التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

نعرفه وما هو بالذي كنّا نذكر لكم ، فأنزل الله (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ ...) الآية. (١)

[٢ / ٢٦٩٢] وأخرج ابن جرير عن ابن وهب ، قال : سألت ابن زيد عن قول الله ـ عزوجل ـ : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)(٢) قال : كانت يهود يستفتحون على كفّار العرب يقولون : أما والله لو قد جاء النبيّ الذي بشّر به موسى وعيسى ، أحمد ، لكان لنا عليكم. وكانوا يظنّون أنّه منهم والعرب حولهم ، وكانوا يستفتحون عليهم به ويستنصرون به (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) وحسدوه. وقرأ قول الله ـ جلّ ثناؤه ـ : (كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ)(٣) قال : قد تبيّن لهم أنّه رسول ، فمن هنالك نفع الله الأوس والخزرج بما كانوا يسمعون منهم أنّ نبيّا خارج. (٤)

[٢ / ٢٦٩٣] وأخرج عن ابن عبّاس : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) يقول : يستنصرون بخروج محمّد ، على مشركي العرب ، يعني بذلك أهل الكتاب ، فلمّا بعث الله محمّدا ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه. (٥)

[٢ / ٢٦٩٤] وأخرج البيهقي في الدلائل بالإسناد إلى سلمة بن سلامة بن وقش ، قال : كان بين أبياتنا يهوديّ ، فخرج على نادي قومه (٦) : بني عبد الأشهل ذات غداة ، فذكر البعث والقيامة والجنّة والنار والحساب والميزان قال ذلك لأصحاب وثن لا يرون أنّ بعثا كائن بعد موت. وذلك قبيل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : ويحك يا فلان ، أو هذا كائن : أنّ الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنّة ونار ، يجزون من أعمالهم؟ قال : نعم ، والّذي يحلف به ، لوددت أنّ حظّي من تلك النار ، أن توقدوا أعظم تنّور في داركم ، فتحمونه ، ثمّ تقذفوني فيه ، ثمّ تطيّنون عليّ ، وأنّي أنجو من النار غدا! فقيل له : يا فلان ، فما علامة ذلك؟ قال : نبيّ يبعث من ناحية هذه البلاد ـ وأشار بيده نحو مكّة واليمن ـ قالوا : فمتى نراه؟ فرمى بطرفه فرآني وأنا مضطجع بفناء باب أهلي ، وأنا أحدث القوم. فقال : إن يستنفد

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢١٧ ؛ الطبري ١ : ٥٧٨ / ١٢٥٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٧٢ / ٩٠٥ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٩ ؛ مجمع البيان ١ : ٢٩٩ ؛ التبيان : ١ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥.

(٢) البقرة ٢ : ٨٩.

(٣) البقرة ٢ : ١٠٩.

(٤) الطبري ١ : ٥٨٠ / ١٢٦٥.

(٥) الدرّ ١ : ٢١٧ ؛ الطبري ١ : ٥٧٨ / ١٢٥٦ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٩.

(٦) النادي : المحلّ المعدّ لاجتماع القوم ، يتذاكرون ويتسامرون وما إلى ذلك من شؤون.

٣٨١

هذا الغلام عمره يدركه (١) فما ذهب الليل والنهار حتّى بعث الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّه لحيّ بين أظهرنا ، فآمنّا به وصدّقناه وكفر به [ذلك اليهودي] بغيا وحسدا. فقلنا له : يا فلان ، ألست الذي قلت ما قلت وأخبرتنا؟ قال : بلى ، وليس به! (٢)

[٢ / ٢٦٩٥] وروى عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى. يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ)(٣) لأنّ الله ـ عزوجل ـ قد أنزل عليهم في التوراة والإنجيل والزبور صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفة أصحابه ومبعثه ومهاجرته ، وهو قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ)(٤) فهذه صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التوراة والإنجيل وصفة أصحابه ، فلمّا بعثه الله ـ عزوجل ـ عرفه أهل الكتاب كما قال ـ جلّ جلاله ـ (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) فكانت اليهود يقولون للعرب قبل مجيء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّها العرب ، هذا أوان نبيّ يخرج بمكّة ، ويكون مهاجرته بمدينة ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ، في عينيه حمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، يلبس الشملة ، ويجتزي بالكسرة والتمرات ، ويركب الحمار العريّ ، وهو الضحوك القتّال ، يضع سيفه على عاتقه ، ولا يبالي من لاقى ، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر ، لنقتلنّكم به يا معشر العرب قتل عاد ، فلمّا بعث الله نبيّه بهذه الصفة حسدوه

__________________

(١) استنفد ـ بالدال المهملة ـ : استوفى. أي يستوفي عمره ولم يفاجئه الأجل.

(٢) أخرج البيهقي في الدلائل ٢ : ٧٨ ـ ٧٩. ورواه ابن هشام في السيرة ١ : ٢٣١. والإمام أحمد في المسند ٣ : ٤٦٧. ونقله الصالحي في السيرة الشاميّة ١ : ١٣٥. وقال : رواه ابن إسحاق ، والبخاري في التاريخ ، وصحّحه الحاكم في المستدرك ٣ : ٤١٧ ـ ٤١٨. وابن حجر في مجمع الزوائد ٨ : ٢٣٠. وأخرجه السيوطي في الدرّ المنثور ١ : ٢١٧ ، قال : أخرجه أحمد وابن قانع والطبراني والحاكم وصحّحه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن سلمة وكان من أهل بدر ، قال : كان لنا جار يهوديّ في بني عبد الأشهل ، فخرج علينا يوما من بيته قبل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيسير ، حتّى وقف على مجلس بني الأشهل. قال سلمة : وأنا يومئذ أحدث من فيه سنّا ، عليّ بردة ، مضطجعا فيها بفناء أهلي .. وساق الحديث. ولفظ الحديث للبيهقي ، وعدّ لنا منه ألفاظا على سائر النسخ.

(٣) البقرة ٢ : ١٤٦. والأنعام ٦ : ٢٠.

(٤) الفتح ٤٨ : ٢٩.

٣٨٢

وكفروا به كما قال الله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)». (١)

[٢ / ٢٦٩٦] وروى الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن صفوان بن يحيى عن إسحاق بن عمّار قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام في قوله الله ـ عزوجل ـ : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) قال : «كان قوم فيما بين محمّد وعيسى صلوات الله عليهما ، وكانوا يتوعّدون أهل الأصنام بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون : ليخرجنّ نبيّ فليكسرنّ أصنامكم وليفعلنّ بكم وليفعلنّ. فلمّا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفروا به». (٢)

[٢ / ٢٦٩٧] وروى الكليني والعيّاشي بالإسناد إلى أبي بصير عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «كانت اليهود تجد في كتبها أنّ مهاجر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بين عير وأحد (٣). فخرجوا يطلبون الموضع ، فمرّوا بجبل يسمّى حددا. فقالوا : حدد وأحد سواء ، فتفرّقوا عنده. فنزل بعضهم بتيماء (٤) وبعضهم بفدك وبعضهم بخيبر. فاشتاق الّذين بتيماء إلى بعض إخوانهم ، فمرّ بهم أعرابيّ من قيس ، فتكاروا منه ، وقال لهم : أمرّ بكم ما بين عير وأحد ، فقالوا له : إذا مررت بهما فآذنّا بهما. فلمّا توسّط بهم أرض المدينة قال لهم : ذاك عير وهذا أحد ، فنزلوا وقالوا : قد أصبنا بغيتنا ، فلا حاجة لنا في إبلك .. وأرسلوا إلى إخوانهم : أنّا قد أصبنا الموضع فهلمّوا إلينا.

وهؤلاء استوطنوا أرض يثرب واتخذوا مصانع ومزارع وكثروا وتضاخمت أموالهم ، فكان يقع بينهم وبين الأوس والخزرج بعض المناوشات ، وكانت اليهود تعتزّ بنبيّ يظهر بين أظهرهم وسوف يتظاهرون به على خصومهم العرب.

__________________

(١) القميّ ١ : ٣٢ ـ ٣٣ ، بخلاف في اللفظ ؛ البحار ٦٩ : ٩٢ ـ ٩٣ / ٢ باب ٩٨.

(٢) الكافي ٨ : ٣١٠ / ٤٨٢ ؛ البحار ١٥ : ٢٣١ / ٥٣ ، باب ٢.

(٣) عير : جبل بالمدينة. كما ذكره الجوهري في الصحاح ٢ : ٧٦٣.

(٤) حدد ـ محرّكة ـ : جبل بتيماء ، مشرف عليها يبتدئ به المسافر. كما ذكره الزبيدي في تاج العروس ١ : ٣٣٣. وتيماء : واحة (أرض واسعة) قاحلة واقعة في شمالي جزيرة العرب بين الشام ووادي القرى بالقرب منها كان الأبلق حصن السموأل بن عادياء أو الصموئيل : شاعر يهوديّ جاهليّ (ت ٥٦٠ م) ومن شعره :

إذ المرء لم يدنس من اللؤم عرضه

فكلّ رداء يرتديه جميل

٣٨٣

ولمّا بعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العرب وآمنت به الأنصار ، رفضت اليهود أن يؤمنوا به وكفرت به ، وذلك قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي لم يكونوا على شريعة التوحيد (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) أي أتاهم الذي عرفوه أنّه النبيّ الحقّ (كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ»)(١).

وهكذا حكى ابن النّجار عن بعض العلماء في سبب نزوع اليهود إلى أرض يثرب ونزولهم بتيماء وما والاها ، بغية لقاء نبيّ آخر الزمان على ما ذكره السمهودي في تاريخ المدينة. (٢)

[٢ / ٢٦٩٨] وفي التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ذمّ الله تعالى اليهود فقال : (وَلَمَّا جاءَهُمْ) يعني هؤلاء اليهود ـ الّذين تقدّم ذكرهم ـ وإخوانهم من اليهود ، جاءهم (كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) القرآن (مُصَدِّقٌ) ذلك الكتاب (لِما مَعَهُمْ) من التوراة التي بيّن فيها أنّ محمّدا الأمّي من ولد إسماعيل ، (وَكانُوا) يعني هؤلاء اليهود (مِنْ قَبْلُ) ظهور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة (يَسْتَفْتِحُونَ) يسألون الله الفتح والظفر (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) من أعدائهم والمناوين لهم ، فكان الله يفتح لهم وينصرهم. قال الله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ) جاء هؤلاء اليهود (ما عَرَفُوا) من نعت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كَفَرُوا بِهِ) وجحدوا نبوّته حسدا له وبغيا عليه. قال الله عزوجل : (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ). (٣)

قوله تعالى : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ)

[٢ / ٢٦٩٩] أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ...) الآية. قال : هم اليهود كفروا بما أنزل الله وبمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بغيا وحسدا للعرب (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) قال : غضب الله عليهم مرّتين بكفرهم بالإنجيل وبعيسى ، وبكفرهم بالقرآن وبمحمّد. (٤)

__________________

(١) الكافي ٨ : ٣٠٨ ـ ٣١٠ / ٤٨١. نقلا باختزال وتوضيح يسير. العياشي ١ : ٦٨ ـ ٦٩ / ٦٩ ؛ البحار ١٥ : ٢٢٥ ـ ٢٢٧ / ٤٩. وللمجلسي في شرحه على الكافي (مرآة العقول ٢٦ : ٤٠٣ ـ ٤٠٦ / ٤٨١). شرح ضاف بعد توثيقه للإسناد.

(٢) راجع : وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى ١ : ١٦٠.

(٣) تفسير الإمام عليه‌السلام : ٣٩٣ / ٢٦٨ ؛ البرهان ١ : ٢٧٤ / ١ ؛ البحار ٩ : ١٨١ ـ ١٨٢ / ٩ ، باب ما ورد عن المعصومين عليهم‌السلام في تفسير الآيات ؛ و ٩١ : ١٠ / ١١ ، باب ٢٨.

(٤) الدرّ ١ : ٢١٨ ؛ الطبري ١ : ٥٨٥ و ٥٨٧ / ١٢٧٢ ، ١٢٨٠ و ١٢٧٣ عن أبي العالية و ١٢٧٤ عن الربيع ، باختلاف يسير في الألفاظ ؛ الثعلبي ١ : ٢٣٥ ، عن قتادة وأبي العالية.

٣٨٤

[٢ / ٢٧٠٠] وأخرج الطستيّ في مسائله عن ابن عبّاس أنّ نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله عزوجل : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) قال : بئس ما باعوا به أنفسهم حيث باعوا نصيبهم من الآخرة بطمع يسير من الدنيا. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت الشاعر وهو يقول :

يعطى بها ثمنا فيمنعها

ويقول صاحبها ألا تشري (١)

[٢ / ٢٧٠١] وعن ابن عبّاس : إنّ كفر اليهود لم يكن شكّا ولا اشتباها ولكن كان بغيا منهم حيث صارت النبوّة في ولد إسماعيل. (٢)

***

قال أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري : ومعنى قوله جلّ ثناؤه : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) ساء ما اشتروا به أنفسهم. وأصل «بئس» : «بئس» من البؤس ، سكنت همزتها ثمّ نقلت حركتها إلى الباء ، كما قيل في ظللت : ظلت ، وكما قيل للكبد : كبد ، فنقلت حركة الباء إلى الكاف لمّا سكنت الباء. وقد يحتمل أن تكون «بئس» وإن كان أصلها «بئس» من لغة الّذين ينقلون حركة العين من فعل إلى الفاء إذا كانت عين الفعل أحد حروف الحلق الستّة ، كما قالوا من «لعب» : «لعب» ومن «سئم» «سئم» ، وذلك فيما يقال ، لغة فاشية في تميم ، ثمّ جعلت دالّة على الذمّ والتوبيخ ووصلت ب «ما».

واختلف أهل العربية في معنى «ما» الّتي مع «بئسما» ، فقال بعض نحويّي البصرة : هي وحدها اسم ، و «أن يكفروا» تفسير له (٣) نحو : نعم رجلا زيد ، و «أن ينزل الله» بدل من «أنزل الله».

وقال بعض نحويّي الكوفة : معنى ذلك : بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا ، ف «ما» اسم بئس ، و «أن يكفروا» الاسم الثاني. وزعم أنّ «أن ينزل الله من فضله» (٤) إن شئت جعلت «أن» في موضع رفع ، وإن شئت في موضع خفض. أمّا الرفع : فبئس الشيء هذا أن فعلوه ؛ وأما الخفض : فبئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا. قال : وقوله : (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ)(٥) كمثل ذلك. والعرب تجعل «ما» وحدها في هذا الباب بمنزلة الاسم التامّ كقوله :

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢١٨.

(٢) الوسيط ١ : ١٧٣.

(٣) التفسير عند البصريين هو التمييز.

(٤) كذا في الأصل ؛ ولعلّه خطأ من النسّاخ. والصواب : «أن يكفروا» إن شئت ... الخ.

(٥) المائدة ٥ : ٨٠.

٣٨٥

(فَنِعِمَّا هِيَ)(١) و «بئسما أنت» واستشهد لقوله ذلك برجز بعض الرّجّاز :

لا تعجلا في السّير وادلواها

لبئسما بطء ولا نرعاها (٢)

قال أبو جعفر : والعرب تقول : لبئسما تزويج ولا مهر ، فيجعلون «ما» وحدها اسما بغير صلة.

وقائل هذه المقالة لا يجيز أن يكون الذي يلي «بئس» معرفة موقّتة وخبره معرفة موقّتة (٣). وقد زعم أنّ «بئسما» بمنزلة : بئس الشيء اشتروا به أنفسهم ، فقد صارت «ما» بصلتها اسما موقتا ؛ لأنّ «اشتروا» فعل ماض من صلة «ما» في قول قائل هذه المقالة ، وإذا وصلت بماض من الفعل كانت معرفة موقتة معلومة ؛ فيصير تأويل الكلام حينئذ : «بئس شراؤهم كفرهم» ، وذلك عنده غير جائز ، فقد تبيّن فساد هذا القول.

وكان آخر منهم يزعم أنّ «أن» في موضع خفض إن شئت ، ورفع إن شئت ، فأمّا الخفض فأن تردّه على الهاء التي في «به» على التكرير على كلامين ، كأنّك قلت : اشتروا أنفسهم بالكفر. وأمّا الرفع فأن يكون مكرّرا على موضع «ما» التي تلي «بئس». قال : ولا يجوز أن يكون رفعا على قولك : بئس الرجل عبد الله.

وقال بعضهم : «بئسما» شيء واحد يرفع (٤) ما بعده كما حكي عن العرب : «بئسما تزويج ولا مهر» فرافع تزويج «بئسما» ، كما يقال : «بئسما زيد ، وبئسما عمرو» ، فيكون «بئسما» رفعا بما عاد عليها من الهاء ، كأنّك قلت : بئس شيء الشيء اشتروا به أنفسهم ، وتكون «أن» مترجمة (٥) عن «بئسما».

وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من جعل «بئسما» مرفوعا بالراجع من الهاء في قوله : (اشْتَرَوْا بِهِ) كما رفعوا ذلك بعبد الله ، إذ قالوا : بئسما عبد الله ، وجعل «أن يكفروا» مترجمة عن «بئسما» ، فيكون معنى الكلام حينئذ : بئس الشيء [الّذي] باع اليهود به أنفسهم ، كفرهم بما أنزل الله بغيا وحسدا أن ينزل الله من فضله. وتكون «أن» التي في قوله : «أن ينزل الله» في موضع نصب ؛ لأنّه يعني به أن يكفروا بما أنزل الله من أجل أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. وموضع أن

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧١.

(٢) ادلواها : يقال : دلوت الناقة ، إذا سقتها سوقا رفيقا.

(٣) المعرفة الموقّتة : المعرفة المحدّدة.

(٤) كانت في الأصل : «يعرف». والصواب ما أثبتناه.

(٥) الترجمة هي عطف البيان والبدل.

٣٨٦

جرّ (١). وكان بعض أهل العربيّة من الكوفيّين يزعم أنّ «أن» في موضع خفض بنيّة الباء. وإنّما اخترنا فيها النصب لتمام الخبر قبلها ، ولا خافض معها يخفضها ، والحرف الخافض لا يخفض مضمرا.

وأما قوله : (اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) فإنّه يعني به باعوا أنفسهم. كما :

[٢ / ٢٧٠٢] حدّثني موسى بن هارون بالإسناد عن السدّي في قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) يقول : باعوا أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا.

[٢ / ٢٧٠٣] وعن ابن جريج ، قال : قال مجاهد في قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) يهود شروا الحقّ بالباطل وكتمان ما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يبيّنوه.

والعرب تقول : شريته بمعنى بعته ، واشتروا في هذا الموضع «افتعلوا» من شريت. وكلام العرب فيما بلغنا أن يقولوا : شريت بمعنى بعت ، واشتريت بمعنى ابتعت. وقيل إنّما سمّي الشاري (٢) شاريا لأنّه باع نفسه ودنياه بآخرته. ومن ذلك قول يزيد بن مفرّغ الحميري :

وشريت بردا ليتني

من قبل برد كنت هامة (٣)

ومنه قول المسيّب بن علس (٤) :

يعطى بها ثمنا فيمنعها

ويقول صاحبها ألا تشري

يعني به : بعت بردا. وربما استعمل «اشتريت» بمعنى «بعت» ، و «شريت» في معنى «ابتعت» ، والكلام المستفيض فيهم هو ما وصفت.

قال أبو جعفر : فمعنى الآية : بئس الشيء [الذي] باعوا به أنفسهم الكفر بما أنزل الله في كتابه على موسى من نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأمر بتصديقه واتّباعه ، من أجل (٥) أن أنزل الله من فضله ـ وفضله

__________________

(١) أي ويجوز أن تجعل أن في موضع جرّ. ويكون الواو هنا بمعنى أو.

(٢) الشاري هنا واحد الشراة ؛ وهم الخوارج. قيل سمّوا بذلك لقولهم : إنّا شرينا أنفسنا في طاعة الله حين فارقنا الأئمّة الجائرة.

(٣) قوله : «كنت هامة» أي هالكا. يقال : فلان هامة اليوم أو غد ، أي قريب هلاكه ، فإذا هو هامة. وكانت الجاهلية تزعم أنّ روح الميت تصير هامة «وهو طائر كالبومة» فتطير.

(٤) هو من شعراء بكر بن وائل المعدودين خال الأعشى. (الشعر والشعراء لابن قتيبة : ٩٥).

(٥) تعليل للكفر ، أي إنّهم كفروا من أجل.

٣٨٧

حكمته وآياته ونبوّته ـ على من يشاء من عباده ـ يعني به محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بغيا وحسدا لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من أجل (١) أنّه كان من ولد إسماعيل ، ولم يكن من بني إسرائيل!

فإن قال قائل : وكيف ابتاعت اليهود أنفسها بالكفر فقيل : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ؟) وهل يشترى بالكفر شيء؟ قيل : إنّ معنى الشراء والبيع عند العرب : هو إزالة مالك ملكه إلى غيره بعوض يعتاضه منه ، ثمّ تستعمل العرب ذلك في كلّ معتاض من عمله عوضا شرّا أو خيرا ، فتقول : نعم ما باع به فلان نفسه ، وبئس ما باع به فلان نفسه ، بمعنى : نعم الكسب أكسبها وبئس الكسب أكسبها إذا أورثها بسعيه عليها خيرا أو شرّا. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) لمّا أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأهلكوها ، خاطبهم الله والعرب بالذي يعرفونه في كلامهم فقال : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) يعني بذلك : بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم ، وبئس العوض اعتاضوا من كفرهم بالله في تكذيبهم محمّدا ، إذ كانوا قد رضوا عوضا من ثواب الله وما أعدّ لهم ـ لو كانوا آمنوا بالله وما أنزل على أنبيائه ـ بالنار ، وما أعدّ لهم بكفرهم بذلك.

وهذه الآية وما أخبر الله فيها من حسد اليهود محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقومه من العرب ، من أجل أنّ الله جعل النبوّة والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل ، حتّى دعاهم ذلك إلى الكفر به مع علمهم بصدقه ، وأنّه نبيّ الله مبعوث ورسول مرسل ؛ نظيرة (٢) الآية الأخرى في سورة النساء ، وذلك قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)(٣). (٤)

***

وقال الفرّاء في قوله تعالى : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ...) : معناه ـ والله أعلم ـ : باعوا به أنفسهم. وللعرب في شروا واشتروا مذهبان ، فالأكثر منهما أن يكون شروا : باعوا ، واشتروا : ابتاعوا. وربما

__________________

(١) تعليل للحسد ، أي إنّهم حسدوا محمّدا من أجل أنّه كان من العرب ..

(٢) قوله : «نظيرة» خبر قوله قبل أسطر : «وهذه الآية».

(٣) النساء ٤ : ٥١ ـ ٥٤.

(٤) الطبري ١ : ٥٨١ ـ ٥٨٥.

٣٨٨

جعلوهما جميعا في معنى باعوا. وكذلك البيع ، يقال : بعت الثوب ، على معنى أخرجته من يدي. وبعته : اشتريته. وهذه اللغة في تميم وربيعة. قال : سمعت أبا ثروان يقول لرجل : بع لي تمرا بدرهم ، يريد : اشتر لي. وأنشدني بعض ربيعة :

ويأتيك بالأخبار من لم تبع له

بتاتا ولم تضرب له وقت موعد

على معنى : لم تشتر له بتاتا. قال الفرّاء : والبتات : الزاد. (١)

***

قلت : القرآن لا يتعدّى اللغة الفصحى وإنّما يتّبع من الأساليب ما هو أفشى وأفصح ، ولا يستعمل النادر فضلا عن الشاذّ وقد عرفت من كلام الطبري : أنّ المستفيض من كلام العرب أن يقولوا : شريت بمعنى بعت واشتريت بمعنى ابتعت إذن فلا معدل عنه بعد إمكان حمل الآية عليه حيث الاشتراء هنا ـ كالاشتراء في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى)(٢) ـ بمعنى الابتياع.

فقوله تعالى ـ هنا ـ : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) مجاز أطلق فيه الاشتراء على استبقاء الشيء المرغوب فيه ، تشبيها لاستبقائه بابتياع شيء نفيس مرغوب فيه (٣) فهم قد أثروا أنفسهم فأبقوا عليها ، إزاء كفرهم بالله العظيم ورفضهم لشريعة سيّد المرسلين.

وذلك حسب زعمهم أن لو صدّقوا بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لضاعت أنفسهم وذهبت آمالهم أدراج الرياح ومن ثمّ واحتفاظا على مطامعهم المهدّدة صمدوا تجاه الحقّ وأصرّوا على كتمانه. وبذلك كانوا قد آثروا أنفسهم وامتلكوها دون أن يخسروها ، لو آمنوا بالإسلام. (٤)

قوله تعالى : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ)

[٢ / ٢٧٠٤] أخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن سعيد بن جبير في قول الله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) يقول : استوجبوا سخطا على سخط. (٥)

__________________

(١) معاني القرآن ١ : ٥٦.

(٢) البقرة ٢ : ١٦.

(٣) التحرير والتنوير لابن عاشور ١ : ٥٨٦.

(٤) وكلّ ما جاء في القرآن بلفظ «اشترى» فهو بمعنى ابتاع ، و «شرى» بمعنى باع. وفق الدارج في اللغة.

(٥) ابن أبي حاتم ١ : ١٧٣ / ٩١٣ ـ ٩١٦.

٣٨٩

[٢ / ٢٧٠٥] وفي التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري قال عليه‌السلام : «ذمّ الله تعالى اليهود وعاب فعلهم في كفرهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي اشتروها بالهدايا والفضول التي كانت تصل إليهم ، وكان الله أمرهم بشرائها من الله بطاعتهم له ليجعل لهم أنفسهم والانتفاع بها دائما في نعيم الآخرة فلم يشتروها ، بل اشتروها بما أنفقوه في عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليبقى لهم عزّهم في الدنيا ورياستهم على الجهّال ، وينالوا المحرّمات. وأصابوا الفضولات من السّفلة وصرفوهم عن سبيل الرشاد ، ووقفوهم على طريق الضّلالات. ثمّ قال عزوجل : (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً) أي بما أنزل على موسى عليه‌السلام من تصديق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغيا (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). قال : وإنّما كان كفرهم لبغيهم وحسدهم له لما أنزل الله من فضله عليه وهو القرآن الذي أبان فيه نبوّته وأظهر به آيته ومعجزته. ثمّ قال : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) يعني رجعوا وعليهم الغضب من الله على غضب في إثر غضب ، والغضب الأوّل حين كذبوا بعيسى بن مريم ، والغضب الثاني حين كذبوا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : والغضب الأوّل أن جعلهم قردة خاسئين ، ولعنهم على لسان عيسى عليه‌السلام والغضب الثاني حين سلّط الله عليهم سيوف محمّد وآله وأصحابه وأمّته حتّى ذلّلهم بها فإمّا دخلوا في الإسلام طائعين ، وإمّا أدّوا الجزية صاغرين داخرين». (١)

***

وقال أبو جعفر الطبري : يعني بقوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) : فرجعت اليهود من بني إسرائيل ـ بعد الذي كانوا عليه من الاستنصار بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستفتاح به ، وبعد الذي كانوا يخبرون به الناس من قبل مبعثه أنّه نبيّ مبعوث ـ مرتدّين على أعقابهم حين بعثه الله نبيّا مرسلا ، فباؤوا بغضب من الله ـ استحقّوه منه بكفرهم بمحمّد حين بعث ، وجحودهم نبوّته ، وإنكارهم إيّاه أن يكون هو الذي يجدون صفته في كتابهم ، عنادا منهم له وبغيا وحسدا له وللعرب ـ (عَلى غَضَبٍ) سالف كان من الله عليهم قبل ذلك سابق غضبه الثاني لكفرهم الذي كان قبل ذلك بعيسى بن مريم ، أو لعبادتهم العجل ، أو لغير ذلك من ذنوب كانت لهم سلفت يستحقون بها الغضب من الله. كما :

[٢ / ٢٧٠٦] حدّثنا ابن حميد ، بالإسناد إلى سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عبّاس في قوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) قال : فالغضب على الغضب غضبه عليهم فيما كانوا ضيّعوا من التوراة

__________________

(١) تفسير الإمام عليه‌السلام : ٤٠١ ـ ٤٠٢ / ٢٧٢ ؛ البرهان ١ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠ / ١ ؛ البحار ٩ : ١٨٢ / ١٠ ؛ الصافي ١ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

٣٩٠

وهي معهم ، وغضب بكفرهم بهذا النبيّ الذي أحدث الله إليهم.

[٢ / ٢٧٠٧] وعن عكرمة في قوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) قال : كفر بعيسى وكفر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٢ / ٢٧٠٨] وعن الشعبي ، قال : النّاس يوم القيامة على أربعة منازل : رجل كان مؤمنا بعيسى وآمن بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فله أجران. ورجل كان كافرا بعيسى فآمن بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فله أجر. ورجل كان كافرا بعيسى فكفر بمحمّد ، فباء بغضب على غضب. ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب ، فمات بكفره قبل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فباء بغضب.

[٢ / ٢٧٠٩] وعن قتادة قال : غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وبعيسى ، وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن وبمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٢ / ٢٧١٠] وعن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فَباؤُ بِغَضَبٍ) بما كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (عَلى غَضَبٍ) جحودهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفرهم بما جاء به.

[٢ / ٢٧١١] وعن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) يقول : غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى ، ثمّ غضبه عليهم بكفرهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالقرآن.

[٢ / ٢٧١٢] وعن أسباط ، عن السدّي في قوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) قال : أما الغضب الأوّل : فهو حين غضب الله عليهم في العجل ، وأمّا الغضب الثاني : فغضب عليهم حين كفروا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٢ / ٢٧١٣] وعن ابن جريج وعطاء وعبيد بن عمير في قوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) قال : غضب الله عليهم فيما كانوا فيه من قبل خروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبديلهم وكفرهم ، ثمّ غضب عليهم في محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ خرج فكفروا به.

قال أبو جعفر : وقد بيّنا معنى الغضب من الله على من غضب عليه من خلقه ، واختلاف المختلفين في صفته ، فيما مضى من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته (١).

وقال في قوله تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) : وللجاحدين لنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الناس كلّهم عذاب من الله إمّا في الآخرة ، وإمّا في الدنيا والآخرة (مُهِينٌ) هو المذلّ لصاحبه المخزي لملبسه هوانا وذلّة.

فإن قال قائل : أيّ عذاب هو غير مهين صاحبه فيكون للكافرين المهين منه؟ قيل : إنّ المهين

__________________

(١) عند تفسير قوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) من فاتحة الكتاب.

٣٩١

هو الذي قد بيّنا أنّه المورث صاحبه ذلّة وهوانا الذي يخلد فيه صاحبه لا ينتقل من هوانه إلى عزّ وكرامة أبدا ، وهو الذي خصّ الله به أهل الكفر ؛ وأمّا الذي هو غير مهين صاحبه : فهو ما كان تمحيصا لصاحبه ، وذلك هو كالسارق من أهل الإسلام يسرق ما يوجب به القطع فتقطع يده ، والزاني منهم يزني فيقام عليه الحدّ ، وما أشبه ذلك من العذاب والنكال الذي جعله الله كفّارات للذنوب ، وكأهل الكبائر من أهل الإسلام الّذين يعذّبون في الآخرة بمقادير أجرامهم التي ارتكبوها ليمحّصوا من ذنوبهم ثمّ يدخلون الجنة ، فإنّ كلّ ذلك وإن كان عذابا فغير مهين لمن عذّب به ، إذ كان تعذيب الله إيّاه به ليمحصّه من آثامه ثمّ يورده معدن العزّ والكرامة ويخلده في نعيم الجنان. (١)

***

[٢ / ٢٧١٤] وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن مقاتل بن حيّان قوله : (عَذابٌ مُهِينٌ) يعني بالمهين : الهوان (٢).

[٢ / ٢٧١٥] وأخرج الترمذي وأحمد بالإسناد إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يحشر المتكبّرون يوم القيامة أمثال الذرّ في صور الناس ، يغشاهم الذلّ من كلّ مكان ، فيساقون إلى سجن في جهنّم يسمّى «بولس» (٣) تعلوهم نار الأنيار (٤) ، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال». قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث حسن صحيح (٥). (٦)

[٢ / ٢٧١٦] وقال مقاتل بن سليمان : ثمّ قال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) يعني اليهود منهم أبو ياسر والنعمان بن أوفى (آمِنُوا) يعني صدّقوا (بِما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن على محمّد (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) يعني التوراة (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) يعني بما بعد التوراة : الإنجيل والفرقان. (٧)

__________________

(١) الطبري ١ : ٥٨٦ ـ ٥٨٨.

(٢) ابن أبي حاتم ١ : ١٧٤ / ٩١٨.

(٣) هكذا جاء في الحديث اسما خاصّا لموضع في جهنّم. ولعلّه مأخوذ من الإبلاس وهو اليأس من رحمة الله. يقال : أبلس إذا يئس من رحمة الله. ومنه إبليس اسما للشيطان الرجيم. ويقال : أبلس الرجل إذا قلّ خيره ، وانكسر وحزن.

(٤) قال ابن الأثير : لم أجده مشروحا. ولكن هكذا يروى فإن صحّت الرواية فيحتمل أن يكون معناه : نار النيران ، فجمع على أنيار. وأصلها أنوار ، لأنّها من الواو. كما جاء في ريح أرياح وفي عيد أعياد وهما من الواو.

(٥) الترمذي ٤ : ٦٦ ـ ٦٧ / ٢٦١٠ ، باب ٤٧ من كتاب صفة القيامة الحديث الثاني.

(٦) ورواه أحمد في المسند ٢ : ١٧٩ ، باختلاف يسير. وهكذا ابن كثير في التفسير ١ : ١٣٠.

(٧) تفسير مقاتل ١ : ١٢٣.

٣٩٢

قال الفرّاء : قوله : (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ ...) يريد : سواه. وذلك كثير في العربيّة أن يتكلّم الرجل بالكلام الحسن ، فيقول السامع : ليس وراء هذا الكلام شيء ، أي ليس عنده شيء سواه. (١)

قوله تعالى : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ)

[٢ / ٢٧١٧] قال مقاتل بن سليمان : (قُلْ) لهم يا محمّد : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) وذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا اليهود إلى الإيمان فقالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آتنا بالآيات والقربان كما كانت الأنبياء تجيء بها إلى قومهم. يقول الله ـ سبحانه ـ فقد كانت الأنبياء تجيء إلى آبائهم فكانوا يقتلونهم فقال الله ـ عزوجل ـ قل يا محمّد : فلم تقتلون أنبياء الله من قبل. يقول فلم قتلتم أنبياء الله (مِنْ قَبْلُ) يعني آباءهم وقد جاؤوا بالآيات والقربان. (٢)

***

[٢ / ٢٧١٨] وأخرج أبو جعفر بالإسناد إلى أسباط عن السدّي قال : قال الله تعالى ـ وهو يعيّر اليهود ـ : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وكيف قيل لهم ذلك بلفظ المستقبل ، ثمّ أخبر أنّه قد مضى؟

قيل : إنّ أهل العربيّة مختلفون في تأويل ذلك ، فقال بعض البصريّين : معنى ذلك : فلم قتلتم كما قال تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ ...)(٣) أي ما تلت. وكما قال الشاعر :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

فمضيت عنه وقلت لا يعنيني

يريد بقوله : ولقد أمرّ ولقد مررت واستدلّ بقوله : فمضيت ، ولم يقل فأمضى وزعم أنّ فعل ويفعل قد يشتركان في معنى واحد. واستشهد بقول الشاعر :

وإنّي لآتيكم بشكري ما مضى

من الأمر واستيجاب ما كان في غد

يريد : ما يكون في غد.

__________________

(١) معاني القرآن ١ : ٦٠.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١٢٣.

(٣) البقرة ٢ : ١٠٢.

٣٩٣

وبقول الحطيئة :

شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه

أنّ الوليد أحقّ بالعذر

يعني : يشهد.

وقال بعض نحويّي الكوفيّين : إنّما قيل : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ) فخاطبهم بالمستقبل ومعناه الماضي ، كما يعنّف الرجل على ما سلف منه بلفظ المستقبل ، فيقال له : ويحك ، لم تكذب ولم تبغض نفسك إلى الناس؟! كما قال الشاعر :

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

ولم تجدي من أن تقرّي به بدّا

قال : وليس الّذين خوطبوا هم القتلة ، إنّما هم أسلافهم الّذين مضوا ، وهؤلاء رضوا بما فعل أسلافهم ، فنسب القتل إليهم.

قال أبو جعفر : والصواب فيه من القول عندنا : أنّ الله خاطب من عاصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما سلف من أسلافهم ، وأضاف ذلك إلى المخاطبين ، نظير قول العرب بعضها لبعض : فعلنا بكم يوم كذا وكذا ، وفعلتم بنا يوم كذا وكذا .. يعنون بذلك ما فعل أسلافهم.

وهكذا قوله تعالى يعني : قل فلم قتل أسلافكم الأنبياء من قبل وهذا خبر عن فعل سلفهم قبل اليوم .. وإنّما عيّر المعاصرون لكونهم متّبعين لأسلافهم وراضين بفعالهم. (١)

[٢ / ٢٧١٩] وروى العيّاشي بالإسناد إلى أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال الله في كتابه يحكي قول اليهود ، (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ) الآية وقال : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وإنّما نزل هذا في قوم من اليهود وكانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقتلوا الأنبياء بأيديهم ، ولا كانوا في زمانهم ، وإنّما قتل أوائلهم الّذين كانوا من قبلهم ، فنزّلوا بهم أولئك القتلة فجعلهم الله منهم وأضاف إليهم فعل أوائلهم بما تبعوهم وتولّوهم. (٢)

[٢ / ٢٧٢٠] وعن ابن عبّاس : كلّما عملت معصية فمن أنكرها برىء منها ، ومن رضي بها كان كمن شهدها. (٣)

__________________

(١) الطبري ١ : ٥٩٠ ـ ٥٩١.

(٢) نور الثقلين ١ : ١٠٢ ؛ العيّاشي ١ : ٦٩ ـ ٧٠ / ٧٢ ؛ البحار ٩٧ : ٩٥ / ٥ ، باب ٢ ؛ البرهان ١ : ٢٨٢ / ٣.

(٣) الوسيط ١ : ١٧٥.

٣٩٤

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ)

[٢ / ٢٧٢١] قال مقاتل بن سليمان : ثمّ قال لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قل لليهود : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) يعني بالآيات التسع. (١)

[٢ / ٢٧٢٢] وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن عبّاس في قوله : (بِالْبَيِّناتِ) قال : هي : الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم والعصا واليد والنقص من الثمرات والسنين. (٢)

قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ)

[٢ / ٢٧٢٣] قال مقاتل بن سليمان : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) إلها (مِنْ بَعْدِهِ) يعني من بعد انطلاق موسى إلى الجبل (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) لأنفسكم. (٣)

قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ)

[٢ / ٢٧٢٤] أخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن محمّد بن إسحاق : قوله : (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) يعني المنافقين الّذين يظهرون بألسنتهم الطاعة وقلوبهم مصرّة على المعصية. (٤)

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ)

[٢ / ٢٧٢٥] قال مقاتل بن سليمان : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) يعني وقد أخذنا ميثاقكم في التوراة على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تؤمنوا بالكتاب والنبيّين (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) حين لم يقبلوا التوراة (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) يعني ما آتيناكم من التوراة بالجدّ والمواظبة عليه (وَاسْمَعُوا) يقول : اسمعوا ما في التوراة من الحدود والأحكام والشدّة (قالُوا سَمِعْنا) بذلك الّذي تخوّفنا به من أمر الجبل (وَعَصَيْنا) أمرك فلا نتّبع ما جئتنا به من الشدّة في التوراة. والعجل كان أرفق بنا وأهون علينا ممّا جئتنا به من الشدّة. (٥)

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ١٢٣.

(٢) ابن أبي حاتم ١ : ١٧٥ / ٩٢٧.

(٣) تفسير مقاتل ١ : ١٢٣.

(٤) ابن أبي حاتم ١ : ١٧٥ / ٩٢٩.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ١٢٣ ـ ١٢٤.

٣٩٥

[٢ / ٢٧٢٦] وقال الحسن : قالوا : (سَمِعْنا) بألسنتهم (وَعَصَيْنا) بقلوبهم. (١)

قوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ)

[٢ / ٢٧٢٧] أخرج عبد الرزّاق وابن جرير عن قتادة في قوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) قال : أشربوا حبّه حتّى خلص ذلك إلى قلوبهم. (٢)

[٢ / ٢٧٢٨] وأخرج ابن جرير ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) قال : أشربوا حبّ العجل بكفرهم. (٣)

[٢ / ٢٧٢٩] وأخرج ابن أبي حاتم عن عمارة بن عمير وأبي عبد الرحمان السلمي قالا : عمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد فبرده بها وهو على شاطىء نهر ، فما شرب أحد من ذلك الماء ممّن كان يعبد العجل إلّا اصفرّ وجهه مثل الذهب. (٤)

[٢ / ٢٧٣٠] وعن سعيد بن جبير في قوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) قال : لمّا أحرق العجل برد ثمّ نسف ، فحسوا الماء حتّى عادت وجوههم كالزعفران. (٥)

[٢ / ٢٧٣١] وأخرج ابن جرير عن أسباط ، عن السدّيّ : لمّا رجع موسى إلى قومه أخذ العجل الذي وجدهم عاكفين عليه فذبحه ، ثمّ حرقه ثمّ ذرّاه في اليمّ ، فلم يبق بحر يومئذ يجري إلّا وقع فيه شيء منه. ثمّ قال لهم موسى : اشربوا منه! فشربوا منه ، فمن كان يحبّه خرج على شاربيه الذهب ؛ فذلك حين يقول الله عزوجل : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ). (٦)

[٢ / ٢٧٣٢] وأخرج عن ابن جريج ، قال : لمّا سحل (٧) فألقي في اليمّ ، استقبلوا جرية الماء ، فشربوا

__________________

(١) الوسيط ١ : ١٧٦.

(٢) الدرّ ١ : ٢١٩ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٨٠ / ٨٩ ؛ الطبري ١ : ٥٩٤ / ١٢٩٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٧٦ / ٩٣٤ ؛ التبيان ١ : ٣٥٤.

(٣) الطبري ١ : ٥٩٤ / ١٢٩١ ؛ التبيان ١ : ٣٥٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٧٦ / ٩٣٤.

(٤) ابن أبي حاتم ١ : ١٧٦ / ٩٣١ ؛ ابن كثير ١ : ١٣١.

(٥) ابن كثير ١ : ١٣١ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٧٦ / ٩٣٢ ؛ وقريب منه في العيّاشي ١ : ٧٠ / ٧٣. والبحار ١٣ : ٢٢٧ / ٢٨.

(٦) الطبري ١ : ٥٩٤ / ١٢٩٣ ؛ التبيان ١ : ٣٥٤ ؛ ابن كثير ١ : ١٣١ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٧٦ / ٩٣٣ ، بتفاوت يسير.

(٧) أي نحت.

٣٩٦

حتّى ملأوا بطونهم ، فأورث ذلك من فعله منهم جبنا. (١)

قال أبو جعفر الطبري : وأولى التأويلين هو إشراب حبّ العجل ، لأنّ الماء لا يقال منه : أشرب فلان في قلبه ، وإنّما يقال ذلك في حبّ الشيء. فيقال : منه أشرب قلب فلان حبّ كذا بمعنى : سقي ذلك حتّى غلب عليه وخالط قلبه. كما قال زهير

فصحوت عنها بعد حبّ داخل

والحبّ يشربه فؤادك داء

قال أبو جعفر : ولكنّه تعالى ترك ذكر الحبّ ، اكتفاء ، بفهم السامع ، إذ كان معلوما أنّ العجل لا يشرب القلب ، وأنّ الذي يشرب القلب منه حبّه والعرب قد تترك ذكر الشيء إذا كان معلوما لدى السامعين. (٢)

__________________

(١) الطبري ١ : ٥٩٤ / ١٢٩٤.

(٢) المصدر.

٣٩٧

قال تعالى :

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦))

ولعلّها من أخسأ البوادر التي بدرت من اليهود ، منذ أن أطلقوا دعواهم تلك العريضة : إنّهم شعب الله المختار. إنّهم وحدهم هم المهتدون. إنّهم وحدهم هم الفائزون. إنّه ليس لغيرهم من الأمم في الآخرة عند الله نصيب!!

وهذه الدعاوي تتضمّن أنّ المؤمنين برسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير مهتدين وأن ليس لهم نصيب في الآخرة والهدف الأوّل هو زعزعة ثقة المسلمين بدينهم وبمواعيد رسولهم ومواعيد القرآن ذاته. فأمر الله نبيّه أن يدعو اليهود إلى المباهلة ، ليقف الفريقان ويدعوان الله بهلاك الكاذب منهما. وإليك مع مساق الآيات :

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

هنا يأتي حديث المباهلة مع اليهود (١) ، نظير مباهلة نصارى نجران وكما تحدّى القرآن مشركي العرب لو أن يأتوا بحديث مثله.

ومن ثمّ تعقّبه بتقرير أنّهم سوف لا يستجيبون للمباهلة ولن يطلبوا الموت بعد علمهم أنّهم كاذبون وأن لا موضع لهم عند الله في الآخرة.

__________________

(١) حسبما جاء في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «... فو الذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلّا غصّ بريقه فمات مكانه ... فأبوا أن يفعلوا» (الدلائل البيهقي ٦ : ٢٧٤ ـ ٢٧٥). وفي حديث ابن عبّاس : «دعوا إلى أن يدعوا بالموت على أيّ الفريقين أكذب ، فأبوا ذلك ، ولو تمنّوه يومذاك ، ما بقي على وجه الأرض يهوديّ إلّا هلك.» (الدرّ ١ : ٢٢٠). وسيأتي ذلك في أحاديث الباب.

٣٩٨

نعم إنّهم آيسون من الآخرة على قدر ما هم حريصون على حياة الدنيا.

(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

***

[٢ / ٢٧٣٣] قال عليّ بن إبراهيم : أحبّوا العجل حتّى عبدوه ، ثمّ قالوا : نحن أولياء الله! فقال الله ـ عزوجل ـ : إن كنتم أولياء الله كما تقولون (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إذ قد جاء في التوراة : إنّ أولياء الله يتمنّون الموت ولا يرهبونه. (١)

وقال أبو جعفر : وهذه الآية ممّا احتجّ الله بها لنبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على اليهود الّذين كانوا بين ظهرانيّ مهاجره ، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم. وذلك أنّ الله ـ جلّ ثناؤه ـ أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعوهم إلى قضيّة عادلة بينه وبينهم فيما كان بينه وبينهم من الخلاف ، كما أمره الله أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذ خالفوه في عيسى (صلوات الله عليه) وجادلوا فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة (٢). وقال لفريق اليهود : إن كنتم محقّين فتمنّوا الموت ، فإنّ ذلك غير ضارّكم إن كنتم محقّين فيما تدّعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله ، بل إن أعطيتم أمنيّتكم من الموت إذا تمنّيتم فإنّما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها ، والفوز بجوار الله في جنانه ، إن كان الأمر كما تزعمون أنّ الدار الآخرة لكم خالصة دوننا. وإن لم تعطوها علم الناس أنّكم المبطلون ونحن المحقّون في دعوانا ، وانكشف أمرنا وأمركم لهم. فامتنعت اليهود من إجابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذلك ؛ لعلمها أنّها إن تمنّت الموت هلكت فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها. كما امتنع فريق النصارى الّذين جادلوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عيسى ـ إذ دعوا إلى المباهلة ـ من المباهلة ؛ فبلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لو أنّ اليهود تمنّوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الّذين يباهلون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا».

[٢ / ٢٧٣٤] حدثنا بذلك أبو كريب ، بالإسناد إلى عكرمة ، عن ابن عبّاس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) القمّي ١ : ٥٤ ؛ البحار ٩ : ١٨٦ / ١٥.

(٢) يشير إلى قوله تعالى في الآية ٦١ من سورة آل عمران : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ).

٣٩٩

[٢ / ٢٧٣٥] وعن الأعمش ، عن ابن عبّاس في قوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قال : لو تمنّوا الموت لشرق أحدهم بريقه.

[٢ / ٢٧٣٦] وعن عبد الرزّاق ، بإسناده عن عكرمة في قوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قال : قال ابن عبّاس : لو تمنّى اليهود الموت لماتوا.

[٢ / ٢٧٣٧] وعن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عبّاس قال : لو تمنّوه يوم قال لهم ذلك ، ما بقي على ظهر الأرض يهوديّ إلّا مات.

قال أبو جعفر : فانكشف ، لمن كان مشكلا عليه أمر اليهود يومئذ ، كذبهم وبهتهم (١) وبغيهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وظهرت حجّة رسول الله وحجّة أصحابه عليهم ، ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل. وإنّما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لهم : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لأنّهم فيما ذكر لنا قالوا (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)(٢) وقالوا : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى)(٣) فقال الله لنبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قل لهم : إن كنتم صادقين فيما تزعمون فتمنّوا الموت! فأبان الله كذبهم بامتناعهم من تمنّي ذلك ، وأفلج حجّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي فازت وظفرت.

***

قال : وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعو اليهود أن يتمنّوا الموت ، وعلى أيّ وجه أمروا أن يتمنّوه.

فقال بعضهم : أمروا أن يتمنّوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما.

[٢ / ٢٧٣٨] فعن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عبّاس ، قال : قال الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ادعوا بالموت على أيّ الفريقين أكذب.

[٢ / ٢٧٣٩] وقال آخرون بما رويناه عن سعيد ، عن قتادة قوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ) وذلك أنّهم (قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى)(٤) وقالوا :

__________________

(١) البهت والبهتان : الكذب المفترى.

(٢) المائدة ٥ : ١٨.

(٣) البقرة ٢ : ١١١.

(٤) البقرة ٢ : ١١١.

٤٠٠