التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

لا يقتل بعضكم بعضا ، (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) ونفسك يا ابن آدم أهل ملّتك! (١).

[٢ / ٢٥٦٥] وفي رواية عنه في قوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) يقول : لا يقتل بعضكم بعضا بغير حقّ ، فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملّتك ودعوتك (٢).

[٢ / ٢٥٦٦] وقال الإمام أبو محمّد العسكري عليه‌السلام في قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) : «واذكروا يا بني إسرائيل حين أخذنا ميثاقكم [أي أخذنا ميثاقكم] على أسلافكم ، وعلى كلّ من يصل إليه الخبر بذلك من أخلافهم الّذين أنتم منهم (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) لا يسفك بعضكم دماء بعض (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) ولا يخرج بعضكم بعضا من ديارهم (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بذلك الميثاق كما أقرّ به أسلافكم ، والتزمتموه كما التزموه (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) بذلك على أسلافكم وأنفسكم» (٣).

[٢ / ٢٥٦٧] وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) يقول : لا يقتل بعضكم بعضا (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) يقول : لا يخرج بعضكم بعضا من الديار ، (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بهذا الميثاق (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) يقول : وأنتم شهود (٤).

[٢ / ٢٥٦٨] وقال مقاتل بن سليمان : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) في التوراة يعني ولقد أخذنا ميثاقكم في التوراة (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) يقول لا يقتل بعضكم بعضا (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ) يعني لا يخرج بعضكم بعضا (مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بهذا (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أنّ هذا في التوراة (٥).

[٢ / ٢٥٦٩] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أنّ هذا حقّ من ميثاقي عليكم (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي أهل الشرك حتّى تسفكوا دماءكم معهم (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) قال : تخرجونهم من ديارهم معهم (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) فكانوا إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت بنو النضير وبنو قريظة مع الأوس ، وظاهر كلّ واحد من الفريقين حلفاءه على

__________________

(١) الطبري ١ : ٥٥٦ / ١٢٠٧.

(٢) المصدر بعد حديث ١٢٠٨.

(٣) تفسير الإمام عليه‌السلام : ٣٦٧ / ٢٥٧ ؛ البرهان ١ : ٢٦٩ / ١ ؛ البحار ٩ : ١٨٠ / ٨ ، باب ١ ؛ الصافي ١ : ٢٢٧.

(٤) الدرّ ١ : ٢١١ ؛ الطبري ١ : ٥٥٦ ـ ٥٥٧ / ١٢٠٨ و ١٢٠٩ و ١٢١١.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ١٢٠.

٣٤١

إخوانه حتّى تسافكوا دماءهم ، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقا لما في التوراة (١).

[٢ / ٢٥٧٠] وأخرج ابن جرير عن أسباط ، عن السدّيّ في قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) قال : إنّ الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا ، وأيّما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه فأعتقوه. فكانت قريظة حلفاء الأوس ، والنضير حلفاء الخزرج ، فكانوا يقتتلون. فتقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفاءها. وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها فيغلبونهم ، فيخرّبون بيوتهم ويخرجونهم منها ، فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتّى يفدوه ، فتعيّرهم العرب بذلك ، ويقولون : كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا : إنّا أمرنا أن نفديهم وحرّم علينا قتالهم ، قالوا : فلم تقاتلونهم؟ قالوا : إنّا نستحيي أن تستذلّ حلفاؤنا. فذلك حين عيّرهم ـ جلّ وعزّ ـ فقال : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)(٢).

[٢ / ٢٥٧١] وأخرج عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) يقول : إن وجدته في يد غيرك فديته وأنت تقتله بيدك؟ (٣)

[٢ / ٢٥٧٢] وقال الطبرسي في قوله تعالى : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) : معناه : لا يقتل بعضكم بعضا لأنّ في قتل الرجل منهم الرجل قتل نفسه إذا كانت ملّتهما واحدة ودينهما واحدا. وأهل الدين الواحد بمنزلة الرجل الواحد في ولاية بعضهم بعضا. قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر» (٤).

قال : هذا قول قتادة وأبي العالية (٥).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢١١ ؛ الطبري ١ : ٥٥٧ و ٥٦٢ / ١٢١٠ و ١٢١٧ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٦٣ ـ ١٦٤ / ٨٥٤ و ٨٥٦ و ٨٥٩ و ٨٦٠.

(٢) الطبري ١ : ٥٦٠ / ١٢١٣ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٦٣ ـ ١٦٤ / ٨٥٧ بمعناه ؛ أبو الفتوح ٢ : ٤٢. وكذا عن ابن عبّاس وعكرمة ؛ الثعلبي ١ : ٢٣١.

(٣) الطبري ١ : ٥٦٢ / ١٢١٨ ؛ الثعلبي ١ : ٢٣١.

(٤) البخاري ٧ : ٧٧ ـ ٧٨ ، كتاب الأدب.

(٥) مجمع البيان ١ : ٢٨٨.

٣٤٢

[٢ / ٢٥٧٣] وقال مقاتل بن سليمان : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ) يعني الهوان (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فكان خزي أهل قريظة القتل والسبي وخزي أهل النضير الجلاء والنفي من منازلهم وجنّاتهم التي بالمدينة إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام فكان هذا خزيا لهم وهوانا لهم (١).

***

[٢ / ٢٥٧٤] وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) قال : استحبّوا قليل الدنيا على كثير الآخرة (٢).

[٢ / ٢٥٧٥] وقال مقاتل بن سليمان : ثمّ نعتهم فقال ـ سبحانه ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا) يعني اختاروا (الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) يقول باعوا الآخرة بالدنيا ممّا يصيبون من سفلة اليهود من المآكل (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) في الآخرة (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يعني ولا هم يمنعون من العذاب (٣).

[٢ / ٢٥٧٦] وروي عن الإمام العسكري عليه‌السلام قال : «ثمّ وصفهم فقال ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) رضوا بالدنيا وحطامها بدلا من نعيم الجنان المستحق بطاعات الله (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لا ينصرهم أحد يرفع عنهم العذاب» (٤).

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ١٢٠.

(٢) الدرّ ١ : ٢١٢ ؛ الطبري ١ : ٥٦٧ / ١٢٢٣ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٦٧ / ٨٧٧.

(٣) تفسير مقاتل ١ : ١٢١.

(٤) تفسير الإمام عليه‌السلام : ٣٦٨ / ذيل ٢٥٧ ؛ البرهان ١ : ٢٧٠ / ذيل ١ ؛ البحار ٩ : ١٨١ / ذيل ٨ ، باب ١.

٣٤٣

قال تعالى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨))

وهنا يمضي السياق ليواجه بني إسرائيل بمواقفهم الشانئة تجاه النبوّات ، تجاه الأنبياء أنبيائهم هم ، وما كان من سوء صنيعهم معهم ، كلّما جاؤوهم بالحقّ جابهوهم بالجحود والعصيان.

وهذا في الحقيقة ردّ على تعاليلهم المزعومة لرفض الإسلام ، بأنّ لديهم من شرائع أنبيائهم ما فيه الكفاية وأنّهم متّبعون لأنبياء كانوا منهم وفيهم الكفاءة فلا حاجة إلى شرائع جاءت على يد غيرهم من سائر الناس.

وهنا يأتي القرآن ليفنّد مزعومتهم هذه في اتّباع الرسل والالتزام بشرائع سالفة.

(أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ).

[٢ / ٢٥٧٧] قال مقاتل بن سليمان : يقول الله ـ عزوجل ـ : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) يعني اليهود (اسْتَكْبَرْتُمْ) يعنى تكبّرتم عن الإيمان برسولي يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) يعني طائفة من الأنبياء كذّبتم منهم عيسى ومحمّد عليهما‌السلام (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) يعنى وطائفة قتلتموهم منهم زكريّا ويحيى والأنبياء أيضا (١).

نعم إنّ محاولة إخضاع معالم الهدى وشريعة الوحي للهوى الطارىء والنزوة المتقلّبة ، ظاهرة تبدو كلّما فسدت الفطرة وانطمست فيها عدالة المنطق السليم.

ولقد قصّ الله على المسلمين من أنباء إسرائيل ما يحذّرهم من الوقوع في مثله ، حتّى لا تسلب منهم الخلافة في الأرض ، ولا الأمانة التي نالها الله لهم.

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ١٢١.

٣٤٤

وأشنع من ذلك تعليلهم لتصرّفاتهم تلك الشانئة ، بأنّها من أثر صمود قلوبهم فلا ينفذ فيها عظة ولا ينفعها تذكار ، وهم مجبولون على ذلك وبذلك حاولوا سلب المسؤوليّة عن أنفسهم بأعذار هي أشنع من الفعال.

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) مغلّفة مغلّقه لا تنفذ فيها دعوة ولا تنفعها نصيحة ، ولكنّهم كذبوا في وقاحة ولهجوا في شراسة (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أبعدهم الله بسبب لجاجهم وعنادهم مع الحقّ الصريح ، فهم أغلقوا على أنفسهم أبواب الفهم وإدراك الحقيقة الناصعة ومن ثمّ ـ (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) أي قليل منهم يؤمنون ممّن راجعوا أنفسهم وفتحوا مغاليق قلوبهم ، الأمر الذي قد يتّفق لقليل منهم.

وإليك أهمّ ما روي بهذا الشأن :

[٢ / ٢٥٧٨] أخرج ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس في قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) قال : يعني التوراة جملة واحدة مفصّلة محكمة (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) يعني : رسولا يدعى إشموئيل ، ورسولا يدعى منشائيل ، ورسولا يدعى شعيا ، ورسولا يدعى حزقيل ، ورسولا يدعى أرميا بن حلقيا وهو الخضر ، ورسولا يدعى داوود بن إيشا وهو أبو سليمان ، ورسولا يدعى المسيح عيسى بن مريم ، فهؤلاء الرسل ابتعثهم الله وانتخبهم للأمّة بعد موسى بن عمران ، وأخذ عليهم ميثاقا غليظا أن يؤدّوا إلى أممهم صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفة أمّته (١).

[٢ / ٢٥٧٩] وقال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) : يقول : وأعطينا عيسى ابن مريم العجائب التي كان يصنعها من خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله (٢).

[٢ / ٢٥٨٠] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : هي الآيات التي وضعت على يده من إحياء الموتى ، وخلقه من الطين كهيئة الطير ، وإبراء الأسقام ، والخبر بكثير من الغيوب ، وما ردّ عليهم من التوراة مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه (٣).

__________________

(١) ابن عساكر ٨ : ٣٣ ، فصل ٥٨٩ (أرميابن حلقيا) ؛ الدرّ ١ : ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١٢١.

(٣) الدرّ ١ : ٢١٣ ؛ الطبري ١ : ٥٦٨ / ١٢٢٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٦٨ / ٨٨١.

٣٤٥

قوله تعالى : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)

اختلفت الروايات عن السلف بشأن تفسير «روح القدس» هنا وفي مواضع من القرآن الكريم.

[٢ / ٢٥٨١] فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والثعلبي وغيرهم من أعلام المفسرين بإسنادهم إلى عبد الله بن عبّاس قال : «روح القدس ، هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى بن مريم يحيي به الموتى ويري الناس تلك العجائب» (١).

[٢ / ٢٥٨٢] وأخرج ابن أبي حاتم والبخاري بالإسناد إلى ابن مسعود قال : «روح القدس جبريل» (٢).

[٢ / ٢٥٨٣] وهكذا أخرج أبو الشيخ عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «روح القدس جبريل» (٣).

[٢ / ٢٥٨٤] وأخرج ابن أبي حاتم عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله تعالى : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) قال : أعانه جبريل (٤).

[٢ / ٢٥٨٥] وأخرج ابن جرير بالإسناد إلى عبد الرزّاق عن معمر عن قتادة قال : روح القدس هو جبريل (٥).

[٢ / ٢٥٨٦] وهكذا عن الضحّاك قال : روح القدس : جبريل (٦).

[٢ / ٢٥٨٧] وعن السدّي قال : هو جبريل عليه‌السلام (٧).

[٢ / ٢٥٨٨] وعن الربيع قال : أيّد عيسى بجبريل وهو روح القدس (٨).

[٢ / ٢٥٨٩] وأخرج ابن جرير عن ابن وهب عن ابن زيد قال : أيّد الله عيسى بن مريم بالإنجيل

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢١٣ ؛ الطبري ١ : ٥٦٩ ـ ٥٧٠ / ١٢٣٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٦٩ / ٨٨٦ ؛ الثعلبي ١ : ٢٣٣ ، أخرجه عن ابن عبّاس وسعيد بن جبير وعبيد بن عمير. أبو الفتوح ١ : ٢٩٥ ؛ التبيان ١ : ٣٤٠ ؛ مجمع البيان ١ : ٢٩٥ ؛ البغوي ١ : ١٤١ ؛ القرطبي ٢ : ٢٤ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٧.

(٢) ابن أبي حاتم ١ : ١٦٨ / ٨٨٤ ؛ البخاري ٥ : ٢٢٢ ، كتاب التفسير ، سورة النحل ، ولم يذكر الراوي ؛ ابن كثير ١ : ١٢٧.

(٣) العظمة ٢ : ٧٧٦ ـ ٧٧٧ / ٣٥٢ ـ ١٤ ، باب ذكر الملائكة الموكّلين في السماوات والأرض.

(٤) ابن أبي حاتم ١ : ١٦٨ / ٨٨٣.

(٥) الطبري ١ : ٥٦٩ / ١٢٢٦ ؛ الثعلبي ١ : ٢٣٣ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٧٩ / ٨٤.

(٦) الطبري ١ : ٥٦٩ / ١٢٢٨ ؛ الثعلبي ١ : ٢٣٣.

(٧) الطبري ١ : ٥٦٩ / ١٢٢٧.

(٨) المصدر / ١٢٢٩.

٣٤٦

روحا ، كما جعل القرآن روحا ، كلاهما روح الله ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا)(١). (٢).

[٢ / ٢٥٩٠] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي نجيح قال : الروح : حفظة من الملائكة (٣).

[٢ / ٢٥٩١] وأخرج عن الربيع بن أنس قال : القدس هو الربّ تبارك وتعالى (٤).

[٢ / ٢٥٩٢] وهكذا روي عن مجاهد والحسن قالا : القدس هو الله تعالى وروحه جبريل (٥).

[٢ / ٢٥٩٣] وعن السدّي قال : القدس البركة (٦).

[٢ / ٢٥٩٤] وعن ابن عبّاس قال : القدس المطهّر (٧).

[٢ / ٢٥٩٥] وأخرج الزبير بن بكّار في أخبار المدينة عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كلّمه روح القدس لن يؤذن للأرض أن تأكل من لحمه» (٨).

والظاهر : أنّ الضمير يرجع إلى نفسه الكريمة ، فلا يؤذن للأرض أن تأكل من لحمه بعد الدفن ، وذلك ببركة روح القدس الذي أفاض عليه أنوار الملكوت.

[٢ / ٢٥٩٦] وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله تعالى : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) قال : الله القدس ، وأيّد عيسى بروحه. قال : نعت الله ، القدس. وقرأ قول الله ـ جلّ ثناؤه ـ : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) قال : القدس والقدّوس واحد (٩).

[٢ / ٢٥٩٧] وعن عطاء بن يسار ، قال : قال : نعت الله : القدس (١٠).

__________________

(١) الشورى ٤٢ : ٥٢.

(٢) الطبري ١ : ٥٦٩ / ١٢٣١ ؛ الثعلبي ١ : ٢٣٣ ، بلفظ : وقال ابن زيد : هو الإنجيل جعل لعيسى روحا كما جعل القرآن لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم روحا. قال : يدلّ عليه قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) ؛ مجمع البيان ١ : ٢٩٥ ، بلفظ : وقال ابن زيد : المراد بروح القدس الإنجيل كما سمّي القرآن روحا ... قال : فكذلك سمّي الإنجيل روحا ؛ التبيان ١ : ٣٤٠ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٥١ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٧.

(٣) ابن أبي حاتم ١ : ١٦٩ / ٨٨٥ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٧.

(٤) ابن أبي حاتم ١ : ١٦٩ / ٨٨٧.

(٥) القرطبي ٢ : ٢٤ ؛ التبيان ١ : ٣٤١ عن ابن زيد ؛ ابن كثير ١ : ١٢٧.

(٦) ابن أبي حاتم ١ : ١٦٩ / ٨٨٨.

(٧) المصدر / ٨٨٩.

(٨) الدرّ ١ : ٢١٣.

(٩) الطبري ١ : ٥٧٠ ـ ٥٧١ / ١٢٣٥ ؛ التبيان ١ : ٣٤١.

(١٠) الطبري ١ : ٥٧١ / ١٢٣٦.

٣٤٧

الروح في المصطلح القرآني

جاء استعمال لفظة الروح في القرآن مكرّرة (١) ، مضافة ومفردة أو موصوفة ويختلف معناها حسب الموارد. وأكثر استعمالها في سور مكّيّة :

أولاها سورة القدر (٢) : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ).

ثانيتها سورة ص (٣) : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).

ثالثتها سورة مريم (٤) : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا).

رابعتها سورة الشعراء (٥) : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ).

خامسها سورة الإسراء (٦) : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

فإذا لاحظنا أنّ السؤال هنا ـ في سورة الإسراء ـ ناظر إلى ما ورد في السور الأربع قبلها ، مع العلم بأنّ الروح في سورة القدر وفي سورة مريم ، هو المراد به في سورة الشعراء : جبرائيل عليه‌السلام لأنّه الّذي نزل بالقرآن على قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تمثّل لمريم بشرا سويّا ، ويتنزّل مع الملائكة كلّ ليلة قدر.

أمّا الروح في سورة «ص» فمراد به الروح الّتي نفخها الله في آدم ليكون مسجود الملائكة وهكذا الوارد في سورة الحجر المكيّة أيضا (٧).

وكذا الوارد في سورة السجدة المكّيّة : (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ)(٨) هي الروح الملكوتيّة المنفوخة في الإنسان ليصبح خليفة الله في الأرض وهو المعبّر عنه في سورة المؤمنون المكيّة

__________________

(١) أكثر من عشرين مرّة.

(٢) رقم نزولها بمكة : ٢٥. رقم ثبتها في المصحف : ٩٧.

(٣) رقم نزولها بمكة : ٣٨. رقم ثبتها في المصحف : ٣٨ ، الآية : ٧٢.

(٤) رقم نزولها بمكة : ٤٤. رقم ثبتها في المصحف : ١٩ ، الآية ١٧.

(٥) رقم نزولها بمكة : ٤٧. رقم ثبتها في الصحف : ٢٦ ، الآية : ١٩٣.

(٦) رقم نزولها بمكة : ٥٠. رقم ثبتها في الصحف : ١٧ ، الآية : ٨٥.

(٧) (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) الحجر ١٥ : ٢٩ رقمها المكّي : ٥٤.

(٨) السجدة ٣٢ : ٩ رقمها المكّي : ٧٥.

٣٤٨

بالخلق الآخر : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)(١) خلقا آخر ملكوتيّا مترفّعا عن سائر الأحياء الأرضيّين ومن ثمّ بارك الله نفسه في هذه الخلق البديع.

[٢ / ٢٥٩٨] قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّ الله ـ عزوجل ـ خلق خلقا وخلق روحا ، ثمّ أمر ملكا فنفخ فيه» (٢) وهذه الروح مخلوقة لله تعالى من الصفوة وخصّ بها أصفياء خلقه آدم وذرّيّته وكانت نسبتها إلى الله نسبة تشريف حيث مقام الاصطفاء فكانت ذات مقام ملكوتي رفيع.

[٢ / ٢٥٩٩] روى الصدوق بإسناده الصحيح عن عمر بن أذينة عن محمّد بن مسلم قال : سألت الإمام أبا جعفر الباقر عليه‌السلام عن قوله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) قال : «روح اختاره الله واصطفاه وخلقه ، وأضافه إلى نفسه ، وفضّله على جميع الأرواح ، فأمر فنفخ منه في آدم» (٣).

[٢ / ٢٦٠٠] وروى بالإسناد الصحيح إلى الحلبيّ وزرارة عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أحد ، صمد ، ليس له جوف. وإنّما الروح خلق من خلقه : نصر وتأييد وقوّة ، يجعله الله في قلوب الرسل والمؤمنين» (٤).

ولعلّ المراد به في هذا الحديث هي الّتي جاءت الإشارة إليها في قوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)(٥). أي روحانيّة مترفّعة عن أدناس الحياة الدنيا (٦).

[٢ / ٢٦٠١] وروى بالإسناد إلى محمّد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر الباقر عليه‌السلام عن قوله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) فقال : «وإنّما أضافه إلى نفسه لأنّه اصطفاه على سائر الأرواح ، كما اصطفى بيتا من البيوت فقال : بيتي (٧). وقال لرسول من الرسل : خليلي (٨) وأشباه ذلك. قال : وكلّ ذلك مخلوق مصنوع محدث مربوب مدبّر» (٩).

[٢ / ٢٦٠٢] وروى بالإسناد إلى أبي جعفر الأصمّ قال : سألت أبا جعفر الباقر عليه‌السلام عن الروح التي في

__________________

(١) المؤمنون ٢٣ : ١٤ رقمها المكّي : ٧٤.

(٢) البحار : ٥٨ : ٣٢ / ٥ ؛ التوحيد : ١٧٢ / ٦ ، باب ٢٧.

(٣) التوحيد : ١٧٠ / ١ ، باب ٢٧.

(٤) المصدر : ١٧١ / ٢.

(٥) المجادلة ٥٨ : ٢٢ مدنيّة رقم نزولها : ١٠٦.

(٦) راجع : كتاب التوحيد : ١٧١ / ٢.

(٧) البقرة ٢ : ١٢٥. والحجّ ٢٢ : ٢٦.

(٨) النساء ٤ : ١٢٥.

(٩) التوحيد : ١٧١ / ٣.

٣٤٩

آدم والتي في عيسى ما هما؟ قال : «روحان مخلوقان ، اختارهما واصطفاهما ، روح آدم وروح عيسى عليهما‌السلام» (١).

[٢ / ٢٦٠٣] وبالإسناد إلى سيف بن عميرة عن أبي بصير عن الإمام أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ،) قال : «من قدرتي» (٢). أي الروح المنفوخة في آدم أيضا مخلوقة بقدرتي وواقعة في قبضتي والنسبة إليه تعالى تشريف ، وإلّا فكلّ ما في الوجود مخلوق لله وواقع تحت قدرته تعالى ... فذلك نظير قوله تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ)(٣) أي كان تحت عنايتنا الخاصّة.

***

ورجّح جمهور المفسّرين أن يكون السؤال عن الروح بهذا المعنى وهي الروح التي بها حياة الإنسان وبها تكون حقيقته وأصله وهي التي اختلفت أنظار الفلاسفة منذ القديم في معرفة حقيقتها وبما أنّها حقيقة ملكوتيّة ، كانت الأنظار الماديّة قاصرة عن إدراكها وعن تعقّلها كما هي! (٤)

ويتأيّد ذلك ما ورد أنّ الباعث لقريش في سؤالهم هذا ، هم اليهود ، سألتهم قريش أن يعرّفوهم شيئا يسألون عنه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليستخبروا حاله ، أهو نبيّ كما يقول ، أم يدّعي أمرا لا ينبغي له؟! فأوعز إليهم اليهود أن يسألوه عن الروح ، وهم يعلمون أنّه من مشاكل المسائل التي عطبت فيها أفهام فطاحل الحكماء.

[٢ / ٢٦٠٤] روى محمّد بن إسحاق بإسناده إلى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عبّاس قال : إنّ قريشا بعثت النضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط إلى يثرب ، ليسألا أحبار اليهود عن أخبار نبيّ ظهر بينهم ، فهل يجدون صفته عندهم؟ فخرجا حتّى قدما المدينة وسألا الأحبار عن شأن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) المصدر : ١٧٢ / ٤.

(٢) المصدر / ٥.

(٣) سورة ص ٣٨ : ٧٥.

(٤) قال ابن عاشور : قال الجمهور : المسؤول عنه هو الروح الإنسانية ، لأنّه الأمر المشكل الّذي لم تتّضح حقيقته. وأمّا الروح بمعنى الملك أو روح الشريعة فهما من المصطلح القرآني الحديث. وقد ثبت أنّ اليهود سألوا عن الروح بذاك المعنى ، لأنّه الوارد في أوّل سفر التكوين من التوراة في الأصحاح الأوّل : «وروح الله يرفّ على وجه المياه» وليس الروح بالمعنيين الأخريين بوارد في كتبهم. (التحرير والتنوير ١٤ : ١٥٥).

٣٥٠

فقال لهما الأحبار : سلوه عن ثلاث مسائل : عن الفتية أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الروح حتّى يظهر لكم صدق نبوّته.

فقدما مكّة وعرضت قريش الأسئلة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فسألوه عن ذي القرنين ، فجاء الوحي : (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً)(١).

وهكذا ذكر تعالى قصّة أصحاب الكهف مع شيء من التفصيل (٢).

وأما السؤال عن الروح فجاء في سورة الإسراء ، مع الإجمال في الجواب ، حيث لا مجال حينذاك ولا مقتضى للتفصيل والبيان ، بعد قصور أفهام العرب عن إدراك هكذا مسائل مستعصية.

قال سيّد قطب : وليس في هذا حجر على العقل البشري أن يعمل. ولكن فيه توجيها لهذا العقل أن يعمل في حدوده وفي مجاله الّذي يدركه. فلا جدوى في الخبط في التيه ، ومن إنفاق الطاقة فيما لا يملك العقل إدراكه ، لأنّه لا يملك وسائل إدراكه (٣).

قلت : الجواب واف شاف ، وليس إقناعيّا محضا وتملّصا عن الجواب الصريح ـ كما زعم ـ بل الحقيقة هي : أنّ الروح الإنسانيّة هي من سنخ الملكوت الأعلى «هبطت إليك من المكان الأرفع». فإذ لم يكن باستطاعة مدركات الإنسان أن تدرك ما وراء عالم الحسّ والشهود ، إذ ما لديه من وسائل الإدراك إنّما خصّت بما يسانخها من مدركات ، فلا مجال لفهم ما سواها سوى الإذعان بوجودها وأنّها من عالم أعلا ومن أمر الله. أي شأنه شأن سائر المغيّبات وراء عالم الملكوت.

***

والسورة السادسة ـ الّتي جاء فيها ذكر الروح ـ هي سورة الحجر المكيّة (٤). وآيتها عين آية سورة «ص» (٥) ـ وكانت ثانية السور في ذلك ـ وهي قوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).

__________________

(١) الكهف ١٨ : ٨٣.

(٢) الكهف ١٨ : ٩ ـ ٢٦. رقم نزولها : ٦٩.

(٣) في ظلال القرآن ٥ : ٣٥٧.

(٤) رقم نزولها : ٥٤. رقم ثبتها في المصحف : ١٥. الآية : ٢٩.

(٥) رقم نزولها : ٣٨. رقم ثبتها في المصحف : ٣٨. الآية : ٧٢.

٣٥١

والسابعة سورة غافر (١) : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).

والثامنة سورة الشورى (٢) : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا).

والتاسعة سورة النحل (٣) : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).

والروح في هذه المواضع الثلاثة يراد به منهاج الشريعة الهادي إلى طريق الرشاد. وفيه الحياة والسعادة والهناء. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ)(٤).

والآية في سورة الشورى هكذا تبتدىء : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)(٥).

وهكذا في السورتين الأخريين كان السياق فيهما سياق التبشير والإنذار.

***

وفي سورة النحل أيضا قوله : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) يراد به جبرائيل رسول الوحي إلى الأنبياء عليهم‌السلام وهو الروح الأمين الّذي نزل بالقرآن على قلب سيّد المرسلين (٦).

وسنتكلّم عن روح القدس الّذي يتأيّد به الأنبياء عليهم‌السلام. وقد جاء التعبير به في سور مدنية (٧).

__________________

(١) رقم نزولها بمكة : ٦٠. رقم ثبتها في المصحف : ٤٠. الآية : ١٥.

(٢) رقم نزولها بمكة : ٦٢. رقم ثبتها في المصحف : ٤٢. الآية : ٥٢.

(٣) رقم نزولها بمكة : ٧٠. رقم ثبتها في المصحف : ١٦. الآية : ٢.

(٤) الأنفال ٨ : ٢٨.

(٥) الشورى ٤٢ : ٥١ ـ ٥٣.

(٦) الشعراء ٢٦ : ١٩٣.

(٧) البقرة ٢ : ٨٧ و ٢٥٣. والمائدة ٥ : ١١٠.

٣٥٢

والسورة العاشرة سورة الأنبياء (١) : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا). والآية بعينها تكرّرت في سورة مدنيّة : سورة التحريم : (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا)(٢).

غير أنّ الموصول في سورة الأنبياء جاء عطفا ، وفي سورة التحريم وصفا.

أمّا اختلاف التأنيث والتذكير فتنوّع في الكلام تارة نظرا إلى ذات الشيء ، وأخرى إلى متعلّقه كقولك : نظرت إلى وجه هند فرأيتها جميلة أو فرأيته جميلا.

والروح هنا هو الروح في قوله تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)(٣). فقد كان عيسى عليه‌السلام روحا منه سبحانه ألقاه إلى مريم وشرّفها به وجعلها وابنها آية للعالمين (٤).

***

والحادية عشرة سورة السجدة (٥) : (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) مرادا به الروح الإنسانيّة المفاضة على الإنسان من ملكوت أعلا. كما مرّ الحديث عنه في سورة ص برقم ٢. وسورة الحجر برقم ٦.

والثانية عشرة سورة المعارج (٦) : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ).

وهذه الروح الصاعدة الرافعة ببركات الأرض ، هي التي نزلت ببركات السماء ليلة القدر (٧). فكان هذا العروج إيذانا بنهاية الحياة على الأرض ، للحشر على صعيد القيامة.

وهي التي تقوم صفا مع الملائكة يوم الحساب تنتظر أمر الإله كما في السورة التالية :

__________________

(١) رقم نزولها بمكة : ٧٣. رقم ثبتها في المصحف : ٢١. الآية : ٩١.

(٢) التحريم ٦٦ : ١٢. رقم نزولها : ١٠٨.

(٣) النساء ٤ : ١٧١. رقم نزولها : ٩٢.

(٤) الأنبياء ٢١ : ٩١.

(٥) رقم نزولها بمكة : ٧٥. رقم ثبتها في المصحف : ٣٢. الآية : ٩.

(٦) رقم نزولها بمكة : ٧٩. رقم ثبتها في المصحف : ٧٠. الآية : ٤.

(٧) ولعلّه إلى ذلك ينظر ما أخرجه الزبير بن بكّار في أخبار المدينة عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كلّمه روح القدس لن يؤذن للأرض أن تأكل من لحمه». (الدرّ ١ : ٢١٣). والظاهر أنّ الضمير يرجع إلى نفسه الكريمة. فلا تأكل الأرض لحمه بعد الدفن. حيث وقايته بالكلمة الّتي ألقاها إليه روح القدس .. وقد تقدم الحديث.

٣٥٣

والثالثة عشرة سورة النبأ (١) : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً. ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً).

ذكر الشيخ أبو جعفر الطوسي : أنّ الروح النازل بالبركات ليلة القدر ، والروح الصاعد بها إلى السماء ، كلاهما في الموردين

هو جبرائيل عليه‌السلام (٢) لأنّه الّذي ينزل بالروح من أمره على من يشاء من عباده (٣) وأخيرا يعرج به في نهاية المطاف.

قاله بشأن الروح في قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا ...) : قال الضحّاك والشعبي : الروح هو جبرائيل عليه‌السلام. وقال ابن مسعود وابن عبّاس : ملك من أعظم الملائكة خلقا. قال الشيخ : وهو المرويّ في أخبارنا (٤).

قلت : إذا كان النازل بروح الله والصاعد به هو جبرائيل ، فليكن المسؤول والشاهد على إقامته باستقامة أو انحراف في مسرح الحياة ، شهادة صادقة يوم الحساب هو جبرائيل أيضا الأمر الّذي تستدعيه المناسبة القريبة.

والقول بأنّه ملك من أعظم الملائكة لا ينافي كونه جبرائيل ، لأنّه من أعظم الملائكة خلقا وقربا إليه تعالى.

والأخبار التي أشار إليها الشيخ ، لعلّها ناظرة إلى روح القدس الّذي يرافق الأنبياء والأئمّة وصالحي المؤمنين. وهي نفحة رحمانيّة ، ذات قدسيّة ملكوتيّة (٥) ، جاءت تسدّد خطى الأولياء المقرّبين وتؤيّدهم وتهديهم حيث سبيل الصواب ولا شكّ أنّها ذات مراتب متصاعدة حسب ارتقائهم على مدارج الكمال.

وإليك بعض الحديث عنه :

__________________

(١) رقم نزولها بمكة : ٨٠. رقم ثبتها في المصحف : ٧٨. الآية : ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) راجع : التبيان ١٠ : ٣٨٦ بتفسير سورة القدر. و : ١١٤ بتفسير سورة المعارج.

(٣) النحل ١٦ : ٢.

(٤) التبيان ١٠ : ٢٤٩.

(٥) كما في رواية الصفار عن الصادق عليه‌السلام. البصائر : ٤٦٢ / ٩.

٣٥٤

روح القدس

قال تعالى ـ بشأن عيسى بن مريم عليهما‌السلام ـ : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ...)(١).

وقال : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)(٢) وتكرّرت (٣).

وقال تعالى ـ بشأن صالحي المؤمنين ـ : (... أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ...)(٤).

[٢ / ٢٦٠٥] قال عليّ بن إبراهيم القمي : الروح ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مع الأئمّة (٥). وهو من الملكوت ـ كما في رواية الصفّار ـ (٦).

[٢ / ٢٦٠٦] وهكذا روى الصفّار بإسناده إلى أبي الصباح الكناني عن أبي بصير ، سأل الإمام الصادق عليه‌السلام عن ذلك فقال : «خلق من خلق الله ، أعظم من جبرائيل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره ويسدّده ، وهو مع الأئمّة من بعده» (٧).

[٢ / ٢٦٠٧] وفي رواية يونس عنه قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن هذه الروح ، فقال : «يا أبا محمّد ، خلق والله أعظم من جبرائيل وميكائيل ، وقد كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره ويسدّده ، وهو مع الأئمّة يخبرهم ويسدّدهم» (٨).

[٢ / ٢٦٠٨] وعن سلّام بن المستنير عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «إنّه أي الروح الذي هبط إلى رسول الله يرافقه ويسدّده ـ لم يصعد إلى السماء منذ هبط ، ولا يزال يسدّد الأئمّة من بعده. وبذلك روايات كثيرة» (٩).

***

[٢ / ٢٦٠٩] وروي بالإسناد إلى محمّد بن الفضيل عن أبي حمزة ، قال : سألت أبا عبد الله

__________________

(١) المائدة ٥ : ١١٠. مدنيّة رقم نزولها : ١١٣.

(٢) البقرة ٢ : ٨٧. مدنيّة. رقم نزولها : ٨٧.

(٣) البصائر : ٢٥٣.

(٤) المجادلة ٥٨ : ٢٢. مدنيّة. رقم نزولها : ١٠٦.

(٥) القمي ٢ : ٣٥٨.

(٦) البصائر : ٤٦٢ / ٩ ، باب ١٨.

(٧) المصدر : ٤٥٥ / ٢ ، باب ١٦.

(٨) المصدر / ١.

(٩) راجع : المصدر : ٤٥٥ ـ ٤٥٨ من رقم ٣ ـ إلى ـ ١٥.

٣٥٥

الصادق عليه‌السلام عن العلم ما هو؟ أعلم يتعلّمه العالم من أفواه الرجال أو في كتاب عندكم تقرأونه فتعلمون منه؟ فقال : «الأمر أعظم من ذلك وأجلّ! أما سمعت قول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ...)(١).

قال عليه‌السلام : بلى قد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان ، حتّى بعث الله إليه تلك الروح الّتي يعطيها الله من يشاء ، فإذا أعطاها عبدا علّمه الفهم والعلم» (٢).

[٢ / ٢٦١٠] وعن الحسن بن عليّ بن فضّال عن أبي جميلة عن محمّد الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أحد صمد ، والصمد الشيء الذي ليس له جوف (٣). وإنّما الروح خلق من خلقه ، له بصر وقوّة وتأييد ، يجعله الله في قلوب الرسل والمؤمنين» (٤).

[٢ / ٢٦١١] وعن المفضّل بن عمر عنه عليه‌السلام قال : «مثل المؤمن وبدنه كجوهرة في صندوق ، إذا خرجت الجوهرة منه طرح الصندوق ولم تتعب به. قال : إنّ الأرواح لا تمازج البدن ولا تداخله ، إنّما هي كالكلل للبدن محيطة به» (٥).

وفي الروايات تأكيد على أنّ الروح التي تسدّد الأنبياء والأئمّة والصلحاء ، غير جبرائيل عليه‌السلام بل خلق أعظم منه (٦).

***

وجاء في وصف روح القدس أنّها العاصمة للأنفس الزكيّة ، فلا تلهو ولا تقترف كبيرة ، وتجعلها على وعي أبدا.

[٢ / ٢٦١٢] روى الصفّار بالإسناد إلى الحسن بن جهم عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : «من سكن فيه روح القدس ، فإنّه لا يعمل بكبيرة أبدا» (٧).

__________________

(١) الشورى ٤٢ : ٥٢ ـ ٥٣.

(٢) البصائر : ٤٥٨ ـ ٤٦٠ / ١ ـ ٥ ، باب ١٧.

(٣) أي ليس لله روح في باطن جوفه كما في غيره من الأحياء.

(٤) البصائر : ٤٦٣ / ١٢ ، باب ١٨.

(٥) المصدر / ١٣.

(٦) راجع : البصائر : ٤٦٤ / ٣ و ٤ ، باب ١٩ ، والبحار ٢٥ : ٥٩.

(٧) البحار ٢٥ : ٥٥ / ١٤ ؛ البصائر : ٤٤٧ / ٣.

٣٥٦

[٢ / ٢٦١٣] وعن جابر الجحفي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «إنّ في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح : روح القدس وروح الإيمان وروح الحياة وروح القوّة وروح الشهوة. فبروح القدس علموا الأشياء كلّها قال : إنّ سائر الأرواح قد يصيبها الحدثان ، إلّا أنّ روح القدس لا يلهو ولا يلعب» (١).

[٢ / ٢٦١٤] وبالإسناد إلى حمران بن أعين عن جعيد الهمداني قال : سألت الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام : بأيّ حكم تحكمون؟ قال : «نحكم بحكم آل داوود ، فإن عيينا شيئا تلقّانا به روح القدس» (٢).

قوله : بحكم آل داوود ، أراد داوود نفسه وقد شاع هذا التعبير. قال ابن الأثير : ومنه الحديث : «لقد أعطي مزمارا من مزاير آل داوود» أراد : من مزامير داوود نفسه. والآل صلة. وقد تكرّر ذكر الآل في الحديث (٣).

قال العلّامة المجلسي : قوله : بحكم آل داوود ، أي نحكم بعلمنا ولا نسأل بيّنة. كما كان داوود يفعله أحيانا (٤).

[٢ / ٢٦١٥] وبالإسناد إلى الحسن بن العبّاس بن حريش عن الإمام أبي جعفر الثاني محمد بن علي الجواد عليه‌السلام يرفعه إلى الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «إنّ الأوصياء محدّثون ؛ يحدّثهم روح القدس ولا يرونه. وكان عليّ عليه‌السلام يعرض على روح القدس ما يسأل عنه ، فيوجس في نفسه أن قد أصبت بالجواب فيخبر ، فيكون كما قال» (٥).

[٢ / ٢٦١٦] وبالإسناد إلى هشام بن سالم عن عمّار أو غيره قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : فبما تحكمون إذا حكمتم؟ فقال : «بحكم الله وحكم داوود (٦) وحكم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فإذا ورد علينا ما ليس في كتاب عليّ ، تلقّانا به روح القدس ، وألهمنا الله إلهاما» (٧).

[٢ / ٢٦١٧] وبالإسناد إلى أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إنّ منّا لمن يعاين معاينة.

__________________

(١) البصائر : ٤٤٧ / ٤.

(٢) المصدر : ٤٥١ / ٢ ، باب ١٥ ؛ البحار ٢٥ : ٥٦ / ١٧.

(٣) النهاية لابن الأثير ١ : ٨١. (أول.

(٤) البحار ٢٥ : ٥٦. وراجع : البصائر : ٢٥٨ / ١.

(٥) البصائر : ٤٥٣ / ٩ ؛ البحار ٢٥ : ٥٧ / ٢٤. قوله : فيوجس في نفسه أي أحسّ من داخل ضميره.

(٦) أي حكما نظير حكم داوود ، كان يحكم بعلمه الخاصّ.

(٧) البصائر : ٤٥٢ / ٦ باب ١٥. والبحار ٢٥ : ٥٦ / ٢١.

٣٥٧

وإنّ منّا لمن ينقر في قلبه كيت وكيت. وإنّ لمن يسمع كوقع السلسلة تقع في الطست» (١).

هذا بيان لأنواع التبصّر الروحي الحاصل لخلّص عباد الله المقرّبين ، من أنبياء وأوصياء وصلحاء ... فمنهم من يعاين روح القدس ماثلا لديه ، ومنهم من ينكت في قلبه ويلهم الحقائق الملكوتيّة فيحسّ بها من داخل ضميره ، ومنهم من يستمع إلى الوحي ينزل عليه وله وقع كوقع السلسلة تصيب الطست.

ومنهم من يرى في المنام الرؤيا الصادقة ، كما في رؤيا إبراهيم عليه‌السلام وللعلّامة المجلسي هنا بيان لطيف بشأن الأرواح الخمسة الواردة في هذه الروايات ولا سيّما روح القدس. قال : ولعلّ المراد بها هي مراتب النفس الكماليّة ، تبتدىء بصفات جسمانيّة ، وتتصاعد درجات لتبلغ مرتبة الشفّافيّة الملكوتيّة ، المعبّر عنها بروح القدس ، هي روحاء واسعة الأرجاء ، طيّبة زكيّة نقيّة ، تتجلّى فيها قدسيّة الحقائق المتعالية ، والمهيمنة على آفاق الوجود والمصطلح عنها بعوالم الكشف والشهود (٢).

[٢ / ٢٦١٨] قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «... وما برح لله ـ عزّت آلاؤه ـ في البرهة بعد البرهة ، وفي أزمان الفترات ، عباد ناجاهم في فكرهم ، وكلّمهم في ذات عقولهم ، فاستصبحوا بنور يقظة في الأبصار والأسماع والأفئدة ... حتّى كأنّهم يرون مالا يرى الناس ، ويسمعون مالا يسمعون ... فلو مثّلتهم لعقلك في مقاومهم المحمودة (٣) ومجالسهم المشهودة ... لرأيت أعلام هدى ومصابيح دجى ، قد حفّت بهم الملائكة ، وتنزلّت عليهم السكينة ، وفتحت لهم أبواب السماء» (٤).

وهذا هو المعبّر عنه في كثير من الروايات بعمود النور ، يرون فيه ما غاب وحضر.

[٢ / ٢٦١٩] كما جاء عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام : «إنّ الله ـ عزوجل ـ أيّدنا بروح منه مقدّسة مطهّرة ، ليست بملك كانت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي مع الأئمّة منّا ، تسدّدهم وتوفّقهم ، وهو عمود من نور بيننا وبين الله ـ عزوجل ـ» (٥).

[٢ / ٢٦٢٠] وسأل المأمون العبّاسى الإمام الرضا عليه‌السلام عن علمهم بما في قلوب الناس؟ فقال : أما بلغك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اتّقوا فراسة المؤمن ، فإنّه ينظر بنور الله»!! قال : «وما من مؤمن إلّا وله

__________________

(١) البحار ٢٥ : ٥٠ ـ ٥١ / ١١ عن البصائر.

(٢) راجع : بحار الأنوار ٢٥ : ٥٣ ـ ٥٤.

(٣) جمع مقام : مقاماتهم في خطاب الوعظ.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة : ٢٢٢.

(٥) العيون ٢ : ٢٠٠ / ٢ ؛ (باب ٤٦ ، ما جاء عن الرضا عليه‌السلام في وجه دلائل الأئمّة) ؛ البحار ٢٥ : ٤٨ / ٧.

٣٥٨

فراسة ينظر بنور الله على قدر إيمانه ومبلغ استبصاره وعلمه ، وقد جمع الله في الأئمّة ـ من أهل البيت ـ ما فرّقه في جميع المؤمنين ثمّ تلا قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ)(١).

قال : فأوّل المتوسّمين هو رسول الله ثمّ أمير المؤمنين وولده الأئمّة من بعده» (٢).

والأحاديث عن المعصومين بشأن عمود النور ، يجعل الله بينه وبينهم ، ينظر به إليهم وينظرون به إليه كثيرة ومتضافرة وهو كناية عن تلك البصيرة الوقّادة الّتي ينعم بها الخلّص من عباده الصالحين. وتتّسع آفاقها حسب مراتب الكمال ومبلغ الإيمان ، حتّى تبلغ أقصاها في الكمّلين.

[٢ / ٢٦٢١] جاء في حديث صالح بن سهل مع الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : «... إنّ الله جعل بينه وبين الإمام عمودا من نور ، ينظر الله به إلى الإمام ، وينظر الإمام به إليه. فإذا أراد الإمام أن يعلم شيئا نظر في ذلك النور فعرفه» (٣).

قال العلّامة المجلسى : نظر الله تعالى إليه ، كناية عن إفاضاته تعالى عليه. ونظره إليه تعالى ، كناية عن غاية عرفانه (٤).

[٢ / ٢٦٢٢] ويتأيّد ذلك بما رواه الصفّار بالإسناد إلى إسحاق الحريري قال : كنت عند الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام فسمعته يقول : «إنّ لله عمودا من نور ، حجبه الله عن سائر الخلق ، طرفه عند الله وطرفه الآخر في أذن الإمام ، فإذا أراد الله شيئا أوحاه في أذن الإمام» (٥).

ولا غرابة فإنّ المؤمن محدّث أي ملهم من عند الله وفي رعايته تعالى ، فضلا عن أولئك الّذين بلغوا مرتبة الشهود ، ولمسوا حقائق الأشياء في قرب الحضور.

وقد مرّ عليك كلام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما حكاه من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له : «... إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلّا أنّك لست بنبيّ» (٦).

فالإمام المعصوم ، حيث بلغ أعلا مراتب الإيمان وصفى قلبه في أعلا مراتب الجلاء فقد بلغ

__________________

(١) الحجر ١٥ : ٧٥. والتوسّم : الفطنة والفراسة والذكاء البالغ. قال الراغب : وهو الذي سمّاه قوم الزكانة. وهي الفطنة والفراسة. والزكانة : إصابة الظنّ وصدقه.

(٢) العيون : ٢٠٠ / ١.

(٣) البصائر : ٤٤٠ / ٢ ، باب ١٢.

(٤) البحار ٢٦ : ١٣٥ / ١٠.

(٥) البصائر : ٤٣٩ / ١ ، باب ١٢. والإيحاء هنا : نفث في القلوب. يقال : نفث الله الشيء في قلبه أي ألقاه. ونفث في روعي أو قلبي أي ألهمته.

(٦) نهج البلاغة ٢ : ١٥٨ ، الخطبة القاصعة : ١٩٢.

٣٥٩

مرتبة الشهود التي بلغها الأنبياء ، فيوقر في أذنهم وينكت في قلوبهم وقد يعاينون من عوالم الغيب ما يعاينها الأنبياء ، سوى أنّهم ليسوا بأنبياء فلا يوحى إليهم ما يوحى إلى الأنبياء من وحي الرسالة وإن كانوا يلهمون ويحدّثون كما يلهم الأنبياء ويحدّثون.

وقد سبق حديث الإمام أبي جعفر الثاني عن جدّه الإمام أبي جعفر الأوّل : أنّ الأوصياء محدّثون ، يحدّثهم روح القدس ولا يرونه (١) كناية عن إلهامات تفاض عليهم من عالم القدس والملكوت وقد استفاض الحديث الوارد بشأن الأئمّة وأنّهم محدّثون.

[٢ / ٢٦٢٣] روى ابن شهر آشوب عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أهل بيتي اثنا عشر نقيبا محدّثون مفهّمون» (٢).

[٢ / ٢٦٢٤] وروى النعماني بالإسناد إلى أبي جعفر عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من أهل بيتي اثنا عشر محدّثا» (٣).

[٢ / ٢٦٢٥] وروى المفيد بالإسناد إلى أبي هاشم الجعفري قال : سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : «الأئمّة علماء حلماء صادقون ، مفهّمون محدّثون» (٤).

[٢ / ٢٦٢٦] وروى عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : فما آية المحدّث؟ قال : «يأتيه ملك فينكت في قلبه كيت وكيت» (٥).

نعم هنالك المؤمن الصادق في إيمانه ، جعله الله في رعايته وألهمه الخير ، وأصبح محدّثا مفهّما.

[٢ / ٢٦٢٧] روى الصدوق بإسناده إلى عبيد بن هلال ، قال : سمعت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام يقول : «إنّي أحبّ أن يكون المؤمن محدّثا! قلت : وأيّ شيء المحدّث؟ قال : مفهّم» (٦) أي ملهما واعيا.

[٢ / ٢٦٢٨] وروى الكشّي بإسناده إلى الصادق عليه‌السلام قال : «اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنّا ، فإنّا لا نعدّ الفقيه منهم فقيها حتّى يكون محدّثا. فقيل له : أو يكون المؤمن محدّثا؟

__________________

(١) البحار ٢٥ : ٥٧ / ٢٤. البصائر : ٤٧٣ / ٩.

(٢) البحار ٣٦ : ٢٧١ / ٩٢ ؛ المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٥٨.

(٣) البحار : ٢٧٢ / ٩٥ ؛ الغيبة للنعماني : ٧٢ / ٦ ، باب ٤.

(٤) البحار ٢٦ : ٦٦ / ١ ؛ الأمالي للشيخ : ٢٤٥ / ٤٢٦.

(٥) البحار ٦٧ / ٤ ؛ الأمالي للشيخ : ٤٠٧ / ٩١٤.

(٦) البحار ١ : ١٦١ / ١ ؛ المعاني : ١٧٢ ، باب معنى المحدّث ؛ عيون الأخبار ٢ : ٢٧٥ / ٦٨.

٣٦٠