التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

(نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)(١) فقيل لهم : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

[٢ / ٢٧٤٠] وعن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : قالت اليهود : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) وقالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فقال الله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فلم يفعلوا.

***

قال : وأمّا تأويل قوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) فإنّه يقول : قل يا محمّد إن كان نعيم الدار الآخرة ولذّاتها لكم يا معشر اليهود عند الله. فاكتفى بذكر «الدار» من ذكر نعيمها ، لمعرفة المخاطبين بالآية معناها.

وأمّا تأويل قوله : (خالِصَةً) فإنّه يعني به صافية ، كما يقال : خلص لي فلان بمعنى صار لي وحدي وصفا لي ؛ يقال منه : خلص لي هذا الشيء ، فهو يخلص خلوصا وخالصة ، والخاصة مصدر مثل العافية ، ويقال للرجل : هذا خلصاني ، يعني خالصتي من دون أصحابي. وقد روي عن ابن عبّاس أنّه كان يتأوّل قوله : (خالِصَةً) خاصة ، وذلك تأويل قريب من معنى التأويل الذي قلناه في ذلك.

[٢ / ٢٧٤١] وعن الضحّاك عن ابن عبّاس في قوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) قال : قل يا محمّد لهم ـ يعني اليهود ـ إن كانت لكم الدار الآخرة ـ يعني الخير ـ (عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) يقول : خاصة لكم.

وأمّا قوله (مِنْ دُونِ النَّاسِ) فإنّ الذي يدلّ عليه ظاهر التنزيل أنّهم قالوا : لنا الدار الآخرة عند الله خالصة من دون جميع الناس. ويبيّن أنّ ذلك كان قولهم من غير استثناء منهم من ذلك أحدا من بني آدم ، إخبار الله عنهم أنّهم قالوا : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى).

[٢ / ٢٧٤٢] إلّا أنه روي عن ابن عبّاس قول غير ذلك. فعن الضحّاك ، عن ابن عبّاس : (مِنْ دُونِ النَّاسِ) يقول : من دون محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه الّذين استهزأتم بهم ، وزعمتم أنّ الحقّ في أيديكم ، وأنّ الدار الآخرة لكم دونهم.

__________________

(١) المائدة ٥ : ١٨.

٤٠١

وأمّا قوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) فإنّ تأويله : تشهّوه وأريدوه. وقد روي عن ابن عبّاس أنّه قال في تأويله : «فسلوا الموت» ولا يعرف التمنّي بمعنى المسألة في كلام العرب ، ولكن أحسب أنّ ابن عبّاس وجّه معنى الأمنيّة إذ كانت محبّة النفس وشهوتها إلى معنى الرغبة والمسألة ، إذ كانت المسألة هي رغبة السائل إلى الله فيما سأله.

[٢ / ٢٧٤٣] وروى أبو روق ، عن الضحّاك عن ابن عبّاس في قوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) قال : فسلوا الموت (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

***

قال أبو جعفر : وأمّا قوله تعالى (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ، فهو خبر من الله ـ جلّ ثناؤه ـ عن اليهود وكراهتهم الموت وامتناعهم عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمنّي الموت ، لعلمهم بأنّهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل والموت بهم حالّ ، ولمعرفتهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه رسول من الله إليهم مرسل وهم به مكذّبون ، وأنّه لم يخبرهم خبرا إلّا كان حقّا كما أخبر ، فهم يحذرون أن يتمنّوا الموت خوفا أن يحلّ بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب.

[٢ / ٢٧٤٤] فعن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عبّاس في قوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) الآية قال : أي ادعوا بالموت على أيّ الفريقين أكذب ، فأبوا ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. يقول الله لنبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي لعلمهم بما عندهم من العلم بك والكفر بذلك.

[٢ / ٢٧٤٥] وعن أبي روق ، عن الضحّاك عن ابن عبّاس في قوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) يقول : يا محمّد ولن يتمنّوه أبدا لأنّهم يعلمون أنّهم كاذبون ، ولو كانوا صادقين لتمنّوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي ، فليس يتمنّونه أبدا بما قدّمت أيديهم.

[٢ / ٢٧٤٦] وعن ابن جريج قال : وكانت اليهود أشدّ فرارا من الموت ، ولم يكونوا ليتمنّوه أبدا.

وأمّا قوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) فإنّه يعني به بما أسلفته أيديهم. وإنّما ذلك مثل على نحو ما تتمثّل به العرب في كلامها ، فتقول للرجلّ ـ يؤخذ بجريرة جرّها أو جناية جناها فيعاقب عليها ـ : نالك هذا بما جنت يداك ، وبما كسبت يداك ، وبما قدّمت يداك ؛ فتضيف ذلك إلى اليد ، ولعلّ الجناية التي جناها فاستحقّ عليها العقوبة كانت باللسان أو بالفرج أو بغير ذلك من أعضاء جسده سوى اليد. وإنّما قيل ذلك بإضافته إلى اليد ؛ لأنّ عظم جنايات الناس بأيديهم ، فجرى الكلام باستعمال

٤٠٢

إضافة الجنايات التي يجنيها الناس إلى أيديهم حتّى أضيف كلّ ما عوقب عليه الإنسان ممّا جناه بسائر أعضاء جسده إلى أنّها عقوبة على ما جنته يده ؛ فلذلك قال ـ جلّ ثناؤه ـ للعرب : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) يعني به : ولن يتمنّى اليهود الموت بما قدّموا أمامهم من حياتهم من كفرهم بالله في مخالفتهم أمره وطاعته في اتّباع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جاء به من عند الله ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة ، ويعلمون أنّه نبيّ مبعوث. فأضاف ـ جلّ ثناؤه ـ ما انطوت عليه قلوبهم وأضمرته أنفسهم ونطقت به ألسنتهم من حسد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والبغي عليه ، وتكذيبه ، وجحود رسالته إلى أيديهم ، وأنّه مما قدّمته أيديهم. لعلم العرب معنى ذلك في منطقها وكلامها ، إذ كان ـ جلّ ثناؤه ـ إنّما أنزل القرآن بلسانها وبلغتها.

[٢ / ٢٧٤٧] وروي عن ابن عبّاس في ذلك ما رواه أبو روق ، عن الضحّاك عن ابن عبّاس في قوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) يقول : بما أسلفت أيديهم.

[٢ / ٢٧٤٨] وعن ابن جريج في قوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) قال : إنّهم عرفوا أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّ فكتموه.

***

وأمّا قوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فإنّه يعني ـ جلّ ثناؤه ـ : والله ذو علم بظلمة بني آدم : يهودها ونصاراها وسائر أهل الملل غيرها ، وما يعملون. وظلم اليهود وكفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعته في اتّباع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن كانوا يستفتحون به وبمبعثه ، وجحودهم نبوّته وهم عالمون أنّه نبيّ الله ورسوله إليهم. (١)

[٢ / ٢٧٤٩] وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عبّاس في هذه الآية قال : قل لهم يا محمّد : (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) يعني الجنّة كما زعمتم (خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ) يعني المؤمنين (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إنّها لكم خالصة من دون المؤمنين فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن كنتم في مقالتكم صادقين ، قولوا : اللهم أمتنا. فو الذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلّا غصّ بريقه فمات مكانه» ، فأبوا أن يفعلوا وكرهوا ما قال لهم ، فنزل (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) يعني عملته

__________________

(١) الطبري ١ : ٥٩٦ ـ ٥٩٩.

٤٠٣

أيديهم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) إنّهم لن يتمنّوه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند نزول هذه الآية : «والله لا يتمنّونه أبدا». (١)

[٢ / ٢٧٥٠] وأخرج أحمد والنسائي ، وابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عبّاس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لو أنّ اليهود تمنّوا الموت لماتوا ، ولرأوا مقاعدهم من النار». (٢)

[٢ / ٢٧٥١] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : «لو تمنّوا الموت لشرق أحدهم بريقه. (٣)

[٢ / ٢٧٥٢] وروى مقاتل مرفوعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لو تمنّوا الموت ما قام منهم رجل من مجلسه حتّى يغصّه الله بريقه فيموت». (٤)

[٢ / ٢٧٥٣] وأخرج عبد الرزّاق وابن جرير وابن المنذر وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عبّاس قال : لو تمنّى اليهود الموت لماتوا. ولو خرج الّذين يباهلون النبي لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا. (٥)

[٢ / ٢٧٥٤] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) أي ادعوا بالموت على أيّ الفريقين أكذب ، فأبوا ذلك ، ولو تمنّوه ما بقي على وجه الأرض يهوديّ إلّا مات. (٦)

***

قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) وحتّى أنّهم أحرص على الحياة من المشركين

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٢٠ ؛ الدلائل ٦ : ٢٧٤ ـ ٢٧٥ ؛ مجمع البيان ١ : ٣١٠. بلفظ : وروى الكلبي عن ابن عبّاس إنّه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لهم : «إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا اللهمّ أمتنا ، فو الذي نفسي بيده لا يقولها رجل إلّا غصّ بريقه فمات مكانه».

(٢) الدرّ ١ : ٢٢٠ ؛ مسند أحمد ١ : ٢٤٨ بلفظ : عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : ولو أنّ اليهود تمنّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم في النار ، ولو خرج الّذين يباهلون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا ؛ النسائي ٦ : ٣٠٨ / ١١٠٦١ ؛ مجمع الزوائد ٨ : ٢٢٨ ، كتاب فيه ذكر الأنبياء وقال رجاله صحيح ؛ الطبري ١ : ٥٩٧ / ١٢٩٥ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٨٠ / ٩٠ ، كلّهم بنحو ما رواه أحمد في المسند.

(٣) الدرّ ١ : ٢٢٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٧٧ / ٩٣٦ ؛ الثعلبي ١ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(٤) تفسير مقاتل ١ : ١٢٥.

(٥) الدرّ ١ : ٢٢٠ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٨١ / ٩١ ؛ الطبري ١ : ٥٩٧ / ١٢٩٧ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٦٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٧٧ / ٩٣٨.

(٦) الدرّ ١ : ٢٢٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٧٧ / ٩٣٧.

٤٠٤

الّذين لا يعتقدون حياة أخرى.

(يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ). تطول حياته مهما كانت كاسدة. ولكن هل البقاء طول الحياة يجدي لهم نفعا للخلاص من العذاب الأبدي؟!

(وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) بصير بنواياهم الخبيثة وآمالهم المنكوسة حيث الظالم لا فلاح له أبدا.

***

قال أبو جعفر الطبري : يعني بقوله ـ جلّ ثناؤه ـ : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) اليهود ، يقول : يا محمّد لتجدنّ أشدّ الناس حرصا على الحياة في الدنيا وأشدّهم كراهة للموت اليهود. كما :

[٢ / ٢٧٥٥] روي عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عبّاس : يعني اليهود. وهكذا روي عن مجاهد والربيع وأبي العالية. (١)

قال : وإنّما وصف الله ـ جلّ ثناؤه ـ اليهود بأنّهم أحرص الناس على الحياة ، لعلمهم بما قد أعدّ لهم في الآخرة على كفرهم بما لا يقرّ به أهل الشرك ، فهم للموت أكره من أهل الشرك الّذين لا يؤمنون بالبعث ؛ لأنّهم يؤمنون بالبعث ، ويعلمون ما لهم هنالك من العذاب ، وأنّ المشركين لا يصدّقون بالبعث ، ولا العقاب. فاليهود أحرص منهم على الحياة وأكره للموت.

وقيل : إنّ الّذين أشركوا الّذين أخبر الله تعالى ذكره أنّ اليهود أحرص منهم ـ في هذه الآية ـ على الحياة هم المجوس الّذين لا يصدّقون بالبعث!

[٢ / ٢٧٥٦] فعن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : يعني المجوس.

[٢ / ٢٧٥٧] وعن ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) قال : يهود أحرص من هؤلاء على الحياة.

وقال بعضهم : هم الّذين ينكرون البعث كما :

[٢ / ٢٧٥٨] روى سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عبّاس في قوله : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) قال : وذلك أنّ المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت فهو يحبّ طول الحياة ، وأنّ

__________________

(١) الطبري ١ : ٦٠١ ـ ٦٠٢.

٤٠٥

اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما ضيّع ممّا عنده من العلم.

وقال في تأويل قوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ :)

هذا خبر من الله ـ جلّ ثناؤه ـ عن الّذين أشركوا ، الّذين أخبر أنّ اليهود أحرص منهم على الحياة ، يقول ـ جلّ ثناؤه ـ : يودّ أحد هؤلاء الّذين أشركوا ـ الّذين لا يعتقدون بعد فناء دنياه وانقضاء أيّام حياته أن يكون له بعد ذلك نشور أو محيا أو فرح أو سرور ـ : لو يعمّر ألف سنة ؛ حتّى جعل بعضهم تحيّة بعض عشرة آلاف عام حرصا منهم على الحياة. كما :

[٢ / ٢٧٥٩] روي عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عبّاس في قوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : هو قول الأعاجم : سال زه نوروز مهرجان حر.

[٢ / ٢٧٦٠] وأيضا عنه ، عن سعيد ، عن ابن عبّاس في قوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : هو قول أحدهم إذا عطس زه هزار سال ، يقول : عشرة آلاف سنة.

[٢ / ٢٧٦١] وعن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير في قوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس : زه هزار سال.

[٢ / ٢٧٦٢] وعن ابن أبي نجيح عن قتادة في قوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : حبّبت إليهم الخطيئة طول العمر.

[٢ / ٢٧٦٣] وعن ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) حتّى بلغ : (لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) يهود أحرص من هؤلاء على الحياة ، وقد ودّ هؤلاء لو يعمّر أحدهم ألف سنة.

قوله : (بِمُزَحْزِحِهِ) أى بمبعده ومنحّيه ، كما قال الحطيئة :

وقالوا تزحزح ما بنا فضل حاجة

إليك وما منّا لوهيك راقع

يعني بقوله تزحزح : تباعد ، يقال منه : زحزحه يزحزحه زحزحة وزحزاحا ، وهو عنك متزحزح : أي متباعد.

فمعنى الآية : وما طول العمر بمبعده من عذاب الله ولا منحّيه منه ؛ لأنّه لا بدّ للعمر من الفناء ومصيره إلى الله. كما :

[٢ / ٢٧٦٤] روي عن سعيد بن جبير ، أو عن عكرمة ، عن ابن عبّاس في قوله : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ

٤٠٦

مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) قال : أي ما هو بمنحّيه من العذاب.

[٢ / ٢٧٦٥] وعن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) يقول : وإن عمّر ، فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجّيه.

[٢ / ٢٧٦٦] وعن ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) : ويهود أحرص على الحياة من هؤلاء ، وقد ودّ هؤلاء لو يعمّر أحدهم ألف سنة ، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عمّر كما عمّر إبليس لم ينفعه ذلك ، إذ كان كافرا ولم يزحزحه ذلك عن العذاب. (١)

[٢ / ٢٧٦٧] وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه عن ابن عبّاس في قوله : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) قال : اليهود (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) قال : الأعاجم. (٢)

[٢ / ٢٧٦٨] وفي التفسير المنسوب إلى الإمام عليه‌السلام : ثمّ قال : يا محمّد (وَلَتَجِدَنَّهُمْ) يعني تجد هؤلاء اليهود (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) وذلك ليأسهم من نعيم الآخرة ـ لانهماكهم في كفرهم ـ الذي يعلمون أنّه لا حظّ لهم معه في شيء من خيرات الجنّة. (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) قال [تعالى] : هؤلاء اليهود (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) وأحرص (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) على حياة يعني المجوس لأنّهم لا يرون النعيم إلّا في الدنيا ، ولا يأملون خيرا في الآخرة ، فلذلك هم أشدّ الناس حرصا على حياة. ثمّ وصف اليهود فقال : (يَوَدُّ) يتمنّى (أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ) التعمير ألف سنة (بِمُزَحْزِحِهِ) بمباعده (مِنَ الْعَذابِ). (٣)

__________________

(١) الطبري ١ : ٦٠١ ـ ٦٠٥.

(٢) الدرّ ١ : ٢٢١ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٧٨ / ٩٤٤ و ٩٤٦ ؛ الحاكم ٢ : ٢٦٣.

(٣) تفسير الإمام عليه‌السلام : ٤٤٤ / ذيل ٢٩٤ ؛ البرهان ١ : ٢٨٦ / ذيل ١ ؛ البحار ٩ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣ / ذيل ١٥ ، باب ٢.

٤٠٧

قال تعالى :

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١))

تلك سمة أخرى من سمات اليهود تبدو عجيبة حقّا. لقد بلغ هؤلاء القوم من الحنق والغيظ مبلغا يتجاوز كلّ حدّ ، وقادهم إلى تناقض لا يستقيم في عقل. فقد سمعوا أنّ جبريل ينزل بالوحي على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد بلغ حقدهم له مبلغ السفه والخبل فقد لجّ بهم الضغن أن يخترعوا قصّة واهية فيزعموا أنّ جبريل عدوّهم ، حيث نزل بالوحي على غير قبيلهم ولأنّه كان ينزل بالدمار والهلاك وصبّ البلاء على بني إسرائيل منذ أمد بعيد وأنّ هذا هو السبب الذي يمنعهم من الإيمان بنبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو كان الّذي ينزل بالوحي على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ميكال لآمنوا ، حيث إنّه ينزل بالمطر والخصب والرخاء.

إنّها الصفاقة والحماقة المضحكة ... غير أنّ الحقد والغيظ يسوقان إلى كلّ سفاهة وإلّا فما بالهم يعادون جبريل ، وجبريل عبد من عباد الله ، ويعمل بإذن الله ولا موجب لأن يعادي فئة لا مساس لهم به فيما يزاوله من شؤون!

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) فما كان له من هوى شخصيّ ولا إرادة ذاتيّة وإنّما هو منفّذ لإرادة الله وإذنه في تنزيل هذا القرآن على قلب سيّد المرسلين. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ). ولم يكن ما نزل به جبريل ما يضادّ رسالات الله السالفة ، أو يكون فيه عداء لقوم دون قوم بل هو هداية عامّة وبشرى لمن آمن به ، بشرى بسعادة الدارين. ومن ثمّ فمن

٤٠٨

كان عدوّا لجبريل ، فإنّه معاد لله ومعارض لرسالة الله في الأرض. (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) حيث كان العداء مع رسل الله عداء مع الله وهو في حدّ الكفر بالله والله عدوّ للكافرين.

ثمّ يتّجه الخطاب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يثبّته على موضع رسالته ، وأن سوف يظهره على الدين كلّه. ويريه الناس كيف يدخلون في دين الله أفواجا وأن لا موضع للمعارض سوى الشذوذ والإنفراد عن ركب جماعة الناس. (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ). وما هذا الشذوذ والانحراف عن جادّة الحقّ ، سوى امتداد لمنهجهم الملتوي في سائر عهودهم والمواثيق. (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

فقد أخلفوا ميثاقهم مع الله في سفح الجبل ، ونبذوا عهودهم مع أنبيائهم من بعد. وأخيرا نبذ فريق منهم عهدهم الذي أبرموه مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل مقدمه إلى المدينة ، وهو العهد الّذي وادعهم فيه بشروط معيّنة (١) ، بينما كانوا هم أوّل من أعان عليه أعداءه ، وأوّل من عاب دينه ، وحاول بثّ الفرقة والفتنة في صفوف المسلمين ، مخالفين ما عاهدوا المسلمين عليه.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

وكان هذا من أبرز مظاهر النقض فقد كان عليهم أن يؤمنوا بكلّ رسول يعرفونه رسولا من عند الله وينصروه ويؤازروه ولكنّهم على العكس نابذوا رسول الإسلام وعادوه ، في حين أنّهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.

نعم جاءهم كتاب يتوافق مع أسس الشرائع السالفة ـ دليلا على صدقه ـ لكنّهم رغم عرفانهم له نبذوه وراء ظهورهم ، على غرار جهلة المشركين.

وفي هذا التعبير نكاية بهم وسخريّة خفيّة بموضعهم الشنيء ، إنّهم حسب زعمهم أهل كتاب وعرفان ولكنّهم بصنيعهم هذه البشعة ساووا جيرانهم المشركين الّذين هم أمّيّون لا علم لهم ولا كتاب.

__________________

(١) وسيوافيك نصّ المعاهدة ، نقلا من السيرة لابن هشام ٢ : ١٤٧ ـ ١٥٠.

٤٠٩

قال أبو جعفر الطبري : أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أنّ هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل ، إذ زعموا أنّ جبريل عدوّ لهم وأنّ ميكائيل وليّ لهم. ثمّ اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك ، فقال بعضهم : إنّما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمر نبوّته.

[٢ / ٢٧٦٩] فعن شهر بن حوشب ، عن ابن عبّاس أنّه قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا أبا القاسم حدّثنا عن خلال نسألك عنهنّ لا يعلمهنّ إلّا نبيّ! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سلوا عما شئتم ، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدّثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعنّي على الإسلام». فقالوا : ذلك لك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سلوني عما شئتم!» فقالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهنّ! أخبرنا أيّ الطعام حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل ، وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبيّ الأميّ في النوم ومن وليه من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعنّي!». فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق ، فقال : «نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه ، فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرّمنّ أحبّ الطعام والشراب إليه وكان أحبّ الطعام إليه لحم الإبل؟» ـ قال أبو جعفر : فيما أرى : «وأحبّ الشراب إليه ألبانها» ـ فقالوا : اللهم نعم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أشهد الله عليكم وأنشدكم بالله الّذي لا إله إلّا هو ، الّذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أنّ ماء الرجل أبيض غليظ ، وأنّ ماء المرأة أصفر رقيق؟ فأيّهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله ، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله!» قالوا : اللهم نعم. قال : «اللهم اشهد. قال : وأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أنّ هذا النبيّ الأمّي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟» قالوا : اللهمّ نعم. قال : «اللهم اشهد» قالوا : أنت الآن تحدّثنا ، من وليّك من الملائكة؟ فعندها نتابعك أو نفارقك! قال : فإنّ وليّي جبريل. ولم يبعث الله نبيّا قطّ إلّا وهو وليّه! قالوا : فعندها نفارقك ، لو كان وليّك سواه من الملائكة تابعناك وصدّقناك!

٤١٠

قال : فما يمنعكم أن تصدّقوه؟ قالوا : إنّه عدوّنا فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) فعندها باؤوا بغضب على غضب. (١)

قلت : لا يخفى مواضع الوهن في هذا الحديث وأمثاله ممّا سنذكر ولعلّ واضعه قد خلط الحابل بالنابل ، فتنبّه.

[٢ / ٢٧٧٠] وكذا أخرج الطيالسي والفريابي وأحمد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عبّاس قال : حضرت عصابة من اليهود نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا أبا القاسم حدّثنا عن خلال نسألك عنهنّ لا يعلمهنّ إلّا نبيّ! قال : سلوني عمّا شئتم ، ولكن اجعلوا لي ذمّة الله وما أخذ يعقوب على بنيه : لئن أنا حدّثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعنّي؟ قالوا : فذلك لك. قالوا : أربع خلال نسألك عنها : أخبرنا أيّ طعام حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء الرجل من ماء المرأة وكيف الأنثى منه والذكر؟ وأخبرنا كيف هذا النبيّ الأمّي في النوم ، ومن وليّه من الملائكة؟ فأخذ عليهم عهد الله لئن أخبرتكم لتتابعنّي ، فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق! قال : فأنشدكم بالذي أنزل التوراة هل تعلمون أنّ إسرائيل مرض مرضا طال سقمه ، فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمنّ أحبّ الشراب إليه وأحبّ الطعام إليه ، وكان أحبّ الطعام إليه لحمان الإبل ، وأحبّ الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا : اللهمّ نعم. فقال : اللهمّ اشهد. قال : أنشدكم بالذي لا إله إلّا هو ، هل تعلمون أنّ ماء الرجل أبيض غليظ وأنّ ماء المرأة أصفر رقيق ، فأيّهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله ؛ إن علا ماء الرجل كان ذكرا بإذن الله وإن علا ماء المرأة كان أنثى بإذن الله؟ قالوا : اللهم نعم. قال : اللهمّ اشهد قال : فأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أنّ النبيّ الأمّي هذا تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا : نعم. قال : اللهمّ اشهد عليهم. قالوا : أنت الآن فحدّثنا من وليّك من الملائكة فعندها نتابعك أو نفارقك؟ قال : وليّي جبريل ، ولم يبعث الله نبيّا قط إلّا وهو وليّه. قالوا : فعندها نفارقك ، لو كان وليّك سواه من الملائكة لاتّبعناك وصدّقناك. قال : فما يمنعكم أن

__________________

(١) الطبري ١ : ٦٠٦ ـ ٦٠٧ / ١٣٣٠.

٤١١

تصدّقوه؟ قالوا : هو عدوّنا. فأنزل الله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) إلى قوله (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فعند ذلك باؤوا بغضب على غضب. (١)

[٢ / ٢٧٧١] وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج ، قال : حدّثني القاسم بن أبي بزّة : أنّ اليهود سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي ، فقال : «جبريل». قالوا : فإنّه لنا عدوّ ولا يأتي إلّا بالحرب والشدّة والقتال. فنزل : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) الآية. (٢)

[٢ / ٢٧٧٢] وأخرج ابن جرير وعبد الرزّاق ، عن معمر ، عن قتادة قال : قالت اليهود : إنّ جبريل هو عدوّنا لأنّه ينزل بالشدّة والحرب والسّنة ، وإنّ ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب ، فجبريل عدوّنا. فقال الله جلّ ثناؤه : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ). (٣)

[٢ / ٢٧٧٣] وأخرج ابن أبي شيبة في المصنّف وإسحاق بن راهويه في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم عن الشعبي قال : نزل عمر بالروحاء ، فرأى ناسا يبتدرون أحجارا يصلّون إليها! فقال : ما هذا؟

فقالوا : يقولون إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى إلى هذه الأحجار ، فقال : سبحان الله! ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا راكبا مرّ بواد ، فحضرت الصلاة فصلّى.

ثمّ حدّث عمر فقال : إنّي كنت أغشى اليهود يوم دراستهم ، فقالوا : ما من أصحابك أحد أكرم علينا منك ، لأنّك تأتينا! قلت : وما ذاك إلّا أنّي أعجب من كتب الله كيف يصدّق بعضها بعضا ؛ كيف تصدّق التوراة الفرقان والفرقان التوراة. فمرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما وأنا أكلّمهم فقلت : أنشدكم بالله وما تقرأون من كتابه ، أتعلمون أنّه رسول الله؟ فسكتوا فقال عالمهم وكبيرهم : إنّه قد عظّم عليكم فأجيبوه! قالوا : أنت عالمنا وسيّدنا فأجبه أنت. قال : أمّا إذا أنشدتنا به فإنّا نعلم إنّه رسول الله! قلت : ويحكم ، أي هلكتم والله تعلمون أنّه رسول الله ثمّ لا تتّبعونه ولا تصدّقونه! قالوا : لم نهلك ولكن

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٢١ ـ ٢٢٢ ؛ مسند الطيالسي : ٣٥٦ ـ ٣٥٧ ؛ مسند أحمد ١ : ٢٧٨ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٧٩ ـ ١٨٠ / ٩٥٢ ، باختصار ؛ الكبير ١٢ : ١٩٠ ـ ١٩١ / ١٤١٤ ، ترجمة شهر بن حوشب عن ابن عبّاس ؛ الدلائل ، للبيهقي ٦ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧ ؛ مجمع الزوائد ٦ : ٣١٤ ـ ٣١٥ ؛ ابن كثير ١ : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) الطبري ١ : ٦٠٨ / ١٣٣٢ ؛ ابن كثير ١ : ١٣٤.

(٣) الطبري ١ : ٦١٠ / ١٣٣٥ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٨١ / ٩٢ ؛ ابن كثير ١ : ١٣٦.

٤١٢

سألناه من يأتيه بنبوّته فقال : عدوّنا جبريل ، لأنّه ينزل بالغلظة والشدّة والحرب والهلاك ونحو هذا ، فقلت : فمن سلمكم من الملائكة؟ فقالوا : ميكائيل ينزل بالقطر والرحمة ونحو هذا. قلت : وكيف منزلتهما من ربّهما؟ فقالوا : أحدهما عن يمينه والآخر من الجانب الآخر. قلت : فإنّه لا يحلّ لجبريل أن يعادي ميكائيل ، ولا يحلّ لميكائيل أن يسالم عدوّ جبريل! وإنّي أشهد أنّهما وربّهما سلم لمن سالموا وحرب لمن حاربوا ، ثمّ أتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أريد أن أخبره ، فلمّا لقيته قال : ألا أخبرك بآيات أنزلت عليّ؟ قلت : بلى يا رسول الله! فقرأ : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) حتّى بلغ (الْكافِرِينَ) قلت : والله يا رسول الله ما قمت من عند اليهود إلّا إليك لأخبرك بما قالوا لي وقلت لهم ، فوجدت الله قد سبقني! (١)

[٢ / ٢٧٧٤] وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمان بن مغراء ، عن مجاهد ، عن الشعبي ، قال : انطلق عمر إلى يهود ، فقال : إنّي أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمّدا في كتابكم؟ قالوا : نعم. قال : فما يمنعكم أن تتّبعوه؟ قالوا : إنّ الله لم يبعث رسولا إلّا كان له كفل من الملائكة ، وإنّ جبريل هو الذي يتكفل لمحمّد ، وهو عدوّنا من الملائكة ، وميكائيل سلمنا ؛ فلو كان هو الذي يأتيه اتّبعناه! قال : فإنّي أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، ما منزلتهما من ربّ العالمين؟ قالوا : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن جانبه الآخر. فقال : إنّي أشهد ما يقولان إلّا بإذن الله ، وما كان لميكائيل أن يعادي سلم جبريل ، وما كان جبريل ليسالم عدوّ ميكائيل. [فبينما هو عندهم] إذ مرّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا : هذا صاحبك يا ابن الخطاب. فقام إليه فأتاه وقد أنزل عليه : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) إلى قوله : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ)(٢).

[٢ / ٢٧٧٥] وأخرج سفيان بن عيينة عن عكرمة قال : كان عمر يأتي اليهود يكلّمهم فقالوا : إنّه ليس من أصحابك أحد أكثر إتيانا إلينا منك ، فأخبرنا من صاحب صاحبك الذي يأتيه بالوحي؟ فقال : جبريل! قالوا : ذاك عدوّنا من الملائكة ، ولو أنّ صاحبه صاحب صاحبنا لاتّبعناه ، فقال عمر :

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣ ؛ الطبري ١ : ٦٠٨ ـ ٦٠٩ / ١٣٣٣. ابن أبي حاتم ١ : ١٨١ / ٩٦٠ ، باختلاف في اللفظ ؛ ابن كثير ١ : ١٣٥ ـ ١٣٦ ؛ كنز العمّال ٢ : ٣٥٣ ـ ٣٥٤ / ٤٢٢٢.

(٢) الطبري ١ : ٦١١ / ١٣٣٧ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٨١ / ٩٦٠ ؛ ابن كثير ١ : ١٣٦.

٤١٣

من صاحب صاحبكم؟ قالوا : ميكائيل. قال : وما هما؟ قالوا : أمّا جبريل فينزل بالعذاب والنقمة وأمّا ميكائيل فينزل بالغيث والرحمة وأحدهما عدوّ لصاحبه. فقال عمر : وما منزلتهما؟ قالوا : إنّهما من أقرب الملائكة منه تعالى أحدهما عن يمينه وكلتا يديه يمين ، والآخر على الشقّ الآخر! فقال عمر : لئن كانا كما تقولون ، ما هما بعدوّين! ثمّ خرج من عندهم فمرّ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعاه فقرأ عليه : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ...) الآية. فقال عمر : والذي بعثك بالحقّ إنّه الذي خاصمتهم به آنفا! (١)

[٢ / ٢٧٧٦] وأخرج الثعلبي بالإسناد إلى قتادة وعكرمة والسدّي : إنّه كان لعمر أرض بأعلى المدينة وممرّها على مدارس اليهود. وكان عمر إذا أتى أرضه يأتيهم ويسمع منهم ويكلّمهم ، فقالوا له : ما في أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحبّ إلينا منك ؛ إنّهم يمرّون بنا فيؤذوننا وأنت لا تؤذينا ، وإنّا لنطمع فيك! فقال عمر : والله ما آتيكم لحبّكم ولا أسألكم لأنّي شاك في ديني ، وإنّما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأرى آثاره في كتابكم! فقالوا : من صاحب محمّد الذي يأتيه من الملائكة؟ قال : جبرئيل! فقالوا : ذاك عدوّنا يطلع محمّدا على سرّنا ، وهو صاحب كلّ عذاب وخسف وسنة وشدّة. وإنّ ميكائيل إذا جاء ، جاء بالخصب والسلم! فقال لهم عمر : تعرفون جبريل وتنكرون محمّدا؟ قالوا : نعم. قال : فأخبروني عن منزلة جبريل وميكائيل من الله ـ عزوجل ـ! قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره. وميكائيل عدوّ لجبريل! قال عمر : فإنّي أشهد أنّ من كان عدوّا لجبريل فهو عدوّ لميكائيل ، ومن كان عدوّا لميكائيل فهو عدوّ لجبريل ، ومن كان عدوّا لهما كان الله عدوّا له.

ثمّ رجع عمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجد جبرئيل قد سبقه بالوحي ، فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية وقال : «لقد وافقك ربّك يا عمر!». فقال عمر : لقد رأيتني بعد ذلك في دين الله أصلب من الحجر! (٢)

[٢ / ٢٧٧٧] وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أنّ عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود ، فلما أبصروه رحّبوا به ، فقال عمر : والله ما جئت لحبّكم ولا للرغبة فيكم. ولكنّي جئت

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٢٣ ؛ الثعلبي ١ : ٢٣٩ باختلاف في الألفاظ ؛ البغوي ١ : ١٤٥ / ٧١.

(٢) الثعلبي ١ : ٢٣٩ ؛ البغوي ١ : ١٤٥ ؛ الطبري ١ : ٦١٠.

٤١٤

لأسمع منكم! وسألوه فقالوا : من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم : جبريل ، قالوا : ذاك عدوّنا من الملائكة يطلع محمّدا على سرّنا ، وإذا جاء ، جاء بالحرب والسّنة ولكن صاحبنا ميكائيل ، إذا جاء جاء بالخصب والسلم. فتوجّه نحو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليحدّثه حديثهم ، فوجده قد أنزل عليه هذه الآية : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ...) الآية. (١)

[٢ / ٢٧٧٨] وأخرج البخاري وغيره بالإسناد إلى أنس ، قال : سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ـ أي ابن سلام ـ في أرض يخترف (٢) ، فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيّ : فما أوّل أشراط الساعة؟ وما أوّل طعام أهل الجنّة؟ وما ينزع الولد (٣) إلى أبيه أو إلى أمّه؟

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرني بهنّ جبريل آنفا! قال ابن سلام : جبريل؟! قال : نعم! قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة! فقرأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ...). قال : أمّا أوّل أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب! وأمّا أوّل طعام أهل الجنّة فزيادة كبد الحوت!؟ وأمّا ما ينزع الولد إلى أبيه أو أمّه فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إليه. وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع إليها! فعند ذلك شهد ابن سلام الشهادتين وأسلم. (٤)

قلت : وفي هذا الحديث غرابة من وجوه لا تخفى!

[٢ / ٢٧٧٩] وروى الثعلبي بالإسناد إلى ابن عبّاس قال : إنّ حبرا من أحبار اليهود يقال له ـ عبد الله بن صوريا ـ كان قد حاجّ النبيّ وسأله عن أشياء. (٥)

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٢٣ ؛ الطبري ١ : ٦٠٩ ـ ٦١٠ / ١٣٣٤.

(٢) جاء في مسند أحمد ٣ : ٢١١ : وهو في نخل لأهله ، يخترف لهم منه. أي يجتني لهم ثمر النخل.

(٣) أي ولم ينزع إلى أحدهما؟

(٤) البخاري ٥ : ١٤٨ ـ ١٤٩ و ٤ : ١٠٢ ـ ١٠٣ و ٢٦٨ ؛ و (ط الشعب) ٤ : ١٦٠ ـ ١٦١ ؛ مسند أحمد ٣ : ١٠٨ و ١٨٩ ؛ دلائل النبوّة للبيهقي ٦ : ٢٦٠ ـ ٢٦١ ؛ النسائي ٥ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩ / ٩٠٧٤ ؛ كنز العمّال ١٤ : ٣٤٤ / ٣٨٨٨٢ ؛ أبو يعلى ٦ : ٤٥٨ ـ ٤٥٩ / ٣٨٥٦ ؛ ابن حبّان ١٦ : ١١٧ ـ ١١٨ ؛ منتخب مسند عبد بن حميد : ٤٠٨ ـ ٤٠٩ / ١٣٨٩.

(٥) ذكر الشيخ أبو جعفر الطوسي في التبيان (١ : ٣٦٣) : أنّ ابن صوريا وجماعة من يهود فدك ، لمّا قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة

٤١٥

فلمّا اتّجهت الحجّة عليه قال : أيّ ملك يأتيك من السماء؟ قال : جبرئيل ، ولم يبعث الكتاب لأنبياء قطّ إلّا وهو وليّه. قال : ذلك عدوّنا من الملائكة ، ولو كان ميكائيل مكانه لآمنّا بك ، لأنّ جبرئيل ينزل بالعذاب والقتال والشقوة ، وإنّه عادانا مرارا كثيرة ، وكان أشدّ ذلك علينا أنّ الله أنزله على نبيّ لنا : أن سيخرب بيت المقدس على يد رجل يقال له : بخت نصّر ، وأخبرنا بالحين الذّي يخرب فيه. فلمّا كان وقته بعثنا رجلا من أقوياء بني إسرائيل في طلب بخت نصّر ليقتله ، فانطلق يطلبه حتّى لقيه ببابل غلاما مسكينا ليس له قوّة. فأخذه صاحبنا ليقتله فدافع عنه جبرئيل وقال لصاحبنا : إن كان ربّكم هو الذي أذن له في هلاككم ، فلن تسلّط عليه ، وإن لم يكن هذا فعلى أيّ حقّ تقتله؟! فصدّقه صاحبنا ورجع فكبر بخت نصّر وقوي وغزانا وخرّب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدوّا فأنزل الله هذه الآية. (١)

[٢ / ٢٧٨٠] وجاء في التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمّد العسكري عليه‌السلام عن الصحابيّ الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري قال : «ولقد حدّثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحضره عبد الله بن صوريا ـ غلام يهوديّ تزعم اليهود أنّه أعلم يهوديّ بكتاب الله وعلوم الأنبياء ـ فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مسائل كثيره يعنّته فيها ، فأجابه عنها بما لم يجد إلى إنكار شيء منه سبيلا.

وساق الحديث ـ كما رواه الثعلبي ـ غير أنّه سمّى الرجل الذي بعثوه ليبحث عن بخت نصّر أنّه «دانيال». (٢)

__________________

سألوه ، فقالوا : يا محمّد ، كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النبيّ الذي يأتي في آخر الزمان! فقال : تنام عيناى ، وقلبي يقظان. فقالوا : صدقت يا محمّد ، فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو من المرأة؟ فقال : أمّا العظام والعصب والعروق ، فمن الرجل. وأمّا اللحم والدم والظفر والشعر ، فمن المرأة! قالوا : صدقت يا محمّد ، فما بال الولد يشبه أعمامه ، ليس فيه من شبه أخواله شيء ، أو يشبه أخواله ليس فيه من شبه أعمامه شيء؟ فقال : أيّهما علا ماؤه كان الشبه له! قالوا : صدقت يا محمّد ، فأخبرنا عن ربّك ما هو؟ فأنزل الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) فقال ابن صوريا : خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتّبعتك : أيّ ملك يأتيك بما ينزل الله لك؟ وساق الحديث. (مجمع البيان ١ : ٣١٥).

(١) الثعلبي ١ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩ ؛ البغوي ١ : ١٤٤ ـ ١٤٥ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٦٣ ، ذكره باختصار.

(٢) تفسير الإمام : ٤٠٦ ـ ٤٠٧ / ٢٧٧. وراجع كتاب الاحتجاج المنسوب إلى الطبرسي ١ : ٤٦ ـ ٤٧ ، والبحار ٩ : ٢٨٣.

٤١٦

[٢ / ٢٧٨١] وقال عليّ بن إبراهيم : وقوله (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) فإنّما نزلت في اليهود الّذين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ لنا في الملائكة أصدقاء وأعداء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من صديقكم ومن عدوّكم؟ فقالوا : جبرئيل عدوّنا ، لأنّه يأتي بالعذاب ، ولو كان الذي ينزّل عليك القرآن ميكائيل ، لآمنّا بك ، فإنّ ميكائيل صديقنا ، وجبرئيل ملك الفظاظة (١) والعذاب ، وميكائيل ملك الرحمة. فأنزل الله : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ). (٢)

غرائب آثار بشأن جبريل وميكال

هناك روايات عن السلف بشأن الملكين المقرّبين عند الله ، جبرائيل وميكائيل ، هي أشبه بالأوهام منها إلى الحقائق ولعلّها من نسائج أحلام أبناء إسرائيل ، كادت تسخر من أصحاب العقول الضئيلة ، أو تضعضع من عقائدها الهزيلة وهم بعد لم يرتووا من مناهل الإسلام العذبة الرحيقة.

من المعروف أنّ هذين الاسمين يعبّران عن مفاهيم جليلة ، هي بالقرب إلى ساحة قدسه تعالى أدّل. فلفظة جبرائيل تعني : رجل الله أي مظهر قدرته تعالى ... وميكائيل : سطوة الله المهيمنة على سائر الملائكة والخلائق أجمعين.

حيث كانت «جبرا» بمعنى الرجل المقتدر. و «إيل» هو الله تعالى. وكذلك «ميكا» بمعنى السطوة والهيمنة وتعني رأس الملائكة. كما أنّ «إسرا» بمعنى العبد المظفّر لدى مولاه. (٣)

هذا ولكن ورد في آثار السلف ما يقضي بالعجب :

قال أبو إسحاق الثعلبي : قال العلماء : جبر هو العبد بالسّريانيّة وإيل هو الله تعالى.

كما روى إسماعيل عن رجاء عن معاوية (!؟) يرفعه قال : إنّما جبرئيل وميكائيل كقولك : عبد الله وعبد الرحمان.

__________________

(١) الفظاظة : الغلظة والشدّة والنكال.

(٢) القميّ ١ : ٥٤ ؛ البحار ٩ : ١٨٦.

(٣) راجع : قاموس الكتاب المقدّس لجميز هاكس : ٥٣ و ٢٧٨ و ٨٦١.

٤١٧

وقيل : جبرئيل مأخوذ من جبروت الله ، وميكائيل من ملكوت الله. (١)

وعن عكرمة قال : جبر وميك وإسراف ، هو : العبد ، بالسريانيّة. قال : وإيل هو الله تعالى.

ومعناهما : عبد الله وعبد الرحمان. (٢)

[٢ / ٢٧٨٢] وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن يحيى بن يعمر أنّه كان يقرأها : جبرال ، ويقول : «جبر» هو عبد و «إل» هو الله. (٣)

[٢ / ٢٧٨٣] وأخرج وكيع وابن جرير عن عكرمة قال : جبر : عبد وايل : الله ، وميك : عبد وايل : الله ، وإسراف : عبد وايل : الله. (٤)

[٢ / ٢٧٨٤] وأخرج ابن جرير عن ابن عليّة ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز في قوله : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً)(٥) قال : قول جبريل وميكائيل وإسرافيل ، كأنّه يقول حين يضيف «جبر» و «ميكا» و «إسرا» إلى «إيل» يقول : عبد الله ، (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا) كأنّه يقول : لا يرقبون الله عزوجل. (٦)

[٢ / ٢٧٨٥] وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : جبريل اسمه عبد الله ، وميكائيل اسمه عبيد الله ،

__________________

(١) الثعلبي ١ : ٢٤٠ ؛ الطبري ١ : ٦١٤.

(٢) البغوي ١ : ١٤٦ ؛ الدرّ ١ : ٢٢٦ ؛ ابن كثير ١ : ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٣) الدرّ ١ : ٢٢٥ ؛ ابن كثير ١ : ١٣٧ ؛ عن عكرمة ومجاهد والضحاك ويحيى بن يعمر ؛ الثعلبي ١ : ٢٤٠ ، بلفظ : «وجبرال» مهموز ، مقصور ، مشدد اللام من غير ياء وهي قراءة يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر والأعمش.

(٤) الدرّ ١ : ٢٢٦ ؛ الطبري ١ : ٦١٤ / ١ ـ ١٣٥٠ ؛ ابن كثير ١ : ١٣٥ ـ ١٣٦ ؛ البغوي ١ : ١٤٦ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٦٩ ؛ برواية عكرمة وسعيد بن جبير وعطا عن عبد الله بن عبّاس.

(٥) التوبة ٩ : ٨. والإلّ : العهد. كما قال الشاعر :

وجدنا هم كاذبا إلّهم

وذو الإلّ والعهد لا يكذب

وبمعنى القرابة ، كما قال حسّان :

لعمرك إنّ إلّك من قريش

كإلّ السّقب من رأل النعام

والسّقب : ولد الناقة. والرأل : فرخ النعامة .. لا نسب بينهما.

فمعنى الآية : أنّ المشركين إن ظهروا على المؤمنين لم يرقبوا فيهم قرابة ولا عهدا. (مجمع البيان ٥ : ٨ ـ ٩). إذن لاصلة للآية بما زعمه أبو مجلز ، هو : لا حق بن حميد.

(٦) الطبري ١ : ٦١٥ / ١٣٥١.

٤١٨

قال : والإلّ الله ، وذلك قوله (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) قال : لا يرقبون الله!! (١)

[٢ / ٢٧٨٦] وأخرج أبو الشيخ وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان والخطيب في المتفق والمفترق عن ابن عبّاس. وابن جرير عن عليّ بن حسين ، قال : قال لي : هل تدري ما اسم جبريل من أسمائكم؟ قلت : لا ، قال : عبد الله ، قال : فهل تدري ما اسم ميكائيل من أسمائكم؟ قال : لا ، قال : عبيد الله. وقد سمّى لي إسرائيل باسم نحو ذلك فنسيته ، إلّا أنّه قد قال لي : أرأيت كلّ اسم يرجع إلى إيل فهو معبّد به. (٢)

[٢ / ٢٧٨٧] وأخرج عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عبّاس : أنّ إسرائيل وميكائيل وجبريل وإسرافيل ، كقولك : عبد الله. (٣)

[٢ / ٢٧٨٨] وأخرج الديلمي عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اسم جبريل عبد الله ، واسم اسرافيل عبد الرحمان». (٤)

[٢ / ٢٧٨٩] وأخرج ابن جرير ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : «إيل» : الله بالعبرانية. (٥)

[٢ / ٢٧٩٠] وأخرج أبو الشيخ عن موسى بن أبي عائشة قال : بلغني أنّ جبريل إمام أهل السماء. (٦)

[٢ / ٢٧٩١] وأخرج أبو الشيخ عن عمرو بن مرّة قال : جبريل على ريح الجنوب. (٧)

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٢٥ ؛ الطبري ١ : ٦١٤ / ١٣٤٧ ؛ بلفظ : عن عكرمة قال : جبريل اسمه عبد الله وميكائيل اسمه عبيد الله ، إيل : الله ؛ ابن كثير ١ : ١٣٥ ، عن عكرمة وابن عبّاس.

(٢) الطبري ١ : ٦١٤ / ١٣٤٩ و ١٣٥٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٨٢ / ٩٦٥ ، وفيه بعد قوله : «عبيد الله» : «وكلّ اسم مرجعه إلى ايل فهو إلى الله». وكذا نسبه إلى عكرمة ومجاهد والضحاك ويحيى بن يعمر ؛ العظمة ٣ : ٨١٢ ـ ٨١٣ / ٣٨٢ / ٧. باختلاف يسير ؛ شعب الإيمان ١ : ١٨٢ / ١٦٥ ؛ القرطبي ٢ : ٣٨. وابن كثير ١ : ١٣٥ ـ ١٣٧ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٦٩ ؛ الدرّ ١ : ٢٢٥.

(٣) الطبري ١ : ٦١٤ / ١٣٤٥.

(٤) الدرّ ١ : ٢٢٥.

(٥) الطبري ١ : ٦١٤ / ١٣٤٦. ابن أبي حاتم ١ : ١٨٢ / ٩٦٧.

(٦) الدرّ : ١ / ٢٢٦ ؛ العظمة ٢ : ٧٨٦ / ٣٥٩ ـ ٢١ ، (١٢) باب : ذكر الملائكة الموكّلين في السماوات والأرضين.

(٧) الدرّ : ١ / ٢٢٦ ؛ العظمة ٤ : ١٣٤٨ / ٨٦٥ ـ ٦٩ (٢٧) باب ذكر الرياح.

٤١٩

[٢ / ٢٧٩٢] وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عكرمة قال : قال جبريل عليه‌السلام : إنّ ربّي ليبعثني على الشيء لأمضيه فأجد الكون قد سبقني إليه! (١)

[٢ / ٢٧٩٣] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عبد العزيز بن عمير قال : اسم جبريل في الملائكة خادم الله. (٢)

[٢ / ٢٧٩٤] وأخرج الطبراني عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا أخبركم بأفضل الملائكة : جبريل ، وأفضل النبيين : آدم ، وأفضل الأيّام : يوم الجمعة ، وأفضل الشهور : شهر رمضان ، وأفضل اللّيالي : ليلة القدر ، وأفضل النساء : مريم بنت عمران»؟! (٣)

[٢ / ٢٧٩٥] وأخرج الطبراني وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان بسند حسن عن ابن عبّاس قال : «بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه جبريل يناجيه إذ انشقّ أفق السماء ، فأقبل جبريل يتضاءل ويدخل بعضه في بعض ويدنو من الأرض ، فإذا ملك قد مثّل بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا محمّد إنّ ربّك يقرئك السّلام ، ويخيّرك بين أن تكون نبيّا ملكا وبين أن تكون نبيّا عبدا! قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأشار جبريل إليّ بيده أن تواضع ؛ فعرفت أنّه لي ناصح ، فقلت : عبد نبيّ. فعرج ذلك الملك إلى السماء فقلت : يا جبريل قد كنت أردت أن أسألك عن هذا ، فرأيت من حالك ما شغلني عن المسألة ، فمن هذا يا جبريل؟ قال : هذا إسرافيل خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافّا قدميه لا يرفع طرفه ، بينه وبين الربّ سبعون نورا ، ما منها نور يدنو منه إلّا احترق ، بين يديه اللوح المحفوظ ، فإذا أذن الله في شيء في السماء أو في الأرض ارتفع ذلك اللوح فضرب جبهته فينظر فيه ، فإذا كان من عملي أمرني به ، وإن كان من عمل ميكائيل أمره به ، وإن كان من عمل ملك الموت أمره به! قلت : يا جبريل على أيّ شيء أنت؟ قال : على الرياح والجنود! قلت : على أيّ شيء ميكائيل؟ قال : على النبات والقطر! قلت : على أيّ شيء ملك الموت؟ قال : على قبض الأنفس وما ظننت أنّه هبط إلّا

__________________

(١) الدرّ : ١ : ٢٢٦ ؛ حلية الأولياء ٣ : ٣٣٥.

(٢) الدرّ ١ : ٢٢٦ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٨٣ / ٩٦٨ ؛ ابن كثير : ١ / ١٣٧ ؛ العظمة ٢ : ٧٧٦ / ٣٥١ ـ ١٣ ، باب ذكر الملائكة الموكّلين في السماوات والأرضين.

(٣) الدرّ ١ : ٢٢٦ ؛ الكبير ١١ : ١٢٩ / ١١٣٦١ ؛ مجمع الزوائد ٢ : ١٦٥ ؛ كنز العمّال ١٢ : ٣٤٦ / ٣٥٣٤٣.

٤٢٠