التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

قال : ويل واد في جهنّم ، فإنّه لم يرد أنّ ويلا في اللّغة هو موضوع لهذا ، وإنّما أراد : من قال الله تعالى ذلك فيه فقد استحقّ مقرّا من النار وثبت ذلك له (١).

[٢ / ٢٤٨١] روى ابن جرير وابن أبي حاتم بالإسناد إلى أبي العالية في قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) قال : عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحرّفوه عن مواضعه يبتغون بذلك عرضا من عرض الدنيا ، فقال : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)(٢).

[٢ / ٢٤٨٢] وأخرج ابن جرير عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) قال : عرضا من عرض الدنيا (وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) يقول : ممّا يأكلون به الناس السفلة وغيرهم (٣).

[٢ / ٢٤٨٣] وقال مقاتل بن سليمان : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) سوى نعت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك أنّ رؤوس اليهود بالمدينة محوا نعت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التوراة وكتبوا سوى نعته وقالوا لليهود سوى نعت محمّد (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا) النعت (مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) يعني عرضا يسيرا ممّا يعطيهم سفلة اليهود كلّ سنة من زروعهم وثمارهم ، يقول (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) يعنى في التوراة من تغيير نعت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) من تلك المآكل على التكذيب بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو تابعوا محمّدا عليه‌السلام إذا لحبست عنهم تلك المآكل (٤).

[٢ / ٢٤٨٤] وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عبّاس قال : وصف الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التوراة ، فلمّا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسده أحبار اليهود فغيّروا صفته في كتابهم ، وقالوا : لا نجد نعته عندنا ، وقالوا للسفلة : ليس هذا نعت النبيّ الذي يحرّم كذا وكذا كما كتبوه ، وغيّروا نعت هذا كذا كما وصف فلبّسوا على الناس ، وإنّما فعلوا ذلك لأنّ الأحبار كانت لهم مأكلة يطعمهم إيّاها السفلة لقيامهم على التوراة ، فخافوا أن تؤمن السفلة فتنقطع تلك المأكلة (٥).

[٢ / ٢٤٨٥] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ ...) الآية. قال : هم أحبار اليهود ، وجدوا صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكتوبة في التوراة أكحل ، أعين ، ربعة ، جعد الشعر ،

__________________

(١) مفردات الراغب : ٥٣٥.

(٢) الطبري ١ : ٥٣٦ / ١١٥٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٥ / ٨١١.

(٣) الدرّ ١ : ٢٠٣ ؛ الطبري ١ : ٥٣٥ و ٥٣٧ / ١١٤٦ و ١١٥٤.

(٤) تفسير مقاتل ١ : ١١٨ ـ ١١٩.

(٥) الدرّ ١ : ٢٠٢.

٣٢١

حسن الوجه. فلمّا وجدوه في التوراة محوه حسدا وبغيا ، فأتاهم نفر من قريش فقالوا : تجدون في التوراة نبيّا أميّا؟ فقالوا : نعم ، نجده طويلا أزرق سبط الشعر (١) ، فأنكرت قريش وقالوا : ليس هذا منّا (٢).

قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ)

[٢ / ٢٤٨٦] أخرج ابن جرير عن السدّي في قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) قال : قالت اليهود : إنّ الله يدخلنا النار فنمكث فيها أربعين ليلة ، حتّى إذا أكلت النار خطايانا واستنقتنا (٣) ، نادى مناد : أخرجوا كلّ مختون من ولد بني إسرائيل ، فلذلك أمرنا أن نختتن. قالوا : فلا يدعون منّا في النار أحدا إلّا أخرجوه (٤).

[٢ / ٢٤٨٧] وأخرج أحمد والبخاري والدارمي والنسائي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : «لمّا افتتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاة فيها سمّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أبوكم؟ قالوا : فلان. قال : كذبتم ، بل أبوكم فلان. قالوا : صدقت وبررت. ثمّ قال لهم : هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا : نعم يا أبا القاسم ، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. فقال لهم : من أهل النار؟ قالوا : نكون فيها يسيرا ثمّ تخلفوننا فيها. فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اخسأوا ـ والله ـ لا نخلفكم فيها أبدا» (٥).

[٢ / ٢٤٨٨] وأخرج ابن جرير والبغوي عن أبي العالية ، قال : قالت اليهود : إنّ ربّنا عتب علينا في أمرنا ، فأقسم ليعذّبنا أربعين ليلة فلن تمسّنا النار إلّا أربعين يوما ، تحلّة للقسم ثمّ يخرجنا! فأكذبهم الله! (٦).

__________________

(١) السّبط من الشعر : المنبسط المسترسل.

(٢) الدرّ ١ : ٢٠٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٤ / ٨٠٥.

(٣) من النقاوة أي طهّرتنا النار.

(٤) الطبري ١ : ٥٣٨ / ١١٥٧.

(٥) الدرّ ١ : ٢٠٧ ـ ٢٠٨ ؛ مسند أحمد ٢ : ٤٥١ ، وليس فيه : «اخسأوا» ؛ البخاري ٧ : ٣٢ ؛ الدارمي ١ : ٣٣ ـ ٣٤ ؛ النسائي ٦ : ٤١٣ / ١١٣٥٥ ، تفسير سورة المؤمنون.

(٦) الطبري ١ : ٥٣٨ / ١١٥٨ ؛ البغوي ١ : ١٣٨ ، عن الحسن وأبي العالية.

٣٢٢

[٢ / ٢٤٨٩] وأخرج ابن جرير عن الضحّاك في قوله : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) قال : قالت اليهود : لا نعذّب في النار يوم القيامة إلّا أربعين يوما مقدار ما عبدنا العجل (١).

[٢ / ٢٤٩٠] وعن عبد الرزّاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) قالوا : أيّاما معدودة بما أصبنا في العجل (٢).

[٢ / ٢٤٩١] وعن الضحاك ، عن ابن عبّاس في قوله : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) قال : ذلك أعداء الله اليهود ، قالوا : لن يدخلنا الله النار إلّا تحلّة القسم ، الأيّام التي أصبنا فيها العجل أربعين يوما ، فإذا انقضت عنّا تلك الأيّام ، انقطع عنّا العذاب والقسم (٣).

[٢ / ٢٤٩٢] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والواحدي عن ابن عبّاس أنّ اليهود كانوا يقولون : مدّة الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنّما نعذّب لكلّ ألف سنة من أيّام الدنيا يوما واحدا في النار ، وإنّما هي سبعة أيّام معدودات ثمّ ينقطع العذاب ، فأنزل الله في ذلك : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) إلى قوله (هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٤).

[٢ / ٢٤٩٣] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والواحدي عن ابن عبّاس قال : وجد أهل الكتاب مسيرة ما بين طرفي جهنّم مسيرة أربعين ، فقالوا : لن يعذّب أهل النار إلّا قدر أربعين ، فإذا كان يوم القيامة ألجموا في النار فساروا فيها حتّى انتهوا إلى سقر ، وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيّام المعهودة ، فقال لهم خزنة النار : يا أعداء الله زعمتم أنّكم لن تعذّبوا في النار إلّا أيّاما معدودة ، فقد انقضى العدد وبقي الأبد ، فيؤخذون في الصعود يرهقون على وجوههم (٥).

***

[٢ / ٢٤٩٤] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ)

__________________

(١) الطبري ١ : ٥٤٠ / ١١٦٢.

(٢) الطبري ١ : ٥٣٨ / ١١٥٦ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٧٨ / ٨١ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٦ / ٨١٦.

(٣) الطبري ١ : ٥٣٨ / ١١٥٥.

(٤) الدرّ ١ : ٢٠٧ ؛ الطبري ١ : ٥٤٠ / ١١٦٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٥ / ٨١٣ ؛ الكبير ١١ : ٧٩ ؛ أسباب النزول : ١٦ ؛ الوسيط ١ : ١٦٤.

(٥) الدرّ ١ : ٢٠٧ ؛ الطبري ١ : ٥٣٩ / ١١٥٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٦ / ٨١٧ ؛ أسباب النزول : ١٦.

٣٢٣

عَهْداً) أي موثقا من الله بذلك أنّه كما تقولون (١).

[٢ / ٢٤٩٥] وأخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال : لمّا قالت اليهود ما قالت ، قال الله لمحمّد : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) يقول : أدّخرتم عند الله عهدا. يقول : أقلتم : لا إله إلّا الله ، لم تشركوا ولم تكفروا به؟ فإن كنتم قلتموها فارجوا بها ، وإن كنتم لم تقولوها فلم تقولون على الله ما لا تعلمون (٢).

[٢ / ٢٤٩٦] وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً؟!) قال : أي هل عندكم من الله من عهد أنّه ليس معذّبكم؟ أم هل أرضيتم الله بأعمالكم فعملتم بما افترض عليكم وعهد إليكم فلن يخلف الله عهده؟ (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)؟. (٣)

[٢ / ٢٤٩٧] وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ) قال : بفراكم (٤) وبزعمكم أنّ النار ليس تمسّكم إلّا أيّاما معدودة ، يقول : إن كنتم اتخذتم عند الله عهدا بذلك (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) قال : قال القوم الكذب والباطل ، وقالوا عليه ما لا يعلمون (٥).

[٢ / ٢٤٩٨] وقال ابن مسعود في قوله تعالى : (عَهْداً) : عهدا بالتوحيد (٦).

[٢ / ٢٤٩٩] وقال مقاتل بن سليمان : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) فعلمتم بما عهد إليكم في التوراة فإن كنتم علمتم (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ) يعني بل تقولون (عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) بأنّه ليس بمعذّبكم إلّا تلك الأيّام. فإذا مضت تلك الأيّام مقدار كلّ يوم ألف سنة ، قالت الخزنة يا أعداء الله ذهب الأجل وبقي الأبد وأيقنوا بالخلود! (٧).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٠٨ ؛ الطبري ١ : ٥٤١ / ١١٦٦ ؛ البخاري ٥ : ٢٣٧ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٧ / ٨١٩.

(٢) الدرّ ١ : ٢٠٨ ؛ الطبري ١ : ٥٤١ / ١١٦٨.

(٣) ابن أبي حاتم ١ : ١٥٧ / ٨٢٠.

(٤) قوله : بفراكم ، جمع فرية أي بكذباتكم المفتراة.

(٥) الدرّ ١ : ٢٠٨ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٧ / ٨٢١. من قوله : «قال القوم : الكذب ...».

(٦) البغوي ١ : ١٣٨ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٣٠.

(٧) تفسير مقاتل ١ : ١١٩.

٣٢٤

قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

استفاضت الروايات عن السلف (١) بأنّ المراد من السيّئة هنا هو الشرك بالله العظيم.

ولعلّه نظرا لكون الخلود في النار لا يكون لمؤمن مهما اقترف السيّئات حيث الإيمان ـ المحتفظ به حتّى الموت ـ عمل قلبي فخيم ، ولا بدّ من المثوبة عليه ، ولا مثوبة حيث يتعقّبها الخلود في النار فلا بدّ أن تتأخّر عن معاقبته على ما ارتكبه من السيّئات.

[٢ / ٢٥٠٠] ومن ثمّ روى الثعلبي عن ابن عبّاس وغيره : أنّ المراد ، الشرك يموت عليه الرجل (٢).

[٢ / ٢٥٠١] وعن السدّي والحسن أيضا : أنّها الكبيرة من الكبائر الموبقة (٣).

[٢ / ٢٥٠٢] وعن السدّي أيضا : أنّها الذنوب التي وعد الله عليها النار (٤).

[٢ / ٢٥٠٣] وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله تعالى : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) قال : أحاط به شركه (٥).

قال أبو جعفر الطوسي : والذي نقوله ، الذي يليق بمذهبنا ، أنّ المراد بذلك هو الشرك والكفر ، لأنّه الذي يستحقّ به الدخول في النار مؤبّدا ، ولا يجوز أن يكون مرادا به غيره .. قال : وهذا قول مجاهد. لأنّ ما عدا الشرك لا يستحقّ عندنا الخلود عليه في النار وقوله تعالى : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) يقوّي ذلك ، لأنّ المعنى فيه : أن تكون خطاياه كلّها اشتملت عليه ، ولا يكون معه طاعة يستحقّ بها الثواب ، تشبيها بما أحاط بالشيء من كلّ وجه. ولو كان معه شيء من الطاعات ، لكان مستحقّا للثواب ، فلا يكون محاطا بالسيّئة. قال : لأنّ الإحباط عندنا باطل ، فلا يحتاج إلى مراعاة كثرة العقاب وقلّة الثواب. لأنّ قليل الثواب عندنا يثبت مع كثرة العقاب ، لما ثبت من بطلان التحابط بأدلّة العقل وليس هنا موضع ذكرها .. قال : ولأنّ الآية بعدها فيها وعد لأهل الإيمان بالثواب الدائم ،

__________________

(١) كما عن ابن عبّاس ومجاهد وقتادة وعكرمة وأبي العالية وعطاء وابن جريج والضحّاك والربيع وأبي وائل والحسن ومقاتل بن سليمان. فيما رواه ابن أبي حاتم ١ : ١٥٧. والطبري ١ : ٥٤٣. والثعلبي ١ : ٢٢٦. وأبو الفتوح ٢ : ٣١. والطوسي ١ : ٣٢٥ ومجمع البيان ١ : ٢٨٢. وابن كثير ١ : ١٢٣. ومقاتل ١ : ١١٩ وغيرهم.

(٢) الثعلبي ١ : ٢٢٦ ؛ الوسيط ١ : ١٦٥.

(٣) ابن أبي حاتم ١ : ١٥٨ / ٨٢٤.

(٤) الطبري ١ : ٥٤٣ / ١١٧٤ ؛ التبيان ١ : ٣٢٥ ؛ مجمع البيان ١ : ٢٨١.

(٥) ابن أبي حاتم ١ : ١٥٨ / ٨٢٧ ؛ الدرّ ١ : ٢٠٨ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٣.

٣٢٥

فكيف يجتمع الثواب الدائم والعقاب الدائم؟! وذلك خلاف الإجماع! (١).

[٢ / ٢٥٠٤] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) أي من عمل مثل أعمالكم وكفر بما كفرتم به حتّى يحيط كفره بما له من حسنة (٢)(فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي من آمن بما كفرتم به ، وعمل بما تركتم من دينه ، فلهم الجنّة خالدين فيها. يخبرهم أنّ الثواب بالخير والشرّ ، مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له أبدا (٣). (٤)

[٢ / ٢٥٠٥] وروى ابن جرير بالإسناد إلى ابن جريج قال : قلت لعطاء : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ؟) قال : الشرك ، ثمّ تلا : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ)(٥).

[٢ / ٢٥٠٦] وروى عبد الرزّاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) قال : السيّئة الشرك والخطيئة الكبائر (٦).

[٢ / ٢٥٠٧] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) قال : هي الكبيرة الموجبة لأهلها النار (٧).

[٢ / ٢٥٠٨] وأخرج ابن جرير عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) قال : ما أوجب الله فيه النار (٨).

__________________

(١) التبيان ١ : ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٢) بحيث تغلبها السيّئة فتنقلب الحسنة سيّئة ، بسبب ما نواه من شرّ.

(٣) وهذا إشارة إلى خلود كلّ من الفريقين فيما اكتسبوه لأنفسهم من آثار صلاح أو فساد .. الأمر الذي ينبؤك عن تجسّم الأعمال ، وأنّ المثوبات والعقوبات ليس من قبيل الجعل والمواضعة كما في الأجر والجزاء الدنيويّين .. وإنّما هي انعكاسات أعمال قام بها الإنسان هنا في الحياة الدنيا فتناله في الآخرة ، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ .. ولعلّنا نبحث عن ذلك بتفصيل في مجال متناسب يأتي. إن شاء الله.

(٤) الدرّ ١ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ؛ الطبري ١ : ٥٤٢ و ٥٤٥ و ٥٤٧ / ١١٧٠ و ١١٧٩ و ١١٩٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٧ ـ ١٥٩ / ٨٢٢ و ٨٢٦ و ٨٣٢ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٣.

(٥) الطبري ١ : ٥٤٦ / ١١٨٧.

(٦) عبد الرزّاق ١ : ٢٧٨ / ٨٢.

(٧) الدرّ ١ : ٢٠٩ ؛ الطبري ١ : ٥٤٥ / ١١٨١ ، بلفظ : «أمّا الخطيئة فالكبيرة الموجبة».

(٨) الطبري ١ : ٥٤٥ / ١١٨٠.

٣٢٦

[٢ / ٢٥٠٩] وأخرج وكيع وابن جرير عن الحسن أنّه سئل عن قوله تعالى : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) ما الخطيئة؟ قال : اقرأوا القرآن ، فكلّ آية وعد الله عليها النار فهي الخطيئة (١).

[٢ / ٢٥١٠] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) قال : الذنوب تحيط بالقلب ، فكلّما عمل ذنبا ارتفعت (٢) حتّى تغشّى القلب ، حتّى يكون هكذا ، وقبض كفّه ، ثمّ قال : والخطيئة كلّ ذنب وعد الله عليه النار (٣).

[٢ / ٢٥١١] وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن الربيع بن خثيم في قوله تعالى : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) قال : هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب (٤).

[٢ / ٢٥١٢] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) قال : حتّى مات على الشرك (٥).

[٢ / ٢٥١٣] وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) قال : فمات ولم يتب (٦).

[٢ / ٢٥١٤] وأخرج وكيع وابن جرير عن الأعمش في قوله : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) قال : مات بذنبه (٧).

[٢ / ٢٥١٥] وكذا عن الضحّاك قال : مات بذنبه (٨).

[٢ / ٢٥١٦] وقال الكلبي : أوبقته ذنوبه. قال : دليله قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ)(٩) أي

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٠٩ ؛ الطبري ١ : ٥٤٥ / ١١٨٢.

(٢) أي تضخّمت.

(٣) الدرّ ١ : ٢٠٩ ؛ الطبري ١ : ٥٤٥ ـ ٥٤٦ ، بلفظ : «عن مجاهد في قوله : بَلى مَنْ كَسَبَ ... قال : كلّ ذنب محيط فهو ما وعد الله عليه النار» ؛ الثعلبي ١ : ٢٢٧ ، بلفظ : «مجاهد : هي الذنوب تحيط بالقلب كلّما عمل ذنبا ارتفعت حتّى تغشى القلب وهو الرّين».

(٤) الدرّ ١ : ٢٠٩ ؛ الطبري ١ : ٥٤٦ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٣ ، وزاد : وعن السدّيّ وأبي رزين نحوه ؛ الثعلبي ١ : ٢٢٧. البغوي ١ : ١٣٨ ، بلفظ : «وقيل : السيّئة : الكبيرة ، والإحاطة به : أن يصرّ عليها فيموت غير تائب ، قاله عكرمة والربيع بن خثيم» ؛ أبو الفتوح ٢ : ٣١ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٨ / ٨٢٨.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ١١٩.

(٦) الطبري ١ : ٥٤٦ / ١١٨٦.

(٧) الدرّ ١ : ٢٠٩ ؛ الطبري ١ : ٥٤٦ / ١١٨٤.

(٨) الطبري ١ : ٥٤٥ / ١١٧٧.

(٩) يوسف ١٢ : ٦٦.

٣٢٧

تهلكوا (١).

[٢ / ٢٥١٧] وقال ابن السراج : هي الّتي سدّت عليه مسالك النجاة (٢).

[٢ / ٢٥١٨] وعن عكرمة ومقاتل : إنّها الإصرار على الذنب (٣).

[٢ / ٢٥١٩] وروى ابن كثير بالإسناد إلى عبد الله بن مسعود قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إيّاكم ومحقّرات الذنوب فإنّهنّ يجتمعن على الرجل حتّى يهلكنّه» (٤).

[٢ / ٢٥٢٠] وعن ابن عبّاس في قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) قال : أي دائمون أبدا (٥).

[٢ / ٢٥٢١] وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) قال : لا يخرجون منها أبدا (٦).

[٢ / ٢٥٢٢] وروى ابن بابويه الصدوق بالإسناد إلى عليّ بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن ابن أبي عمير قال : سمعت موسى بن جعفر عليه‌السلام يقول : «لا يخلد الله في النار إلّا أهل الكفر والجحود وأهل الضلال والشرك» (٧).

[٢ / ٢٥٢٣] وروى ثقة الإسلام الكليني بإسناده إلى أبي هاشم قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّما خلّد أهل النار في النار ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبدا وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا ، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء ، ثمّ تلا قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ)(٨) قال : على نيّته» (٩).

__________________

(١) الثعلبي ١ : ٢٢٧ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٣١.

(٢) التبيان ١ : ٣٢٥.

(٣) مجمع البيان ١ : ٢٨٢ ؛ الثعلبي ١ : ٢٢٧.

(٤) ابن كثير ١ : ١٢٣.

(٥) مجمع البيان ١ : ٢٨٢.

(٦) الطبري ١ : ٥٤٧ / ١١٨٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٩ / ٨٣٠ ، بلفظ «خالدا أبدا» عن ابن عبّاس والسدّي.

(٧) التوحيد : ٤٠٧ / ٦ ، باب ٦٣ ، باب الأمر والنهي والوعد والوعيد ؛ البحار ٨ : ٣٥١ / ١ ، باب ٢٧ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٦٣ ـ ٦٤ ؛ الصافي ١ : ٢٢٢.

(٨) الإسراء ١٧ : ٨٤.

(٩) الكافي ٢ : ٨٥ / ٥ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب النيّة ؛ المحاسن ٢ : ٣٣٠ ـ ٣٣١ / ٩٤ ؛ علل الشرائع ٢ : ٥٢٣ / ١ ، باب ٢٩٩ ؛ البحار ٨ : ٣٤٧ / ٥ ، باب ٢٦ ، و ٦٧ : ٢٠١ / ٥ ، باب ٥٣ ؛ العيّاشي ٢ : ٣٣٩ / ١٥٨ ، سورة الإسراء وزاد في صدره : قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخلود في الجنة والنّار فقال إنّما ... الخ.

٣٢٨

مسألة الخلود في النار

هنا سؤال قديم : كيف يخلد العاصي في النار بذنوب كان لها أمد قصير؟

والجواب الحاسم هو ما جاء في حديث أبي هاشم الآنف مع أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : أنّ المجازاة في الدار الأخرى إنّما هي على النوايا التي ترسم شاكلة الإنسان في كيان ذاته فتؤهّله إمّا للقرب الدائم من ساحة قدسه تعالى ، أو الابتعاد أبدا (١).

وبعبارة أخرى : ليست المثوبات والعقوبات في النشأة الأخرى ـ كالمجازاة في هذه الحياة ـ بالمواضعة والجعل الاعتباري المحض بل هي انعكاسات ذاتيّة لأعمال قام بها ، وكانت محاكاة لنفسيّاته التي كانت تدور في خلده وكلّ إناء بالذي فيه ينضح.

وكلّ عمل يقوم به الإنسان من خير أو شرّ ، إنّما ينبؤك عن حسن نيّته أو سوء سجيّته ، ليكون عمله إفراغا لما انطوت عليه سريرته التي هو صنعها طول مزاولاته في الحياة. (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً)(٢).

وهذه الشاكلة التي يرسمها الإنسان لنفسه ، سوف تتبلور بشكل أوفى في دار أخرى ، وتؤتي أكلها ـ من طيّب أو خبيث ـ ذلك الحين بإذن ربّها وهذا ما اصطلحوا عليه من تجسّم الأعمال.

ومن ثمّ لا يستحقّ الخلود في النار إلّا من رانت نفسه وغمرته أدران الغثاثة والفساد.

قال تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٣).

وكسب السيئة هنا كناية عن محاولة وإصرار في مكسبة السيّئات ، بحيث انهمك فيها وشغلته عن الإنابة والرجوع ، حتّى فارق الحياة ، ولم يترك فيها بصيصا يجعله على رجاء فهذا قد أخلد نفسه إلى الأرض ـ مطاليب سفلى ـ ولم يعمل للارتقاء إلى سماء العلى ، ولا مثقال حبّة (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ)(٤). (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)(٥).

وبذلك تعرف وجه اختصاص الخلود ـ في النار ـ بمن لم يحتفظ بإيمانه ومات كافرا ؛ إذ لو

__________________

(١) تقدّم نقله من الكافي ٢ : ٨٥ / ٥. والعيّاشي ٢ : ٣٣٩ / ١٥٨.

(٢) الإسراء ١٧ : ٨٤.

(٣) البقرة ٢ : ٨١.

(٤) الأعراف ٧ : ١٧٦.

(٥) الكهف ١٨ : ٢٨.

٣٢٩

مات مؤمنا محتفظا على إيمانه ـ ولو من غير عمل ـ فإنّ الإيمان بذاته عمل ـ جانحي ـ فخيم يثاب عليه لا محالة ، فلا بدّ أن تتأخّر المثوبة عن العقوبات على ما ارتكبه من آثام إذ لا التذاذ بالمثوبات لمن كان ينتظر العقاب الدائم وقد تقدّم بعض الإشارة إلى ذلك.

قال العلّامة المجلسي ـ تعقيبا على حديث أبي هاشم الآنف ـ : كأنّ الاستشهاد بالآية (١) مبنيّ على ما حقّقنا سابقا (٢) أنّ المدار في الأعمال على النيّة (٣) التابعة للحالة التي اتّصفت بها النفس من عقائد وأخلاق حسنة أو سيّئة ، فإذا كانت النفس [مروّضة] على العقائد [الصحيحة] الثابتة والأخلاق الحسنة الراسخة ، التي لا يتخلّف عنها الأعمال الصالحة الكاملة ، لو بقي في الدنيا أبدا ، فبتلك الشاكلة والحالة استحقّ الخلود في الجنّة. وإذا كانت على العقائد الباطلة والأخلاق الرديئة ، التي علم الله تعالى أنّه لو بقي في الدنيا أبدا لعصى الله دائما ، فبتلك الشاكلة استحقّ الخلود في النار لا بالأعمال التي لم يرتكبها فلا يرد أنّه ينافي الأخبار الواردة في عدم المؤاخذة على نيّة السوء من غير عمل (٤).

__________________

(١) (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) الإسراء ١٧ : ٨٤.

(٢) سبق قوله : إنّ النيّة تابعة للشاكلة والحالة وأنّ كمالها لا يحصل إلّا بكمال النفس واتّصافها بالأخلاق الرضيّة الواقعيّة. البحار ٦٧ : ٢٠٠.

(٣) قال الإمام عليّ بن الحسين السجّاد عليه‌السلام : «لا عمل إلّا بنيّة». الكافي ٢ : ٨٤ / ١ وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما الأعمال بالنيّات وإنّما لكلّ امرء ما نوى». البخاري ١ : ٢.

(٤) راجع : البحار ٦٧ : ٢٠١. ومرآة العقول ٨ : ١٠٤.

٣٣٠

قال تعالى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))

هنا يمضي السياق يحدّث للجماعة المسلمة عن حالة اليهود ومواقفهم الّتي يتجلّى فيها العصيان والالتواء والانحراف والنكول عن العهد والميثاق وهكذا يواجه اليهود بهذه المواقف على مشهد من المسلمين :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ...) على الاستسلام لله وحسن المعاشرة مع الناس وهذا نصّه ـ خطابا لبني إسرائيل ـ : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فريضة عباديّة (وَآتُوا الزَّكاةَ) فريضة ماليّة.

ولكن هيهات والاستسلام لشريعة الله والتزام مواثيقه : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) نبذتم مواثيق الله وعهوده وراء ظهوركم (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ) بأكثريّتكم (مُعْرِضُونَ) عن الحقّ الصراح.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) لا يبادر أحدكم بقتل أخيه عبثا ومن غير حقّ (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ) لا يشرّد بعضكم بعضا فتخرجوه (مِنْ دِيارِكُمْ) الديار التي ألف الجميع بها فكانت ديار الجمع.

٣٣١

(ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) توثّقتم العهد والميثاق (وَأَنْتُمْ) اليوم (تَشْهَدُونَ) بذلك ، فما هذا التهافت بين القول والسلوك؟!

وهذه العهود والمواثيق هي بعينها هي مواثيق الإسلام الأمر الذي ينبؤك عن وحدة دين الله القويم ، وكان التصديق بما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصديقا بما جاء به النبيّون من قبله. وعليه فالإقرار بشرائع الله السابقة ، ليستدعي إقرارا بالشريعة الحاضرة. فالإقرار بشريعة التوراة وإنكار الإسلام تهافت فاضح مضافا إلى تهافت ما بين قولهم والسلوك.

وتبيينا لهذا التهافت ما بين القول والسلوك وجّه إليهم التوبيخ الشانىء : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) يقتل بعضكم بعضا عداء ظاهرا (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) تشرّدونهم إلى حيث لا مأوى لهم. وزيادة على ذلك (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ) يتظاهر بعضكم مع بعض ، ضدّ الفريق المتشرّد (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) أي كان التظاهر منبعثا عن نيّة الخبث والعداء العارم. وليس عن منبعث حقّ لائح.

وتهافت آخر في السلوك أشنع : إنّهم في العداء مع بعضهم البعض يتظاهرون بالإثم والعدوان. ولكن عند ما يقع هؤلاء أسارى بيد أجانب غيرهم ، تثور غيرتهم ليقوموا باستخلاصهم ، حتّى ولو كان ذلك بافتداء المال. تناقض غريب في السلوك!!

(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) أي وجدتموهم أسارى ـ تفادوهم ـ بالمال.

كان هذا الحادث الغريب المتهافت واقعا قريب العهد من الإسلام. كان الأوس والخزرج أشدّ ما يكون حيّان من العرب عداء. وكان اليهود في المدينة ثلاثة أحياء ترتبط بعهود مع هذين الحيّين.

كان بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج ، وكان بنو قريظة حلفاء الأوس. فكانت الحرب إذا نشبت بينهم ، قاتل كلّ فريق إلى جنب حلفائه. فربما قتل يهوديّ يهوديّا ، وهذا حرام بنصّ ميثاق التوراة. كذلك كانوا يشرّدون بيهوديّ كان حلفا لغير حلفهم إذا غلبوهم فيخرجونهم من ديارهم وينهبون أموالهم وربما يسبّونهم. وهذا أيضا حرام بنصّ التوراة. ثمّ إذا وضعت الحرب أوزارها جعلوا يفادون أسارى اليهود ويفكّونهم من الأسر هنا أو هناك عندهم أو عند حلفائهم ، أو عند أعداء حلفائهم.

٣٣٢

وذلك عملا بحكم التوراة وقد جاء فيها : «إنّك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلّا أخذته وأعتقته» (١).

هذا هو التناقض الذي يؤاخذهم عليه القرآن :

(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)؟! وهنا يأتي تهديدهم اللاذع : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ) التناقض في السلوك (مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...) إذ ذلك يكشف عن صلابتهم في الدين ، كما يدلّ على عدم التزامهم بالخلق الكريم الأمر الذي في النهاية إلى انهيار خلقي يتعقّبه السقوط والخزي والعار هذا في الحياة الدنيا.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

***

ثمّ يلتفت السياق إلى المسلمين وإلى البشريّة جميعا ، تبيينا لحقيقة هذا القوم اللجوج العنود ، المتعنّت الغشوم فيحذروهم ويتجانبوا مثل فعالهم وتصرّفاتهم البذيئة : (أُولئِكَ الَّذِينَ) خسروا في صفقتهم في هذه الحياة ، حيث (اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي باعوا حظّهم الأوفى في الحياة ـ وهي الحياة الشريفة ذات العزّ والوقار الكافلة لسعادة الدارين ـ تجاه مكسبهم هذا الزهيد الزائل.

(فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) حيث لا موضع للتخفيف عليهم بذلك الإصرار على العناد (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) حيث لا ناصر لهم ولا شفعاء يشفعون لهم ، بعد حيادهم عن سبيل النجاة.

***

وإليك من روايات السلف بشأن الآيات :

[٢ / ٢٥٢٤] أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي ميثاقكم (٢).

[٢ / ٢٥٢٥] وأخرج عبد بن حميد عن عيسى بن عمر قال : قال الأعمش : نحن نقرأ لا يعبدون إلا

__________________

(١) جاء في ١ : ١٥ ع ١٢ من سفر التثنية : «إذا بيع لك أخوك العبراني أو أختك العبرانيّة وخدمك ستّ سنين ففي السنة السابعة تطلقه حرّا من عندك وتزّوده من غنمك ومن معصرتك».

(٢) الدرّ ١ : ٢٠٩ ؛ الطبري ١ : ٥٤٨ / ١١٩٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٩ / ٨٣٣.

٣٣٣

الله بالياء ، لأنّا نقرأ آخر الآية : (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ ،) وأنتم تقرأون (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) فاقرأوها : (لا تَعْبُدُونَ)(١).

وقرأ أبيّ بن كعب : «لا تعبدوا» على النهي وهكذا نسب إلى عبد الله بن مسعود (٢).

[٢ / ٢٥٢٦] وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) قال : ميثاق أخذه الله على بني إسرائيل ، فاسمعوا على ما أخذ ميثاق القوم : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ...) الآية (٣).

[٢ / ٢٥٢٧] وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ...) الآية. قال : أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له وأن لا يعبدوا غيره (٤).

وهكذا أخرج عن الربيع (٥).

[٢ / ٢٥٢٨] وعن ابن جريج في قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) قال : الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة (٦). (٧).

[٢ / ٢٥٢٩] وروي عن الإمام أبي محمّد العسكري عليه‌السلام قال : «أمّا قوله تعالى : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من شغلته عبادة الله عن مسألته ، أعطاه الله أفضل ما يعطي السائلين». (٨)

[٢ / ٢٥٣٠] وقال : قال عليّ عليه‌السلام : قال الله ـ عزوجل ـ من فوق عرشه : «يا عبادي اعبدوني فيما

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢١٠.

(٢) الثعلبي ١ : ٢٢٨ ؛ البغوي ١ : ١٣٩ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٣٥ ؛ القرطبي ٢ : ١٣.

(٣) الدرّ ١ : ٢١٠.

(٤) الدرّ ١ : ٢٠٩ ؛ الطبري ١ : ٥٤٩ / ١١٩٣ ، و ٤ : ٢٠٣ / ٩٠٢٣ ، تفسير سورة المائدة ، الآية ١٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٦٠ / ٨٣٤.

(٥) الطبري ١ : ٥٤٩ / ١١٩٤.

(٦) يشير إلى قوله تعالى في الآية ١٢ من سورة المائدة : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) إلى آخر الآية.

(٧) الطبري ١ : ٥٤٩ / ١١٩٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٦٠ / ٨٣٥.

(٨) تفسير الإمام عليه‌السلام : ٣٢٧ / ١٧٥ ؛ البرهان ١ : ٢٦٥ / ١٢ ؛ البحار ٦٨ : ١٨٤ / ٤٤ ، باب ٦٤ ؛ الصافي ١ : ٢٢٣.

٣٣٤

أمرتكم به ولا تعلموني ما يصلحكم ، فإنّي أعلم به ، ولا أبخل عليكم بمصالحكم» (١).

[٢ / ٢٥٣١] وروى الكليني بإسناده إلى الحسن بن محبوب ، عن أبي ولّاد الحنّاط قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله ـ عزوجل : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ما هذا الإحسان؟ فقال : «الإحسان أن تحسن صحبتهما ، وأن لا تكلّفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه ، وإن كانا مستغنيين ، أليس يقول الله ـ عزوجل ـ : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ...)» (٢).

[٢ / ٢٥٣٢] وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن مقاتل بن حيّان في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ... (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) قال : فيما أمركم به من حقّ الوالدين وذوي القربى واليتامى والمساكين (٣).

[٢ / ٢٥٣٣] وقال مقاتل بن سليمان : (وَإِذْ) يعني ولقد (أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) يعني برّا بهما (٤).

[٢ / ٢٥٣٤] وقال : (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) واليتيم ، أن تصدّق عليه ، وابن السبيل يعني الضيف ، أن تحسن إليه (٥).

[٢ / ٢٥٣٥] وفي تفسير الإمام : المسكين من سكن الضرّ والفقر حركته ، ألا فمن واساهم بحواشي ماله ، وسّع الله عليه جنانه ، وأناله غفرانه ورضوانه (٦).

__________________

(١) تفسير الإمام عليه‌السلام : ٣٢٧ / ١٧٦ ؛ البرهان ١ : ٢٦٥ / ذيل ١٢ ، البحار ٦٨ : ١٨٤ / ٤٤ ، باب ٦٤.

(٢) الكافي ٢ : ١٥٧ / ١ ، كتاب الإيمان والكفر ؛ باب البرّ بالوالدين ؛ الصافي ١ : ٢٢٣ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٦٥ ؛ الفقيه ٤ : ٤٠٧ ـ ٤٠٨ / ٥٨٨٣ ؛ البحار ٧١ : ٣٩ ـ ٤٠ / ٣ ، باب ٢ ، وللمجلسي هنا بيان لطيف في شرح الحديث ينبغي مراجعته ؛ العيّاشي ٢ : ٣٠٨ / ٣٩ الإسراء : ٢٤.

(٣) ابن أبي حاتم ١ : ١٦٠ / ٨٣٧.

(٤) تفسير مقاتل ١ : ١١٩.

(٥) المصدر.

(٦) تفسير الإمام عليه‌السلام : ٣٤٥ / ٢٢٦ ؛ البرهان ١ : ٢٦٧ / ١٧ ؛ البحار ٦٦ : ٣٤٤ ، باب ٣٨ ، (بخلاف يسير) ؛ الصافي ١ : ٢٢٤.

٣٣٥

[٢ / ٢٥٣٦] وأخرج ابن أبي حاتم ومسلم بإسنادهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس المسكين بالطوّاف ـ الذي يطوف على الناس ـ ولا بالذي تردّه اللقمة واللقمتان ولا التمرة والتمرتان ، ولكن المسكين المتعفّف الذي لا يسأل الناس شيئا ، ولا يفطن له فيتصدّق عليه» (١).

***

[٢ / ٢٥٣٧] وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر عن عبد الملك بن سليمان أنّ زيد بن ثابت كان يقرأ : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً). وكان ابن مسعود يقرأ : «وقولوا للنّاس حسنا» (٢).

[٢ / ٢٥٣٨] وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) قال : «يعني الناس كلّهم» (٣).

[٢ / ٢٥٣٩] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء وأبي جعفر الباقر عليه‌السلام في قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) قالا : للناس كلّهم (٤).

[٢ / ٢٥٤٠] وروى الكليني والعيّاشي عن حريز عن سدير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أطعم سائلا لا أعرفه مسلما؟ قال : «نعم أعط من لا تعرفه بولاية ولا بعداوة للحقّ ، إنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)» (٥).

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ١٦١ / ٨٤١ ؛ مسلم ٣ : ٩٥ ، كتاب الزكاة ، باب المسكين الذي لا يجد غنى. وفيه : قالوا فما المسكين يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدّق عليه ولا يسأل الناس شيئا.

(٢) الدرّ ١ : ٢١٠ ؛ الثعلبي ١ : ٢٢٨ ، بلفظ : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) اختلفت القراءة فيه فقرأ زيد بن ثابت وأبو العالية وعاصم وأبو عمرو «حُسْناً» بضم الحاء وجزم السّين وهو اختيار أبي حاتم. دليله قوله عزوجل : (بِوالِدَيْهِ حُسْناً) وقوله تعالى : (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً). وقرأ ابن مسعود وخلف «حسنا» بفتح الحاء والسين وهو اختيار أبي عبيد.

(٣) الدرّ ١ : ٢١٠ ؛ شعب الإيمان ٥ : ٢٨٧ ـ ٢٨٨ / ٦٦٨٢ ، باب ، في تحريم أعراض الناس ؛ كنز العمّال ٢ : ٣٥٩ / ٤٢٣٨.

(٤) الدرّ ١ : ٢١٠ ؛ الطبري ١ : ٥٥٣ ـ ٥٥٤ / ١٢٠١ ؛ التبيان ١ : ٣٣٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٦١ / ٨٤٤ ، وكذا عن عكرمة ؛ الوسيط ١ : ١٦٦ ، بلفظ : «قال الربيع وعطاء ومحمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام : هذا على العموم في تحسين المقالة للناس كلّهم».

(٥) الكافي ٤ : ١٣ / ١ ، باب الصدقة على من لا تعرفه ؛ العيّاشي ١ : ٦٦ ـ ٦٧ / ٦٤ ، وفيه : عن حريز عن برير ؛ البحار ٦٨ : ٣١٣ / ١٥ ، باب ٧٩ و ٧١ : ٣٦٧ / ٥٣ ، باب ٢٣.

٣٣٦

[٢ / ٢٥٤١] وروى الكليني بإسناده إلى معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) قال : «قولوا للناس ولا تقولوا إلّا خيرا حتّى تعلموا ما هو» (١).

[٢ / ٢٥٤٢] وقال الصادق عليه‌السلام : «(وَقُولُوا لِلنَّاسِ) كلّهم (حُسْناً) مؤمنهم ومخالفهم : أمّا المؤمنون فيبسط لهم وجهه وبشره. وأمّا المخالفون فيكلّمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الإيمان ، فإن ييأس من ذلك يكفّ شرورهم عن نفسه ، وعن إخوانه المؤمنين» (٢).

[٢ / ٢٥٤٣] وقال الإمام أبو محمّد العسكري عليه‌السلام : «إنّ مداراة أعداء الله من أفضل صدقة المرء على نفسه وإخوانه. كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منزله إذ استأذن عليه عبد الله بن أبيّ بن سلول ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بئس أخو العشيرة ، ائذنوا له. فأذنوا له. فلمّا دخل أجلسه وبشر في وجهه ، فلمّا خرج قالت له عائشة : يا رسول الله ، قلت فيه ما قلت ، وفعلت به من البشر ما فعلت! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عويش يا حميراء ، إنّ شرّ الناس عند الله يوم القيامة من يكرم اتقاء شرّه!» (٣).

[٢ / ٢٥٤٤] وأخرج ابن جرير عن عبد الملك بن أبي سليمان ، قال : سألت عطاء بن أبي رياح ، عن قول الله جلّ ثناؤه : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) قال : من لقيت من الناس فقل له حسنا من القول. قال : وسألت أبا جعفر ـ يعني محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام ـ ، فقال مثل ذلك (٤).

[٢ / ٢٥٤٥] وروى العياشي بإسناده إلى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «اتّقوا الله ولا تحملوا الناس على أكتافكم ، إنّ الله يقول في كتابه : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)» (٥)!

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٩٤ ؛ الكافي ٢ : ١٦٤ / ٩ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الاهتمام بأمور المسلمين ؛ البحار ٧١ : ٣٤٠ / ١٢٤ ، باب ٢٠ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٦٨.

(٢) تفسير الإمام عليه‌السلام : ٣٥٣ ـ ٣٥٤ / ٢٤٠ ؛ البرهان ١ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨ / ١٨ ؛ الصافي ١ : ٢٢٥ ؛ البحار ٦٨ : ٣٠٩ ، باب ٧٩ ، و ٧٢ : ٤٠١ / ٤٢ ، باب ٨٧.

(٣) تفسير الإمام عليه‌السلام : ٣٥٤ / ٢٤١ ؛ الصافي ١ : ٢٢٥ بخلاف ؛ البحار ٧٢ : ٤٠١ / ٤٢ ، باب ٨٧.

(٤) الطبري ١ : ٥٥٣ / ١٢٠٠ ؛ التبيان ١ : ٣٣٠ ، بلفظ : وروي عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام وعن عطا إنّهما قالا : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) : للناس كلّهم.

(٥) نور الثقلين ١ : ٩٤ ؛ العيّاشي ١ : ٦٧ / ٦٥ ؛ البحار ٦٨ : ٣١٣ / ١٦ ، باب ٧٩ ، و ٧١ : ١٦١ / ٢٠ ، باب ١٠ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٦٨ ؛ البرهان ١ : ٢٦٥ / ١٠.

٣٣٧

[٢ / ٢٥٤٦] وروى جعفر بن محمّد بن شريح : عن أبي الصباح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، إنّه قال في كلام له : «وخالطوا الناس ، وآتوهم ، وأعينوهم ، ولا تجانبوهم ، وقولوا لهم كما قال الله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)» (١).

[٢ / ٢٥٤٧] وروى البرقي عن ابن محبوب ، عن عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «أوصيكم بتقوى الله عزوجل ، ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلّوا ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) ثمّ قال : عودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، واشهدوا لهم وعليهم ، وصلّوا معهم في مساجدهم» (٢).

[٢ / ٢٥٤٨] وأخرج ابن جرير عن سفيان الثوري في قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) قال : مروهم بالمعروف ، وانهوهم عن المنكر (٣).

[٢ / ٢٥٤٩] وعن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) قال : قولوا للناس معروفا (٤).

[٢ / ٢٥٥٠] وقال الحسن البصري في قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) : فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح ويقول للناس حسنا كما قال الله وهو كلّ خلق حسن رضيه الله (٥).

[٢ / ٢٥٥١] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٦).

[٢ / ٢٥٥٢] وأخرج ابن جرير من طريق الضحّاك عن ابن عبّاس في قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أمرهم أن يأمروا بلا إله إلّا الله من لم يقلها ورغب عنها ، حتّى يقولها : فإنّ ذلك قربة لهم من الله (٧).

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٨ : ٣١٤.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٣٠١ ؛ المحاسن ١ : ١٨ / ٥١.

(٣) الطبري ١ : ٥٥٣ / ١١٩٩ ؛ الثعلبي ١ : ٢٢٨.

(٤) الطبري ١ : ٥٥٣ / ١١٩٧ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٦١ / ٨٤٣.

(٥) ابن كثير ١ : ١٢٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٦١ ـ ١٦٢ / ٨٤٦.

(٦) الدرّ ١ : ٢١٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٦١ / ٨٤٢.

(٧) الدرّ ١ : ٢١٠ ؛ الطبري ١ : ٥٥٣ / ١١٩٦ ؛ التبيان ١ : ٣٣٠.

٣٣٨

[٢ / ٢٥٥٣] وأخرج أحمد عن أبي ذرّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه قال : «لا تحقّرنّ من المعروف شيئا ، وإن لم تجد ، فالق أخاك بوجه طلق» (١).

[٢ / ٢٥٥٤] وقال الصادق عليه‌السلام : «حسن المعاشرة مع خلق الله تعالى في غير معصيته ، من مزيد فضل الله تعالى عند عبده ، ومن كان خاضعا لله تعالى في السرّ ، كان حسن المعاشرة في العلانية ، فعاشر الخلق لله تعالى ، ولا تعاشرهم لنصيبك لأمر الدنيا ، ولطلب الجاه ، والرياء والسمعة ، ولا تسقطنّ بسببها عن حدود الشريعة ، من باب المماثلة والشهرة ، فإنّهم لا يغنون عنك شيئا ، وتفوتك الآخرة بلا فائدة ، فاجعل من هو أكبر منك بمنزلة الأب ، والأصغر بمنزلة الولد ، والمثل بمنزلة الأخ ، ولا تدع ما تعلم يقينا من نفسك ، بما تشكّ فيه من غيرك ، وكن رفيقا في أمرك بالمعروف ، وشفيقا في نهيك عن المنكر ، ولا تدع النصيحة في كلّ حال ، قال الله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)» (٢).

[٢ / ٢٥٥٥] وروى الكليني والعيّاشي بالإسناد إلى جابر بن يزيد عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) قال : «قولوا للناس أحسن ما تحبّون أن يقال فيكم!» (٣)

[٢ / ٢٥٥٦] وقال أبو العالية في معنى الآية : قولوا لهم الطيّب من القول وجازوهم بأحسن ما تحبّون أن تجازوا به (٤).

[٢ / ٢٥٥٧] وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود ، قال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) هذه ، وإقامة الصلاة تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها (٥).

[٢ / ٢٥٥٨] وقال الإمام أبو محمّد العسكري عليه‌السلام في قوله : (وَآتُوا الزَّكاةَ) : «من المال والجاه وقوّة البدن ، فمن المال مواساة إخوانكم المؤمنين ، ومن الجاه إيصالهم إلى ما يتقاعسون عنه لضعفهم عن

__________________

(١) مسند أحمد ٥ : ١٧٣ ؛ مسلم ٨ : ٣٧ ، كتاب البرّ والصلة بلفظ : لا تحقّرنّ من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق.

(٢) مستدرك الوسائل ٨ : ٣١٧ ؛ مصباح الشريعة : ٤٣ ، الباب التاسع عشر ، في المعاشرة ؛ البحار ٧١ : ١٦٠ / ١٧ ، باب ١٠.

(٣) نور الثقلين ١ : ٩٤ ؛ الكافي ٢ : ١٦٥ / ١٠ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الاهتمام بأمور المسلمين ؛ العيّاشي ١ : ٦٦ / ٦٣ وفيه : «يقال لكم» بدل «يقال فيكم». وزاد : فإنّ الله يبغض اللعّان السبّاب الطعّان على المؤمنين المتفحّش ؛ الأمالي للصدوق : ٣٢٦ / ٣٨٢ ـ ٥ ، المجلس ٤٤ ؛ البحار ٧١ : ٣٤١ / ١٢٥ ، باب ٢٠ ، و ١٦١ / ١٩ ، باب ٩.

(٤) القرطبي ٢ : ١٦.

(٥) الطبري ١ : ٥٥٤ / ١٢٠٢.

٣٣٩

حوائجهم المتردّدة في صدورهم ، وبالقوّة معونة أخ لك قد سقط حماره أو جمله في صحراء أو طريق ، وهو يستغيث فلا يغاث ، تعينه حتّى يحمل عليه متاعه ، وتركبه [عليه] وتنهضه حتّى تلحقه القافلة» (١).

[٢ / ٢٥٥٩] وأخرج ابن جرير عن الضحّاك ، عن ابن عبّاس في قوله : (وَآتُوا الزَّكاةَ) قال : إيتاء الزكاة ما كان الله فرض عليهم في أموالهم من الزكاة ، وهي سنّة كانت لهم غير سنّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ كانت زكاة أموالهم قربانا تهبط إليه نار فتحملها ، فكان ذلك تقبّله ، ومن لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبّل. وكان الذي قرّب من مكسب لا يحلّ من ظلم أو غشم ، أو أخذ بغير ما أمر الله به وبيّنه له (٢).

[٢ / ٢٥٦٠] وعن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عبّاس في قوله : (وَآتُوا الزَّكاةَ) قال : يعني بالزكاة : طاعة الله والإخلاص (٣).

[٢ / ٢٥٦١] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) قال : أي تركتم ذلك كلّه (٤).

[٢ / ٢٥٦٢] وأخرج ابن جرير عن ابن عبّاس في قوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) قال : أعرضتم عن طاعتي (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) وهم الّذين اخترتهم لطاعتي (٥).

[٢ / ٢٥٦٣] وقال مقاتل بن سليمان : قوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) يعني أعرضتم عن الإيمان فلم تقرّوا ببعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) يعني ابن سلام ، وسلام بن قيس ، وثعلبة بن سلام ، وقيس ابن أخت عبد الله بن سلام ، وأسيد وأسد ابني كعب ويامين ، وابن يامين ، وهم مؤمنو أهل التوراة (٦).

***

[٢ / ٢٥٦٤] وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) قال : أي

__________________

(١) تفسير الإمام عليه‌السلام : ٣٦٤ ـ ٣٦٥ / ٢٥٤ ؛ البرهان ١ : ٢٦٨ / ٢٠ ؛ البحار ٧١ : ٢٢٨ ـ ٢٢٩ / ٢٣ ، باب ١٥.

(٢) الطبري ١ : ٥٥٤ / ١٢٠٣.

(٣) المصدر / ١٢٠٤.

(٤) الدرّ ١ : ٢١٠ ؛ الطبري ١ : ٥٥٥ / ١٢٠٦ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٦٢ / ٨٥٠.

(٥) الدرّ ١ : ٢١٠ ؛ الطبري ١ : ٥٥٥ / ١٢٠٥.

(٦) تفسير مقاتل ١ : ١٢٠.

٣٤٠