التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

قال : يكون مفهّما ، والمفهّم محدّث» (١). أي يكون واعيا ، وموضع عنايته تعالى فألهمه الله.

***

وقد جاء في كثير من التعابير أنّ روح القدس نطق على لسان من تكلّم بالصواب :

[٢ / ٢٦٢٩] روى ابن بابويه الصدوق بإسناده عن الهروي قال : سمعت دعبل الخزاعي يقول : أنشدت مولاي عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام قصيدتي التي أوّلها :

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

فلمّا انتهيت إلى قولي :

خروج إمام لا محالة خارج

يقوم على اسم الله والبركات

يميّز فينا كلّ حقّ وباطل

ويجزي على النعماء والنقمات

بكى الرضا عليه‌السلام بكاء شديدا ، ثمّ رفع رأسه إليّ فقال لي : «يا خزاعيّ ، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين!» (٢).

[٢ / ٢٦٣٠] وروى ثقة الإسلام الكليني بإسناده عن الكميت بن زيد الأسدي قال : دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام فقال : «والله يا كميت ، لو كان عندنا مال لأعطيناك منه ، ولكن لك ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحسّان بن ثابت : لن يزال معك روح القدس ما ذببت عنّا» (٣).

[٢ / ٢٦٣١] أمّا حديث حسّان بن ثابت. فهو على ما رواه أبو عبد الله المفيد في قصّة الغدير ، قال : جاء حسّان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تمّت البيعة لعليّ عليه‌السلام فقال : ائذن لي أن أقول في هذا المقام ما يرضاه الله! فقال له : قل يا حسّان على اسم الله. فوقف على نشز (مرتفع) من الأرض وتطاول المسلمون لسماع كلامه ، فأنشأ يقول :

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخمّ وأسمع بالنبيّ مناديا

وقال : فمن مولاكم ووليّكم؟

فقالوا ولم يبدوا هناك التوانيا

إلهك مولانا وأنت وليّنا

ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا

__________________

(١) البحار ٢ : ٨٢ / ١.

(٢) البحار ٥١ : ١٥٤ / ٤ ؛ عيون الأخبار ١ : ٢٩٧ / ٥ ؛ إكمال الدين : ٣٧٢ ، باب ٣٥.

(٣) البحار ٤٦ : ٣٤١ / ٣٢ الكافي ٨ : ١٠٢ / ٧٥.

٣٦١

فقال له : قم يا عليّ فإنّني

رضيتك من بعدي إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا : اللهم وال وليّه

وكن للذي عادى عليّا معاديا

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تزال ـ يا حسّان ـ مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك!» (١).

ورواه الخوارزمي في المناقب (٢) وغيره من أعلام (٣).

[٢ / ٢٦٣٢] وأخرج ابن سعيد وأحمد والبخاري وأبو داوود والترمذي عن عائشة : «أنّ رسول الله وضع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحسان منبرا في المسجد ، فكان ينافح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم أيّد حسّان بروح القدس كما نافح عن نبيّه» (٤).

قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ)

وهذه بادرة أخرى تعنّتت بها بنو إسرائيل ، تهكّما بمواقف أنبيائهم واستهانة بموضعهم الرسالي ، بما يشي عن مهانتهم هم في الرأي والسلوك.

قالوا ـ استهزاء بموضع رسالة الأنبياء ـ : قلوبنا غلف ـ أي مغلّفة لا تنفذ فيها دعوة ولا تعي نصحا ولا تتّعظ بعظة.

هذا كلام من بلغت به الشراسة مبلغها في اللؤم والشؤم.

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٧٧ ، (مصنّفات المفيد ١١).

(٢) المناقب : ١٣٦.

(٣) راجع : الغدير ٢ : ٣٤ ـ ٣٩.

ملحوظة : في تقييد النصرة باللسان هنا لطيفة : كان حسّان جبانا للغاية ؛ جعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الخندق في الحصن مع النساء والصبيان ، فطاف عليهم يهوديّ ، فقالت صفيّة لحسّان : لا آمن هذا اليهودي ، انزل فاقتله! فقال : يغفر الله لك يا بنت عبد المطّلب ، لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا! فأخذت صفيّة عمودا ونزلت من الحصن فضربت اليهوديّ فقتلته ورجعت إلى الحصن. ومن ثمّ لم يشهد مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا من مشاهده لجبنه (الكامل لابن الأثير ٢ : ١٨٢).

(٤) الدرّ ١ : ٢١٣ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٧ ؛ مسند أحمد ٦ : ٧٢ ؛ الحاكم ٣ : ٤٧٨ كتاب معرفة الصحابة ؛ أبو داوود ٢ : ٤٨٠ / ٥٠١٥ كتاب الأدب باب ٩٥ : ما جاء في الشعر. الترمذي ٤ : ٢١٦ ـ ٢١٧ / ٣٠٠٣ ، أبواب الاستيذان والآداب ، باب ١٠٣ (ما جاء في إنشاد الشعر) ؛ ابن عساكر ١٢ : ٣٨٨ / ١٢٦٣ ؛ البخاري ٥ : ٦١ بلفظ : عن هشام عن أبيه قال : ذهبت أسبّ حسّان عند عائشة فقالت : لا تسبّه ، فإنّه كان ينافح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي يدافع عنه ، كانّه يكشف الهمّ عنه.

٣٦٢

إنّ القلوب ـ في أصل فطرتها ـ خلقت أوعية متفتّحة ، تلتهم ما أفيض عليها من ملكوت القدس لو لا أن عارضها غطاء التعامي والإفراط في الجهالة.

ومنّ ثمّ فلا غطاء هناك ، وإنّما هو التعامي عن تلقّي الحقّ الصراح. فقد لعنهم الله وأبعدهم عن ساحة رحمته بسبب كفرهم وإصرارهم على التباعد عنها ، فمثل هؤلاء المتعنّتين قلّ منهم من يؤمن ، حيث كان انفلات عن غواية الجهل والتعامي.

وبذلك وردت أحاديث :

[٢ / ٢٦٣٣] أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عبّاس : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي في أكنّة.

[٢ / ٢٦٣٤] وعن أبي طلحة عن ابن عبّاس قوله : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي في غطاء (١).

[٢ / ٢٦٣٥] وأخرج وكيع عن عكرمة في قوله : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) قال : عليها طابع (٢).

[٢ / ٢٦٣٦] وأخرج ابن جرير عن مجاهد (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) عليها غشاوة (٣).

[٢ / ٢٦٣٧] وأخرج عن عبد الرزّاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) قال : عليها طابع ، قال : هو كقوله : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ)(٤). (٥).

[٢ / ٢٦٣٨] وعن شريك عن الأعمش قوله : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) قال : هي في غلف (٦).

[٢ / ٢٦٣٩] وعن ابن زيد في قوله : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) قال : يقول قلبي في غلاف ، فلا يخلص إليه ممّا تقول. وقرأ : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ)(٨). (٩).

[٢ / ٢٦٤٠] وعن أسباط ، عن السدّي : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) قال : يقولون : عليها غلاف وهو الغطاء (١٠).

[٢ / ٢٦٤١] وقال مقاتل بن سليمان : فعرفوا أنّ الذي قال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقّ فسكتوا (وَقالُوا)

__________________

(١) الطبري ١ : ٥٧٢ / ١٢٣٩.

(٢) الدرّ ١ : ٢١٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٧١ / ٨٩٩.

(٣) الدرّ ١ : ٢١٤ ؛ الطبرى ١ : ٥٧٢ / ١٢٤٠ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٥٢ ـ ٥٣ ؛ الثعلبي ١ : ٢٣٣.

(٤) فصّلت ٤١ : ٥.

(٥) الطبري ١ : ٥٧٣ / ١٢٤٣ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٧٩ / ٨٥.

(٦) الطبري ١ : ٥٧٢ / ١٢٤١.

(٨) فصّلت ٤١ : ٥.

(٩) الطبري ١ : ٥٧٣ / ١٢٤٦.

(١٠) الطبري ١ : ٥٧٣ / ١٢٤٥ ؛ ابن أبي حاتم : ١ : ١٧٠ / ٨٩٥.

٣٦٣

للنبيّ : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) يعني في غطاء ويعنون : في أكنّة عليها الغطاء فلا تفهم ولا تفقه ما تقول يا محمّد ، كراهيّة لما سمعوا من النبيّ من قوله : إنّكم كذّبتم فريقا من الأنبياء وفريقا قتلتم. أي فإن كنت صادقا فأفهمنا ما تقول (١).

[٢ / ٢٦٤٢] وأخرج الواحدي عن ابن عبّاس ومجاهد وقتادة : إنهم قالوا استهزاء وإنكارا لما أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قلوبنا عليها غشاوة ، فهي أوعية ، فلا تعي ولا تفقه ما تقول يا محمّد! فأكذبهم الله فيما قالوا ، وقال (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي : أبعدهم من رحمته وطردهم (٢).

[٢ / ٢٦٤٣] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) قال : قالوا : لا تفقه (٣).

[٢ / ٢٦٤٤] وأخرج ابن جرير عن الربيع ، عن أبي العالية : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي لا تفقه (٤).

[٢ / ٢٦٤٥] وبهذا المعنى أيضا ما رواه ابن أبي حاتم بالإسناد إلى قتادة عن الحسن قال : قلوبنا غلف : لم تختن (٥).

وغلف : جمع أغلف وغلفاء والمعنى : أنّه لم يرفع غطاؤها ولم تؤخذ جلدتها المغشّية لها فلا تستطيع الوعي والتفقّه.

قال أبو علي الفارسي : ما يدرك به المعلومات من الحواسّ وغيرها ، إذا ذكر بأنّه لا يعلم ، وصف بأنّ عليه مانعا ، كقوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(٦). فإنّ القفل لمّا كان مانعا من الدخول إلى المقفّل عليه ، شبّه القلوب [العاتية] به.

ومثله قوله تعالى : (سُكِّرَتْ أَبْصارُنا)(٧). وقوله : (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي)(٨).

ومثله : (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ)(٩). وقوله (صُمٌّ بُكْمٌ)(١٠). لأنّ العين إذا كانت في غطاء لم ينفذ شعاعها ،

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ١٢١ ـ ١٢٢.

(٢) الوسيط ١ : ١٧٢.

(٣) الدرّ ١ : ٢١٤. الطبري ١ : ٥٧٣ / ١٢٤٢ ؛ البغوي ١ : ١٤١. عن مجاهد وقتادة ؛ الثعلبي ١ : ٢٣٣ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٥٢ ـ ٥٣ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٧٠ / ٨٩٧ ، عن قتادة وأبي العالية.

(٤) الطبري ١ : ٥٧٣ / ١٢٤٤.

(٥) ابن أبي حاتم ١ : ١٧٠ / ٨٩٦.

(٦) محمّد ٤٧ : ٢٤.

(٧) الحجر ١٥ : ١٥.

(٨) الكهف ١٨ : ١٠٢.

(٩) النحل ١٦ : ٦٦.

(١٠) البقرة ٢ : ١٧.

٣٦٤

فلا يقع بها إدراك. فكأنّ شدّة عنادهم تحملهم على الشكّ في المشاهدات ودفع المعلومات (١).

***

وهناك تفسير آخر لغلف القلوب وهو امتلاؤها بالعلوم والمعارف فلا تكاد تستزيد.

[٢ / ٢٦٤٦] أخرج الطبراني في الأوسط بالإسناد إلى ابن عبّاس قال ـ في قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) ـ : مثقلة ، أوعية للحكمة. قال : قالت اليهود ـ حين دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتعلّموا الحكمة ـ : كيف نتعلّم وقلوبنا إنّما هي غلف محكمة أي أوعية للحكمة أي ملآنة بالحكمة فلا فراغ فيها للزيادة.

والمثقل : الذي ثقل حمله يقال للمرأة إذا ثقل حملها في بطنها ودنا وضعه : مثقل ومثقلة (٢).

[٢ / ٢٦٤٧] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) : مملوءة علما لا نحتاج إلى علم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا غيره! (٣).

[٢ / ٢٦٤٨] وأخرج عن فضيل بن مرزوق ، عن عطيّة : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) قال : أوعية للذكر.

وعن عبيد الله بن موسى ، عن فضيل ، عن عطيّة في قوله : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) قال : أوعية للعلم (٤).

[٢ / ٢٦٤٩] وقال الكلبي : معناه : أوعية لكلّ علم ، فهي لا تسمع حديثا إلّا وعته إلّا حديثك لا تعقله ولا تعيه ، ولو كان فيه خير لوعته وفهمته (٥).

[٢ / ٢٦٥٠] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطية في قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) قال : هي القلوب المطبوع عليها (٦).

__________________

(١) التبيان ١ : ٣٤٢ ـ ٣٤٣ ؛ مجمع البيان ١ : ٢٩٧.

(٢) الدرّ ١ : ٢١٤ ؛ الأوسط ٥ : ٤٧ ـ ٤٨ ؛ مجمع الزوائد ٧ : ١٥٤ ، باب القراءات.

(٣) الدرّ ١ : ٢١٤ ؛ الطبري ١ : ٥٧٤ / ١٢٤٨ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٧٠ / ٨٩٣ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٨ ، عن الضحاك عن ابن عبّاس ؛ أبو الفتوح ٢ : ٥٣ ، عن ابن عبّاس وعطاء والكلبي ؛ الثعلبي ١ : ٢٣٣ ، عن عطاء وابن عبّاس.

(٤) الطبري ١ : ٥٧٣ ـ ٥٧٤ / ١٢٤٧ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٧٠ / ٨٩٤.

(٥) الثعلبي ١ : ٢٣٤ ؛ البغوي ١ : ١٤١ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٥٣.

(٦) الدرّ ١ : ٢١٤ ؛ الطبري ١ : ٥٧٢ / ٢ ـ ١٢٣٩ عن ابن عبّاس ؛ ابن كثير ١ : ١٢٨ ، عن عطيّة العوفي عن ابن عبّاس.

٣٦٥

وتفسير ثالث : لغلف القلوب ، بمعنى أنّها ممتلئة بالأراجيف فلا تعي الحكم والمواعظ.

[٢ / ٢٦٥١] أخرج ابن أبي حاكم بإسناده إلى عطيّة العوفي قال : أوعية للمنكر (١).

قوله تعالى : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)

فسّره بعضهم بأنّه لا يؤمن منهم إلّا قليل.

[٢ / ٢٦٥٢] أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة قال : لا يؤمن منهم إلّا قليل (٢).

[٢ / ٢٦٥٣] وأخرج ابن جرير عن يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قال : فلعمري لمن رجع من أهل الشرك أكثر ممّن رجع من أهل الكتاب ، إنّما آمن من أهل الكتاب رهط يسير (٣).

***

وفسّره آخرون بأنّهم لا يؤمنون إلّا بقليل ممّا في أيديهم أو ممّا جاء نبيّ الإسلام ويرفضون ما سواه ممّا لا يتوافق وهواهم.

[٢ / ٢٦٥٤] أخرج ابن جرير عن معمر ، عن قتادة : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) قال : لا يؤمن منهم إلّا قليل. قال معمر : وقال غيره : لا يؤمنون إلّا بقليل ممّا في أيديهم (٤).

[٢ / ٢٦٥٥] وأخرج عبد الرزّاق عن معمر والكلبي قالا : لا يؤمنون إلّا بقليل ممّا في أيديهم ويكفرون بما وراءه (٥).

[٢ / ٢٦٥٦] وقال مقاتل بن سليمان : يقول الله ـ عزوجل ـ : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) فطبع على

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ١٧٠ / ٨٩٨.

(٢) الدرّ ١ : ٢١٥ ؛ عبد الرزاق ١ : ٢٧٩ / ٨٦ ؛ الطبري ١ : ٥٧٥ / ١٢٥٠ ؛ الثعلبي ١ : ٢٣٤ .. بلفظ : «معناه : لا يؤمن منهم إلّا قليل ، لأنّ من آمن من المشركين أكثر ممّن آمن من اليهود. قاله قتادة.» ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٧١ / ٩٠٠ ؛ التبيان ١ : ٣٤٣.

(٣) الطبري ١ : ٥٧٥ / ١٢٤٩.

(٤) الطبري ١ : ٥٧٥ / ١٢٥١ ؛ الثعلبي ١ : ٢٣٤ ، وزاد فيه : ويكفرون بأكثره ؛ البغوي ١ : ١٤١ ؛ عبد الرزاق ١ : ٢٧٩ / ٨٦ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٨ ؛ القرطبي ٢ : ٢٦. عن معمر وزاد فيه : ويكفرون بأكثره.

(٥) عبد الرزاق ١ : ٢٨٠ / ٨٧ ؛ القرطبي ٢ : ٢٦. الثعلبي ١ : ٢٣٤ ، عن معمر.

٣٦٦

قلوبهم (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) يعني بالقليل بأنّهم يصدّقون بأنّه من الله ، وكفروا بما سواه ممّا جاء به محمّد فذلك قوله ـ عزوجل ـ : في النساء (١) : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً)(٢).

القلوب أوعية فخيرها أوعاها

كلام نورانيّ فاضت به قريحة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام حينما أخذ بيد كميل بن زياد النخعي وأخرجه إلى الجبّانة بظهر الكوفة ، فلمّا أصحر تنفّس الصعداء ، ثمّ قال :

[٢ / ٢٦٥٧] «يا كميل ... إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها ، فاحفظ عنّي ما أقول لك : الناس ثلاثة ، فعالم ربّانيّ ، ومتعلّم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق ، يميلون مع كلّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق.

يا كميل ، العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال. والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق ، وصنيع المال يزول بزواله.

يا كميل ، معرفة العلم دين يدان به ، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته ، وجميل الأحدوثة بعد وفاته. والعلم حاكم ، والمال محكوم عليه.

يا كميل ، هلك خزّان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر : أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة».

ثمّ قال عليه‌السلام : «ها ، إنّ هاهنا لعلما جمّا ـ وأشار بيده إلى صدره ـ لو أصبت له حملة! بلى أصبت لقنا غير مأمون عليه (٣) ، مستعملا آلة الدين للدنيا ، ومستظهرا بنعم الله على عباده ، وبحججه على أوليائه ، أو منقادا لحملة الحقّ لا بصيرة له في أحنائه (٤) ، ينقدح الشكّ في قلبه لأوّل عارض من شبهة. ألا ، لا ذا ولا ذاك! أو منهوما باللذّة ، سلس القياد للشهوة ، أو مغرما بالجمع والادّخار. ليسا من رعاة الدين في شيء ، أقرب شيء شبها بهما الأنعام السائمة! كذلك يموت العلم بموت حاملية!»

ثمّ قال عليه‌السلام : «اللهم بلى! لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة ، إمّا ظاهرا مشهورا ، وإمّا خائفا

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٦ و ١٥٥.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١٢٢.

(٣) اللقن : السريع الفهم ولكن غير متحفّظ.

(٤) جمع حنو ، وهو جانب الضلوع .. كناية عن عدم التبصّر وقلّة الوعي.

٣٦٧

مغمورا. لئلّا تبطل حجج الله وبيّناته. وكم ذا وأين أولئك؟ أولئك ـ والله ـ الأقلّون عددا ، والأعظمون عند الله قدرا. يحفظ الله بهم حججه وبيّناته ، حتّى يودعوها نظراءهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استعوره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى أولئك خلفاء الله في أرضه ، والدعاة إلى دينه. آه آه شوقا إلى رؤيتهم!»

ثمّ قال لكميل : انصرف يا كميل إذا شئت (١).

وله عليه‌السلام في صفات القلب وحالاته وصف بالغ. قال :

[٢ / ٢٦٥٨] «لقد علّق بنياط (٢) هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه ، وذلك القلب وذلك أنّ له موادّ من الحكمة وأضدادا من خلافها :

فإن سنح (٣) له الرجاء ، أذلّه الطمع! وإن هاج به الطمع ، أهلكه الحرص! وإن ملكه اليأس ، قتله الأسف! وإن عرض له الغضب ، اشتدّ به الغيظ! وإن أسعده الرّضا ، نسي التحفّظ (٤)!

وإن غاله الخوف ، شغله الحذر! وإن اتّسع له الأمر ، استلبته الغرّة (٥)! وإن أفاد مالا ، أطغاه الغنى (٦)! وإن أصابته مصيبة ، فضحه الجزع! وإن عضّته الفاقة ، شغله البلاء! وإن جهده الجوع ، قعد به الضعف! وإن أفرط به الشبع ، كظّته البطنة!»

ثمّ قال : فكلّ تقصير به مضرّ ، وكلّ إفراط له مفسد (٧)!.

[٢ / ٢٦٥٩] وقال عليه‌السلام : «إنّ هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان ، فابتغوا لها طرائف الحكم (٨)».

[٢ / ٢٦٦٠] وقال عليه‌السلام : «قيمة كلّ امرء ما يحسنه» (٩).

قال السيّد رحمهم‌الله : وهي الكلمة التي لا تصاب لها قيمة ، ولا توزن بها حكمة ، ولا تقرن إليها كلمة.

[٢ / ٢٦٦١] وقال عليه‌السلام : «أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع!» (١٠).

__________________

(١) نهج البلاغة ٤ : ٣٦ ، الحكمة ١٤٧. (٢) النياط ـ ككتاب ـ : عرق معلّق به القلب.

(٣) سنح ـ بالحاء المهملة ـ : بدا وظهر.

(٤) التحفّظ من الضياع وذهاب النعم.

(٥) الغرّة : الغفلة. وهي توجب ذهاب الفرص.

(٦) (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى).

(٧) نهج البلاغة ٤ : ٢٥ ، الحكمة ١٠٨.

(٨) المصدر : ٢٠ ، الحكمة ٩٠.

(٩) المصدر : ١٨ ، الحكمة ٨١.

(١٠) المصدر : ٤٨ ، الحكمة ٢١٩.

٣٦٨

[٢ / ٢٦٦٢] وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اغد عالما أو متعلّما أو أحبّ العلماء. ولا تكن رابعا فتهلك» (١)

[٢ / ٢٦٦٣] وفي رواية أخرى : «اغد عالما أو متعلّما أو مستمعا أو محبّا لهم. ولا تكن الخامس فتهلك» (٢).

[٢ / ٢٦٦٤] وعن ابن أبي عمير قال : قال الصادق عليه‌السلام : «الناس اثنان : عالم ومتعلّم. وسائر الناس همج» (٣)

[٢ / ٢٦٦٥] وروي : «الناس أربعة : رجل يعلم ويعلم أنّه يعلم فذاك مرشد عالم فاتّبعوه. ورجل يعلم ولا يعلم أنّه يعلم ، فذاك غافل فأيقظوه. ورجل لا يعلم ويعلم أنّه لا يعلم ، فذاك جاهل فعلّموه. ورجل لا يعلم ويعلم (أي يعتقد) أنّه يعلم ، فذاك ضالّ فأرشدوه» (٤).

[٢ / ٢٦٦٦] وعن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «للعلم خزائن ، ومفتاحها السؤال».

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فاسألوه يرحمكم الله ، فإنّه يوجر فيه أربعة : السائل والمعلّم والمستمع والمحبّ لهم» (٥).

[٢ / ٢٦٦٧] وعن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه أنشأ يقول :

صبرت على مرّ الأمور كراهة

وأيقنت في ذاك الصواب من الأمر

إذا كنت لا تدري ولم تك سائلا

عن العلم من يدرى ، جهلت ولا تدري (٦)

[٢ / ٢٦٦٨] وقال عليه‌السلام : «اغد عالما أو متعلّما ، ولا تكن الثالث ، فتعطب» (٧).

[٢ / ٢٦٦٩] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا ترك المؤمن ورقة فيها علم ، تكون له يوم القيامة سترا فيما بينه وبين النار» (٨).

__________________

(١) البحار ١ : ١٨٧ / ٢.

(٢) عوالي اللئالي ٤ : ٧٥ / ٥٨ ؛ البحار ١ : ١٩٥ / ١٣. ولا منافاة بين الروايتين ، حيث المستمع متعلّم لا محالة.

(٣) الخصال : ٣٩ / ٢٢ ؛ البحار ١ : ١٨٧.

(٤) عوالي اللئالي ٤ : ٧٩ / ٧٤ ؛ البحار ١ : ١٨٧ / ١٥.

(٥) البحار ١ : ١٩٧ / ٣.

(٦) المصدر : ١٩٨ / ٤.

(٧) المصدر : ١٩٦ / ١٩.

(٨) المصدر : ١٩٨ باب ٤ / ١.

٣٦٩

[٢ / ٢٦٧٠] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المتّقون سادة ، والفقهاء قادة ، والجلوس إليهم عبادة» (١).

[٢ / ٢٦٧١] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تذاكروا وتلاقوا وتحدّثوا ، فإنّ الحديث جلاء. إنّ القلوب لترين كما يرين السيف وجلاؤها الحديث» (٢).

[٢ / ٢٦٧٢] وقال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من جالس العلماء وقّر ، ومن خالط الأنذال حقّر» (٣).

[٢ / ٢٦٧٣] وقال : «النظر إلى وجه العالم عبادة» (٤).

[٢ / ٢٦٧٤] وقال الصادق عليه‌السلام : «أفضل العبادة العلم بالله» (٥).

[٢ / ٢٦٧٥] وروى العيّاشي بالإسناد إلى أبي بصير قال : سألت الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام عن الحكمة في قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(٦)؟ قال : المعرفة (٧).

[٢ / ٢٦٧٦] وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص ، وابن جرير عن حذيفة قال : القلوب أربعة ، قلب أغلف معصوب عليه ، فذلك قلب الكافر. وقلب مصفح (٨) فذلك قلب المنافق. وقلب أجرد (٩) فيه مثل السراج ، فذلك قلب المؤمن. وقلب فيه إيمان ونفاق ، فمثل الإيمان كمثل شجرة يمدّها ماء طيّب ، ومثل النفاق كمثل قرحة يمدّها القيح والدم ، فأيّ المادّتين غلبت صاحبتها أهلكته (١٠).

[٢ / ٢٦٧٧] وأخرج الحاكم وصحّحه عن حذيفة قال : تعرض فتنة على القلوب ، فأيّ قلب أنكرها نكتت في قلبه نكتة بيضاء ، وأيّ قلب لم ينكرها نكتت في قلبه نكتة سوداء ، ثمّ تعرض فتنة أخرى على القلوب فإن أنكرها القلب الذي أنكرها في المرّة الأولى نكتت في قلبه نكتة بيضاء ، وإن لم

__________________

(١) المصدر : ٢٠١ / ٩.

(٢) المصدر : ٢٠٢ / ١٦.

(٣) المصدر : ٢٠٥ / ٣٠.

(٤) المصدر / ٢٩.

(٥) المصدر : ٢١٥ / ٢١.

(٦) البقرة ٢ : ٢٦٩.

(٧) البحار ١ : ٢١٥ / ٢٣.

(٨) المصفح : المقلوب ، المائل ، المنحرف.

(٩) الأجرد : ما لا شعر عليه ، يقال : لبن أجرد أي لا رغوة عليه.

(١٠) الدرّ ١ : ٢١٤ ؛ الطبري ١ : ٥٧٢ / ١٢٣٨ ؛ المصنّف ٧ : ٢٢٣ / ٥٣ ، كتاب الإيمان والرؤيا. بلفظ : عن حذيفة قال : القلوب أربعة : قلب مصفح فذلك قلب المنافق ، وقلب أغلف فذلك قلب الكافر ، وقلب أجرد فكأنّ فيه سراجا يزهر فذاك قلب المؤمن ، وقلب فيه نفاق وإيمان ....

٣٧٠

ينكرها نكتت نكتة سوداء ، ثمّ تعرض فتنة أخرى فإن أنكرها ذلك القلب كما في المرّتين الأوليتين اشتدّ وابيضّ وصفا ولم تضرّه فتنة أبدا ، وإن لم ينكرها كما في المرّتين الأوليين اسودّ واربدّ (١) ونكس ، فلا يعرف حقّا ولا ينكر منكرا (٢).

[٢ / ٢٦٧٨] وأخرج ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان والبيهقي في شعب الإيمان عن عليّ عليه‌السلام قال : «إنّ الإيمان يبدو لمظة (٣) بيضاء في القلب ، فكلّما ازداد الإيمان عظما ازداد ذلك البياض ، فإذا استكمل الإيمان ابيضّ القلب كلّه ، وإنّ النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب ، فكلّما ازداد النفاق عظما ازداد ذلك السواد ، فإذا استكمل النفاق اسودّ القلب كلّه ، وأيم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ، ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود» (٤).

[٢ / ٢٦٧٩] وأخرج أحمد بسند جيّد عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر ، وقلب أغلف مربوط على غلافه ، وقلب منكوس ، وقلب مصفح ، فأمّا القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نور ، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر ، وأمّا القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثمّ أنكر ، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدّها الماء الطيّب ، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدّها القيح والدّم ، فأيّ المادّتين غلبت على الأخرى غلبت عليه». أي على القلب.

وأخرج ابن أبي حاتم عن سلمان الفارسي موقوفا مثله سواء. (٥)

__________________

(١) الرّبدة : لون بين السواد والغبرة.

(٢) الدرّ ١ : ٢١٤ ؛ الحاكم ٤ : ٤٦٨ ، كتاب الفتن والملاحم ؛ مسلم ١ : ٨٩ ، كتاب الإيمان.

(٣) اللّمظة : القليل من الشيء. قال ابن الأثير : في حديث علي عليه‌السلام : «الإيمان يبدأ في القلوب لمظة». اللمظة ـ بالضمّ ـ مثل النكتة من البياض. ومنه فرس ألمظ إذا كان بجحفلته بياض يسير. وقال البيهقي : واللمظة هي الذوقة وهو أن يلمظ الإنسان أو الدابّة شيئا يسيرا أي يتذوّقه فكذلك القلب يدخله من الإيمان شيء يسير ثمّ يتّسع فيه فيكثر.

(٤) الدرّ ١ : ٢١٥ ؛ الشعب ١ : ٧٠ / ٣٨. كنز العمال ١ : ٤٠٦ ـ ٤٠٧ / ١٧٣٤ ؛ المصنّف ٧ : ٢١١ / ٣ ، كتاب الإيمان ، باب ٢ : وفيه : «نقطة» بدل «لمظة».

(٥) الدرّ ١ : ٢١٥ ؛ مسند أحمد ٣ : ١٧ ؛ مجمع الزوائد ١ : ٦٣ ؛ كنز العمال ١ : ٢٤٤ / ١٢٢٦.

٣٧١

القلب في المصطلح القرآني

القلب ـ في المصطلح القرآني ـ يراد به منشأ الإدراك العقلاني في الذي هو منبعث التدبّر والتفكير ، والذي به يتميّز الإنسان عن سائر الأحياء ، حيث الذي فيها هو نحو شعور من غير أن يتعقّبه تفكير ومن ثمّ لا تطوّر في حياتها مستندا إلى تطوير في تفكّرها ذلك التطّور الهائل الذي حظي به الإنسان ، منذ أن مسّت قدماه وجه الأرض ولا يزال حظوة نال بها بفضل تدبّره وتعمّقه في الحياة.

وهذا القلب الذي هو منبعث الإدراك في الإنسان ، ليس سوى واقع الإنسان في باطنه ، والذي ليست الأعضاء الظاهرة الجسمانيّة ، سوى أدوات آليّة يستخدمها ذات الإنسان (القابع وراءها) في بلوغ مآربه لا شيء سواه.

وقد استعير لفظ «القلب» لواقع الإنسان الذاتي ، حيث القلب هو حقيقة الشيء وواقعه الذاتي في التعبير العامّ وكانت الإشارة إلى القلب الصنوبري الواقع خلف ضلوع الصدر ، إشارة رمزيّة إلى ذلك الذات الحقيقي القابع وراء هذا الجسد الظاهري في المتفاهم العامّ.

فحيث أريدت الإشارة إلى ذات الإنسان الحقيقى ، أشير إلى القلب الواقع في الصدر ، إشارة رمزيّة لا غير.

وإليك ما ورد من تعابير قرآنية بهذا الشأن :

قال تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)(١). أي يؤاخذكم بما كسبتم أنتم في ذات أنفسكم عن قصد لا الذي صدر عفوا ومن غير قصد ذاتي.

قال العلّامة الطباطبائي : وهذا من الشواهد على أنّ المراد بالقلب هو الإنسان ذاته ، فإنّ التعقّل والتفكّر وسائر الصفات النفسيّة ، وإن كان ينسب إلى القلب باعتبار أنّه العضو المدرك في البدن ـ حسب معتقد العامّة ـ كما ينسب السمع إلى الأذن والإبصار إلى العين والذوق إلى اللسان (٢) لكن الكسب والاكتساب ممّا لا ينسب إلّا إلى الإنسان ذاته.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٢٥.

(٢) في حين أنّها آلات لهذه الأحاسيس ، وإنّما الذي يحسّ هو شيء وراء هذه الأعضاء الآليّة ، وهو النفس.

٣٧٢

قال : ونظير هذه الآية قوله تعالى : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)(١). وقوله : (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)(٢). وهو من المجاز في الإسناد أي فإنّه آثم في ذاته وجاء بنفسه منيبة.

قال : هذا هو السبب في إسنادهم الإدراك والشعور وسائر الصفات الباطنة إلى القلب ، ومرادهم هي الروح المتعلّقة بالبدن أو السارية فيه بواسطته ، فينسبونها إليه كما ينسبونها إلى الروح وكما ينسبونها إلى أنفسهم ، يقال : أحببته وأحبّته روحي وأحبّته نفسي وأحبّه قلبي ، كلّ ذلك على سواء وقد استقرّ هذا التجوّز في التعبير ، فعبّر بالقلب وأريد به نفس الذات مجازا دارجا ، كما ربما نسبوا ذلك إلى الصدر ، باعتبار أنّه موضعه وأنّه مجتمع الصفات النفسيّة ولأنحاء الإدراكات والحالات الجانحيّة.

قال : وفي القرآن من هذا الباب الشيء الكثير قال تعالى : (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ)(٣). وقال : (أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ)(٤). وقال : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ)(٥). وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٦). أي بما يدور في خلدكم (٧).

وكان اختيار القلب رمزا لواقع الإنسان ، باعتباره العضو الأساسي في هيكل الإنسان ، والذي تقوم به حيويّته العامّة المسيطرة على سائر الأعضاء وحتّى المخّ الذي هو مركز الإرادة والتصميم في الإنسان ، بحاجة إلى أن يمدّه القلب بالحياة النابضة وبالتالي كان الإنسان بحقيقته الذاتيّة ، هو المسيطر على القلب باعتباره مركزا لبثّ الحيويّة وعلى المخّ باعتباره مركزا للإرادة والتصميم فكان دور الإنسان بذاته دور حاكم مسيطر آخذ بزمام الحيويّة والتدبير معا وما القلب والمخّ إلّا جناحين يبسطهما على مراكز الحركة والتصميم في جميع مراحل الحياة.

وحيث كان القلب هي الأداة الأولى الّتي استخدمتها الروح ، والتي توصّلت بها للسيطرة على سائر الأعضاء فكانت المناسبة قريبة لاستعارته عنوانا للإنسان ذاته.

وممّا جاء استعمال القلب وأريد به الانسان ذاته ، قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ)

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٨٣.

(٢) ق ٥٠ : ٣٣.

(٣) الأنعام ٦ : ١٢٥ : أي تنشرح الأنفس الكريمة للإسلام.

(٤) الحجر ١٥ : ٩٧ : أي ضاقت نفسك.

(٥) الأحزاب ٣٣ : ١٠ : أي تضايقت أنفسهم.

(٦) المائدة ٥ : ٧.

(٧) راجع : الميزان ٢ : ٢٣٤ ـ ٢٣٦.

٣٧٣

(وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ...)(١).

آخر الآية تهديد لهذا الإنسان إذا عتى عن أمر ربّه بانّه سوف يحول حاجز بين الإنسان وقلبه ، كناية عن ذاته حيث ينسى الإنسان نفسه فلا يرى من نفسه إنسانا ذا مسؤوليّة إنسانيّة عليا بل موجودا هائما في شهوات دنيا سافلة وهذا من أفضع العقوبات تصيب الإنسان الهائم في غياهب اللذّات كما في قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ)(٢). فقد نسوا الله في شريعته ، فكانت مغبّة ذلك أن نسوا موضعهم الإنسانيّ الرفيع فتسافلوا وتساقطوا حيث أسفل سافلين.

وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ). (٣) أي كان له باطن ضاح واع. أي كانت شخصيّته الباطنة مشرقة لامعة.

وقوله : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أي حاول التسمّع إلى النصح بجدّ وعن إقبال نفس.

وبالجملة ، فمتى استعمل لفظة القلب في القرآن ، سواء أريد به منبعث الحياة ، أو مركز الإرادة والتصميم فالمراد هو ذات الإنسان نفسه ، والذي هو منشأ أصل الحياة والتفكير.

__________________

(١) الأنفال ٨ : ٢٤.

(٢) الحشر ٥٩ : ١٩.

(٣) ق ٥٠ : ٣٧.

٣٧٤

قال تعالى :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣))

وبادرة أخرى هي غاية في صفاقة الرأي وشراسة الصنيع : أنّهم جاحدوا نبيّا كانوا يترقّبونه وكانوا يستفتحون به استنصارا على مخالفيهم ، فلمّا جاءهم الذي عرفوه أنّه هو ، ناكروه ونابذوه بغيا وعنادا مع الحقّ.

وما هذا إلّا تصرّف يستحقّ الطرد والغضب والشنآن. لمكان قبحه وشناعته العارمة ومن ثمّ يصبّ عليهم اللعنة وسوء العذاب (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) ابتعادا عن حريم رحمته الواسعة بسوء تصرّفهم.

***

نعم كانت صفقهم خاسرة ، حيث آثروا الحياة الدنيئة وطمعا في حطام رذيلة. على الرضوخ للحقّ الصريح : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) ابتاعوا أنفسهم وآثروها على الحقيقة الواضحة ، تحفّظا على مطامع خسيسة كلّ ذلك إزاء : (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) فقد كان الثمن الذي بذلوه إزاء استيفاء هوى النفس والحفاظ على آمالها ، باهظا جدّا ، وهو الكفر بالله وكتمان الحقّ ونكران الحقيقة.

٣٧٥

فتلك أبأس الصفقات وأخسرها ، إذ خسروا شرف الإنسانيّة النبيلة والحياة العليا الكريمة إزاء مطامع سافلة وآمال خائبة لا محالة كما وقد خسروا سعادة الحياة في الدار الأخرى وسوف ينتظرهم العذاب المهين في ذلّ وهوان.

ولقد كان الذي حملهم على ارتكاب هذا العمل الشائن الخاسر ، هو حسدهم أن يختار الله لرسالته التي انتظروها فيهم ، محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النبيّ العربيّ الكريم وحقدهم لأن ينزّل الله من فضله على من يشاء من عباده من سائر الأمم غيرهم. وما هذا الحسد والحقد إلّا بغيا وظلما فاحشا ونكارة لحكمة الله في صنعه القويم. فكانت مغبّة هذا البغي والاعتداء الفاحش أن عادوا بغضب على غضب. وهناك ينتظرهم عذاب مهين ، جزاء الاستكبار والحسد والبغي الذميم.

***

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ). وهذه هي الطبيعة التي تبدو هنا في يهود ، هي الطبيعة الكنود ، طبيعة الأثرة الضيّقة الّتي تعيش في نطاق من التعصّب الشديد وتحسّ أنّ كلّ خير يصيب من سواها كأنّما هو مقتطع منها ، ولا تشعر بالوشيجة الإنسانية الكبرى ، التي تربط البشرية جميعا. وهكذا عاشت اليهود في عزلة عصبيّة عمياء ، ويتربّصون بالبشرية الدوائر ولا يزالون يكنّون للناس البغضاء ، ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن. ويذيقون البشريّة رجع هذه الأحقاد فتنا يوقدونها بين الشعوب وهكذا يدبّرون للناس المكائد عبر التاريخ.

كانوا إذا دعوا للإيمان الصادق يتبجّحون بما عندهم ويرون فيه الكفاية ليدعوا ما سواه. في حين أنّ الذي عرض عليهم كان هو الحقّ المتوافق مع مالديهم من حقائق ضاعت أكثرها.

***

وإنّه لعجب من موقفهم هذا ، مالهم وللحقّ؟! إنّهم يعبدون أنفسهم ويتعبّدون لعصبيّتهم ماداموا يستأثرون بما لديهم فحسب لا بل إنّهم يعبدون هواهم فلقد كفروا من قبل بما جاء به أنبياؤهم. وكانوا يجابهونهم بالجحود والنكران وأحيانا بالقتل والتشريد.

(قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إيمانا صادقا بالحقّ الذي عندكم ـ فيما زعمتم ـ فكيف جابهتم الّذين جاؤوكم به بالعداء العارم؟!

٣٧٦

لا بل إنّكم ناكرتم رسالة نبيّكم الأوّل الذي أنجاكم من براثن الذلّ والصغار ، عاندتم موسى الكليم ذلك النبيّ العظيم.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ). فهل كان اتّخاذكم العجل بعد ما جاءكم موسى بالبيّنات ، وفي حياته هل كان ذلك منكم من وحي الإيمان؟ وهل يتوافق ذلك مع دعواكم أنّكم تؤمنون بما أنزل إليكم؟!

***

نعم لم يكن اتّخاذهم العجل البادرة الوحيدة التي اتسمت بها إسرائيل في حياتها الكدرة بل كان هنالك الميثاق عند الصخرة الهاطلة وكان هناك التمرّد والعصيان بشكل أمرّ.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا).

فهل أطاعوا وهل رضخوا للحقّ الصريح؟ نعم أظهروا الطاعة وخالفوا في العمل!

(قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا ...)

هذا لسان الحال وليس لسان القال. ولقد كان استسلامهم حينذاك إظهارا للسماع والطاعة. ولكن تمرّدهم المتواصل بعدئذ كان بيانا عن حالتهم التعنّتيّة الجامحة.

وهذا الجموح والشقاق إنّما هو أثر تلك الطبيعة الغاشمة العاتية المائلة إلى الغيّ والانحراف عن جادّة الحقّ الصراح فكأنّما عجنت جبلّتهم بالغثاث واللجاج :

(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) فكأنّما أشرب قلوبهم الجنوح نحو الباطل ومن ثمّ ذاك الجموح أمام الحقّ.

والإشراب في القلوب أبدع تصوير لحالتهم التعنّتيّة الزائفة فهي صورة فريدة. لقد أشربوا فكانت حالة انفعاليّة متميّعة لا صلابة فيها ولا ثبات.

وأشربوا ماذا؟ أشربوا العجل وما هي إلّا صورة ساخرة هازئة ، صورة العجل يدخل في القلوب إدخالا ، ويحشر فيها حشرا ، حتّى ليكاد يذهب بمعنى الحبّ إلى أقصى مراتبه في التفاني وميوعة الذات وفي النهاية إلى التعامي في الحياة.

الأمر الذي استدعى أن لا يروا الحقّ حقّا ويرضخوا إلى ما عشقوه من الزهو الباطل فقد غطّيت وجوههم وختم على قلوبهم.

٣٧٧

ومن ثمّ فإنّ السياق هنا يلتفت من الخطاب إلى الحكاية كما يلتفت إلى المؤمنين ليطلعهم على ما كان من مهازل اليهود. ثمّ يلقّن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجبههم بالترذيل والتبشيع لهذا اللون من الإيمان العجيب الذي يدعوهم إلى الكفر بالدين المبين.

(قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

***

ولنعطف النظر إلى المأثور من أحاديث السلف بهذا الشأن.

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ)

[٢ / ٢٦٨٠] أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) قال : هو القرآن الذي أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) قال : من التوراة والإنجيل. وهكذا أخرج عن الربيع (١).

[٢ / ٢٦٨١] وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن قتادة في قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) قال : هو الفرقان الذي أنزل الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال أبو محمّد : وروي عن الربيع نحو ذلك (٢).

قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ)

[٢ / ٢٦٨٢] أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل من طريق عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري قال : حدّثني أشياخ منّا قالوا : لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منّا ، كان معنا يهود ، وكانوا أهل كتاب وكنّا أصحاب وثن ، وكنّا إذا بلغنا منهم ما يكرهون (٣) ، قالوا : إنّ نبيّا يبعث الآن قد أطلّ زمانه (٤) نتّبعه فنقتلكم معه (٥) قتل عاد وإرم ، فلمّا بعث الله رسوله اتّبعناه وكفروا به ، ففينا ـ والله ـ وفيهم أنزل الله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢١٥ ؛ الطبري ١ : ٥٧٧ / ١٢٥٢.

(٢) ابن أبي حاتم ١ : ١٧١ / ٩٠١.

(٣) أي اعتدينا عليهم. إشارة إلى ما كان من العرب حين تعلو على اليهود وتسطو عليهم.

(٤) أطلّ ـ بالطاء المهملة ـ أي أشرف. يقال : أطلّ الزمان أي قرب وأطلّ عليه أي أشرف.

(٥) أي في صحبته وفي ركابه. كما في قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ). (آل عمران ٣ : ١٤٦).

٣٧٨

كَفَرُوا ...) الآية كلّها. (١)

[٢ / ٢٦٨٣] وأخرج ابن جرير عن ابن أبي نجيح ، عن عليّ الأزدي في قوله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : اليهود ، كانوا يقولون : اللهمّ ابعث لنا هذا النبيّ يحكم بيننا وبين الناس ؛ (يَسْتَفْتِحُونَ) يستنصرون به على الناس. (٢)

[٢ / ٢٦٨٤] وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق السدّي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عبّاس. وعن مرّة عن ابن مسعود وناس من الصحابة في الآية قال : كانت العرب تمرّ باليهود فيؤذونهم ، وكانوا يجدون محمّدا في التوراة ، فيسألون الله أن يبعثه نبيّا فيقاتلون معه العرب ، فلمّا جاءهم محمّد كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل (٣).

[٢ / ٢٦٨٥] وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحّاك عن ابن عبّاس قال : كانت يهود بني قريظة وبني النضير من قبل أن يبعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستفتحون الله ، يدعون الله على الّذين كفروا ويقولون : اللهمّ إنّا نستنصرك بحقّ النبيّ الأمّيّ إلّا نصرتنا عليهم ، فينصرون : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) يريد محمّدا ولم يشكّوا فيه (كَفَرُوا بِهِ)(٤).

[٢ / ٢٦٨٦] وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال : كان يهود أهل المدينة قبل قدوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من أسد وغطفان وجهينة وعذرة ، يستفتحون عليهم ويستنصرون ، يدعون عليهم باسم نبي الله فيقولون : اللهم ربّنا انصرنا عليهم باسم نبيّك وبكتابك الذي تنزل عليه ، الذي وعدتنا إنّك باعثه في آخر الزمان (٥).

[٢ / ٢٦٨٧] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم عن قتادة قال : كانت اليهود تستفتح بمحمّد على كفّار العرب ، يقولون : اللهم ابعث النبيّ الذي نجده في التوراة ، يعذّبهم ويقتلهم ، فلمّا بعث الله محمّدا كفروا به حين رأوه بعث من غيرهم حسدا للعرب ، وهم يعلمون أنّه رسول الله (٦).

[٢ / ٢٦٨٨] وأخرج ابن جرير ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : كانت اليهود تستنصر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢١٥ ـ ٢١٦ ؛ الطبري ١ : ٥٧٧ ـ ٥٧٨ / ١٢٥٤ ؛ الدلائل ، البيهقي ٢ : ٧٥ ـ ٧٦ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٩.

(٢) الطبري ١ : ٥٧٨ ـ ٥٧٩ / ١٢٥٧.

(٣) الدرّ ١ : ٢١٦ ؛ الطبري ١ : ٥٧٩ / ١٢٦٠ عن السدّي.

(٤) الدرّ ١ : ٢١٦.

(٥) المصدر.

(٦) الدرّ ١ : ٢١٦ ؛ الطبري ١ : ٥٧٩ / ١٢٥٨.

٣٧٩

على مشركي العرب ، يقولون : اللهمّ ابعث هذا النبيّ الذي نجده مكتوبا عندنا ، حتّى يعذّب المشركين ويقتلهم! فلمّا بعث الله محمّدا ورأوا أنّه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب ، وهم يعلمون أنّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فقال الله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(١).

[٢ / ٢٦٨٩] وقال مقاتل بن سليمان : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ) أن يبعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولا (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) نظيرها في الأنفال : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) يعني إن تستنصروا بخروج محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مشركي العرب جهينة ومزينة وبني عذرة وأسد وغطفان ومن يليهم ، كانت اليهود إذا قاتلوهم قالوا : اللهمّ إنّا نسألك باسم النبي الذي نجده في كتابنا ، تبعثه في آخر الزمان ، أن تنصرنا فينصرون عليهم. فلمّا بعث الله ـ عزوجل ـ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير بني إسرائيل كفروا به وهم يعرفونه ، فذلك قوله ـ سبحانه ـ : (فَلَمَّا جاءَهُمْ) محمّد (ما عَرَفُوا) أي بما عرفوا من أمره في التوراة (كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) يعني اليهود (٢).

[٢ / ٢٦٩٠] وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل عن ابن عبّاس قال : كانت يهود خيبر تقاتل غطفان ، فكلّما التقوا هزمت يهود ، فعاذت بهذا الدعاء : اللهم إنّا نسألك بحقّ محمّد النبيّ الأمّي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلّا نصرتنا عليهم ، فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا فهزموا غطفان ، فلمّا بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفروا به ، فأنزل الله (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني وقد كانوا يستفتحون بك يا محمّد إلى قوله (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(٣).

[٢ / ٢٦٩١] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عبّاس. إنّ اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل مبعثه ، فلمّا بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذبن جبل وبشر بن البراء وداوود بن سلمة : يا معشر يهود ، اتّقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد ونحن أهل شرك ، وتخبرونا بأنّه مبعوث ، وتصفونه بصفته! فقال سلام بن مشكم ـ أخو بني النضير ـ : ما جاءنا بشيء

__________________

(١) الطبري ١ : ٥٧٩ / ١٢٥٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٧٢ / ٩٠٦ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٩.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١٢٢.

(٣) الدرّ ١ : ٢١٦ ـ ٢١٧ ؛ الحاكم ٢ : ٢٦٣ ، وقال : وهو حديث غريب وإنّما أخرجته لضرورة التفسير ؛ أسباب نزول الآيات : ١٦ ـ ١٧ ؛ الوسيط ١ : ١٧٣ ؛ القرطبي ٢ : ٢٧.

٣٨٠