التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

لله واجبا ، ولا من أموالهم يتصدّقون ، ولا يقومون بمعروف ، ولا الضيف يقرون ، ولا مكروبا يغيثون ، ولا بشيء من الإنسانيّة يعاشرون أو يعاملون.

قوله : (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ليس ترديدا من القائل أو استدراكا ، وإنّما هو على طريقة الإبهام على السامع. أي بأيّهما قلت فقد أصبت ، فهم بين هذا وذاك .. والاستدراك إنّما هو لتدارك الغلط ولا خطأ من العالم الحكيم وهذا كقول أحدهم : لا خير فيهم لا في قليل ولا في كثير.

قوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ ...) بيان لكون قلوبهم أشدّ قسوة.

قال : وهذا الذي وصف الله به قلوبهم جاء نظيره في سورة النساء : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً)(١).

وما وصف به الأحجار هنا ، جاء نحوه في سورة الحشر : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)(٢).

قال : وهذا التقريع لليهود ومن على شاكلتهم ، استغلظه يهود المدينة فأتى رؤساؤهم وذوو الألسن والبيان منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : يا محمّد! قد هجوتنا وادّعيت على قلوبنا ما يعلم الله خلافه ، إنّ في قلوبنا الخير الكثير ، نصوم ونتصدّق ونواسي الفقراء!

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما الخير ما أريد به وجه الله تعالى ، وعمل على أمره تعالى. فأمّا الرياء والسمعة ومنابذة الرسول والاستكبار على الله فليس بخير ، بل هو شرّ محض ووبال على صاحبه ، يعذّبه الله به أشدّ العذاب.

فقال اليهود : إنّما نريد بذلك منابذتك حسبة لله تعالى ، فيما نعتقده!

فقال رسول الله : يا إخوة اليهود إنّ الدعاوى يتساوى فيها المحقّون والمبطلون ، ولكن حجج الله ودلائله واضحة لائحة تميّز المبطلين عن المحقّين.

قال رسول الله : وأنا بسمتي رسول الله لا أغتنم جهلكم ولا أكلّفكم التسليم لي بغير حجّة ، ولكن

__________________

(١) النساء ٤ : ٥٣.

(٢) الحشر ٥٩ : ٢١.

٣٠١

لأقيم عليكم الحجّة من الله ما لا يمكنكم الدفاع ولا تطيقون الامتناع» (١).

[٢ / ٢٤٢٢] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) : فشبّه قلوبهم حين لم تلن بالحجارة في الشدّة ، ثمّ عذّر الحجارة وعاب قلوبهم ، فقال : فهي كالحجارة في القسوة (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ثمّ قال : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ) ما هي ألين من قلوبهم فمنها (لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما) يعني ما (يَشَّقَّقُ) يعني يتصدّع (فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ) يقول من بعض الحجارة الذي يهبط من أعلاه فهؤلاء جميعا (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) يفعلون ذلك ، وبنو إسرائيل لا يخشون الله ولا ترقّ قلوبهم ، كفعل الحجارة ولا يقبلون إلى طاعة ربّهم. ثمّ وعدهم فقال ـ عزوجل ـ : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من المعاصي (٢).

[٢ / ٢٤٢٣] وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) قال : إنّ الحجر ليقع على الأرض ، ولو اجتمع عليه فئام من الناس ما استطاعوه ، وإنّه ليهبط من خشية الله (٣).

[٢ / ٢٤٢٤] وروى الصدوق بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ما جفّت الدموع إلّا لقسوة القلوب ، وما قست القلوب إلّا لكثرة الذنوب» (٤).

[٢ / ٢٤٢٥] وروى الكليني بإسناده إلى عمرو بن عثمان عن عليّ بن عيسى رفعه قال : فيما ناجى الله ـ عزوجل ـ به موسى عليه‌السلام : يا موسى لا تطوّل في الدنيا أملك فيقسو قلبك ، والقاسي القلب منّي بعيد (٥).

__________________

(١) تفسير الإمام : ٢٨٣ ـ ٢٨٦. وأخرجه القطب الراوندي في الخرائج والجرائح (٢ : ٥١٩ / ٢٨) في أعلام النبوّة. والبحار ٩ : ٣١٢ و ١٧ : ٣٣٥. ومع تصرّف يسير في بعض العبائر.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١١٦.

(٣) الدرّ ١ : ١٩٨ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٤٧ / ٧٦٢.

(٤) نور الثقلين ١ : ٩٢ ؛ العلل ١ : ٨١ / ١ ، باب ٧٤ ؛ البحار ٦٧ : ٥٥ / ٢٤ ، باب ٤٤ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٥٥.

(٥) نور الثقلين ١ : ٩٢ ؛ الكافي ٢ : ٣٢٩ / ١ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب القسوة ؛ البحار ٧٠ : ٣٩٨ / ٣ ، باب ١٤٥ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٥٥.

٣٠٢

قال تعالى :

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧))

وهذا استعراض آخر لمواقف بني إسرائيل الشنيئة ، جاءت حاضرة العالم الإسلامي في بدء نشوئه وتشكلّه في مدينة الرسول وإذا هي امتداد لمواقفهم الأولى مع أنبيائهم حذو النعل بالنعل ، ملؤها القسوة والجفاء والتعنّت واللجاج.

والخطاب في هذه الآيات إلى الجماعة المسلمة ليأخذوا حذرهم من هؤلاء الّذين مرنوا على المكر والخداع ، بشتّى وسائلهم وأساليبهم في إيقاع الفتنة وبثّ الفساد في الأرض يحذّرها كيدهم ومكرهم على ضوء تاريخهم وجبلّتهم المنحرفة ، فلا تنخدع بأقوالهم ودعاويهم الكاذبة ووسائلهم الماكرة في الفتنة والتضليل.

نعم كانت صورة الجفاف والقسوة والجدب هي التي صوّر الله بها قلوب بني إسرائيل في آيات سبقت ، صورة الحجارة الصلدة التي لا تنضّ منها قطرة ، ولا يلين لها مسّ ، ولا تنبض فيها حياة وهي صورة توحي باليأس من هذه الطبيعة الجاسية الجامدة الخاوية وفي ظلّ هذا التصوير ، وظلّ هذا الإيحاء ، يلتفت السياق إلى المؤمنين ، الّذين يطمعون ـ لحسن نيّتهم ـ في هداية هؤلاء الأشاكس الطباع ، وربما يحاولون أن يبثّوا في قلوبهم الإيمان ، وأن يفيضوا عليها النور يلتفت إلى أولئك المؤمنين بسؤال يوحي باليأس والقنوط.

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ!) ـ استفهام تعجيب وتيئيس ـ (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ـ يخونون في أداء رسالة الله ـ (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) ـ وفهموه على حقيقته التي لا ريب فيها ـ (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فكانوا عن عمد وسوء نيّة يحرّفون الكلم عن مواضعه.

٣٠٣

فلا مطمع في أن يؤمن أمثال هؤلاء. فللإيمان الصادق طبيعة أخرى واستعداد آخر : إنّ الطبيعة المؤمنة سمحة هيّنة ليّنة ، مفتّحة المنافذ للأضواء وللاتّصال بالنبع الأزلي الخالد أمّا الفريق المشار إليه هم أعلم اليهود وأعرفهم بالحقيقة المنزلة عليهم ، وهم الأحبار وكبراء القوم ، كانت طبيعتهم سبخة سمجة ذات انحراف شديد .. ومن ثمّ لا تنصاع للحقّ إلّا فيما وافق مطامعهم. وفيما عدا ذلك يؤوّلون النصّ الصريح حيث ساق بهم الهوى.

ومن ثمّ هذا التخاتل والنفاق الفاضح ، كانوا (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا) عن خبث ولؤم : (آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا) عقابا لمن صرّح بالحقّ : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي أتحدّثون المسلمين ـ بكلّ بساطة ـ بما فتح الله عليكم من صدق شريعة الله النازلة على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) يلزموكم يوم القيامة بما اعترفتم به من الحقّ ، فيكون حجّة عليكم! (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفلا تتعقّلون المصلحة في الكتمان والمفسدة في الإفشاء.

أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وهم يضيفون إلى خراب الذمّة وكتمان الحقّ وتحريف الكلم عن مواضعه ، الرياء والنفاق والخداع والمراوغة؟!

كان بعضهم إذا لقوا المؤمنين قالوا : آمنّا بأنّ محمّدا مرسل ، بحكم ما عندنا من دلائل نبوّته والبشارة بمقدمه ، وبحكم أنّهم كانوا ينتظرون بعثته ، ويتوقّعون أن ينصرهم الله به على من عداهم (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا)(١).

ولكن عند ما كان يختلي بعضهم إلى بعض ، عاتبوهم على ما أفضوا للمسلمين من صحّة رسالة الإسلام وأنّ ذلك سيعود حجّة لهم عليكم؟!

وهنا نراهم قد تداركتهم طبيعتهم المحتجبة عن معرفته تعالى وأنّه يعلم ما في الصدور. وأنّه سوف يؤاخذهم على نيّاتهم وسوء تصرّفاتهم ، سواء أخفوها أم أعلنوها (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)؟!

__________________

(١) البقرة ٢ : ٨٢.

٣٠٤

وبعد فإليك ما ورد من أحاديث السلف بشأن هذه الآيات :

[٢ / ٢٤٢٦] قال مقاتل بن سليمان قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ) : أي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده. (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) : أن يصدّقوا قولك يا محمّد! يعني يهود المدينة. (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) على عهد موسى عليه‌السلام (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) وذلك أنّ السبعين الّذين اختارهم موسى حين قالوا أرنا الله جهرة فعاقبهم الله ـ عزوجل ـ وأماتهم عقوبة ، وبقي موسى وحده ، يبكي فلمّا أحياهم الله ـ سبحانه ـ قالوا : قد علمنا الآن أنّك لم تر ربّك ولكن سمعت صوته فأسمعنا صوته! قال موسى : أمّا هذا فعسى! قال موسى : يا ربّ إنّ عبادك هؤلاء بني إسرائيل يحبّون أن يسمعوا كلامك! فقال : من أحبّ منهم أن يسمع كلامي فليعتزل النساء ثلاثة أيّام ، وليغتسل اليوم الثالث وليلبس ثيابا جددا ، ثمّ ليأتي الجبل فأسمعه كلامي! ففعلوا ذلك ثمّ انطلقوا مع موسى إلى الجبل ، فقال لهم موسى : إذا رأيتم السحابة قد غشيت ، ورأيتم فيها نورا وسمعتم فيها صوتا ، فاسجدوا لربّكم وانظروا ما يأمركم به ، فافعلوا ، قالوا : نعم ، فصعد موسى عليه‌السلام الجبل فجاءت الغمامة فحالت بينهم وبين موسى ، ورأوا النور وسمعوا صوتا كصوت الصور ، وهو البوق ، فسجدوا وسمعوه وهو يقول : إنّي أنا ربّكم لا إله إلّا أنا الحيّ القيّوم ، وأنا الذي أخرجتكم من أرض مصر بيد رقيقة (١) وذراع شديد فلا تعبدوا إلها غيري ، ولا تشركوا بي شيئا ولا تجعلوا لي شبها فإنّكم لن تروني ، ولكن تسمعون كلامي ، فلمّا أن سمعوا الكلام ذهبت أرواحهم من هول ما سمعوا ثمّ أفاقوا وهم سجود ، فقالوا لموسى عليه‌السلام : إنّا لا نطيق أن نسمع كلام ربّنا ، فكن بيننا وبين ربّنا ، فليقل لك وقل أنت لنا. قال موسى : يا ربّ إنّ بنى إسرائيل لم يطيقوا أن يسمعوا كلامك فقل لي أقل لهم. قال الله ـ عزوجل ـ : نعم ما رأوا!

فجعل الله ـ عزوجل ـ يأمر موسى ثمّ يخبرهم موسى ويقولون سمعنا ربّنا وأطعنا ، فلمّا فرغ من أمره ونهيه ارتفعت السحابة وذهب الصوت ، فرفع القوم رؤوسهم ورجعوا إلى قومهم. قيل لهم : ماذا أمركم به ربّكم ونهاكم عنه؟ فقال بعضهم : أمرنا بكذا وكذا ، ونهانا عن كذا وكذا. وقال آخرون ... وأتبع في آخر قوله : إن لم تستطيعوا ترك ما نهاكم عنه فافعلوا ما تستطيعون. فذلك قوله سبحانه :

__________________

(١) في نسخة : رفيقة. وفي أخرى : رفيعة.

٣٠٥

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يعني طائفة من بني إسرائيل (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) وفهموه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنّهم حرّفوا الكلام!! (١)

[٢ / ٢٤٢٧] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن الربيع في قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) قال : يعني أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يؤمنوا لكم ، يقول : أفتطمعون أن يؤمن لكم اليهود؟ (٢)

[٢ / ٢٤٢٨] وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : ثمّ قال الله لنبيّه ومن معه من المؤمنين يؤيّسهم منهم : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ). وليس قوله : يسمعون التوراة ، كلّهم قد سمعها ، ولكنّهم الّذين سألوا موسى رؤية ربّهم فأخذتهم الصاعقة فيها! (٣).

[٢ / ٢٤٢٩] وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله : (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) قال : هي التوراة حرّفوها (٤).

[٢ / ٢٤٣٠] وأخرج عن ابن زيد في قوله : (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) قال : التوراة التي أنزلها عليهم يحرّفونها ، يجعلون الحلال فيها حراما والحرام فيها حلالا ، والحقّ فيها باطلا والباطل فيها حقّا ، إذا جاءهم المحقّ برشوة أخرجوا له كتاب الله ، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب فهو فيه محقّ ، وإن جاء أحد يسألهم شيئا ليس فيه حقّ ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحقّ ، فقال لهم : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٥). (٦)

[٢ / ٢٤٣١] وأخرج عن محمّد بن إسحاق ، قال : بلغني عن بعض أهل العلم أنّهم قالوا لموسى : يا موسى قد حيل بيننا وبين رؤية الله ـ عزوجل ـ فأسمعنا كلامه حين يكلّمك! فطلب ذلك موسى إلى ربّه ، فقال : نعم ، فمرهم فليتطهّروا وليطهّروا ثيابهم ويصوموا! ففعلوا ، ثمّ خرج بهم حتّى أتى الطور ، فلمّا غشيهم الغمام أمرهم موسى عليه‌السلام ، فوقعوا سجودا ، وكلّمه ربّه فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم ،

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ١١٦ ـ ١١٧.

(٢) الطبري ١ : ٥١٨ / ١٠٩٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٤٨ / ٧٦٩.

(٣) الدرّ ١ : ١٩٨ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٤٨ / ٧٦٨ و ٧٧٠ الطبري ١ : ٥٢٠ / ١١٠١ ؛ ابن كثير ١ : ١١٩.

(٤) الدرّ ١ : ١٩٨ ؛ الطبري ١ : ٥١٩ ـ ٥٢٠ / ١٠٩٨ ؛ ابن كثير ١ : ١١٩.

(٥) البقرة ٢ : ٤٤.

(٦) الطبري ١ : ٥٢٠ / ١٠٩٩ ؛ ابن كثير ١ : ١١٩.

٣٠٦

حتّى عقلوا ما سمعوا ، ثمّ انصرف بهم إلى بني إسرائيل ، فلمّا جاؤوهم حرّف فريق منهم ما أمرهم به ، وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل : إنّ الله قد أمركم بكذا وكذا ، قال ذلك الفريق الذي ذكرهم الله : إنّما قال كذا وكذا خلافا لما قال الله ـ عزوجل ـ لهم. فهم الّذين عنى الله لرسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

***

ولكن قال أبو عبد الله القرطبي : هذا قول الربيع وابن إسحاق ، وفي هذا القول ضعف. ومن قال : إنّ السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ وأذهب بفضيلة موسى واختصاصه بالتكليم. وقد قال السّدّي وغيره : لم يطيقوا سماعه ، واختلطت أذهانهم ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم ، فلمّا فرغوا وخرجوا بدّلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان نبيّهم موسى عليه‌السلام ، كما قال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ)(٢)!

فإن قيل :

[٢ / ٢٤٣٢] فقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس أنّ قوم موسى سألوه أن يسأل ربّه أن يسمعهم كلامه ، فسمعوا صوتا كصوت الشّبّور (٣) : «إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا الحيّ القيّوم ، أخرجتكم من مصر بيد رفيعة وذراع شديد»!

قلت : هذا حديث باطل لا يصحّ ، روي بسند ضعيف ، وإنّما الكلام شيء خصّ به موسى من بين جميع ولد آدم. فإن كان الله قد كلّم قومه أيضا حتّى أسمعهم كلامه ، فما فضل موسى عليهم؟! وقد قال تعالى ـ وقوله الحقّ ـ : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي)(٤). وهذا واضح (٥).

[٢ / ٢٤٣٣] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ...) الآية. قال : فالذين يحرّفونه والّذين يكتمونه هم العلماء منهم ، والّذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم

__________________

(١) الطبري ١ : ٥٢٠ / ١١٠٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٤٨ / ٧٧٢ ؛ ابن كثير ١ : ١١٩.

(٢) التوبة ٩ : ٦.

(٣) على وزان التنّور : البوق. ولعلّه معرّب «شيپور» الفارسيّة.

(٤) الأعراف ٧ : ١٤٤.

(٥) القرطبي ٢ : ٢.

٣٠٧

هؤلاء كلّهم يهود (١).

[٢ / ٢٤٣٤] وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله تعالى : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) قال : عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحرّفوه عن مواضعه (٢).

[٢ / ٢٤٣٥] وأخرج عن قتادة في قوله تعالى : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قال : هم اليهود وكانوا يسمعون كلام الله ثمّ يحرّفونه بعد ما سمعوه ووعوه (٣).

[٢ / ٢٤٣٦] وأخرج ابن جرير عن ابن عبّاس في قوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا ...) قال : يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا آمنّا. وقوله (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) يعني بما أكرمكم به (٤).

[٢ / ٢٤٣٧] وقال مقاتل بن سليمان : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) يعني صدّقنا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه نبيّ. وذلك أنّ الرجل المسلم كان يلقى من اليهود حليفه أو أحاه من الرضاعة فيسأله : أتجدون محمّدا في كتابكم؟ فيقولون : نعم ، إنّ نبوّة صاحبكم حقّ وإنّا نعرفه! فسمع كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد ومالك بن الضيف وجدي بن أخطب ، فقالوا لليهود في السرّ : أتحدّثون أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما فتح الله لكم يعني بما بيّن لكم في التوراة من أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذلك قوله تعالى : [(وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ)](لِيُحَاجُّوكُمْ) يعني ليخاصموكم (بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) باعترافكم أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّ ثمّ لا تتابعوه (أَفَلا تَعْقِلُونَ) يعني أفلا ترون أنّ هذه حجّة لهم عليكم؟! (٥).

قال أبو إسحاق الثعلبي : هو أنّ الرجل من المسلمين كلّما يلقى قرينه وحليفه وصديقه من اليهود فيسأله عن أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقولون : إنّه لحقّ. فيقولون : قد أقررتم إنّه نبيّ حقّ في كتابكم ثمّ لا تتّبعونه وهو نبيّ؟! فيرجعون إلى رؤسائهم فيلومونهم على ذلك.

__________________

(١) الدرّ ١ : ١٩٨ ؛ الطبري ١ : ٥١٩ / ١٠٩٧ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٤٩ / ٧٧٣ ، بلفظ : «فالّذين يحرّفونه ، والّذين يعلمونه ، العلماء منهم والأمّيّون. يقول : فهؤلاء كلّهم يهود».

(٢) ابن أبي حاتم ١ : ١٤٩ / ٧٧٥.

(٣) المصدر : ٧٧٦.

(٤) الدرّ ١ : ١٩٩ ؛ الطبري ١ : ٥٢٢ / ١١٠٤.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ١١٧ ـ ١١٨.

٣٠٨

قال :

[٢ / ٢٤٣٨] قال السدّي : كان ناس من اليهود آمنوا ثمّ نافقوا وكانوا يحدّثون المؤمنين بما عذّبوا به. فقال لهم رؤساؤهم : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي أنزل من العذاب!! ليعيروكم به ويقولوا : نحن أكرم على الله منكم؟ (١)

قال أبو محمّد البغوي : وذلك أنّهم قالوا لأهل المدينة حين شاوروهم في اتّباع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آمنوا به فإنّه حقّ. ثمّ قال بعضهم لبعض : أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم ليكون لهم الحجة عليكم.

وقيل : إنّهم أخبروا المؤمنين بما عذّبهم الله به على الجنايات. فقال بعضهم لبعض : أتحدّثونهم بما أنزل الله عليكم من العذاب ليحاجّوكم به عند ربّكم ، ليروا الكرامة لأنفسهم عليكم عند الله (٢).

[٢ / ٢٤٣٩] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدّي قال : نزلت هذه الآية في ناس من اليهود آمنوا ثمّ نافقوا ، فكانوا يحدّثون المؤمنين من العرب بما عذّبوا به ، فقال بعضهم لبعض : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) من العذاب ليقولوا نحن أحبّ إلى الله منكم وأكرم على الله منكم! (٣)

[٢ / ٢٤٤٠] وأخرج عبد الرزّاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ) قال : كانوا يقولون : إنّه سيكون نبيّ فجاء بعضهم إلى بعض فقالوا : أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم ليحتجوا به عليكم (٤).

[٢ / ٢٤٤١] وعن أبي عبيدة والأخفش في قوله : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) قالا : أي بما منّ الله عليكم وأعطاكم! (٥)

وأخرجه الثعلبي عن الواقدي (٦).

[٢ / ٢٤٤٢] وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني في قوله : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) قال : يعني بما قضى لكم وعليكم (٧).

__________________

(١) الثعلبي ١ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

(٢) البغوي ١ : ١٣٦.

(٣) الدرّ ١ : ١٩٩ ؛ الطبري ١ : ٥٢٣ / ١١٠٦ ؛ و ٥٢٤ ـ ٥٢٥ / ١١١٤. ابن أبي حاتم ١ : ١٤٩ ـ ١٥٠ / ٧٧٩ و ٧٨٣.

(٤) عبد الرزّاق ١ : ٢٧٧ / ٧٨ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٠.

(٥) أبو الفتوح ٢ : ٢١ ؛ التبيان ١ : ٣١٦.

(٦) الثعلبي ١ : ٢٢٢ ؛ البغوي ١ : ١٣٥.

(٧) ابن أبي حاتم ١ : ١٥١ / ٧٨٤ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٠.

٣٠٩

[٢ / ٢٤٤٣] وروي عن الحسن في قوله : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) قال : أي في ربّكم فيكونوا أولى منكم إذا كانت حجّتهم عليكم (١).

[٢ / ٢٤٤٤] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم قريظة تحت حصونهم فقال : «يا إخوان القردة والخنازير ، ويا عبدة الطاغوت. فقالوا : من أخبر هذا الأمر محمّدا ، ما خرج هذا الأمر إلّا منكم (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بما حكم الله ، ليكون لهم حجّة عليكم». (٢)

[٢ / ٢٤٤٥] وأخرج ابن جرير عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) قال : قول يهود بني قريظة حين سبّهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّهم إخوة القردة والخنازير ، قالوا : من حدّثك؟ هذا حين أرسل إليهم عليّا فآذوا محمّدا ، فقال : «يا إخوة القردة والخنازير» (٣). (٤).

[٢ / ٢٤٤٦] وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) قالوا : هم اليهود ، كانوا إذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا ، فصانعوهم بذلك ليرضوا عنهم ، وإذا خلا بعضهم إلى

__________________

(١) التبيان ١ : ٣١٦ ؛ القرطبي ٢ : ٤. بلفظ : وقيل : «عند» بمعنى «في» أي ليحاجّوكم به في ربّكم فيكونوا أحقّ به منكم ، لظهور الحجّة عليكم. روي عن الحسن.

(٢) الدرّ ١ : ١٩٩ ؛ الطبري ١ : ٥٢٤ / ١١١٣ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٠ / ٧٨٢ ، بلفظ : «عن مجاهد قوله : بِما فَتَحَ اللهُ ... قال تقوله يهود من قريظة حين سبّهم محمّد بأنّهم إخوة القردة والخنازير ، فقالوا : من حدّثك هذا؟ وذلك حين أرسل إليهم عليّا وكانوا قد آذوا محمّدا فقال : يا إخوة القردة والخنازير» ؛ ابن كثير ١ : ١٢٠ ؛ القرطبي ٢ : ٣ ـ ٤ ؛ البغوي ١ : ١٣٦ ؛ التبيان ١ : ٣١٥ ، عن أبي العاليه ومجاهد وقتادة.

(٣) قوله : «يا إخوة القردة والخنازير» من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس من كلام عليّ عليه‌السلام.

(٤) الطبري ١ : ٥٢٤ / ١١١٢ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٠ ، بتفاوت ؛ القرطبي ٢ : ٣ ـ ٤ بلفظ : وقيل : إنّ عليا لمّا نازل قريظة يوم خيبر سمع سبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانصرف إليه وقال : يا رسول الله لا تبلغ إليهم وعرّض له. فقال : أظنّك سمعت شتمي منهم ، لو رأونى كلّفوا عن ذلك. ونهض إليهم ، فلمّا رأوه أمسكوا. فقال لهم : أنقضتم العهد يا إخوة القردة والخنازير ، أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته. فقالوا : ما كنت جاهلا يا محمّد ، فلا تجهل علينا. من حدّثك بهذا؟ ما خرج هذا الخبر إلّا من عندنا! قال : روي هذا المعنى عن مجاهد ؛ التبيان ١ : ٣١٥ ، بتفاوت ؛ مجمع البيان ١ : ٢٧٢ ، بتفاوت.

٣١٠

بعض ، نهى بعضهم بعضا أن يحدّثوا بما فتح الله عليهم وبيّن لهم في كتابه من أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونعته ونبوّته ، وقالوا : إنّكم إذا فعلتم ذلك احتجّوا عليكم بذلك عند ربّكم (أَفَلا تَعْقِلُونَ. أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) قال : ما يعلنون من أمرهم وكلامهم إذا لقوا الّذين آمنوا ، وما يسرّون إذا خلا بعضهم إلى بعض من كفرهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتكذيبهم به ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم (١).

[٢ / ٢٤٤٧] وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يدخلنّ علينا قصبة المدينة إلّا مؤمن! فقال رؤساء اليهود : اذهبوا فقولوا آمنّا ، واكفروا إذا رجعتم إلينا فكانوا يأتون المدينة بالبكر (٢) ويرجعون إليهم بعد العصر ، وهو قوله : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)(٣) وكانوا يقولون : إذا دخلوا المدينة : نحن مسلمون ، ليعلموا خبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمره ، فكان المؤمنون يظنّون أنّهم مؤمنون ، فيقولون لهم : أليس قد قال الله لكم في التوراة كذا وكذا؟ فيقولون : بلى. فإذا رجعوا إلى قومهم قالوا : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ ...) الآية» (٤).

[٢ / ٢٤٤٨] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عبّاس في قوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) أي بصاحبكم رسول الله ، ولكنّه إليكم خاصّة ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : لا تحدّثوا العرب بهذا ، فإنّكم قد كنتم تستفتحون به عليهم ، فكان منهم. (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي يقرّون بأنّه نبيّ وقد علمتم أنّه قد أخذ عليكم الميثاق باتّباعه وهو يخبرهم أنّه النبي الذي كان ينتظر ونجده في كتابنا ، اجحدوه ولا تقرّوا لهم به (٥).

[٢ / ٢٤٤٩] وقال عليّ بن إبراهيم إنّها نزلت في اليهود وقد كانوا أظهروا الإسلام وكانوا منافقين وكانوا إذا رأوا رسول الله قالوا : إنّا معكم ، وإذا رأوا اليهود قالوا : إنّا معكم ، وكانوا يخبرون المسلمين بما في التوراة من صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، فقال لهم كبراؤهم وعلماؤهم (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٠٠ ؛ الطبري ١ : ٥٢٤ و ٥٢٧ / ١١١٠ و ١١١٦.

(٢) البكر : أوّل كلّ شيء.

(٣) آل عمران ٣ : ٧٢.

(٤) الدرّ ١ : ١٩٩ ؛ الطبري ١ : ٥٢٥ / ١١١٥ ؛ ابن كثير ١ : ١٢٠.

(٥) الدرّ ١ : ١٩٨ ؛ الطبري ١ : ٥٢٣ / ١١٠٨ ؛ ابن كثير ١ : ١١٩ ـ ١٢٥ ؛ مجمع البيان ١ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣ ؛ التبيان ١ : ٣١٥.

٣١١

اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) فردّ الله عليهم فقال : (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(١).

[٢ / ٢٤٥٠] وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : إنّ امرأة من اليهود أصابت فاحشة فجاؤوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبتغون منه الحكم ، رجاء الرخصة! فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عالمهم وهو ابن صوريا ، فقال له : احكم! قال : فجبّؤوه (٢). قال عكرمة : التجبئة : أن يحملوه على حمار ويجعلوا وجهه إلى ذنب الحمار (وهو المعروف بالتشهير).

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبحكم الله حكمت؟ أو بما أنزل على موسى؟ قال : لا. ولكن نساءنا كنّ حسانا فأسرع فيهنّ رجالنا ، فغيّرنا الحكم.

قال عكرمة : وفيه أنزلت : (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ). قال : إنّهم غيّروا الحكم منذ ستّمأة سنة (٣).

[٢ / ٢٤٥١] وأخرج ابن جرير عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) قال : يعني بما أمركم الله به ، فيقولون : إنّما نستهزىء بهم ونضحك! (٤).

__________________

(١) القميّ ١ : ٥٠ ؛ البرهان ١ : ٢٥٧ / ٣ ؛ البحار ٩ : ١٧٩ ـ ١٨٠ / ٧.

(٢) أي جبّؤوا المحكوم.

(٣) ابن أبي حاتم ١ : ١٥٠ / ٧٨٠.

(٤) الطبري ١ : ٥٢٣ / ١١٠٧.

٣١٢

قال تعالى :

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢))

وهنا يستطرد القرآن يقصّ على المسلمين من أحوال بني إسرائيل : إنّهم فريقان ، فريق أمّي جاهل ، لا يدري شيئا من كتابهم سوى أوهام وظنون ، وسوى أماني في النجاة في دار العقبى ، على حساب أنّهم شعب الله المختار ، المغفور له كلّ ما يعمل وكلّ ما يرتكب من آثام.

وفريق يستغلّ هذا الجهل وهذه الأمّيّة فيزوّر على كتاب الله ، ويحرّف الكلم عن مواضعه بالتأويلات المغرضة ، ويكتم منه ما يشاء ، ويبدى منه ما يشاء ، ويكتب كلاما من عند نفسه يذيعه بين العوامّ باسم أنّه كتاب الله وشريعته كلّ هذا ليربح ويكسب ، ويحتفظ بالرياسة والقيادة ..

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ).

إذن فكيف ينتظر من أمثال هؤلاء وهؤلاء أن يستجيبوا للحقّ ، وأن يستقيموا على الهدى وأن يخلصوا الإيمان الصادق بالإسلام والقرآن وشريعة السماء.

هيهات كيف ينتظر الصلاح من ذوي الطباع المنحرفة المعوجّة؟!

نعم ، إنّما ينتظرهم الويل والهلاك ، لصنيعهم في تحريف الكتاب ، ولابتغائهم الثمن البخس في مكسبهم الدنيء.

***

٣١٣

من تلك الأماني الجاهلة التي لا تستقيم مع منطق العدل ، ولا تتّفق مع التصوّر الصحيح للعمل والجزاء. أن يحسبوا أنفسهم منجاة من المؤاخذة والعذاب ، لا عن مبرّر معقول ، وإنّما هو على حساب الأوهام الفارغة ومن غير أساس.

«وقالوا ـ سفها ـ : لن تمسّنا النار إلّا أيّاما معدودة أيّاما قلائل ومن غير خلود قل : على أيّ أساس تدّعون هذه الدعوى الغريبة! هل اتّخذتم عند الله عهدا ومتى وأين هذا العهد؟ فلن يخلف الله عهده حيث دعواكم الجازمة! أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟!».

وهذا هو التلقين الإلهي للحجّة الدامغة : أين هذا العهد الّذي جزمتم به وأنّ الله لا يخلفه؟! نعم ليس سوى الافتراء عليه سبحانه ، وتقولون على الله ما لا تعلمون ، أي لا علم لكم به وإنّما هي أوهام وظنون كاذبة. كما هو دأبكم في الكذب والاختلاق.

***

وهنا يأتي دور بيان الحقّ ، الذي هو فصل الخطاب ، وهو التصوّر الإسلامى النزيه في باب المثوبات والعقوبات : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى)(١).

نعم (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) وأصرّ عليها ولم يرعو إلى رشده (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) حيث الدؤوب عليها وعدم الرجوع (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لأنّهم بذلك الدؤوب والإصرار على الذنب ، هم مهّدوا هذا الخلود في مهاوي التيه والابتعاد عن رضوان الله.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

هذه هي الصورة الكليّة من التصوّر الإسلامي النبيل ، تنبع من فكرته الكلّيّة عن الكون والحياة والإنسان .. هذا الموجود الخالد .. إمّا في شقاء دائم ، أو سعادة مع الأبد.

***

[٢ / ٢٤٥٢] قال مقاتل بن سليمان : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) يقول : من اليهود من لا يقرأ التوراة إلّا أن يحدّثهم عنها رؤوس اليهود (٢).

__________________

(١) النجم ٥٣ : ٣٩ ـ ٤١.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١١٨.

٣١٤

[٢ / ٢٤٥٣] وقال عكرمة والضحاك : هم نصارى العرب (١).

[٢ / ٢٤٥٤] وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) قال : أمّيّون لا يقرأون الكتاب ، من اليهود (٢).

[٢ / ٢٤٥٥] وأخرج عن ابن عبّاس قال : الأمّيّون قوم لم يصدّقوا رسولا أرسله الله ، ولا كتابا أنزله ، فكتبوا كتابا بأيديهم ، ثمّ قالوا لقوم سفلة جهّال : هذا من عند الله وقال : قد أخبرهم أنّهم يكتبون بأيديهم ، ثمّ سمّاهم أمّيّين لجحودهم كتب الله ورسله (٣).

[٢ / ٢٤٥٦] وأخرج عن إبراهيم النخعي في قوله : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) قال : منهم من لا يحسن أن يكتب (٤).

[٢ / ٢٤٥٧] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عبّاس في قوله : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) قال : لا يدرون ما فيه (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) وهم يجحدون نبوّتك بالظنّ (٥).

[٢ / ٢٤٥٨] وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) قال : ناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا ، وكانوا يتكلّمون بالظنّ بغير ما في كتاب الله ، ويقولون هو من الكتاب. أماني يتمنّونها (٦).

[٢ / ٢٤٥٩] وأخرج عن قتادة في قوله : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) قال : إنّما هم أمثال البهائم لا يعلمون شيئا.

__________________

(١) القرطبي ٢ : ٥.

(٢) الطبري ١ : ٥٢٨ / ١١٢٢.

(٣) الدرّ ١ : ٢٠٠ ؛ الطبري ١ : ٥٢٨ / ١١٢٣ ، وقال الطبري بعد ذلك : وهذا التأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم ، وذلك أنّ الأميّ عند العرب هو الذي لا يكتب ؛ ابن كثير ١ : ١٢١ ؛ التبيان ١ : ٣١٨.

(٤) الدرّ ١ : ٢٠٠ ؛ الطبري ١ : ٥٢٨ / ١١٢١ ؛ قال الطبري : «وأرى أنّه قيل للأمّي أمّي نسبة له بأنّه لا يكتب ، إلى أمّه ، لأنّ الكتاب كان في الرجال دون النساء ، فنسب من لا يكتب ولا يخطّ من الرجال إلى أمّه في جهله بالكتابة دون أبيه كما ذكرنا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «إنّا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب» وكما قال : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [الجمعة : ٢] فإذا كان معنى الأمّي في كلام العرب ما وصفنا ، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما قاله النخعي من أنّ معنى قوله : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) : ومنهم من لا يحسن أن يكتب» ؛ ابن كثير ١ : ١٢٠ ؛ عن أبي العالية والربيع وقتادة وإبراهيم النخعي.

(٥) الدرّ ١ : ٢٠٠ ؛ الطبري ١ : ٥٢٩ و ٥٣٣ / ١١٢٦ و ١١٣٦.

(٦) الدرّ ١ : ٢٠٠ ؛ الطبري ١ : ٥٣٠ / ١١٣٢.

٣١٥

وفي رواية قال : لا يعلمون الكتاب ولا يدرون ما فيه (١).

[٢ / ٢٤٦٠] وعن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) قال : لا يدرون فيه (٢).

[٢ / ٢٤٦١] وعن ابن زيد قال : لا يعلمون شيئا ، لا يقرأون التوراة! ليست تستظهر ، إنّما تقرأ هكذا ، فإذا لم يكتب أحدهم لم يستطع أن يقرأ (٣).

[٢ / ٢٤٦٢] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (إِلَّا أَمانِيَ) قال : إلّا أحاديث (٤).

[٢ / ٢٤٦٣] وروى أبو إسحاق الثعلبي عن الكلبي ، قال في قوله : (أَمانِيَّ) : بمعنى : لا يعلمون إلّا ما تحدّثهم به علماؤهم (٥).

قال الطبرسي : والأمنيّة ، ذكر فيها وجوه أحدها : التلاوة.

وثانيها : أنّ المراد بالأمانيّ الأحاديث المختلقة ، كما عن الفرّاء. والعرب تقول : أنت إنّما تتمنّى هذا القول أي تختلقه. وقال بعضهم : ما تمنّيت مذ أسلمت أي ما كذبت!

وثالثها : أنّ المراد بالأماني أنّهم يتمنّون على الله ما ليس لهم ، مثل قولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) وقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)(٦).

وقال الثعلبي : الأمانيّ الأحاديث المفتعلة (٧).

[٢ / ٢٤٦٤] وأخرج ابن جرير عن ابن عبّاس في قوله : (إِلَّا أَمانِيَ) قال : إلّا قولا يقولون بأفواههم كذبا (٨).

[٢ / ٢٤٦٥] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (إِلَّا أَمانِيَ) قال : إلّا كذبا (وَإِنْ

__________________

(١) الطبري ١ : ٥٢٩ / ١١٢٤ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٧٧ / ٧٩.

(٢) الطبري ١ : ٥٢٩ / ١١٢٥.

(٣) المصدر / ١١٢٧.

(٤) الدرّ ١ : ٢٠١ ؛ الطبري ١ : ٥٣٠ / ١١٣١ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٢ / ٧٩٢ ؛ ابن كثير ١ : ١٢١ ؛ الوسيط ١ : ١٦٢ ، بلفظ : «إلّا أحاديث لا يعلمون إلّا ما حدثوا به».

(٥) الثعلبي ١ : ٢٢٣ ؛ مجمع البيان ١ : ٢٧٦.

(٦) مجمع البيان ١ : ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

(٧) الثعلبي ١ : ٢٢٤ ؛ البغوي ١ : ١٣٦ ؛ الوسيط ١ : ١٦٢.

(٨) الدرّ ١ : ٢٠١ ؛ الطبري ١ : ٥٢٩ / ١١٢٨ ؛ ابن كثير ١ : ١٢١ ؛ مجمع البيان ١ : ٢٧٦ ؛ التبيان ١ : ٣١٨ ، عن ابن عبّاس ومجاهد.

٣١٦

هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) قال : إلّا يكذبون (١).

[٢ / ٢٤٦٦] وأخرج ابن جرير ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : (إِلَّا أَمانِيَ) قال : يتمنّون على الله ما ليس لهم (٢).

[٢ / ٢٤٦٧] وكذا عن قتادة قال : يتمنّون على الله ما ليس لهم.

وفي رواية قال : يتمنّون على الله الباطل وما ليس لهم (٣).

[٢ / ٢٤٦٨] وروي عن الإمام العسكري عليه‌السلام قال : «قال الله : عزوجل : يا محمّد ، ومن هؤلاء اليهود (أُمِّيُّونَ) لا يقرأون الكتاب ولا يكتبون فالأمّي منسوب إلى أمّه أي هو كما خرج من بطن أمّه لا يقرأ ولا يكتب (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) المنزل من السماء ولا المكذّب به ، ولا يميزون بينهما (إِلَّا أَمانِيَ) أي إلّا أن يقرأ عليهم ويقال لهم : إنّ هذا كتاب الله وكلامه. لا يعرفون إن قرىء عليهم من الكتاب خلاف ما فيه (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) إلّا ما يقول لهم رؤساؤهم ... وهم يقلّدونهم».

قال : «قال رجل للصادق عليه‌السلام : فإذا كان هؤلاء القوم لا يعرفون الكتاب إلّا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره ، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم ، وهل عوامّ اليهود إلّا كعوامّنا يقلّدون علماءهم ، فإن لم يجز لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لعوامّنا القبول من علمائهم؟ فقال عليه‌السلام : بين عوامّنا وعلمائنا ، وبين عوامّ اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة ، أمّا من حيث أنّهم استووا فإنّ الله قد ذمّ عوامّنا بتقليدهم علماءهم ، كما قد ذمّ عوامّهم ، وأمّا من حيث أنّهم افترقوا فلا» ، فقال الرجلّ : بيّن لي ذلك يا ابن رسول الله!

قال عليه‌السلام : إنّ عوامّ اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وبأكل الحرام والرشا وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات ، وعرفوهم بالتعصّب الشديد الذي يفارقون به أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم ، وظلموهم من أجلهم ، وعرفوهم بأنّهم يقارفون المحرمات ، واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه ، فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على الله تعالى ولا على الوسائط بين

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٠١ ؛ الطبري ١ : ٥٣٠ و ٥٣٣ / ١١٢٩ و ١١٣٥ ؛ ابن كثير ١ : ١٢١ ـ ١٢٢ ؛ الثعلبي ١ : ٢٢٤ ؛ البغوي ١ : ١٣٦ ـ ١٣٧ ، بلفظ : وقال مجاهد وقتادة : إلّا كذبا وباطلا. وقال مجاهد : يكذبون ؛ أبو الفتوح ٢ : ٢٥ ، عن مجاهد وقتادة والربيع.

(٢) الطبري ١ : ٥٣٠ / ١١٣٣.

(٣) الطبري ١ : ٥٣٠ / ١١٣٠ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٧٧ / ٧٩.

٣١٧

الخلق وبين الله ، فلذلك ذمّهم لما قلّدوا من قد عرفوا ومن قد علموا أنّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه في حكايته ، ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه ، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى وأشهر من أن لا تظهر لهم.

وكذلك عوامّ أمّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبيّة الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها وإهلاك من يتعصّبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقّا ، وبالترفّق بالبرّ والإحسان على من تعصّبوا له ، وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّا ، فمن قلّد من عوامّنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الّذين ذمّهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم.

فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوامّ أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلّا في بعض الفقهاء دون بعض لا جميعهم فإنّه من ركب من القبائح والفواحش مراكب الفسقة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا ولا كرامة لهم.

وإنّما كثير التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك ، لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره لجهلهم ويضعون الأشياء على غير وجهها ، لقلّة معرفتهم. وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ليجرّوا من عرض الدنيا ما هو زادهم ، إلى نار جهنم» (١).

من هو الأمّيّ؟

الأمّي هو الذي لا يقرأ في كتاب ولا يخطّ في قرطاس.

ولكن ما وجه نسبته إلى الأمّ؟

ذكر المشهور أنّ هذه النسبة جاءته من قبل كونه كيوم ولدته أمّه لا يعرف شيئا لا القراءة ولا الكتابة.

ولكنّ أبا جعفر الطبري ذكر وجها لعلّه أدقّ ، قال :

«وأرى أنّه قيل للأمّيّ أمّي نسبة له إلى أمّه ، لأنّ الكتابة ذلك العهد كانت في الرجال دون النساء ، فنسب من لا يكتب ولا يخطّ من الرجال إلى أمّه في جهله بالكتابة ، دون أبيه ..» (٢).

أي إنّه ورث الجهل بالكتابة من أمّه دون أبيه ، إذ قد لعلّه كان يعرفها.

__________________

(١) تفسير الإمام : ٢٩٩ ؛ البحار ٢ : ٨٦ / ١٢.

(٢) الطبري ١ : ٥٢٨.

٣١٨

قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ)

[٢ / ٢٤٦٩] أخرج أحمد وهنّاد بن السّري في الزهد وعبد بن حميد والترمذي وابن أبي الدنيا في صفة النار ، وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن حبّان في صحيحه والحاكم في المستدرك وصحّحه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ويل ، واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» (١).

[٢ / ٢٤٧٠] وأخرج ابن جرير عن عثمان بن عفّان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «في قوله : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) قال : الويل جبل في النار ، وهو الذي أنزل في اليهود لأنّهم حرّفوا التوراة ، زادوا فيها ما أحبّوا ، ومحوا منها ما كانوا يكرهون ، ومحوا اسم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التوراة» (٢).

[٢ / ٢٤٧١] وأخرج البزّار وابن مردويه عن سعد بن أبي وقّاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ في النار حجرا يقال لها : ويل. يصعد عليه العرفاء (٣) وينزلون فيه» (٤).

[٢ / ٢٤٧٢] وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوّة عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام قال : «الويح والويل بابان. فأمّا الويح فباب رحمة. وأمّا الويل فباب عذاب» (٥).

[٢ / ٢٤٧٣] وأخرج الحربي في فوائده عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويحك يا عائشة ...! فجزعت منها. فقال لي : يا حميراء إنّ ويحك أو ويك رحمة فلا تجزعي منها ، ولكن اجزعي من الويل» (٦).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٠١ ؛ مسند أحمد ٣ : ٧٥ ؛ منتخب مسند عبد بن حميد : ٢٨٩ / ٩٢٤ ، باب مسند أبي سعيد الخدري ؛ الترمذي ٥ : ٣ ـ ٤ / ٣٢١٣ ، تفسير سورة الأنبياء ؛ الطبري ١ : ٥٣٤ / ١١٤٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٣ / ٧٩٨ ؛ صحيح ابن حبّان ١٦ : ٥٠٨ ؛ الحاكم ٤ : ٥٩٦ ، كتاب الأهوال ؛ البعث : ٢٧١ / ٤٦٥ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٢٥ ؛ الثعلبي ١ : ٢٢٤ ؛ البغوي ١ : ١٣٧ / ٦٨ ؛ مجمع البيان ١ : ٢٧٨ ؛ التبيان ١ : ٣٢١ ؛ كنز العمّال ٢ : ١٢ / ٢٩٣٧.

(٢) الدرّ ١ : ٢٠١ ؛ الطبري ١ : ٥٣٤ و ٥٣٦ / ١١٤٣ و ١١٥١ ، وزاد فيه : فلذلك غضب الله عليهم فرفع بعض التوراة فقال : فَوَيْلٌ لَهُمْ كنز العمّال ٢ : ٣٥٨ / ٤٢٣٤ ؛ التبيان ١ : ٣٢١ ، بلفظ : هو جبل في النار.

(٣) العرفاء ، جمع عريف وهم العشّارون.

(٤) الدرّ ١ : ٢٠١ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ٨٩ ، كتاب الزكاة ، باب في العشّارين والعرفاء ؛ كنز العمّال ٦ : ٨٢ / ١٤٩٤٢.

(٥) الدرّ ١ : ٢٠٢.

(٦) الدرّ ١ : ٢٠١.

٣١٩

[٢ / ٢٤٧٤] وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني والبيهقي في البعث عن ابن مسعود قال : ويل واد في جهنّم يسيل منه صديد أهل النار ، جعل للمكذّبين (١).

[٢ / ٢٤٧٥] وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن النعمان بن بشير قال : الويل واد من قيح في جهنّم (٢).

[٢ / ٢٤٧٦] وأخرج ابن المبارك في الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن عطاء بن يسار قال : ويل ، واد في جهنّم لو سيّرت فيه الجبال لماعت من شدّة حرّه (٣).

[٢ / ٢٤٧٧] وأخرج هنّاد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عياض قال :

ويل سيل من صديد في أصل جهنم. وفي لفظ : ويل واد في جهنم يسيل فيه صديده (٤).

[٢ / ٢٤٧٨] وأخرج ابن جرير عن أبي عياض في قوله : (فَوَيْلٌ) قال : صهريج في أصل جهنم يسيل فيه صديدهم.

وفي أخرى : قال : الويل واد من صديد في جهنم (٥).

[٢ / ٢٤٧٩] وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر مولى عفرة قال : إذا سمعت الله يقول : «ويل» ، فهي النار (٦).

[٢ / ٢٤٨٠] وروى الكلبي عن ابن عبّاس قال : الويل الشدّة من العذاب (٧).

ما هو الويل؟

قد عرفت عن ابن عبّاس ـ برواية الكلبي ـ أنّه الشدّة من العذاب ..

قال الأصمعي : ويل ، قبح. وقد يستعمل على التحسّر. وويس استصغار. وويح : ترحّم. ومن

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٠٢ ؛ الكبير ٩ : ٢٢٨ / ٩١١٤ ، بلفظ : «ويل واد في جهنّم من قيح» ؛ البعث : ٢٧٢ / ٤٦٧ ، باب ما جاء في أودية جهنّم ؛ مجمع الزوائد ٧ : ١٣٥.

(٢) الدرّ ١ : ٢٠٢.

(٣) الدرّ ١ : ٢٠٢ ؛ الزهد ، ابن مبارك : ٩٥ / ٣٣٢ ، باب صفة النار ؛ الطبري ١ : ٥٣٦ / ١١٥٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٣ / ٨٠٠ ؛ البعث : ٢٧٢ / ٤٦٨ ؛ الوسيط ١ : ١٦٣ ؛ البغوي ١ : ١٣٧ ، عن سعيد بن المسيّب ؛ ابن كثير ١ : ١٢١.

(٤) الدرّ ١ : ٢٠٢ ؛ الطبري ١ : ٥٣٤ / ١١٤١ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٣ / ٧٩٩ ؛ ابن كثير ١ : ١٢١.

(٥) الطبري ١ : ٥٣٤ / ١١٤١.

(٦) الدرّ ١ : ٢٠٢.

(٧) الوسيط ١ : ١٦٣.

٣٢٠