التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

الأسباط. فأتى أهل ذلك القتيل إلى ذلك السبط ، فقالوا : أنتم والله قتلتم صاحبنا! قالوا : لا والله. فأتوا موسى ، فقالوا : هذا قتيلنا بين أظهرهم وهم والله قتلوه. فقالوا : لا والله يا نبيّ الله طرح علينا. فقال لهم موسى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فقالوا : أتستهزىء بنا؟ وقرأ قول الله جلّ ثناؤه : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) قالوا : نأتيك فنذكر قتيلنا والذي نحن فيه فتستهزىء بنا؟ فقال موسى : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ).

[٢ / ٢٣٧٥] وعن محمّد بن كعب القرظي ، ومحمّد بن قيس قالا : لمّا أتى أولياء القتيل والّذين ادّعوا عليهم قتل صاحبهم موسى وقصّوا قصّتهم عليه ، أوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة ، فقال لهم موسى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) قالوا : وما البقرة والقتيل؟ قال : أقول لكم : إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ، وتقولون : أتتّخذنا هزوا!؟

قال أبو جعفر : فقال الّذين قيل لهم : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) بعد أن علموا واستقرّ عندهم أنّ الّذي أمرهم به موسى عليه‌السلام من ذلك عن أمر الله من ذبح بقرة ، جدّ وحقّ : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) فسألوا موسى أن يسأل ربّه لهم ما كان الله قد كفاهم بقوله لهم : «اذبحوا بقرة» لأنّه ـ جلّ ثناؤه ـ إنّما أمرهم بذبح بقرة من البقر أيّ بقرة شاؤوا ذبحها من غير أن يحصر لهم ذلك على نوع منها دون نوع أو صنف دون صنف ، فقالوا بجفاء أخلاقهم وغلظ طبائعهم وسوء أفهامهم ، وتكلّف ما قد وضع الله عنهم مؤنته ، تعنّتا منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كما :

[٢ / ٢٣٧٦] روي عن ابن عبّاس ، قال : لمّا قال لهم موسى : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) قالوا له يتعنّتونه : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) فلمّا تكلّفوا جهلا منهم ما تكلّفوا من البحث عمّا كانوا قد كفوه من صفة البقرة التي أمروا بذبحها تعنّتا منهم بنبيّهم موسى ـ صلوات الله عليه ـ بعد الذي كانوا أظهروا له من سوء الظنّ به فيما أخبرهم عن الله ـ جلّ ثناؤه ـ بقولهم : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) عاقبهم ـ عزوجل ـ بأن خصّ بذبح ما كان أمرهم بذبحه من البقر على نوع منها دون نوع ، فقال لهم ـ جلّ ثناؤه ـ إذ سألوه فقالوا : ما هي صفتها وما حليتها؟ حلّها (١) لنا لنعرفها! (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا

__________________

(١) حلّها لنا : أي صفها وصوّرها لنا ، من الحلية ، وهي الصفة والصورة.

٢٨١

بِكْرٌ) يعني بقوله جلّ ثناؤه : (لا فارِضٌ) : لا مسنّة هرمة ، يقال منه : فرضت البقرة تفرض فروضا ، يعني بذلك أسنّت ، ومن ذلك قول الشاعر :

يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض

له قروء كقروء الحائض (١)

يعني بقوله فارض : قديم يصف ضغنا قديما. ومنه قول الآخر :

له زجاج ولهاة فارض

هدلاء كالوطب نحاه الماخض (٢)

[٢ / ٢٣٧٧] وروي عن مجاهد في قوله : (لا فارِضٌ) قال : لا كبيرة.

[٢ / ٢٣٧٨] وروى شريك بإسناده عن ابن عبّاس ، أو عن عكرمة ، شكّ شريك في قوله : (لا فارِضٌ) قال : الكبيرة.

[٢ / ٢٣٧٩] وعن ابن عبّاس قال : الفارض : الهرمة.

[٢ / ٢٣٨٠] وعن الضحّاك ، عن ابن عبّاس قال : الفارض : ليست بكبيرة هرمة.

[٢ / ٢٣٨١] وروى ابن جريج ، عن عطاء الخراساني عن ابن عبّاس قال : الفارض : الهرمة.

[٢ / ٢٣٨٢] وروى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : الفارض : الكبيرة.

والبكر من إناث البهائم وبني آدم ما لم يفتحله الفحل ، وهي مكسورة الباء لم يسمع منه «فعل» ولا «يفعل». وأما «البكر» بفتح الباء فهو الفتى من الإبل. وإنّما عنى ـ جلّ ثناؤه ـ بقوله (وَلا بِكْرٌ) : ولا صغيرة لم تلد. كما :

[٢ / ٢٣٨٣] قال مجاهد : البكر : الصغيرة.

__________________

(١) في اللسان (مادة فرض) :

يا ربّ مولى حاسد مباغض

عليّ ذي ضغن وضبّ فارض

له قروء كقروء الحائض

والضب : الغيظ والحقد تضمره في القلب. والقروء : جمع قرء ، وهو وقت الحيض.

(٢) الشطر الأول في اللسان (مادة زجج). والزجاج : الأنياب. واللهاة : لحمة حمراء في الحنك مشرفة على الحلق. والفارض هنا : الواسع العظيم الضخم. الأهدل والهدلاء : المسترخي المشفر أو الشفة. والوطب : سقاء اللبن يكون من جلد. ونحاه : صرفه عنه. والماخض : من مخض اللبن : إذا وضع في الممخضة ليخرج زبده.

٢٨٢

[٢ / ٢٣٨٤] وكذا روي عن ابن عبّاس في قوله : (وَلا بِكْرٌ) قال : الصغيرة.

[٢ / ٢٣٨٥] وعن معمّر عن قتادة في قوله : (وَلا بِكْرٌ) قال : ولا صغيرة.

[٢ / ٢٣٨٦] وأيضا عن ابن عبّاس قال : (وَلا بِكْرٌ) : ولا صغيرة ضعيفة.

[٢ / ٢٣٨٧] وعن أبي العالية قال : (وَلا بِكْرٌ) : يعني ولا صغيرة.

[٢ / ٢٣٨٨] وروى أسباط ، عن السدّي : في «البكر» لم تلد إلّا ولدا واحدا.

والعوان : النصف التي قد ولدت بطنا بعد بطن ، وليست بنعت للبكر ، يقال منه : قد عوّنت إذا صارت كذلك. وإنّما معنى الكلام أنّه يقول : إنّها بقرة لا فارض ولا بكر بل عوان بين ذلك. ولا يجوز أن يكون عوان إلّا مبتدأ ، لأن قوله : (بَيْنَ ذلِكَ) كناية عن الفارض والبكر ، فلا يجوز أن يكون متقدّما عليهما. ومنه قول الأخطل :

وما بمكة من شمط محفّلة

وما بيثرب من عون وأبكار (١)

وجمعها عون يقال : امرأة عوان من نسوة عون. ومنه قول تميم بن مقبل :

ومأتم كالدّمى حور مدامعها

لم تبأس العيش أبكارا ولا عونا (٢)

وبقرة عوان وبقر عون. قال : وربّما قالت العرب : بقر عون ، مثل رسل يطلبون بذلك الفرق بين جمع عوان من البقر ، وجمع عانة من الحمر. ويقال : هذه حرب عوان : إذا كانت حربا قد قوتل فيها

__________________

(١) رواية البيت في الديوان (: ١٤٤) :

وما بزمزم من شمط محلّقة

وما بيثرب من عون وأبكار

من قصيدة طويلة يمدح بها يزيد بن معاوية أوّلها :

تغيّر الرسم من سلمى بأحفار

وأقفرت من سليمى دمنة الدار

والشمط : جمع أشمط ، وهو الذي خالط سواد شعره بياض الشيب. ومحفلة : يعني مجتهدين ومبالغين في العبادة والنسك.

(٢) البيت من قصيدة له ـ وهي من المشوبات ـ في جمهرة أشعار العرب (: ٣٠٨) ، أوّلها :

طاف الخيال بنا ركبا يمانينا

ودون ليلى عواد لو تعدّينا

والمأتم : جماعة الرجال أو النساء في خير أو شرّ. والدمى : جمع دمية ، وهي الصورة أو التمثال. والحور : جمع حوراء ، وهي شديدة بياض بياض العين وسواد سوادها مع استدارة الحدقة ورقّة الجفون. وقوله : «لم تبأس العيش» : أي لم يلحقها بؤس العيش.

٢٨٣

مرّة بعد مرّة ، يمثّل ذلك بالمرأة التي ولدت بطنا بعد بطن. وكذلك يقال : حالة عوان إذا كانت قد قضيت مرّة بعد مرّة.

وعن ابن وهب أنّ ابن زيد أنشده :

قعود لدى الأبواب طلّاب حاجة

عوان من الحاجات أو حاجة بكرا (١)

قال أبو جعفر : والبيت للفرزدق. وبنحو الذي قلنا في ذلك تأوّله أهل التأويل.

[٢ / ٢٣٨٩] قال مجاهد : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) : وسط قد ولدن بطنا أو بطنين.

[٢ / ٢٣٩٠] وعنه قال : العوان : العانس النصف.

[٢ / ٢٣٩١] وروى الضحّاك ، عن ابن عبّاس قال : (عَوانٌ) : بين الصغيرة والكبيرة.

وهي أقوى ما تكون من البقر والدوابّ وأحسن ما تكون.

قوله : (صَفْراءُ) قال بعضهم : معنى ذلك سوداء شديدة السواد.

[٢ / ٢٣٩٢] فقد روي عن الحسن : (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) قال : سوداء شديدة السواد.

وقال آخرون : معنى ذلك : صفراء القرن والظلف.

[٢ / ٢٣٩٣] وأيضا روي عن الحسن في قوله : (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) قال : صفراء القرن والظلف.

[٢ / ٢٣٩٤] وعنه في قوله : (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) قال : كانت وحشية.

[٢ / ٢٣٩٥] وعن سعيد بن جبير في قوله : (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) قال : صفراء القرن والظلف.

[٢ / ٢٣٩٦] وقال ابن زيد : هي صفراء.

[٢ / ٢٣٩٧] وقال مجاهد : لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم.

قال أبو جعفر : وأحسب أنّ الذي قال في قوله : (صَفْراءُ) يعني به سوداء ، ذهب إلى قوله في نعت الإبل السود : هذه إبل صفر ، وهذه ناقة صفراء ؛ يعني بها سوداء. وإنّما قيل ذلك في الإبل لأنّ سوادها يضرب إلى الصفرة ، ومنه قول الشاعر (٢) :

__________________

(١) قعودا : جمع قاعد. والحاجة العوان : الكبيرة. والبكر : الصغيرة.

(٢) هو الأعشى (ديوانه : ٢٠) من قصيدة في مدح قيس بن معديكرب ، أوّلها :

من ديار بالهضب هضب القليب

فاق ماء الشؤون فيض الغروب

٢٨٤

تلك خيلي منها وتلك ركابي

هنّ صفر أولادها كالزبيب (١)

يعني بقوله : هنّ صفر : هنّ سود ، وذلك إن وصفت الإبل به فليس ممّا توصف به البقر ، مع أنّ العرب لا تصف السواد بالفقوع ، وإنّما تصف السواد إذا وصفته بالشدّة وبالحلوكة ونحوها ، فتقول : هو أسود حالك وحانك وحلكوك ، وأسود غربيب ودجوجي ، ولا تقول : هو أسود فاقع ، وإنّما تقول هو أصفر فاقع. فوصفه إيّاه بالفقوع من الدليل البيّن على خلاف التأويل بشديدة السواد.

وقال في قوله تعالى : (فاقِعٌ لَوْنُها) يعني خالص لونها ، والفقوع في الصفر نظير النصوع في البياض ، وهو شدّته وصفاؤه. كما :

[٢ / ٢٣٩٨] قال قتادة : (فاقِعٌ لَوْنُها) : هي الصافي لونها.

[٢ / ٢٣٩٩] وروي عن أبي العالية في قوله : (فاقِعٌ لَوْنُها) قال : أي صاف لونها.

[٢ / ٢٤٠٠] وعن السدّيّ قال : نقيّ لونها.

[٢ / ٢٤٠١] وعن ابن عبّاس في قوله : (فاقِعٌ لَوْنُها) قال : شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيضّ.

قال الشاعر :

حملت عليه الورد حتّى تركته

ذليلا يسفّ الترب واللون فاقع (٢)

وقال في قوله تعالى : (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) يعني بقوله : (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) تعجب هذه البقرة في حسن خلقها ومنظرها وهيئتها الناظر إليها. كما :

[٢ / ٢٤٠٢] روي عن قتادة في قوله : (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) قال : أي تعجب الناظرين.

[٢ / ٢٤٠٣] وروي عن عبد الصمد بن معقل أنّه سمع وهبا قال في قوله تعالى : (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) : إذا نظرت إليها يخيّل إليك أنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها (٣).

***

[٢ / ٢٤٠٤] وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ في العظمة عن وهب بن منبّه قال : إنّ فتى من بني

__________________

(١) رواية الديوان : «خيلي منه» وهو الصواب وما قبله يومىء إلى ذلك ، حيث قال : «إنّ قيسا قيس الفعال ... الخ» والركاب : الإبل التي يسار عليها. والزبيب : ذاوي العنب ، وأسوده أجوده.

(٢) الورد : فرسه.

(٣) الطبري ١ : ٤٧٨ ـ ٤٩٢ ، بحذف وتصرّف.

٢٨٥

إسرائيل كان برّا بوالدته ، وكان يقوم ثلث الليل يصلّي ، ويجلس عند رأس والدته ثلث الليل ، فيذكّرها بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد ، ويقول : يا أمّه إن كنت ضعفت عن قيام الليل فكبّري الله وسبّحيه وهلّليه ، فكان ذلك عملهما الدهر كلّه ، فإذا أصبح أتى الجبل فاحتطب على ظهره فيأتي به السوق فيبيعه بما شاء الله أن يبيعه ، فيتصدّق بثلثه ويبقي لعبادته ثلثا ويعطي الثلث أمّه ، وكانت أمّه تأكل النصف وتتصدّق بالنصف ، وكان ذلك عملهما الدهر كلّه.

فلمّا طال عليها قالت : يا بنيّ اعلم إنّي قد ورثت من أبيك بقرة وختمت عنقها ، وتركتها في البقر على اسم إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، قالت وسأبيّن لك ما لونها وهيئتها ، فإذا أتيت البقر فادعها باسم إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب فإنّها تفعل كما وعدتني ، وقالت : إنّ علامتها ليست بهرمة ولا فتية ، غير أنّها بينهما وهي صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين ، إذا نظرت إلى جلدها يخيّل اليك أنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها ، وليست بالذلول ، ولا صعبة تثير الأرض ، ولا تسقي الحرث ، مسلّمة لا شية فيها ولونها واحد ، فإذا رأيتها فخذ بعنقها فإنّها تتبعك بإذن إله إسرائيل.

فانطلق الفتى وحفظ وصيّة والدته ، وسار في البرّيّة يومين أو ثلاثا ، حتّى إذا كان صبيحة ذلك اليوم انصرف فصاح بها فقال : بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب إلّا ما أتيتني ، فأقبلت البقرة إليه وتركت الرعي ، فقامت بين يدي الفتى ، فأخذ بعنقها فتكلّمت البقرة وقالت : يا أيّها الفتى البرّ بوالدته اركبني فإنّه أهون عليك. قال الفتى : لم تأمرني والدتي أن أركب عليك ولكنّها أمرتني أن أسوقك سوقا فأحبّ أن أبلغ قولها. فقالت : بإله إسرائيل لو ركبتني ما كنت لتقدر عليّ ، فانطلق يا أيّها الفتى البرّ بوالدته ، لو أنّك أمرت هذا الجبل أن ينقلع لك من أصله لا نقلع لبرّك بوالدتك ولطاعتك إلهك (١).

فانطلق حتّى إذا كان من مسيرة يوم من منزله استقبله عدوّ الله إبليس ، فتمثّل له على صورة راع من رعاة البقر ، فقال : يا أيّها الفتى من أين جئت بهذه البقرة ، ألا تركبها فإنّي أراك قد أعييت؟ أظنّك لا تملك من الدنيا مالا غير هذه البقرة ، فإنّي أعطيك الأجر ينفعك ولا يضرّها ، فإنّي رجل من رعاة

__________________

(١) العظمة ٥ : ١٧٦٥ / ١٢٦٤ ـ ٩٠.

٢٨٦

البقر اشتقت إلى أهلي ، فأخذت ثورا من ثيراني فحملت عليه طعامي وزادي ، حتّى إذا بلغت شطر الطريق أخذني وجع بطني ، فذهبت لأقضي حاجتي فعدا وسط الجبل وتركني وأنا أطلبه ولست أقدر عليه ، فأنا أخشى على نفسي الهلاك وليس معي زاد ولا ماء ، فإن رأيت أن تحملني على بقرتك فتبلغني مراعيّ وتنجيني من الموت وأعطيك أجرها بقرتين.

قال الفتى : إنّ بني آدم ليس بالذي يقتلهم اليقين وتهلكهم أنفسهم ، فلو علم الله منك اليقين لبلغك بغير زاد ولا ماء ، ولست براكب أمرا لم أؤمر به ، إنّما أنا عبد مأمور ولو علم سيّدي أنّي أعصيه في هذه البقرة لأهلكني وعاقبني عقوبة شديدة ، وما أنا بمؤثر هواك على هوى سيّدي ، فانطلق يا أيّها الرجل بسلام! فقال له إبليس : أعطيك بكلّ خطوة تخطوها إلى منزلي درهما فذلك مال عظيم وتفدي نفسي من الموت في هذه البقرة. قال الفتى : إنّ سيدي له ذهب الأرض وفضّتها ، فإن أعطيتني شيئا منها علم أنّه من ماله ، ولكن أعطني من ذهب السماء وفضّتها ، فأقول إنّه ليس هذا من مالك ؛ فقال إبليس : وهل في السماء ذهب أو فضّة ، أو هل يقدر أحد على هذا؟ قال الفتى : أو هل يستطيع العبد بما لم يأمر به سيّده كما لا تستطيع أنت ذهب السماء وفضّلتها.

قال له إبليس : أراك أعجز العبيد في أمرك. قال له الفتى : إنّ العاجز من عصى ربّه. قال له إبليس : مالي لا أرى معك زادا ولا ماء؟ قال الفتى : زادي التقوى ، وطعامي الحشيش ، وشرابي من عيون الجبال ، قال إبليس : ألا آمرك بأمر يرشدك؟ قال الفتى : مر به نفسك فإنّي على رشاد إن شاء الله. قال له إبليس : ما أراك تقبل نصيحة! قال له الفتى : الناصح لنفسه من أطاع سيّده وأدّى الحقّ الذي عليه ، فإن كنت شيطانا فأعوذ بالله منك ، وإن كنت آدميّا فاخرج فلا حاجة لي في صحابتك. فجمد إبليس عند ذلك ثلاث ساعات مكانه ، ولو ركبها له إبليس ما كان الفتى يقدر عليها ولكنّ الله حبسه عنها.

فبينما الفتى يمشي إذ طار طائر من بين يديه فاختلس البقرة ، ودعاها الفتى وقال : بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب إلّا ما آتيتني ، فأتت البقرة إليه وقامت بين يديه ، فقالت : يا أيّها الفتى ألم تر إلى ذلك الطائر الذي طار من بين يديك؟ فإنّه إبليس عدوّ الله اختلسني ، فلمّا ناديتني بإله إسرائيل جاء ملك من الملائكة فانتزعني منه فردّني إليك لبرّك بوالدتك وطاعتك إلهك ، فانطلق فلست ببارحتك حتّى تأتي أهلك إن شاء الله.

٢٨٧

قال : فدخل الفتى إلى أمّه يخبرها الخبر ، فقالت : يا بنّي إنّي أراك تحتطب على ظهرك الليل والنهار فتشخص (١) ، فاذهب بهذه البقرة فبعها وخذ ثمنها فتقوّ به وودّع به نفسك (٢). قال الفتى : بكم أبيعها؟ قالت : بثلاثة دنانير على رضا منّي. فانطلق الفتى إلى السوق فبعث الله إليه ملكا من الملائكة ليري خلقه قدرته ، فقال للفتى : بكم تبيع هذه البقرة أيّها الفتى؟ فقال : أبيعها بثلاثة دنانير على رضا من والدتي. قال : لك ستّة دنانير ولا تستأمر والدتك! فقال : لو أعطيتني زنتها لم أبعها حتّى أستأمرها ، فخرج الفتى فأخبر والدته الخبر ، فقالت : بعها بستّة دنانير على رضا منّي. فانطلق الفتى وأتاه الملك فقال : ما فعلت؟ فقال : أبيعها بستّة دنانير على رضا من والدتي. قال : فخذ اثني عشر دينارا ولا تستأمرها. قال : لا.

فانطلق الفتى إلى أمّه فقالت : يا بنيّ إنّ الذي يأتيك ملك من الملائكة في صورة آدمي ، فإذا أتاك فقل له : إنّ والدتي تقرأ عليك السّلام ، وتقول : بكم تأمرني أن أبيع هذه البقرة؟ فأتاه فقال له مقالة أمّه. فقال له الملك : يا أيّها الفتى يشتري بقرتك هذه موسى بن عمران لقتيل يقتل من بني إسرائيل ، وله مال كثير ولم يترك أبوه ولدا غيره ، وله أخ له بنون كثيرون ، فيقولون كيف لنا أن نقتل هذا الغلام ونأخذ ماله ، فدعووا الغلام إلى منزلهم فقتلوه فطرحوه إلى جانب دارهم ، فأصبح أهل الدار فأخرجوا الغلام إلى باب الدار ، وجاء بنو عمّ الغلام فأخذوا أهل الدار ، فانطلقوا بهم إلى موسى ، فلم يدر موسى كيف يحكم بينهم من أجل أنّ أهل الدار برآء من الغلام ...! فشقّ ذلك على موسى فدعا ربّه ، فأوحى الله إليه : أن خذ بقرة صفراء فاقعا لونها فاذبحها ، ثمّ اضرب الغلام ببعضها.

فعمدوا إلى بقرة الفتى فاشتروها على أن يملأوا جلدها دنانير ، ثمّ ذبحوها ثمّ ضربوا الغلام ببعضها ، فقام يخبرهم فقال : إنّ بني عمّي قتلوني وأهل الدار منّي برآء ، فأخذهم موسى فقالوا : يا موسى أتتّخذنا هزوا قد قتل ابن عمّنا مظلوما ، وقد علموا أن سيفضحوا ، فعمدوا إلى جلد البقرة فملأوه دنانير ثمّ دفعوه إلى الفتى ، فعمد الفتى فتصدّق بالثلثين على فقراء بني إسرائيل وتقوّى بالثلث و (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٣).

__________________

(١) أي فتتعب.

(٢) أي رفّه على نفسك.

(٣) الدرّ ١ : ١٩٤ ـ ١٩٧.

٢٨٨

[٢ / ٢٤٠٥] وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت عن ابن عبّاس قال : كانت مدينتان في بني إسرائيل ، إحداهما حصينة ولها أبواب ، والأخرى خربة. فكان أهل المدينة الحصينة إذا أمسوا أغلقوا أبوابها ، فإذا أصبحوا قاموا على سور المدينة فنظروا هل حدث فيما حولها حادث ؛ فأصبحوا يوما فإذا شيخ قتيل مطروح بأصل مدينتهم ، فأقبل أهل المدينة الخربة فقالوا : قتلتم صاحبنا وابن أخ له شاب يبكي عليه ويقول : قتلتم عمّي. قالوا : والله ما فتحنا مدينتنا منذ أغلقناها ، وما لدينا من دم صاحبكم هذا! فأتوا موسى ، فأوحى الله إلى موسى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) إلى قوله (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ).

قال : وكان في بني إسرائيل غلام شابّ يبيع في حانوت له ، وكان له أب شيخ كبير ، فأقبل رجل من بلد آخر يطلب سلعة له عنده فأعطاه بها ثمنا ، فانطلق معه ليفتح حانوته فيعطيه الذي طلب والمفتاح مع أبيه ، فإذا أبوه نائم في ظلّ الحانوت فقال : أيقظه. قال ابنه : إنّه نائم وأنا أكره أن أروّعه من نومته. فانصرفا فأعطاه ضعف ما أعطاه على أن يوقظه فأبى فذهب طالب السلعة. فاستيقظ الشيخ فقال له ابنه : يا أبت والله لقد جاء هاهنا رجل يطلب سلعة كذا ، فأعطى بها من الثمن كذا وكذا ، فكرهت أن أروّعك من نومك ، فلامه الشيخ ، فعوّضه الله من برّه بوالده أن نتجت من بقر تلك البقرة التي يطلبها بنو إسرائيل ، فأتوه فقالوا له : بعناها فقال : لا. قالوا : إذن نأخذ منك. فأتوا موسى فقال : اذهبوا فارضوه من سلعته. قالوا : حكمك؟ قال : حكمي أن تضعوا البقرة في كفّة الميزان وتضعوا ذهبا صامتا في الكفّة الأخرى ، فإذا مال الذهب أخذته ، ففعلوا وأقبلوا بالبقرة حتّى انتهوا بها إلى قبر الشيخ ، واجتمع أهل المدينتين فذبحوها ، فضرب ببضعة من لحمها القبر ، فقام الشيخ ينفض رأسه يقول : قتلني ابن أخي طال عليه عمري وأراد أخذ مالي ومات (١).

[٢ / ٢٤٠٦] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عبيدة السلماني قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له ، وكان له مال كثير ، وكان ابن أخيه وارثه ، فقتله ثمّ احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم ، ثمّ أصبح يدّعيه عليهم حتّى تسلّحوا وركب بعضهم إلى بعض ، فقال ذوو الرأي منهم : علام يقتل بعضكم بعضا وهذا رسول الله فيكم؟

__________________

(١) الدرّ ١ : ١٨٦ ؛ كتاب من عاش بعد الموت : ٥٣ ـ ٥٦ / ٥٤ ؛ ابن عساكر ٦١ : ١٦٤ ـ ١٦٥.

٢٨٩

فأتوا موسى فذكروا ذلك له فقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) قال : فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنّهم شدّدوا فشدّد عليهم ، حتّى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها ، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها فقال : والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا ، فذبحوها فضربوه ببعضها فقام ، فقالوا : من قتلك؟ فقال : هذا. لابن أخيه (١). ثمّ مال ميتا ، فلم يعط من ماله شيئا ولم يورّث قاتل بعد (٢).

[٢ / ٢٤٠٧] وأخرج سفيان بن عيينة عن عكرمة قال : كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا ، لكلّ سبط منهم باب يدخلون منه ويخرجون ، فوجد قتيل على باب سبط من الأسباط قتل على باب سبط وجرّ إلى باب سبط آخر ، فاختصم فيه أهل السبطين. فقال هؤلاء : أنتم قتلتم هذا ، وقال الآخرون : بل أنتم قتلتموه ، ثمّ جررتموه إلينا. فاختصموا إلى موسى فقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ...) الآية. (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) قال : فذهبوا يطلبونها فكأنّها تعذّرت عليهم ، فرجعوا إلى موسى فقالوا : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ ... وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) ولو لا أنّهم قالوا : إن شاء الله ما وجدوها (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) ألا وإنّما كانت البقرة يومئذ بثلاثة دنانير ، ولو أنّهم أخذوا أدنى بقرهم فذبحوها كفتهم ولكنّهم شدّدوا فشدّد الله عليهم.

فذهبوا يطلبونها فيجدون هذه الصفة عند رجل فقالوا : تبيعنا هذه البقرة؟ قال : أبيعها. قالوا : بكم تبيعها؟ قال : بمائه دينار. فقالوا : إنّها بقرة بثلاثة دنانير! فأبوا أن يأخذوها ، فرجعوا إلى موسى فقالوا : وجدناها عند رجل فقال لا أنقصكم من مائة دينار ، وإنّها بقرة بثلاثة دنانير. قال : هو أعلم هو صاحبها ، إن شاء باع وإن شاء لم يبع ، فرجعوا إلى الرجل فقالوا : قد أخذناها بمائة دينار. فقال : لا أنقصها عن مائتي دينار. فقالوا ، سبحان الله ...! قد بعتنا بمائة دينار ورضيت فقد أخذناها. قال : ليس انقصها من مائتي دينار. فتركوها ورجعوا إلى موسى فقالوا له : قد أعطاناها بمائة دينار ، فلمّا رجعنا

__________________

(١) أي مشيرا إلى ابن أخيه.

(٢) الدرّ ١ : ١٨٦ ـ ١٨٧ ؛ الطبري ١ : ٤٧٩ ـ ٤٨٠ / ٩٧٨ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٣٦ / ٦٩٠ ؛ البيهقي ٦ : ٢٢٠ ـ ٢٢١ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٧٤ ـ ٢٧٥ / ٦٧ و ٧١.

٢٩٠

إليه قال : لا أنقصها من مائتي دينار. قال : هو أعلم إن شاء باعها وإن شاء لم يبعها ، فعادوا إليه فقالوا :

قد أخذناها بمائتي دينار. فقال : لا أنقصها من أربعمائة دينار. قالوا : قد كنت أعطيتناها بمائتي دينار فقد أخذناها! فقال : ليس أنقصها من أربعمائة دينار ، فتركوها وعادوا إلى موسى فقالوا : قد أعطيناه مائتي دينار ، فأبى أن يأخذها وقال : لا أنقصها من أربعمائة دينار. فقال : هو أعلم هو صاحبها إن شاء باع وإن شاء لم يبع ، فرجعوا إليه فقالوا : قد أخذناها بأربعمائة دينار فقال : لا أنقصها من ثمانمائة دينار. فلم يزالوا يعودون إلى موسى ويعودون عليه ، فكلّما عادوا إليه أضعف عليهم الثمن حتّى قال : ليس أبيعها إلّا بملء مسكها ، فأخذوها فذبحوها فقال : اضربوه ببعضها ، فضربوه بفخذها فعاش. فقال : قتلني فلان.

فإذا هو رجل كان له عمّ ، وكان لعمّه مال كثير ، وكان له ابنة فقال : أقتل عمّي هذا وأرث ماله وأتزوّج ابنته ، فقتل عمّه فلم يرث شيئا ولم يورّث قاتل منذ ذلك شيئا ، قال موسى : إنّ لهذه البقرة لشأنا ادعوا إليّ صاحبها ، فدعوه فقال : أخبرني عن هذه البقرة وعن شأنها؟ قال : نعم. كنت رجلا أبيع في السوق وأشتري ، فسامني رجل ببضاعة عندي فبعته إيّاها ، وكنت قد أشرفت منها على فضل كبير ، فذهبت لآتيه بما قد بعته ، فوجدت المفتاح تحت رأس والدتي ، فكرهت أن أوقظها من نومها ، ورجعت إلى الرجل فقلت : ليس بيني وبينك بيع ، فذهب ثمّ رجعت فنتجت لي هذه البقرة ، فألقى الله عليها منّي محبّة فلم يكن عندي شيء أحبّ إليّ منها ، فقيل له : إنّما أصبت هذا ببرّ والدتك (١).

***

وذكر الثعلبي : أنّه وجد قتيل في بني إسرائيل إسمه عاميل ولم يدروا قاتله واختلفوا في قاتله والسبب في قتله.

[٢ / ٢٤٠٨] فقال عطاء والسّدي : كان في بني إسرائيل رجل كثير المال وله ابن عمّ مسكين لا وارث له غيره فلمّا طال عليه موته قتله ليرثه.

__________________

(١) الدرّ ١ : ١٨٧ ـ ١٨٩ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٣ ، بذكر صدر الحديث ؛ القرطبي ١ : ٤٥٦ ؛ الثعلبي ١ : ٢١٣.

٢٩١

وقال بعضهم : وكان تحت عاميل بنت عمّ له لم يكن لها مثل في بني إسرائيل بالحسن والجمال فقتله ابن عمّه لينكحها.

[٢ / ٢٤٠٩] وقال ابن الكلبي : قتله ابن أخيه لينكح ابنته فلمّا قتله حمله من قريته إلى قرية أخرى وألقاه هناك. وقيل : ألقاه بين قريتين.

[٢ / ٢٤١٠] وقال عكرمة : كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا لكلّ سبط منهم باب فوجد قتيل على باب سبط.

قيل : وجرّ إلى باب سبط آخر فاختصم فيه السبطان.

وقال ابن سيرين : قتله القاتل ثمّ احتمله فوضعه على باب رجل منهم ثمّ أصبح يطلب بثأره ودمه ويدّعيه عليه. قال : فجاء أولياء القتيل إلى موسى وأتوه بناس وادّعوا عليهم القتل وسألوا القصاص. فسألهم موسى عن ذلك فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى ووقع بينهم خلاف.

[٢ / ٢٤١١] وقال الكلبي : وذلك قبل نزول القسامة في التوراة فسألوا موسى أن يدعو الله ليبيّن لهم ذلك فسأل موسى ربّه فأمرهم بذبح بقرة! فقال لهم موسى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً).

(قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) يا موسى أي أتستهزىء بنا حين نسألك عن القتيل وتأمرنا بذبح البقرة! وإنّما قالوا ذلك لتباعد الأمرين في الظّاهر ، ولم يدروا ما الحكمة فيه!

وقرأ ابن محيصن : أيتّخذنا بالياء قال : يعنون الله! ولا يستبعد هذا من جهلهم ، لأنّهم الّذين قالوا :

(اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ)(١).

وفي هزوا ثلاث لغات : هزؤا بالتخفيف والهمز. ومثله كفؤا. وهي قراءة الأعمش وحمزة وخلف وإسماعيل.

وهزؤا وكفؤا مثقّلان مهموزان وهي قراءة أبي عمر وأهل الحجاز والشام واختيار الكسائي وأبي عبيد وأبي حاتم.

وهزوا وكفوا مثقّلان بغير همزة في رواية حفص عن عاصم (٢). وكلّها لغات صحيحة معناها : الاستهزاء.

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٣٨.

(٢) راجع : كتاب السبعة لابن مجاهد : ١٥٨ ـ ١٥٩.

٢٩٢

فقال لهم موسى عليه‌السلام : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي من المستهزئين بالمؤمنين. فلمّا علم القوم أنّ ذبح البقرة عزم من الله عزوجل سألوه الوصف :

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) ولو أنّهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنّهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم وإنّما كان تشديدهم تقديرا من الله ـ عزوجل ـ وحكمة. وكان السبب في ذلك على ما :

[٢ / ٢٤١٢] ذكره السدّيّ وغيره : أنّ رجلا في بني إسرائيل كان بارّا بأبيه وبلغ من برّه به أنّ رجلا أتاه بلؤلؤة فابتاعها بخمسين ألفا وكان فيها فضل. فقال للبائع : أبي نائم ومفتاح الصندوق تحت رأسه فأمهلني حتّى يستيقظ وأعطيك الثمن. قال : فأيقظ أباك واعطني المال. قال : ما كنت لأفعل ولكن أزيدك عشرة آلاف فانتظرني حتّى ينتبه أبي.

فقال الرّجل : فأنا أحطّ عنك عشرة آلاف إن أيقظت أباك وعجّلت النقد. قال : وأنا أزيدك عشرين ألفا إن انتظرت انتباه أبي. ففعل ولم يوقظ الرجل أباه فأعقبه برّه بأبيه أن جعل تلك البقرة عنده وأمر بني إسرائيل أن يذبحوا تلك البقرة بعينها.

[٢ / ٢٤١٣] وقال ابن عبّاس ووهب وغيرهما : كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وكان له عجل فأتى بالعجل إلى غيضة (١) وقال : اللهمّ إني استودعك هذه العجلة لابني حتّى يكبر. مات الرّجل فسيّبت العجلة (٢) في الغيضة وصارت عوانا ، وكانت تهرب من كلّ من رامها. فلمّا كبر الابن كان بارّا بوالدته وكان يقسّم اللّيلة ثلاثة أثلاث : يصلّي ثلثا وينام ثلثا ويجلس عند رأس أمّه ثلثا فإذا أصبح انطلق واحتطب على ظهره ويأتي به السّوق فيبيعه بما شاء الله ، ثمّ يتصدّق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثا ، وقالت له أمّه يوما : إنّ أباك ورّثك عجلة وذهب بها إلى غيضة كذا واستودعها الله ـ عزوجل ـ فانطلق إليها فتدع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق بأن يردّها عليك ، وإنّ من علامتها أنّك إذا نظرت إليها يخيّل إليك أنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها ، وكانت تسمّى المذهّبة لحسنها وصفرتها وصفاء لونها. فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى ، وقال : أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، فأقبلت تسعى حتّى قامت بين يديه ، فقبض على عنقها

__________________

(١) الغيضة : مجتمع الشجر في مغيض الماء.

(٢) سيّبت : تركت وأهملت.

٢٩٣

وقادها ، فتكلّمت البقرة بإذن الله وقالت : أيّها الفتى البارّ بوالدته اركبني فإنّ ذلك أهون عليك! فقال الفتى : إنّ أمّي لم تأمرني بذلك ولكن قالت : خذها بعنقها. فقالت البقرة : بإله إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبدا ، فانطلق فإنّك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل ، لبرّك بوالدتك.

وسار الفتى فاستقبله عدوّ الله إبليس في صورة راع فقال : أيّها الفتى إنّي رجل من رعاة البقر اشتقت إلى أهلي فأخذت ثورا من ثيراني فحملت عليه زادي ومتاعي حتّى إذا بلغت شطر الطّريق ذهبت لأقضي حاجتي ذهب الثور صعدا وسط الجبل وما قدرت عليه وإنّي أخشى على نفسي الهلاك ، فإن رأيت أن تحملني على بقرتك وتنجيني من الموت وأعطيك أجرها بقرتين مثل بقرتك ، فلم يفعل الفتى وقال : اذهب فتوكّل على الله ، فلو علم الله منك اليقين لبلغك بلا زاد ولا راحلة ، فقال إبليس : فإن شئت فبعنيها بحكمك ، وإن شئت فاحملني عليها وأعطيك عشرة مثلها ، فقال الفتى : إنّ أمّي لم تأمرني بهذا ، فبينا الفتى كذلك إذ طار طائر من بين يدي البقرة ونفرت البقرة هاربة في الفلاة وغاب الرّاعي ، فدعاها الفتى باسم إله إبراهيم فرجعت إليه البقرة فقالت : أيّها الفتى البارّ بوالدته ، ألم تر إلى الطائر الذي طار ، إنّه إبليس عدوّ الله اختلسني ، أما إنّه لو ركبني لما قدرت عليّ أبدا فلمّا دعوت إله إبراهيم جاء ملك فانتزعني من يد إبليس وردّني إليك لبرّك بوالدتك وطاعتك لها.

فجاء بها الفتى إلى أمّه ، فقالت له : إنّك فقير لا مال لك ويشقّ عليك الاحتطاب بالنّهار والقيام باللّيل فانطلق فبع هذه البقرة وخذ ثمنها. قال : بكم أبيعها؟

قالت : بثلاثة دنانير ولا تبعها بغير رضاي ومشورتي وكانت ثمن البقرة في ذلك الوقت ، فانطلق بها الفتى إلى السّوق فبعث الله ملكا إنسانا خلقه بقدرته ليخبر الفتى كيف برّه بوالدته وكان الله به خبيرا فقال له الملك : بكم تبيع هذه البقرة؟ قال : بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضا والدتي. فقال الملك : ستّة دنانير ولا تستأمر أمّك.

فقال الفتى : لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلّا برضا أمّي ، فردّها إلى أمّه وأخبرها بالثّمن فقالت : ارجع فبعها ستّة على رضاي فانطلق الفتى بالبقرة إلى السوق وأتى الملك وقال : استأمرت والدتك؟ فقال الفتى : إنّها أمرتني أن لا أنقصها من ستّة على أن أستأمرها. قال الملك : فإنني أعطيك

٢٩٤

اثني عشر على أن لا تستأمرها. فأتى الفتى ورجع إلى أمّه وأخبرها بذلك. قالت : إنّ ذلك الرجل الذي يأتيك ويعطيك هو ملك من الملائكة يأتيك في صورة آدمي ليجرّبك فإذا أتاك فقل له : أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل ذلك فقال له الملك : إذهب إلى أمّك وقل لها بكم هذه البقرة؟ فإنّ موسى بن عمران يشتريها منكم لقتيل يقتل من بني إسرائيل فلا تبيعونها إلّا بملء مسكها دنانير فأمسكوا البقرة ، وقدّر الله على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها وأمرهم بها. فقالوا يستوصفون ويصف لهم حتّى وصف تلك البقرة بعينها موافاة له على برّه بوالدته فضلا منه ورحمة (١).

[٢ / ٢٤١٤] وقال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) : كان ذلك بأرض مصر قبل الغرق (٢).

[٢ / ٢٤١٥] وقال الكلبي : وذلك قبل نزول القسامة في التوراة فسألوا موسى أن يدعو الله ليبيّن لهم بدعائه فأمرهم الله بذبح بقرة (٣).

[٢ / ٢٤١٦] وأخرج البزّار عن أبي هريرة عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ بني إسرائيل لو أخذوا أدنى بقرة لأجزأهم ذلك أو لأجزأت عنهم» (٤).

[٢ / ٢٤١٧] وقال مقاتل بن سليمان : روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّما أمروا ببقرة ولو عمدوا إلى أدنى بقرة لأجزأت عنهم ، والذي نفس محمّد بيده لو لم يستثنوا ما بيّنت لهم آخر الأبد. قال : فشدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم» (٥).

[٢ / ٢٤١٨] وهكذا روى العيّاشي عن الحسن بن عليّ بن محبوب عن علي بن يقطين قال : سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول : «إنّ الله أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة ، وإنّما كانوا يحتاجون إلى ذنبها ، فشدّدوا ، فشدّد الله عليهم» (٦).

[٢ / ٢٤١٩] وروى الصدوق والعيّاشي بالإسناد إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : «إنّ رجلا من بني

__________________

(١) الثعلبي ١ : ٢١٣ ـ ٢١٦.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١١٣.

(٣) البغوي ١ : ١٢٧ ؛ الثعلبي ١ : ٢١٤.

(٤) الدرّ ١ : ١٨٩ ؛ مجمع الزوائد ٦ : ٣١٤.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ١١٤.

(٦) البرهان ١ : ٢٤٦ / ٤ ؛ العيّاشي ١ : ٦٥ / ٥٨ ؛ الصافي ١ : ٢١٣ ؛ البحار ١٣ : ٢٦٦ / ٦ ، باب ٩.

٢٩٥

إسرائيل قتل قرابة له ، ثمّ أخذه فطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثمّ جاء يطلب بدمه. فقالوا لموسى عليه‌السلام : إنّ آل فلان قتلوا فلانا فأخبرنا من قتله؟ قال : ائتونى ببقرة (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ولو أنّهم عمدوا إلى أيّ بقرة أجزأتهم ، ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) يعني لا صغيرة ولا كبيرة (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) ولو أنّهم عمدوا إلى أيّ بقرة أجزأتهم ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) ولو أنّهم عمدوا إلى أيّ بقرة لأجزأتهم ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل فقال : لا أبيعها إلّا بملاء مسكها ذهبا فجاؤوا إلى موسى عليه‌السلام فقالوا له ذلك ، فقال : اشتروها ، فاشتروها وجاؤوا بها ، فأمر بذبحها ثمّ أمر أن يضرب الميّت بذنبها ، فلمّا فعلوا ذلك حيي المقتول ، وقال : يا رسول الله إنّ ابن عمّي قتلني دون من يدّعي عليه قتلي ، فعلموا بذلك قاتله ، فقال موسى عليه‌السلام لبعض أصحابه : إنّ هذه البقرة لها نبأ! فقال : وما هو؟ قال : إنّ فتى من بني إسرائيل كان بارّا بأبيه وإنّه اشترى سلعة فجاء إلى أبيه والأقاليد تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع ، فاستيقظ أبوه فأخبره ، فقال له : أحسنت ، خذ هذه البقرة فهو لك عوضا لما فاتك ، ثمّ قال موسى عليه‌السلام : انظروا إلى البرّ ماذا يبلغ بأهله!» (١)

التشديد في التكليف عقوبة

قد تكرّر في قصّة ذبح البقرة : أنّ بني إسرائيل شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم ، ولو أنّهم لأوّل مرّة عمدوا إلى أيّة بقرة فذبحوها لأجزأت وسقط التكليف عنهم غير أنّهم تمحّلوا في السؤال والتنقيب حتّى تورّطوا في عسر التكليف الأمر الذي هم جلبوه على أنفسهم.

__________________

(١) العيون ٢ : ١٦ ـ ١٧ / ٣١ ، باب ٣٠ ؛ العيّاشي ١ : ٦٤ ـ ٦٥ / ٥٧ ؛ البحار ١٣ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣ / ٢ ، باب ٩ ؛ نور الثقلين ١ : ٨٧ ـ ٨٨ ؛ البرهان ١ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥ / ٢. وقريب منه ما رواه القمّي في التفسير ١ : ٤٩. وهكذا في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري : ٢٧٣.

٢٩٦

وهنا يتوجّه سؤال : كيف يزداد قيد تكليف ورد مطلقا وكان يكفي امتثاله لحينه ، الأمر الذي يؤذن بوجود كمال المصلحة حينذاك إذن فكيف تتغيّر المصلحة بسبب مراودة جاهل ، لا رابط بينه وبين الحكم والمصالح الواقعيّة ، والتي يراعيها الشارع الحكيم؟!

ولأبي جعفر الطبري (١) هنا بحث عريض في ضوء مباني علم الأصول في مباحث العامّ والخاصّ ، حيث يرد تكليف متعلّق بموضوع عامّ مثل : اعتق رقبة. وبعد فترة طويلة وربما عشرات السنين يأتي التقييد بالمؤمنة وقد كان المكلّفون في الشريعة يأخذون بصيغة العام أو المطلق قبل مجيء الخاص أو القيد وكان يجزيهم العمل به على إطلاقه أمّا وبعد ورود الخاصّ أو التقييد ، لا يجزي إلّا مع القيد؟

ومن ثمّ قال بعض الأصوليّين : إنّه بالنسخ أشبه منه إلى التخصيص أو التقييد! لأنّ النسخ ، رفع حكم سابق بتشريع حكم لا حق ، وهنا قد ارتفع الحكم العام بتشريع التخصيص.

أمّا التخصيص فهو شرح لواقع المراد ، أي أنّ دليل الخاصّ يكشف عن كون المراد من العام ـ من الأوّل ـ هو هذا الخاصّ لا العموم البادي حينذاك.

ولازم ذلك أنّ التكليف من أوّل أمره كان متعلّقا بالعام المخصّص ، فالآخذ بالعام من غير مراعاة التخصيص ، لم يأت بمراد الشارع فلم يكن ممتثلا للتكليف الواقعي فلا يجزيه ما أتى به وعليه التدارك بالإعادة أو القضاء!!

غير أنّ الفقهاء ملتزمون بالاجتزاء وكفاية ما أتى به حينذاك ، وقد امتثل تكليفه وإن كان بعد ورود الخاصّ يجب العمل به بالذات ولازم ذلك هو القول بالنسخ ، لوجود خواصّه.

نعم ذكر المتأخّرون : أنّ الحكم العامّ الصادر أوّلا على عمومه ، إنّما هو حكم ظاهريّ ولعلّه تسهيلا على المكلّفين ، وإن لم يكن مرادا به العموم حينذاك ، ولكنّهم رخّصوا في الأخذ به لحكمة التسهيل ثمّ بعد ذلك يأتي البيان الشارح للمقصود ، والمبيّن لصلب التكليف في قالبه الخاصّ.

قلت : والأمر هنا يختلف عن ذاك المبحث الأصوليّ العريق إذ يبدو من لحن الخطاب في الآية

__________________

(١) الطبري ١ : ٤٩٤ ـ ٤٩٦.

٢٩٧

الكريمة ، أنّ التكليف في واقعه كان مطلقا وكان يكفيهم أن يذبحوا بقرة أيّة بقرة كانت ، حيث الغرض أن يضربوا ببعضها القتيل ، الأمر الذي كان لا يخصّ بقرة معيّنة.

[٢ / ٢٤٢٠] وبذلك وردت الرواية عن الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام ـ على ما رواه العيّاشي ـ قال : «إنّ الله أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة ، وإنّما كانوا يحتاجون إلى ذنبها» (١).

لكنّهم لسوء حظّهم أخذوا في المتحّل والتعمّل ، فعوقبوا بشدّة التكليف من غير أن يكون منوطا بحكمة إحياء القتيل. نعم ربما هناك حكمة أخرى كانت خفيّة هو إثراء مؤمن في سبيل طاعة الله ، على ما ورد في بعض الروايات.

***

وللشيخ أبي علي الطبرسي هنا تحقيق لطيف يدور حول محوريّة مباني علم الأصول.

قال : ونذكر هنا فصلا موجزا ينجذب إلى الكلام في أصول الفقه. قال : اختلف العلماء في هذه الآيات ، فمنهم من ذهب ، إلى أنّ التكليف فيها متغاير ، وأنّهم لمّا قيل لهم : اذبحوا بقرة ، لم يكن المراد منهم إلّا ذبح أيّ بقرة شاؤوا من غير تعيين بصفة. ولو أنّهم ذبحوا أيّ بقرة اتّفقت لهم كانوا قد امتثلوا الأمر ، فلمّا لم يفعلوا كانت المصلحة أن يشدّد عليهم التكليف. ولمّا راجعوا المرّة الثانية تغيّرت مصلحتهم إلى تكليف ثالث.

ثمّ اختلف هؤلاء من وجه آخر ، فمنهم من قال في التكليف الأخير : إنّه يجب أن يكون مستوفيا لكلّ صفة تقدّمت.

فعلى هذا القول يكون التكليف الثاني والثالث ضمّ تكليف إلى تكليف ، زيادة في التشديد عليهم ، لما فيه من المصلحة.

ومنهم من قال : إنّه يجب أن يكون بالصفة الأخيرة فقط دون ما تقدّم.

وعلى هذا القول يكون التكليف الثاني نسخا للأوّل ، والتكليف الثالث نسخا للثاني. وقد جوّز نسخ الشيء قبل الفعل ، لأنّ المصلحة يجوز أن تتغيّر بعد فوات وقته. وإنّما لا يجوز نسخ الشيء قبل

__________________

(١) العيّاشي ١ : ٦٥ / ٥٨.

٢٩٨

وقت العمل ، لأنّ ذلك يؤدّي إلى البداء!

وذهب آخرون إلى أنّ التكليف واحد ، وأنّ الأوصاف المتأخّرة هي للبقرة المتقدّمة ، وإنّما تأخّر البيان!

قال : وهو مذهب المرتضى ـ قدّس الله روحه ـ واستدلّ بهذه الآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة. قال : إنّه تعالى لمّا كلّفهم ذبح بقرة قالوا لموسى عليه‌السلام : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ). فلا يخلو قولهم «ما هي» من أن يكون كناية عن البقرة المتقدّم ذكرها ، أو عن التي أمروا بها ثانيا! والظاهر من قولهم : «ما هي» يقتضي أن يكون السؤال عن صفة البقرة المأمور بذبحها ، لأنّه لا علم لهم بتكليف ذبح بقرة أخرى فيستفهموا عنها ، وإذا صحّ ذلك فليس يخلو قوله : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) من أن يكون الهاء فيه كناية عن البقرة الأولى أو عن غيرها ، وليس يجوز أن يكون كناية عن بقرة ثانية ، لأنّ الظاهر يقتضي أن تكون الكناية متعلّقة بما تضمّنه سؤالهم.

ولأنّه لو لم يكن الأمر على ذلك لم يكن جوابا لهم. وقول القائل في جواب من سأله ما كذا وكذا : إنّه بالصفة الفلانيّة ، صريح في أنّ الهاء كناية عمّا وقع السؤال عنه. هذا مع قولهم : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) فإنّهم لم يقولوا ذلك إلّا وقد اعتقدوا أنّ خطابهم مجمل غير مبيّن ، ولو كان الأمر على ما ذهب إليه القوم ، فلم لم يقل لهم : وأيّ تشابه عليكم؟ وإنّما أمرتم في الابتداء بذبح بقرة أيّة بقرة كانت. وفي الثاني بما يختصّ بالسّنّ المخصوص. وفي الثالث بما يختصّ باللون المخصوص من أيّ البقر كان.

قال المرتضى : وأمّا قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) فالظاهر أنّ ذمّهم مصروف إلى تقصيرهم أو تأخيرهم امتثال الأمر بعد البيان التامّ ، وهو غير مقتض ذمّهم على ترك المبادرة في الأوّل إلى ذبح بقرة. فلا دلالة في الآية على ذلك (١).

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ١٣٦. وراجع : الأمالي للمرتضى ٣ : ١٢٧. والبحث مذيّل لخّصه الطبرسي في التفسير. وأورده المجلسي في البحار ١٣ : ٢٦٣ ـ ٢٦٥. وله تذييل عليه فراجع.

٢٩٩

قال تعالى :

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))

وهذه الآية جاءت تعقيبا على قصّة البقرة ، والتي كانت بحيث من شأنها أن تستجيش في قلوب بني إسرائيل الحسّاسيّة والخشية والتقوى ؛ وكذلك جاءت تعقيبا على ما سلف من المشاهد والأحداث والعبر والعظات ، تجيء هذه الخاتمة لتبرهن العكس لكلّ ما كان يتوقّع ويترقّب وفقا لطبيعة إسرائيل المنتكسة.

نعم بدلا من أن تلين قلوبهم ، قست وأصبحت كالحجارة وهي صخرة صلدة غير أنّ قلوبهم أجدب وأقسى فإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار ، المنهملة من عيون تتفجّر من خلال صخور الجبال. ومنها ما تتشقّق أو تهبط من خشية الله ، انصياعا لنظام الكون ولكن قلوبهم لا تنصدع ولا تتخشّع ولا تلين لذكر الله مهما كثر التذكار وتتابعت العبر والعظات ومن ثمّ هذا التهديد : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

وبهذا يختم هذا الشوط من الجولة مع بني إسرائيل في تأريخهم الحافل بالكفر والجحود ، والالتواء واللجاجة ، والكيد والقسوة ، والتمرّد والفسوق.

***

[٢ / ٢٤٢١] روي عن الإمام أبي محمّد العسكري عليه‌السلام قال ـ في قوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) ـ : «عست (١) وجفّت ويبست قلوبهم من الخير والرحمة ، (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) من بعد ما تبيّنت الآيات الباهرات. (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) اليابسة لا ترشّح برطوبة ، ولا ينتفض (٢) منها ما ينتفع به فلا يؤدّون حقّا

__________________

(١) يقال : عسى النبات : غلظ وصلب. وعست يده : غلظت من العمل. والليل : اشتدّت ظلمته.

(٢) يقال : نفض الزرع : خرج آخر سنبله. ونفض الكرم : تفتّحت عنا قيده.

٣٠٠