤ : ٤٤٨ / ٣٩٢١٠ ، و ٤٤٩ / ٣٩٢١٥ ؛ الأوسط ٦ : ٢٧٨ / ٦٤٠٧ ؛ مجمع الزوائد ١ : ٧٩.

٤٢٣

إسرافيل ، ثمّ جبريل ، ثمّ ميكائيل ، ثمّ ملك الموت عليهم‌السلام». (١)

[٢ / ٢٨١٠] وأخرج أحمد في الزهد عن أبي عمران الجوني أنّه بلغه أنّ جبريل أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبكي ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وما يبكيك؟! قال : ومالي لا أبكي ...! فو الله ما جفّت لي عين منذ خلق الله النار ، مخافة أن أعصيه فيقذفني فيها. (٢)

[٢ / ٢٨١١] وأخرج أيضا عن رباح قال : «حدّثت أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لجبريل : لم تأتني إلّا وأنت صارّ بين عينيك (٣) قال : إنّي لم أضحك منذ خلقت النار. (٤)

[٢ / ٢٨١٢] وأخرج أحمد في مسنده وأبو الشيخ عن أنس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لجبريل : ما لي لم أر ميكائيل ضاحكا قطّ! قال : ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار. (٥)

[٢ / ٢٨١٣] وأخرج أبو الشيخ عن عبد العزيز بن أبي روّاد قال : نظر الله إلى جبريل وميكائيل وهما يبكيان ، فقال الله : ما يبكيكما وقد علمتما أنّي لا أجور!؟ فقالا : يا ربّ إنّا لا نأمن مكرك! قال : هكذا فافعلا ، فإنّه لا يأمن مكري إلّا كلّ خاسر! (٦)

[٢ / ٢٨١٤] وأخرج أبو الشيخ من طريق الليث عن خالد عن سعيد قال : بلغنا أنّ إسرافيل يؤذّن لأهل السماء فيؤذّن لاثنتي عشرة ساعة من النهار ، ولاثنتي عشرة ساعة من الليل لكلّ ساعة تأذين ، يسمع تأذينه من في السماوات السبع ومن في الأرضين السبع إلّا الجنّ والإنس ، ثمّ يتقدّم بهم عظيم الملائكة فيصلّي بهم. قال : وبلغنا أنّ ميكائيل يؤمّ الملائكة في البيت المعمور! (٧)

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٢٩ ؛ الأوسط ٨ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣ / ٨٩٤٢ ؛ مجمع الزوائد ١ : ٧٩ ـ ٨٠ بنحو ما رواه الطبراني. قال الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد المنعم بن إدريس ، كذّبه أحمد وقال ابن حبّان : كان يضع الحديث ؛ الموضوعات ١ : ١١٧ باب ذكر الحجب. قال ابن الجوزي : هذا حديث موضوع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمتّهم به عبد المنعم ، وقد كذّبه أحمد ويحيى. وقال الدار قطني : هو وأبوه متروكان ؛ حلية الأولياء ٤ : ٨٠.

(٢) الدرّ ١ : ٢٢٩ ؛ كنز العمال ٣ : ١٤٥ / ٥٨٩٦ ؛ شعب الإيمان ١ : ٥٢١ / ٩١٥.

(٣) أى مقبّض جامع بينهما كما يفعل الحزين. وأصل الصرّ : الجمع والشدّ. ومنه الصّرّة.

(٤) الدرّ ١ : ٢٢٩.

(٥) الدرّ ١ : ٢٢٩ ؛ العظمة ٣ : ٨١٤ ـ ٨١٥ / ٣٨٤ ـ ٩ ؛ مسند أحمد ٣ : ٢٢٤ ؛ مجمع الزوائد ١٠ : ٣٨٥.

(٦) الدرّ ١ : ٢٢٩ ؛ العظمة ٣ : ٨١٤ / ٣٨٣ ـ ٨.

(٧) الدرّ ١ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ؛ العظمة ٣ : ٨٥٧ / ٤٠١ ـ ١٧.

٤٢٤

[٢ / ٢٨١٥] وأخرج الحكيم الترمذي عن زيد بن رفيع قال : دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبريل وميكائيل وهو يستاك ، فناول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبريل السواك ، فقال جبريل له : أكبر! قال الترمذي : أي ناول ميكائيل فإنّه أكبر! (١)

[٢ / ٢٨١٦] وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة بن خالد أنّ رجلا قال : يا رسول الله أيّ الخلق أكرم على الله عزوجل؟ قال : لا أدري! فجاءه جبريل فقال : يا جبريل أيّ الخلق أكرم على الله؟ قال : لا أدري! فعرج جبريل ثمّ هبط ، فقال : أكرم الخلق على الله جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، فأمّا جبريل فصاحب الحرب وصاحب المرسلين ، وأمّا ميكائيل فصاحب كلّ قطرة تسقط وكلّ ورقة تنبت وكلّ ورقة تسقط ، وأمّا ملك الموت فهو موكّل بقبض كلّ روح عبد في برّ أو بحر ، وأما إسرافيل فأمين الله بينه وبينهم. (٢)

[٢ / ٢٨١٧] وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ثابت قال : بلغنا أنّ الله تعالى وكلّ جبريل بحوائج الناس ، فإذا دعا المؤمن ، قال الله : يا جبريل احبس حاجته فإنّي أحبّ دعاءه ، وإذا دعا الكافر ، قال : يا جبريل اقض حاجته فإنّي أبغض دعاءه. (٣)

[٢ / ٢٨١٨] وأخرج البيهقي والصابوني في المائتين عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ جبريل موكّل بحاجات العباد ، فإذا دعا المؤمن قال : يا جبريل احبس حاجة عبدي فإنّي أحبّه وأحبّ صوته ، وإذا دعا الكافر قال : يا جبريل اقض حاجة عبدي فإنّي أبغضه وأبغض صوته». (٤)

[٢ / ٢٨١٩] وأخرج ابن أبي شيبة من طريق ثابت عن عبيد الله بن عبيد قال : «إنّ جبريل موكّل بالحوائج ، فإذا سأل المؤمن ربّه قال : احبس احبس حبّا لدعائه أن يزداد ، وإذا سأل الكافر قال : أعطه أعطه ، بغضا لدعائه». (٥)

[٢ / ٢٨٢٠] وأخرج أبو الشيخ عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أقرب الخلق إلى الله جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وهم منه مسيرة خمسين ألف سنة ، جبريل عن يمينه وميكائيل عن

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٣٠ ؛ نوادر الأصول ٢ : ٧١ ، الأصل ١١٤.

(٢) الدرّ ١ : ٢٣٠ ؛ العظمة ٣ : ٨١١ / ٣٨٠ ـ ٥.

(٣) الدرّ ١ : ٢٢٧ ؛ شعب الإيمان ٧ : ٢١١ / ١٠٠٣٤ ، باب في الصبر على المصائب.

(٤) الدرّ ١ : ٢٢٧ ؛ شعب الايمان ٧ : ٢١١ / ١٠٠٣٥.

(٥) الدرّ ١ : ٢٢٧ ؛ المصنّف ٧ : ١٤٦ / ٣ ، باب ١٧٤.

٤٢٥

يساره وإسرافيل بينهما». (١)

[٢ / ٢٨٢١] وأخرج أبو الشيخ عن خالد بن أبي عمران قال : جبريل أمين الله إلى رسله ، وميكائيل يتلقّى الكتب التي تلقّى من أعمال الناس ، وإسرافيل كمنزلة الحاجب. (٢)

[٢ / ٢٨٢٢] وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن أبي داوود في المصاحف وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصحّحه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إسرافيل صاحب الصور ، وجبريل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، وهو بينهما». (٣)

[٢ / ٢٨٢٣] وأخرج أبو الشيخ عن وهب قال : إنّ أدنى الملائكة من الله جبريل ، ثمّ ميكائيل ، فإذا ذكر عبدا بأحسن عمله قال : فلان بن فلان عمل كذا وكذا من طاعتي صلوات الله عليه ، ثمّ سأل ميكائيل جبريل : ما أحدث ربّنا؟ فيقول : فلان بن فلان ذكره بأحسن عمله فصلّى عليه ، صلوات الله عليه ، ثمّ سأل ميكائيل من يراه من أهل السماء! فيقول : ماذا أحدث ربّنا؟ فيقول : ذكر فلان بن فلان بأحسن عمله فصلّى عليه ، صلوات الله عليه ، فلا يزال يقع من سماء إلى سماء حتّى يقع إلى الأرض. وإذا ذكر عبدا بأسوأ عمله قال : عبدي فلان بن فلان عمل كذا وكذا من معصيتي فلعنتي عليه ، ثمّ سأل ميكائيل جبريل : ماذا أحدث ربّنا؟ فيقول : ذكر فلان بن فلان بأسوأ عمله ، فعليه لعنة الله ، فلا يزال يقع من سماء إلى سماء حتّى يقع إلى الأرض! (٤)

[٢ / ٢٨٢٤] وأخرج الحاكم وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وزيراي من السماء جبريل وميكائيل ، ومن أهل الأرض أبو بكر وعمر»! (٥)

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٣٠ ؛ العظمة ٢ : ٦٨٣ ـ ٦٨٤ / ٢٧٥ ـ ١٣.

(٢) الدرّ ١ : ٢٣٠ ؛ العظمة ٢ : ٧٠٣ / ٢٩٢ ـ ٣١.

(٣) الدرّ ١ : ٢٣٠ ؛ العظمة ٣ : ٨٠٩ / ٣٧٧ ـ ٢ ؛ مسند أحمد ٣ : ٩ ـ ١٠ ؛ أبو داوود ٢ : ٢٤٨ / ٣٩٩٩ ، كتاب الحروف والقراءات ؛ الحاكم ٢ : ٢٦٤ ؛ كنز العمال ١٤ : ٣٥١ / ٣٨٩٠٥.

(٤) الدرّ ١ : ٢٣٠ ـ ٢٣١ ؛ العظمة ٢ : ٥٠٣ / ١٦٤ ـ ٤٨.

(٥) الدرّ ١ : ٢٣١ ؛ الحاكم ٢ : ٢٦٤ ، كتاب التفسير سورة البقرة ؛ الترمذي ٥ : ٢٧٩ ـ ٢٧٨ / ٣٧٦١ ، باب ٦٤. قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ؛ كنز العمال ١١ ، ٥٦٠ / ٣٢٦٤٧.

٤٢٦

[٢ / ٢٨٢٥] وأخرج البزّار والطبراني عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله أيّدني بأربعة وزراء ، اثنين من أهل السماء : جبريل وميكائيل ، واثنين من أهل الأرض : أبي بكر وعمر!». (١)

[٢ / ٢٨٢٦] وأخرج الطبراني عن أمّ سلمة. أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ في السماء ملكين أحدهما يأمر بالشدّة ، والآخر يأمر باللين. وكلّ مصيب : جبريل وميكائيل. ونبيّان أحدهما يأمر باللين والآخر يأمر بالشدة وكلّ مصيب ، وذكر إبراهيم ونوحا ، ولي صاحبان أحدهما يأمر باللين والآخر يأمر بالشدّة وكلّ مصيب ، وذكر أبا بكر وعمر!» (٢)

[٢ / ٢٨٢٧] وأخرج البزّار والطبراني في الأوسط والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الله بن عمرو قال : «جاء فئام من الناس إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول الله زعم أبو بكر أنّ الحسنات من الله والسيّئات من العباد. وقال عمر : الحسنات والسيئات من الله ، فتابع هذا قوم وهذا قوم! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأقضينّ بينكما بقضاء إسرافيل بين جبريل وميكائيل ، إنّ ميكائيل قال بقول أبي بكر ، وقال جبريل بقول عمر. فقال جبريل لميكائيل : متى تختلف أهل السماء تختلف أهل الأرض ، فلنتحاكم إلى إسرافيل ، فتحاكما إليه فقضى بينهما بحقيقة القدر : خيره وشرّه وحلوه ومرّه كلّه من الله». ثمّ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أبا بكر إنّ الله لو أراد أن لا يعصى لم يخلق إبليس! فقال أبو بكر : صدق الله ورسوله!» (٣)

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٣١ ؛ الكبير ١١ : ١٤٤ / ١١٤٢٢ ، باب عكرمة عن ابن عبّاس. بلفظ : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله تعالى أيّدني بأربعة وزراء نقباء. قلنا : يا رسول الله من هؤلاء الأربع؟ قال : اثنين من أهل السماء واثنين من أهل الأرض. فقلت : من الاثنين من أهل السماء؟ قال : جبريل وميكائيل ، قلنا : من الاثنين من أهل الأرض؟ قال : أبو بكر وعمر! ؛ مجمع الزوائد ٩ : ٥١ ، كتاب المناقب ، باب فيما ورد من الفضل لأبي بكر وعمر وغيرهما. قال الهيثمي : رواه الطبراني وفيه محمّد بن مجيب الثقفي وهو كذّاب ، ورواه البزّار بمعناه وفيه عبد الرحمان بن مالك بن مغول وهو كذّاب ؛ تاريخ بغداد ٤ : ٦٦ ، بنحو ما رواه الطبراني. قال الخطيب : تفرّد بروايته محمّد بن مجيب عن وهيب عن عطاء ... قال : سمعت يحيى بن معين يقول : محمّد بن مجيب كان جار عبّاد بن العوّام وكان كذّابا عدوّ الله!

(٢) الدرّ ١ : ٢٣١ ؛ الكبير ٢٣ : ٣١٥ ـ ٣١٦ / ٧١٥ ، باب ما رواه أبو سفيان عن أمّ سلمة ؛ مجمع الزوائد ٩ : ٥١ ، كتاب المناقب ، باب فيما ورد من الفضل لأبي بكر وعمر وغيرهما ... ؛ كنز العمال ١١ : ٥٦٣ / ٣٢٦٦٥.

(٣) الدرّ ١ : ٢٣١ ؛ مسند البزّار ٦ : ٤٥٦ / ٢٤٩٦ ؛ الأوسط ٣ : ١١٢ ـ ١١٣ / ٢٦٤٨ ؛ مجمع الزوائد ٧ : ١٩١ ـ ١٩٢ ؛ الموضوعات ١ : ٢٧٣ ـ ٢٧٤ ، قال ابن جوزي : هذا حديث موضوع بلا شكّ والمتّهم به يحيى أبو زكريا.

٤٢٧

[٢ / ٢٨٢٨] وأخرج الحاكم عن أبي المليح عن أبيه أنّه صلّى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ركعتي الفجر ، فصلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ركعتين خفيفتين قال : فسمعته يقول : «اللهمّ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمّد أعوذ بك من النار» ثلاث مرّات. (١)

[٢ / ٢٨٢٩] وأخرج أحمد في الزهد عن عائشة ، أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أغمي عليه ورأسه في حجرها ، فجعلت تمسح وجهه وتدعو له بالشفاء ؛ فلمّا أفاق قال : «لا ، بل اسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم‌السلام». (٢)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ)

يعني : أنّ دلائل الدين واضحة وبراهين الشريعة لائحة ومتوافقة مع فطرة العقل السليم. ومن ثمّ فإنّ الذي يرفضها كان قد عاكس فطرته وخرج عن إطار العقل الرشيد ، الأمر الذي يتصادق مع صنيع اليهود الذي دأبوا عليه في نقض العهود والمواثيق ونبذ كتاب الله وراء الظهور ومجابهة الأنبياء بالعصيان والمرود.

نعم سوى اتّباع شياطين الجنّ والإنس في إغواءاتهم الضالّة والعمل على بثّ التفرقة والفساد في الأرض.

وهذا ما تعرّضت له الآيات التالية :

قوله تعالى : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

يعني : أنّ نقضهم للعهود ونبذهم للمواثيق إنّما نشأ عن اعوزاز في ذات نفوسهم ونقص ذاتي غالب على جبلّة اليهود المنحرفة عن الحقّ والمنجرفة مع كلّ باطل .. فقد جبلوا أن لا يؤمنوا لحقيقة ولا يذعنوا لنصيحة ركضا وراء مشتهيات سافلة ذاهلين.

[٢ / ٢٨٣٠] أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : لم يكن في الأرض عهد يعاهدون إليه إلّا نقضوه ،

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٣١ ـ ٢٣٢ ؛ الحاكم ٣ : ٦٢٢ ؛ الكبير ١ : ١٩٥ / ٥٢٠ ؛ مجمع الزوائد ٢ : ٢١٩.

(٢) الدرّ ١ : ٢٣٢.

٤٢٨

ويعاهدون اليوم وينقضون غدا. قال : وفي قراءة عبد الله : نقضه فريق منهم. (١)

عهد النبيّ عند مهاجره إلى المدينة

وأوّل عهد عهده نبيّ الإسلام مع قبائل العرب وقبائل اليهود القاطنين بيثرب ، فنبذوه وراء ظهورهم وتعاملوا مع الخصوم ، العهد الذي كتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرّهم على دينهم وأموالهم ، وشرط لهم واشترط عليهم حسبما ذكره محمّد بن إسحاق بن يسار (٨٥ ـ ١٥١) صاحب التاريخ قال :

[٢ / ٢٨٣١] كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه يهود وعاهدهم ، وأقرّهم على دينهم وأموالهم ، وشرط لهم ، واشترط عليهم :

«بسم الله الرحمان الرحيم ، هذا كتاب من محمّد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم ، فلحق بهم ، وجاهد معهم : إنّهم أمّة واحدة من دون الناس :

المهاجرون من قريش على ربعتهم (٢) يتعاقلون بينهم ، وهم يفدون عانيهم (٣) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، (٤) كلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٣٢ ؛ الطبري ١ : ٦٢١ / ١٣٦٢ ؛ الثعلبي ١ : ٢٤٢.

(٢) الربعة : الحال التي جاء الإسلام وهم عليها.

(٣) العاني : الأسير.

(٤) المعاقل : الديات ؛ الواحد : معقلة.

٤٢٩

وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو النجّار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو النّبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وإنّ المؤمنين لا يتركون مفرحا (١) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.

وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.

وإنّ المؤمنين المتّقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (٢) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين ؛ وإنّ أيديهم عليه جميعا ، ولو كان ولد أحدهم ؛ ولا يقتل مؤمن مومنا في كافر ، ولا ينصر كافرا على مؤمن ؛ وإنّ ذمّة الله واحدة ، يجير عليهم أدناهم. وإنّ المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس.

وإنّه من تبعنا من يهود فإنّ له النصر والأسوة ، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.

وإنّ سلم المؤمنين واحدة ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلّا على سواء وعدل بينهم.

وإنّ كلّ غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا.

__________________

(١) ويروى : «مفرجا» وهو بمعنى المفرح بالحاء المهملة. قال ابن هشام : المفرح : المثقل بالدين والكثير العيال. قال الشاعر :

إذا أنت لم تبرح تؤدّي أمانة

وتحمل أخرى أفرحتك الودائع

(٢) الدسيعة : العظيمة ، وهي في الأصل : ما يخرج من حلق البعير إذا رغا. وأراد بها هنا : ما ينال عنهم من ظلم.

٤٣٠

وإنّ المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.

وإنّ المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.

وإنّه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ، ولا يحول دونه على مؤمن.

وإنّه من اعتبط (١) مؤمنا قتلا عن بيّنة فإنّه قود به إلّا أن يرضى وليّ المقتول.

وإنّ المؤمنين عليه كافّة ، ولا يحلّ لهم إلّا قيام عليه.

وإنّه لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة ، وآمن بالله واليوم الآخر ، أن ينصر محدثا ولا يؤويه ؛ وأنّه من نصره أو آواه ، فإنّ عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

وإنّكم مهما اختلفتم فيه من شيء ، فإنّ مردّه إلى الله ـ عزوجل ـ وإلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين ؛

وإنّ يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين (٢) ، لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم ، مواليهم وأنفسهم إلّا من ظلم وأثم ، فإنّه لا يوتغ (٣) إلّا نفسه ، وأهل بيته ؛

وإنّ ليهود بني النجّار مثل ما ليهود بني عوف ؛

وإنّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف ؛

وإنّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف ؛

وإنّ ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف ؛

وإنّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف ؛

وإنّ ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف ؛ إلّا من ظلم وأثم ، فإنّه لا يوتغ إلّا نفسه وأهل بيته ؛

وإنّ جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم ؛

وإنّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف ؛

__________________

(١) اعتبطه ، أي قتله بلا جناية منه توجب قتله.

(٢) هنا وفي هذه العبارة نكتة دقيقة : إنّ اليهود أو كلّ أمّة خارجة عن حظيرة الإسلام فإنّهم ماداموا في حماية الإسلام وملتزمين بشرائط الإسلام ، فإنّهم مع المؤمنين أمّة واحدة.

(٣) يوتغ : يهلك.

٤٣١

وإنّ البرّ دون الإثم ؛

وإنّ موالي ثعلبة كأنفسهم ؛

وإنّ بطانة (١) يهود كأنفسهم ؛

وإنّه لا يخرج منهم أحد إلّا بإذن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛

وإنّه لا ينحجز على ثار جرح ؛

وإنّه من فتك فبنفسه فتك ، وأهل بيته ، إلّا من ظلم ؛ وإنّ الله على أبرّ هذا (٢) ؛ وإنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم ؛ وإنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ؛ وإنّ بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم ؛ وإنّه لم يأثم امرؤ بحليفه ؛ وإنّ النصر للمظلوم ؛ وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين ؛

وإنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ؛ وإنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم ؛ وإنّه لا تجار حرمة إلّا بإذن أهلها ؛

وإنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار (٣) يخاف فساده فإنّ مردّه إلى الله ـ عزوجل ـ وإلى محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وإنّ الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه ؛

وإنّه لا تجار قريش ولا من نصرها ؛ وإنّ بينهم النصر على من دهم يثرب ، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه ، فإنّهم يصالحونه ويلبسونه ؛ وإنّهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنّه لهم على المؤمنين ، إلّا من حارب في الدين ، على كلّ أناس حصّتهم من جانبهم الذي قبلهم ؛ وإنّ يهود الأوس ، مواليهم وأنفسهم ، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البرّ المحض من أهل هذه الصحيفة». (٤)

__________________

(١) بطانة الرجل : خاصّته وأهل بيته.

(٢) على أبرّ هذا ، أي على الرضا به.

(٣) الاشتجار : المشاجرة والتنازع.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ : ١٤٧ ـ ١٥٠.

٤٣٢

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

وكان هذا مظهرا من مظاهر نقض اليهود للعهود ، حيث كان مأخوذا عليهم من قبل : أن يؤمنوا بكلّ رسول يأتي من عند الله مصدّقا لما معهم ، ومتوافقا مع دلائل أوضحتها كتبهم ، فينصروه ويؤازروه ولكنّهم على العكس ناكروه ونابذوه على غرار الّذين لا علم لهم ولا كتاب.

[٢ / ٢٨٣٢] قال مقاتل بن سليمان : الفريق الّذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، هم : كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، وأبو ياسر بن أخطب ، وسعيد بن عمرو الشاعر ، ومالك بن الضيف ، وحييّ بن أخطب ، وأبو لبابة بن عمرو. (١)

[٢ / ٢٨٣٣] وقال أبو مسلم : لمّا جاءهم رسول الإسلام بهذا الكتاب (القرآن العظيم) فلم يقبلوه ، صاروا نابذين للكتاب الأوّل أيضا ، الذي جاءت فيه البشارة بنبيّ الإسلام. (٢)

[٢ / ٢٨٣٤] وفي رسالة أبي جعفر الباقر عليه‌السلام إلى سعد الخير : «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ...» (٣).

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ١٢٦.

(٢) مجمع البيان ١ : ٣١٩ ـ ٣٢٠.

(٣) الكافي ٨ : ٥٣ ـ ٥٤ / ١٦.

٤٣٣

قال تعالى :

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥))

نعم كانت مغبّة أن نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ورفضهم لشريعة الله الصادعة بالحقّ الصّراح أن ركضوا وراء سفاسف أهل السفه والعبث في الحياة.

إنّهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ليجروا خلف أساطير فارغة لا تستند إلى مستند وثيق.

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ).

لقد تركوا ما أنزل الله وراحوا يتتبّعون ما كان يقصّه الشياطين ـ أرباب الشيطنة والخداع ـ على عهد سليمان يضلّلون به الناس ، من دعاوي مكذوبة على سليمان ، إذ يقولون : إنّه كان يعمل السحر ، وإنّما سخّر ما سخّر ، عن طريق السحر والشعوذة ، كان يستخدمها في سلطانه.

والقرآن ينفي هذا الاتّهام ويبرّىء ساحة سليمان عن عمل السحر الذي هو بمنزلة الكفر بالله العظيم ، حيث الساحر يعاكس الدستور الآلهي الرشيد.

(وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ) هم (كَفَرُوا) حيث (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ).

وهكذا حسبت اليهود ـ في تملّصاتهم ـ أنّهم يتابعون ما ألهم على الملكين ببابل هاروت

٤٣٤

وماروت ، من أنواع العلوم الغريبة ومنها السحر والشعوذة. قيل : كانا رجلين صالحين من كبار رجال العلم في تلك البلاد ، شبّها بالملائكة لمكان ترفّعهما عن رذائل الحياة ولتوفّر مالديهما من العلوم والمعارف. وقرىء بكسر اللام ، تشبيها بذوي السلطة والاقتدار في الهيمنة والوقار.

لكنّها معاذير فارغة ، وأنّ الملكين كانا موضع فتنة واختبار للناس ، فليقتبسوا من علومهم النافع منها دون الضارّ وهكذا كانا يذكّران الناس : أنّ في علومهم ما ينتفعون به وما هو ضارّ لمن لم يكن من أهله فليحذر الّذين في قلوبهم زيغ أن يستخدموا العلم في سبيل الإفساد في الأرض فذلك كفر بالله العظيم ، وكفران لنعمه الجسام.

ولكن هناك من غلبته الرغبة إلى الشرّ (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) من دسائس ومكائد خدّاعة.

وهنا يبادر القرآن فيقرّر كلّيّة التصوّر الإسلامى الأساسيّة ، وهي : إنّه لا يقع شيء في هذا الوجود إلّا بإذن الله «لا مؤثّر في الوجود إلّا الله».

فبإذن الله تفعل الأسباب فعلها وتنشىء آثارها وتحقّق نتائجها.

وهذه قاعدة كلّيّة في التصوّر الإسلامي ، لا بدّ من وضوحها في ضمير المؤمن تماما.

قال سيد قطب : وأقرب ما يمثّل هذه القاعدة في مثل هذا المقام ، أنّك إذا عرضت يدك للنّار فإنّها تحترق. ولكن هذا الاحتراق لا يكون إلّا بإذن الله. فالله هو الذي أودع النار خاصّيّة الحرق ، وأودع يدك خاصّيّة الاحتراق بها ، وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصّيّة حين لا يأذن ، لحكمة خاصّة يريدها ، كما وقع لإبراهيم عليه‌السلام.

وكذلك هذا السحر الذي يفرّقون به بين المرء وزوجه ، ينشىء هذا الأثر بإذن الله ، وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصّيّة فيه ، حين لا يأذن لحكمة خاصّة يريدها وهكذا بقيّة ما نتعارف عليه بأنّها مؤثّرات وآثار. كلّ مؤثّر مودع خاصّيّة التأثير بإذن الله ، فهو يعمل بهذا الإذن ، ويمكن أن يوقف مفعوله كما أعطاه هذا المفعول حين يشاء. (١)

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ١٢٩ ـ ١٣٠.

٤٣٥

كلام عن الإذن منه تعالى

وإليك توضيحا لهذا الجانب : من توقّف تأثير المؤثّرات الطبيعيّة على إذنه تعالى. وذلك نظرا لقاعدة «الإمكان الذاتي» السارية في كلّ موجود على الإطلاق ما سوى واجب الوجود فإنّ الموجودات بأسرها ـ بأعيانها وخواصّها وآثارها ـ كلّها خاضعة لقانون الإمكان الذاتي اللااقتضائي البحت أي الفقر المحض المدقع : «وخضعت له الرقاب وتقطّعت دونه الأسباب».

فهي إن وجدت فبمؤثّر غير ذاته وإن انعدمت فبموجب سوى ذاته حيث لا اقتضاء في ذاته ، لا وجودا ولا عدما.

هذا في أصل وجود الشيء .. وهكذا في تداومه بعد بقاء الذات على فقره الذاتي كما كان ، لم ينقلب عند وجوده في الآن الأوّل واجبا ذاتيّا ، بل هو باق على إمكانه الذاتي اللااقتضائي في الآن الثاني والثالث وهكذا عبر آنات الوجود. ففي كلّ هذه الآنات واللحظات هو بحاجة لإفاضة الوجود عليه ، كالآن الأوّل بلا فرق فالشيء المستمر في وجوده ، هو بحاجة إلى تداوم الإفاضة عليه من واجب الوجود. فلو انقطعت عنه الإفاضة لحظة انعدم لفوره ولم يتح له التداوم في الوجود.

وبما أنّ خاصّيّة الأشياء كذواتها أيضا فقيرة بحاجة إلى تداوم الإفاضة عليها آنا بعد آن.

فبانقطاع الإفاضة ينقطع حبل المسير وهذا هو معنى إيقاف التأثير.

[٢ / ٢٨٣٥] أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم بالإسناد إلى سفيان في قوله تعالى : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) قال : بقضاء الله. قال الثعلبي : أي إلّا بعلمه وقضائه ومشيئته وتكوينه وجاء في تفسير البغوي : إلّا بقضائه وقدره ومشيئته. (١)

قوله تعالى : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ)

وهذا تقرير لحقيقة مرّة أصابتهم بسوء اختيارهم ، حسبوه خيرا لهم ، بل هو شرّ لهم ويكفي أن يكون هذا الشرّ هو كفران النعم المنتهي إلى الكفر بالله العظيم فيكون ضرّا خالصا لا نفع فيه أبدا. فهم كما أضرّوا بأنفسهم في هذه الحياة ـ إذ كانت لهم الصفقة الخاسرة ـ كذلك أضرّوا بآخرتهم حيث لا

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٥٠ ؛ الطبري ١ : ٦٥٠ / ١٤١٧ ؛ ابن أبي الحاتم ١ : ١٩٤ / ١٠٢٠ ؛ الثعلبي ١ : ٢٥٠ ؛ البغوي ١ : ١٥٢.

٤٣٦

خلاق (لا حظّ ولا نصيب) لهم فيها :

(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) اكتسب لنفسه هذه المأساة (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ..) إذ افتقد كلّ رصيد له كاد ينفعه هناك لو كان لم يخسرها. فما أسوأ ما باعوا به أنفسهم لو كانوا يعلمون حقيقة الصفقة (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) : لو شعروا بموقفهم هذا الخاسر.

نعم لم يكن طريق النجاح منسدّا عليهم لو قصدوه لنالوا منه حظّهم الأوفر : لذّة الحياة وسعادة البقاء.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). إنّ للإيمان بالله العظيم ، والتزام التقوى والتعهّد في السلوك ، لأثرا بيّنا في مباهج الحياة ويضمن سعادة الدارين ، لو شعروا بهذه الحقيقة اللائحة. حيث تطابق الوحي مع نداء الفطرة الصارخة.

***

وبعد فإليك من أحاديث السلف بشأن شعوذة الشياطين على عهد سليمان وما قيل بشأن هاروت وماروت المعبّر عنهما بالملكين في لسان اليهود وغير ذلك من أساطير مسطّرة وأكثرها مفتعلة عن لسان السلف الصالحين.

[٢ / ٢٨٣٦] أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه عن ابن عبّاس قال : إنّ الشياطين كانوا يسترقون السمع من السّماء ، فإذا سمع أحدهم بكلمة حقّ كذب عليها ألف كذبة فأشربتها قلوب الناس واتّخذوها دواوين ، فأطلع الله على ذلك سليمان بن داوود فأخذها فدفنها تحت الكرسيّ ، فلمّا مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال : ألا أدلّكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممتع؟ قالوا : نعم. فأخرجوه فإذا هو سحر ، فتناسختها الأمم ، وأنزل الله عذر سليمان فيما قالوا من السحر فقال : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) الآية. (١)

[٢ / ٢٨٣٧] وأخرج النسائي وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : كان آصف بن برخيا كاتب

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٣٣. سنن سعيد بن منصور ٢ : ٥٩٤ ـ ٥٩٥ / ٢٠٧ ؛ الطبري ١ : ٦٣٠ ـ ٦٣١ / ١٣٨٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٨٧ / ٩٨٩ ؛ الحاكم ٢ : ٢٦٥.

٤٣٧

سليمان ، وكان يعلم الإسم الأعظم ، وكان يكتب كلّ شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيّه ، فلمّا مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كلّ سطرين سحرا وكفرا ، وقالوا : هذا الذي كان سليمان يعمل به ، فأكفره جهّال الناس وسفاؤهم وسبّوه ، ووقف علماؤهم. فلم يزل جهّالهم يسبّونه حتّى أنزل الله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ). (١)

[٢ / ٢٨٣٨] وأخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال : كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من شأنه ، أعطى الجرادة ـ وهي امرأته ـ خاتمه ، فلمّا أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به وأعطى الجرادة ذلك اليوم خاتمه ، جاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي. فأخذه فلبسه ، فلمّا لبسه دانت له الشياطين والجنّ والإنس ، فجاء سليمان فقال لها : هاتي خاتمي! قالت : كذبت لست سليمان. فعرف أنّه بلاء ابتلي به ، فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيّام كتبا فيها سحر وكفر ، ثمّ دفنوها تحت كرسيّ سليمان ، ثمّ أخرجوها فقرأوها على الناس وقالوا : إنّما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب ، فبرىء الناس من سليمان وأكفروه حتّى بعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنزل عليه : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا). (٢)

[٢ / ٢٨٣٩] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : لمّا ذهب ملك سليمان ارتدّ فئام من الجنّ والإنس واتّبعوا الشهوات ، فلمّا رجع إلى سليمان ملكه وقام الناس على الدين ، ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيّه ، وتوفّي حدثان ذلك (٣) ، فظهر الجنّ والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان ، وقالوا : هذا كتاب من الله نزل على سليمان أخفاه عنّا ، فأخذوه فجعلوه دينا ، فأنزل الله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) أي الشهوات التي كانت الشياطين تتلو ، وهي المعازف واللعب وكلّ شيء يصدّ عن ذكر الله. (٤)

[٢ / ٢٨٤٠] وأخرج ابن جرير عن شهر بن حوشب قال : قالت اليهود : انظروا إلى محمّد يخلط

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ؛ النسائي ٦ : ٢٨٨ / ١٠٩٩٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٨٥ / ٩٨٢.

(٢) الدرّ ١ : ٢٣٤ ؛ الطبري ١ : ٦٢٩ ـ ٦٣٠ / ١٣٨٠ ؛ ابن كثير ١ : ١٣٩.

(٣) حدثان ـ بالضمّ ـ جمع حدث بمعنى الشابّ.

(٤) الدرّ ١ : ٢٣٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٨٥ ـ ١٨٦ / ٩٨٤ ؛ الطبري ١ : ٦٢٥ ـ ٦٢٦ / ١٣٧٠.

٤٣٨

الحقّ بالباطل ، يذكر سليمان مع الأنبياء ، إنّما كان ساحرا يركب الريح. فأنزل الله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ ...) الآية. (١)

[٢ / ٢٨٤١] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية وعن الربيع قال : إنّ اليهود سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زمانا عن أمور من التوراة ، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلّا أنزل الله عليه ما سألوا عنه فيخصمهم ، فلمّا رأوا ذلك قالوا : هذا أعلم بما أنزل علينا منّا! وإنّهم سألوه عن السحر وخاصموه به ، فأنزل الله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ ...) الآية. وإنّ الشياطين عمدوا إلى كتاب ، فكتبوا فيه السحر والكهانة وما إلى ذلك ، فدفنوه تحت مجلس سليمان ، وكان سليمان لا يعلم الغيب ، فلمّا فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس ، وقالوا : هذا علم كان سليمان يكتمه عن الناس ويحسدهم عليه ، فأخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الحديث ، فرجعوا من عنده وقد حزنوا وأدحض الله حجّتهم. (٢)

[٢ / ٢٨٤٢] وأخرج سعيد بن منصور عن خصيف قال : كان سليمان إذا نبتت الشجرة قال : لأيّ داء أنت؟ فتقول : لكذا وكذا. فلمّا نبتت الشجرة الخرنوبة قال : لأيّ شيء أنت؟ قالت : لمسجدك أخرّبه. قال : تخرّبينه؟ قالت : نعم! قال : بئس الشجرة أنت! فلم يلبث أن توفّي ، فكتب الشياطين كتابا فجعلوه في مصلّى سليمان ، فقالوا : نحن ندلّكم على ما كان سليمان يداوي به ، فانطلقوا فاستخرجوا ذلك الكتاب ، فإذا فيه سحر ورقيّ ، فأنزل الله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) إلى قوله (فَلا تَكْفُرْ). (٣)

[٢ / ٢٨٤٣] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة ، قال : ذكر لنا ـ والله أعلم ـ : أنّ الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم ، ثمّ أفشوه في الناس وعلّموهم إيّاه! فلمّا سمع بذلك سليمان نبيّ الله عليه‌السلام تتبّع تلك الكتب ، فأتي بها فدفنها تحت كرسيّه ، كراهيّة أن يتعلّمها الناس! فلمّا قبض الله نبيّه سليمان عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها الذي كانت فيه ، فعلّموها الناس ،

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٣٤ ؛ الطبري ١ : ٦٣١ ـ ٦٣٢ / ١٣٨٥ ؛ ابن كثير ١ : ١٤٠ ـ ١٤١.

(٢) الدرّ ١ : ٢٣٥ ـ ٢٣٤ ؛ الطبري ١ : ٦٢٤ ـ ٦٢٥ / ١٣٦٧ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٨٦ / ٩٨٥ ؛ ابن كثير ١ : ١٤٠.

(٣) الدرّ ١ : ٢٣٥ ؛ سنن سعيد بن منصور ٢ : ٥٧٦ ـ ٥٧٧ / ٢٠٤ ؛ أسباب نزول الآيات : ٢٠.

٤٣٩

فأخبروهم أنّ هذا علم كان يكتمه سليمان ويستأثر به. فعذر الله نبيّه سليمان وبرّأه من ذلك ، فقال جلّ ثناؤه : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا). (١)

[٢ / ٢٨٤٤] وأخرج ابن جرير عن أسباط عن السدّي قال : كانت الشياطين تصعد إلى السماء ، فتقعد منها مقاعد للسمع ، فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم ، فتحدّث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا ، حتّى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم ، فأدخلوا فيه غيره فزادوا مع كلّ كلمة سبعين كلمة. فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب وفشا في بني إسرائيل أنّ الجنّ تعلم الغيب. فبعث سليمان في الناس ، فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ، ثمّ دفنها تحت كرسيّه ، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسيّ إلّا احترق ، وقال : «لا أسمع أحدا يذكر أنّ الشياطين تعلم الغيب إلّا ضربت عنقه». فلمّا مات سليمان ، وذهبت العلماء الّذين كانوا يعرفون أمر سليمان ، وخلف من بعدهم خلف ، تمثّل الشيطان في صورة إنسان ، ثمّ أتى نفرا من بني إسرائيل ، فقال : هل أدلّكم على كنز لا تأكلونه أبدا؟ قالوا : نعم. قال : فاحفروا تحت الكرسيّ! وذهب معهم فأراهم المكان. فقام ناحية ، فقالوا له : فادن! قال : لا ولكنّي هاهنا في أيديكم ، فإن لم تجدوه فاقتلوني. فحفروا فوجدوا تلك الكتب ، فلمّا أخرجوها قال الشيطان : إنّ سليمان إنّما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر. ثمّ طار فذهب. وفشا في الناس أنّ سليمان كان ساحرا واتّخذت بنو إسرائيل تلك الكتب. فلمّا جاءهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصموه بها ، فذلك حين يقول : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ). (٢)

[٢ / ٢٨٤٥] وقال مقاتل بن سليمان : (وَاتَّبَعُوا) يعني اليهود (ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) يعني ما تلت الشياطين على عهد سليمان وفي سلطانه. وذلك أنّ طائفة من الشياطين كتبوا كتابا فيه سحر فدفنوه في مصلّى سليمان حين خرج من ملكه ووضعوه تحت كرسيّه ، فلمّا توفّي سليمان

__________________

(١) الطبري ١ : ٦٣١ / ١٣٨٣ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٨٧ / ٩٩٢ ، إلى قوله : وعلّموهم إيّاه.

(٢) الطبري ١ : ٦٢٣ ـ ٦٢٤ / ١٣٦٦ ؛ الثعلبي ١ : ٢٤٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٨٦ / ٩٨٧ ؛ البغوي ١ : ١٤٧ ـ ١٤٨ ؛ ابن كثير ١ : ١٣٩ ـ ١٤٠ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٧٤ ـ ٧٥.

٤٤٠