التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

لتأمن من صائدها ، فرامت الرجوع فلم تقدر ، وبقيت ليلها في مكان يتهيّأ أخذها بلا اصطياد لاسترسالها فيه وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها ، فكانوا يأخذونها يوم الأحد ويقولون ما اصطدنا يوم السبت وإنّما اصطدنا في الأحد وكذب أعداء الله ، بل كانوا آخذين لها بأخاديدهم التي عملوها يوم السبت حتّى كثر من ذلك مالهم وثراؤهم وتنعّموا بالنساء وغيرها لاتّساع أيديهم. وكانوا في المدينة نيفا وثمانين ألفا ، فعل هذا منهم سبعون ألفا وأنكر عليهم الباقون ، كما قصّ الله (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ)(١) الآية ، وذلك أنّ طائفة منهم وعظوهم وزجروهم ومن عذاب الله خوّفوهم ، ومن انتقامه وشديد بأسه حذّروهم فأجابوهم عن وعظهم (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ ،) بذنوبهم هلاك الاصطلام (٢) ، (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) أجابوا القائلين لهم هذا : (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) إذ كلّفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربّنا مخالفتنا لهم وكراهتنا لفعلهم ، قالوا : (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(٣) ونعظهم أيضا لعلّه تنجع فيهم المواعظ فيتّقوا هذه الموبقة ، ويحذروا من عقوبتها.

قال الله عزوجل : (فَلَمَّا عَتَوْا ،) حادوا وأعرضوا وتكبّروا عن قبولهم الزجر (عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(٤) مبعدين عن الخير مقصّين ، قال : فلمّا نظر لهم العشرة آلاف والنيف أنّ السبعين ألفا لا يقبلون مواعظهم ولا يحفلون بتخويفهم إياهم وتحذيرهم لهم ، اعتزلوهم إلى قرية أخرى قريبة من قريتهم وقالوا : نكره أن ينزل بهم عذاب الله ، ونحن في خلالهم ، فأمسوا ليلة ، فمسخهم الله تعالى كلّهم قردة وبقي باب المدينة مغلقا لا يخرج منه أحد ولا يدخل أحد ، وتسامع بذلك أهل القرى ، فقصدوهم وتسنّموا حيطان البلد ، فأطلعوا عليهم فإذا كلّهم رجالهم ونساؤهم قردة يموج بعضهم في بعض ، يعرف هؤلاء الناظرون معارفهم وقراباتهم وخلطاءهم ، يقول المطّلع لبعضهم : أنت فلان أنت فلانة؟ فتدمع عينه ويومىء برأسه أن نعم. فما زالوا كذلك ثلاثة أيام ، ثمّ بعث الله ـ عزوجل ـ عليهم مطرا وريحا فجرفهم إلى البحر ، وما بقي مسخ بعد ثلاثة أيّام ، وإنّما الذي

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٦٣.

(٢) اصطلمه : استأصله.

(٣) الأعراف ٧ : ١٦٤.

(٤) الأعراف ٧ : ١٦٦.

٢٦١

ترون من هذه المصوّرات بصورها فإنّما هي أشباهها لا هي بأعيانها ولا من نسلها ...

قال الباقر عليه‌السلام : فلمّا حدّث عليّ بن الحسين عليهما‌السلام بهذا الحديث قال له بعض من في مجلسه : يا ابن رسول الله كيف يعاقب الله ويوبّخ هؤلاء الأخلاف على قبائح أتى بها أسلافهم وهو يقول : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(١)؟ فقال زين العابدين عليه‌السلام : إنّ القرآن نزل بلغة العرب ، فهو يخاطب فيه أهل اللسان بلغتهم ، يقول الرجل التميمي ، وقد أغار قومه على بلد وقتلوا من فيه : قد أغرتم على بلد كذا وكذا وفعلتم كذا وكذا ، ويقول العربي أيضا : نحن فعلنا ببني فلان ونحن سبينا آل فلان ونحن خرّبنا بلد كذا ، لا يريد أنّهم باشروا ذلك ولكن يريد هؤلاء بالعذل وهؤلاء بالافتخار أنّ قومهم فعلوا كذا وكذا ، وقول الله ـ عزوجل ـ في هذه الآيات إنّما هو توبيخ لأسلافهم وتوبيخ العذل على هؤلاء الموجودين لأنّ ذلك هو اللغة التي بها نزل القرآن ، ولأنّ هؤلاء الأخلاف أيضا راضون بما فعل أسلافهم مصوّبون ذلك لهم ، فجاز أن يقال : أنتم فعلتم إذ رضيتم قبيح فعلهم» (٢).

[٢ / ٢٣٦٥] وروى العيّاشي عن عبد الصمد بن برار قال : سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول : «كانت القردة ، هم اليهود الّذين اعتدوا في السبت فمسخهم الله قرودا» (٣).

كلام عن المسوخ

يقع الكلام هنا من جهتين :

الأولى : هل هناك في القرآن ما دلّ صريحا على وقوع المسخ في الأجساد لا في القلوب فحسب؟

الثانية : هل صحّ ما ورد من روايات بشأن وقوع المسخ في أمم سالفة لينقلبوا إلى بهائم وعجماوات؟

أمّا القرآن فلا موضع فيه يدلّنا على ذلك صريحا ، وانّما هي تعابير أشبه بالاستعارة منها إلى

__________________

(١) الأنبياء ٢١ : ١٦٤.

(٢) تفسير الإمام : ٢٦٨ ـ ٢٧٢ / ١٣٦ ـ ١٣٩ ؛ البرهان ١ : ٢٣٣ ـ ٢٣٧ / ٩.

(٣) العيّاشي ١ : ٦٤ / ٥٥ ؛ البرهان ١ : ٢٣٣ / ٦ ؛ البحار ١٤ : ٥٥ / ٨ ، باب ٤.

٢٦٢

إرادة الحقيقة.

قال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ. فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(١).

وقال : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(٢).

وقال : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)(٣).

وهذا نظير قوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ)(٤) أي كأنّه خلق من عجل لفرط عجله في الأمور. (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً)(٥) أي دأب على العجلة.

وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)(٦). قال الزمخشري : إنّ الإنسان لإيثاره الجزع والمنع وتمكّنهما منه ورسوخهما فيه ، كأنّه مجبول عليهما مطبوع ، وكأنّه أمر خلقي وضروري غير اختياري. كقوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ).

واستدلّ على أنّه من الاستعارة والتشبيه بأنّه ذمّ ، والله لا يذمّ فعل نفسه لو كان هو خلقه كذلك. لكن الإنسان لفرط جهله وإفراطه في الأمور ، صار متطبّعا على ذلك ، كأنّه مطبوع ومفطور عليه ذاتا.

قال : والدليل عليه : استثناء المؤمنين (إِلَّا الْمُصَلِّينَ ..) الّذين جاهدوا أنفسهم وحملوها على المكاره وظلفوها عن الشهوات ، حتّى لم يكونوا جازعين ولا مانعين (٧).

[٢ / ٢٣٦٦] وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «شرّ ما في رجل شحّ هالع وجبن خالع» (٨).

[٢ / ٢٣٦٧] وقال : «لا يجتمع شحّ وإيمان في قلب رجل مسلم» (٩).

__________________

(١) البقرة ٢ : ٦٥ ـ ٦٦.

(٢) الأعراف ٧ : ١٦٦.

(٣) المائدة ٥ : ٦٠.

(٤) الأنبياء ٢١ : ٣٧.

(٥) الإسراء ١٧ : ١١.

(٦) المعارج ٧٠ : ١٩ ـ ٢١.

(٧) الكشّاف ٤ : ٦١٢.

(٨) أبو داوود ١ : ٥٦٤ / ٢٥١١ ، كتاب الجهاد ، باب الجرأة والجبن. مسند أحمد ٢ : ٣٠٢ و ٣٢٠.

(٩) مسند أحمد ٢ : ٢٥٦ ، ٣٤٠ ، ٣٤٢ ، ٤٤١ ؛ النسائي ٣ : ١٠ ـ ١١ / ٤٣٢٣.

٢٦٣

قال الإمام الرازي ـ بشأن رأي مجاهد : إنّه تعالى مسخ قلوبهم بمعنى الطبع والختم ، لا أنّه مسخ صورهم ، وهو مثل قوله تعالى : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) ـ : ما ذكره مجاهد غير مستبعد جدّا ، لأنّ الإنسان إذا أصرّ على جهالته بعد ظهور الآيات وجلاء البيّنات ، فقد يقال في العرف الظاهر : إنّه حمار وقرد. وإذا كان هذا المجاز من المجازات الظاهرة المشهورة ، لم يكن في المصير إليه محذور البتّة (١).

وقال الإمام الشيخ محمّد عبده : «وحديث المسخ والتحويل وأنّ أولئك قد تحوّلوا من أناس إلى قردة وخنازير ، إنّما قصد به التهويل والإغراب. فاختيار ما قاله مجاهد هو الأوفق بالعبرة والأجدر بتحريك الفكرة».

قال : وليس في تفسير الآية حديث مرفوع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ فيه على كون ما ذكر مسخا لصورهم وأجسادهم (٢).

وقال في موضع آخر : رووا عن مجاهد أنّه قال : مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة ، وانّما هو مثل ضربه الله لهم مثل الحمار يحمل أسفارا.

قال : فالمراد على هذا أنّهم صاروا كالقردة في نزواتها ، والخنازير في اتّباع شهواتها. وقد تقدّم ترجيح هذا القول من جهة المعنى. بعد نقله عن مجاهد من رواية ابن جرير. ولا عبرة بردّ ابن جرير له وترجيحه لقول المشهور ، فذلك اجتهاد منه ، وكثيرا يردّ به قول ابن عبّاس والجمهور.

قال : وليس قول مجاهد بالبعيد من استعمال اللغة ، فمن الفصيح أن تقول : ربّى فلان الملك قومه أو جيشه على الشجاعة والغزو ، فجعل منهم الأسود الضواري ، وكان له منهم الذئاب المفترسة (٣).

وقد عرفت كلام ابن عاشور في ترجيح هذا القول وأنّه مسخ قلوب لا مسخ ذوات (٤).

والعمدة أنّه لا صراحة في القرآن في كونه مسخا للصور ، بل اللفظ يحتمل الأمرين ، ولا ضرورة تدعو على الحمل على ظاهر التعبير بعد احتماله المجاز الشائع في العرف واللغة كما عرفت.

__________________

(١) التفسير الكبير ٣ : ١١١.

(٢) المنار ١ : ٣٤٥.

(٣) المصدر ٦ : ٤٤٨. وراجع : ٧ : ٣٧٩.

(٤) التحرير والتنوير ١ : ٥٢٧.

٢٦٤

كما لا نصّ مستندا إلى المعصوم ، حسبما صرّح به الإمام عبده (١).

وقد تقدّم كلام سيّد قطب : وليس من الضروري أن يستحيلوا قردة بأجسامهم ، فقد استحالوا إليها بأرواحهم وأفكارهم. وانطباعات الشعور والتفكير تعكس على الوجوه والملامح سمات تؤثّر في السحنة وتلقي ظلّها العميق (٢). وهذا هو الأوجه والأوفق مع الاعتبار ، والأظهر حسب ملامح التعبير.

ماذا تهدينا ملامح التعبير؟

جاء التعبير في سورة المائدة هكذا :

(مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ).

قوله : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) عطف على (جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ). أثرا مباشرا لوقوع اللعنة والغضب عليهم ، بسوء تصرّفهم.

فهم إنّما انقلبوا من الصورة الإنسانية النبيلة إلى صورة بهائم شرسة ، لكونهم خرجوا من ظلّ عنايته تعالى إلى مهوى غضبه وسخطه.

ولنفس السبب خرجوا من عزّ عبادة الله إلى ذلّ عبادة الطاغوت.

فكما أنّ هذا التحوّل الأخير لم يكن عن قسر وإلجاء. وإنّما هو عن سوء نيّة واجتراء. فكذلك التحوّل من الإنسانيّة إنّما حصل بسوء اختيارهم هم ، فهم جعلوا أنفسهم قردة وخنازير. وهذا لا يكون إلّا معنويّا لا صوريّا بتحوّل الأجساد.

وهذا نظير قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ)(٣). أي هم لفرط جهلهم وتمادي غيّهم جعلوا لأنفسهم حجابا حائلا دون سماع العظة والتذكار. (وَقالُوا قُلُوبُنا

__________________

(١) المنار ١ : ٣٤٥. وهكذا لم يأت في تفاسيرنا شيء من ذلك مأثورا عن العترة الطاهرة. سوى ما في تفسير الإمام وهو مجهول الانتساب. وتفسير القمّي ، لم يعرف واضعه لحدّ الآن. وفي رواية للعيّاشي (١ : ٦٤ / ٥٥) بإسناد مقطوع عن عبد الصمد بن برار ـ مجهول ـ عن الكاظم عليه‌السلام. تقدّم نقله ولا يصلح مستندا.

(٢) في ظلال القرآن ١ : ٩٩ ـ ١٠٠.

(٣) البقرة ٢ : ٧.

٢٦٥

فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ)(١).

ولا ريب أنّه لسان ذمّ ، ولا ذمّ إلّا على فعل اختياري ارتكبه إنسان ساقط.

فهم جعلوا أنفسهم بمثابة القردة والخنازير في نزواتها وشهواتها ، وعبدوا الطاغوت ذلّا وصغارا. والطاغوت طاغوت الهوى والانطلاق في مسارح الطيش والردى في مهانة واحتقار.

على أنّ هذا الخطاب جاء عتابا للأبناء بما ارتكبه الآباء من فضائح ، ليعتبروا بها. ولا اعتبار إلّا بما يعرفونه ويلمسونه من قبح أعمال السالفين.

وقد جاء العتاب أوّلا بمكّة ـ في سورة الأعراف ـ ثمّ بالمدينة في البقرة والمائدة. فلا بدّ أنّ الأبناء وجدوا ذلك في مآثر آبائهم. إمّا على صحائف التاريخ أو المأثور في الصدور يتوارثونه يدا بيد. وليس في الآثار العبريّة ما يشي بتحوّل الصور والأجساد. في حين أنّه أمر عظيم. أمّا التحوّل في القلوب والأرواح ، فقد سجّل التاريخ منه الشيء الكثير.

فتلك تعنّتاتهم ولجاجهم دون الرضوخ للحقّ ، وارتكابهم المخازي الفاضحة ، كلّها مسجّلة على صفحات تاريخ حياة بني إسرائيل ، المليئة بالأكدار والأقذار.

تكفيك مراجعة سفر الخروج ، ففيه من المآثم والمآسي ما يجعل الإنسان في خجل وعجب من فعال هؤلاء القوم وتصرّفاتهم المخزية تجاه الأنبياء وكفرانهم الشنيع لما أنعم الله عليهم بفضله العميم.

جاء في سفر الخروج (أص ١٦ ع ٢٧) أنّهم منعوا من التقاط المنّ يوم السبت ، فقد كان توفّر لهم الطعام يوم الجمعة ما يكفي للغد أيضا. لكنّ بعض الشعب خرجوا ليلتقطوا في السبت فلم يجدوا. فجاء الخطاب لموسى عليه‌السلام : «إلى متى تأبون أن تحفظوا وصاياي وشرائعي؟!».

وفي الأصحاح ١٧ ع ١ ـ ٥ : «أنّهم ارتحلوا من برّيّة سين ونزلوا رفيديم ولم يكن ماء ليشربوا ، فخاصموا موسى عليه‌السلام وتذمّروا حتّى كادوا يقتلونه ، فصرخ موسى إلى الربّ قائلا : ماذا أفعل بهذا الشعب ، بعد قليل يرجموني!!».

__________________

(١) فصلت ٤١ : ٥.

٢٦٦

وهكذا جاءت عبادتهم للعجل (أص ٣٢) كبيرة موبقة ، وأمروا أن يقتل بعضهم بعضا (ع ٢٧ ـ ٢٨).

وفي الأصحاح ١٤ من سفر العدد : ما ينبؤك عن تمرّدهم العارم تجاه موسى عليه‌السلام حتّى كادوا يرجعون إلى مصر. وذلك عجزا منهم عن مقاتلة العماليق. وعزموا على رجم يوشع وكالب حيث كانا يحثّانهم على الثبات والجهاد في سبيل الحياة الفضلى.

هذا جانب ممّا حدث على عهد موسى عليه‌السلام أمّا وبعد وفاته وفي أدوار سائر أنبيائهم فالخطب أفضع وأشنع.

كلّ ذلك مسجّل في التاريخ وفي متناول الأبناء ، فهلّا يعتبرون بها؟!

***

كما كان هناك مواضع عبر في مشهد من مشركي العرب ، يؤنّبهم القرآن على عدم الاتّعاظ بها وهي في مرأى لهم ومسمع.

فقد جاء مذكّرا بمساكن قوم لوط : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١). كانت ديارهم بمرأى ومنظر لهم في رحلاتهم إلى الشام ، صباحا حين نزوعهم إليها ، ومساء حين الرجوع ومساكنهم حاليّا قد غمرها مياه البحر الميّت فكانوا يسيرون على شاطئه ، وكانت آثار ديارهم بعد ظاهرة حينذاك.

وجاء بشأن مساكن ثمود : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(٢). وقد كانت ديار ثمود مشهودة لقريش وهي في طريقهم ـ ببلاد الأردن حاليّا ـ في ممرّهم إلى الشام. والآثار باقية حتّى الآن.

وهكذا التذكار بقوم سبأ وانهيار سدّ مأرب وقوم مدين وقوم عاد بالأحقاف ـ بين حضرموت واليمن ـ والآثار الباقية من فرعون ونمرود وغيرهما من طغاة ، جرف بهم الزمان حيث مهوى الدمار والهلاك.

__________________

(١) الصافات ٣٧ : ١٣٧.

(٢) النمل ٢٧ : ٥٢.

٢٦٧

كلّ ذلك آثار باقية في مشهد القوم ، فليتذكّروا بها لو كانوا يبصرون.

إذن فلا تذكار بما لم تسجّله صفحات التاريخ ، ولا أثر له في العيان. ومنه مسخ أقوام مردوا على العناد واللجاج ، فأخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ، وكان من العذاب البئيس أن مسخهم الله قردة وخنازير وعبدة الطاغوت ، مسخا للقلوب والأرواح ـ وقد سجّله التاريخ ـ لا مسخا في الصور والأجسام ، ممّا لم يسجّله الزمان ولا أثر له في العيان.

***

والجهة الثانية : تقييم روايات السلف بشأن المسوخ.

وأوّل شيء فيها : أنّها متضاربة بعضها مع بعض وفي منافرة فاحشة فضلا عمّا فيها من تعاليل وتعابير هجينة ينبو صدورها من المعصوم.

ففي رواية أوردها ابن بابويه في كتاب العلل ، أنّ المسوخ ثلاثة عشر صنفا :

١ ـ الفيل ، كان رجلا جبّارا لوطيّا لا يدع رطبا ولا يابسا.

٢ ـ الدبّ ، كان رجلا مخنّثا يدعو الرجال إلى نفسه.

٣ ـ الأرنب ، كانت امرأة لا تغتسل من حيض ولا جنابة.

٤ ـ العقرب ، كان رجلا همّازا.

٥ ـ الضبّ ، كان رجلا أعرابيّا يسرق أموال الحجّاج بمحجنه (وهي العكّازة).

٦ ـ العنكبوت ، كانت امرأة سحرت زوجها.

٧ ـ الدعموص (دودة سوداء تكون في الغدران) كان نمّاما.

٨ ـ الجرّي ، كان رجلا ديّوثا.

٩ ـ الوطواط (الخفّاش) كان يسرق الرطب من النخيل.

١٠ ـ القردة ، هم اليهود اعتدوا يوم السبت.

١١ ـ الخنازير ، هم النصارى كذّبوا بنزول المائدة.

١٢ ـ سهيل (كوكب سماوي) كان رجلا عشّارا باليمن.

١٣ ـ الزهرة (كوكب سماوي) كانت امرأة تسمّى ناهيد (اسم الزهرة بالفارسية) وهي الّتي افتتن

٢٦٨

بها هاروت وماروت!! (١)

وفي رواية أخرى رواها ابن بابويه في العلل أيضا : أنّ المسوخ اثنا عشر صنفا :

١ ـ الفيل ، كان ملكا زنّاء لوطيّا.

٢ ـ الدبّ ، كان أعرابيّا ديّوثا.

٣ ـ الأرنب ، كانت امرأة تخون زوجها.

٤ ـ الوطواط ، كان يسرق تمور الناس.

٥ ـ سهيل ، كان عشّارا.

٦ ـ الزهرة ، افتتن بها هاروت وماروت.

٧ و ٨ ـ القردة والخنازير ، بنو إسرائيل اعتدوا في السبت.

٩ و ١٠ ـ الجرّي والضبّ ، فرقة من إسرائيل كذّبوا بنزول المائدة.

١١ ـ العقرب كان نمّاما.

١٢ ـ الزنبور كان لحّاما يسرق في الميزان (٢).

وأيضا في العلل :

١ ـ الخفّاش امرأة سحرت ضرّة لها.

٢ ـ الفار كان سبطا من اليهود غضب الله عليهم.

٣ ـ البعوض كان رجلا يستهزىء بالأنبياء.

٤ ـ القمّلة كانت في أصلها رجلا استهزأ بنبيّ وكلح في وجهه (أي ضحك مستهزءا).

٥ ـ الوزغ كان سبطا من اليهود يسبّون الأنبياء.

٦ ـ العنقاء ، غضب الله على رجل فجعله مثلة ومسخه عنقاء (٣).

تلك نماذج ثلاثة عرضناها على علّاتها ، لتشهد ملامحها على مدى وهنها وسقوطها عن درجة الاعتبار .. لها منها عليها شواهد .. وكفى!

__________________

(١) العلل ٢ : ٤٨٦ / ٢ ، باب ٢٣٩.

(٢) المصدر : ٤٨٥ ـ ٤٨٦ / ١ ، باب ٢٣٩.

(٣) راجع : العلل ٢ : ٤٨٦ ـ ٤٨٧ / ٣ ، باب ٢٣٩ ، (علل المسوخ وأصنافها).

٢٦٩

وذكر المجلسي أنّ أنواع المسوخ غير مضبوطة ، والروايات بهذا الشأن مختلفة ، وفي أكثرها ضعف ، والمتحصّل من الجميع أنّ المسوخ ثلاثون صنفا لو أخذنا بالاسم ، وإلّا فقد يتداخل بعضها (١).

غريبة

ذكروا أنّ الممسوخ بسخط الله لا يبقى أكثر من ثلاثة أيّام ، لا يأكل ولا يشرب ولا ينسل ، ويأتيهم العذاب فيفنيهم لآخرهم من غير عقب ثمّ يخلق الله على مثالهم وفي شاكلتهم حيوانات لتبقى عبرة مع الأبد وهذه التي تسمّى المسوخ كانت المسوخيّة لها اسما مستعارا تشبيها (٢).

ومعنى ذلك أنّ المسوخ خلق جديد حادث بعد كارثة عذاب المسخ ، ولم يكن لها سابقة من ذي قبل ، إذ لم تصلح حينذاك تذكارا لتلك العقوبة على الفرض.

الأمر الذي يرفضه علم الأحياء ، وتواجد أسلاف تلكم الحيوانات منذ أحقاب طاعنة في القدم.

ملحوظة

إنّما أخذ الفقهاء من روايات المسوخ نصّها على تحريم لحومها فحسب ، أمّا التعاليل الواردة فيها فأغفلوها ولم يعيروا لها اهتماما ؛ قال الصدوق : المسوخيّة اسم مستعار ، وقد حرّم الله لحومها لما فيها من مضارّ كسائر المحرّمات من غير رابط بين هذا التحريم وذاك الاسم المستعار (٣).

__________________

(١) البحار ٦٢ : ٢٢٠ ـ ٢٤٥ ، (باب أنواع المسوخ وأحكامها).

(٢) راجع : ابن كثير ١ : ١٠٥. ذيل الآية : ٦٥.

(٣) راجع : العلل ٤٨٩ باب ٢٣٩.

٢٧٠

قال تعالى :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣))

إنّ هذه القصّة القصيرة ترسم سمة اللجاجة والتعنّت والتلكّؤ في الاستجابة ، وتمحّل المعاذير ، التي تتّسم بها إسرائيل.

وفي هذه القصّة ـ كما يعرضها السياق القرآني ـ مجال للنظر في جوانب شتّى : جانب دلالتها على طبيعة بني إسرائيل وجبلّتهم الموروثة. وجانب دلالتها على قدرة الخالق وحقيقة البعث والنشور. وطبيعة الموت والحياة. ثمّ الجانب الفنّي في عرض القصّة بدءا ونهاية واتّساقا مع السياق.

إنّ السمات الرئيسيّة لطبيعة بني إسرائيل تبدو واضحة في قصّة البقرة هذه : انقطاع الصلة بين قلوبهم الجافية ، وذلك النبع الشفيف الرقراق : نبع الإيمان الصادق بالغيب والثقة بالله. والاستعداد لتصديق ما يأتيهم به الرسل. ثمّ التلكّؤ في الاستجابة وتلمّس الحجج والمعاذير ، والسخريّة المنبعثة من صفاقة القلب وصلافة اللسان!

وهذه القصّة ـ كما هي ـ تلمح بموقف بني إسرائيل المتعنّت ، يبدو عليها قلّة توقيرهم لنبيّ الله

٢٧١

والإعنات في المسألة والإلحاح فيها إمّا للتفصّي من الامتثال وإمّا لبعد فهمهم عن مقاصد الشريعة وقصدهم التوقيف على مالا قصد إليه.

قد يقال : إنّ هنا تقديما وتأخيرا ، فأوّل القصة هو المذكور بقوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها ...) ، وإنّ قول موسى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ...) ناشيء عن قتل النفس المذكورة .. غير أنّ السياق فكّك بينهما تكريرا للتقريع عليهم في موقفين : موقفهم المستهزىء المستخفّ بموضع نبيّهم الكريم وموقفهم المتلكّىء المتدارىء في جريمة ارتكبوها ، فجاءت القصّتان مستقلّتين في سياقتهما : (وَإِذْ قالَ مُوسى ... وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ...) وإن كانتا متّصلتين متّحدتين ، لتكون الأولى تقريعا على الاستهزاء وترك المسارعة في الامتثال ، والثانية تقريعا على قتل النفس المحرّمة والتدارؤ فيه.

قال الزمخشري : وإنّما قدّمت قصّة الأمر بذبح البقرة ، لأنّه لو عمل على عكسه لكانت قصّة واحدة ولذهب الغرض في تكرير التقريع (١).

نعم قد فوجئوا بالأمر بذبح البقرة ، من غير سبب معروف لديهم ، وذلك تهييبا بموضع أنبياء الله العظام ، فيما يوجّهونه من أوامر وتكاليف ، فيتميّز المؤمن الخالص الإيمان عن المستسلم المتعنّت الغشوم.

***

وقصّة ذبح البقرة جاءت في سفر التثنية (أص ٢١) في غاية الإجمال ممّا أضاع الهدف منها ، جاء فيه : «إذا وجد قتيل لا يعلم قاتله ، فإنّ أقرب المحلّات إلى موضع القتيل يخرجون بمشايخهم ، وليأتوا بعجلة لم تحرث ولم تجرّ بالنير ، ولتكن في واد لم يحرث ولم يزرع وفيه ماء جار فليكسروا عنق العجلة هنالك ويتقدّم الكهنة من بني لاوي وشيوخهم ويغسلون أيديهم على العجلة المذبوحة ويتبرّأون من دم القتيل ، فيغفر لهم».

هكذا جاءت قصّة الذبح بإجمال أضاع المقصود وأبهم الغرض من هذا الذبح ، أهو إضاعة ذلك الدم ليذهب باطلا أم هو تعذّر عن معرفة المتّهم ، بالقتل؟!

__________________

(١) الكشّاف ١ : ١٥٤.

٢٧٢

وفي الروايات الإسلاميّة هنا ـ إن صحّت ـ ما لعلّه يرشدنا إلى جوانب من هذه القصّة العجيبة وربما يرفع بعض الإبهام عنها. وسيوافيك.

وإليك شرح الآيات :

لقد قال لهم نبيّهم ـ الذي هو زعيمهم الذي أنقذهم من الذلّ وحرّرهم من أسر العدوّ ـ : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ...).

وكان هذا القول بهذه الصيغة يكفي للاستجابة والتنفيذ من غير تلكّع. لكنّهم عن سفاهة وسوء أدب ، واجهوه بالهزء فاتّهموه بأنّه يمزح ويسخر منهم ، وقالوا : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً)؟. وكان ردّ موسى على هذه السفاهة أن يستعيذ بالله وأن يردّهم برفق ، وعن طريق التعريض والتلميح ، قال : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) الأمر الذي لا يليق بساحة الأنبياء ، وإنّما هو من صفاقة الجهلاء (أمثال من خاطبوه بهذا الكلام الهجين).

فلو كانوا قد تنبّهوا بهذا التعريض ، لكان عليهم أن يقوموا بتنفيذ الأمر ، ولكنّهم لسوء تدبّرهم وضحالة عقولهم ، زادوا في تهوّسهم وغلوائهم تجاه فهم الحقّ الصريح!

فقالوا ـ تعنّتا واستنكارا بموقف الرسول ـ : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) فكأنّما هو ربّه وحده لا ربّهم كذلك! وكأنّ المسألة لا تعنيهم هم إنّما تعني موسى وربّه!

ثمّ إنّهم يطلبون منه أن يدعو ربّه ليبيّن لهم : (ما هِيَ؟) والسؤال عن الماهيّة هاهنا ـ وإن كان المقصود الصفة ـ إنكار واستهزاء ما هي؟ إنّها بقرة ، وقد قال لهم ذلك من أوّل الأمر ، بلا تحديد لصفة ولاسمة : بقرة ، وكفى!

هنا كذلك يردّهم موسى إلى جادّة الصواب ، ولا يجيبهم بانحرافهم في صيغة السؤال كي لا يدخل معهم في جدل شكلي إنّما يجيبهم كما ينبغي أن يجيب المعلّم المربّي ، من ابتلاه الله بهم من سفهاء منحرفين. يجيبهم عن صفة البقرة : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ).

لا هي عجوز ولا هي شابّة ، وسط بين ذا وذلك ثمّ يعقّب هذا البيان المجمل بنصيحة حازمة : (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) ولا تتمحّلوا في مراودة الأسئلة وهي تزيد في شدة التكليف بعد إطلاقه!

وهكذا لمح لهم بالأدب الواجب في السؤال وفي التلقّي فيبادروا إلى أيّة بقرة لا عجوز

٢٧٣

ولا صغيرة ، متوسطة السنّ فيذبحوها ويخلّصوا أنفسهم من مآزق التكليف الشاقّ لو تمادوا في الغيّ واللجاج.

ولكن أنّى يفيد النصح لقوم لجوج ، فراحوا يسألون : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها)؟.

وهنا يتضايق عليهم التكليف ـ كلّما شدّدوا شدّد الله عليهم ـ : (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) وهكذا ضيّقوا على أنفسهم دائرة الاختيار ـ وكانوا من الأمر في سعة ـ فأصبحوا مكلّفين أن يبحثوا ، لا عن أيّة بقرة كانت بل عن بقرة متوسطة السنّ صفراء لمعاء صافية زاهية تسرّ الناظرين.

فلو كانوا وقفوا عند ذلك ولم يصرّوا على تعنّتهم الجاهل ، لأراحوا أنفسهم من تشديد لاحق آكد ولكن أنّى وطبيعة بني إسرائيل المتلكّئة ، تعود لتثير سخط الربّ عليهم أكثر : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟) سؤال عن الواقع المطلوب ، ويعتذرون عن هذا السؤال وعن ذلك التلكّؤ بأنّ الأمر أصبح مشتبها لديهم (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) وكأنّما استشعروا لجاجتهم هذه المرّة وقالوا : (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ).

قال موسى : إنّه تعالى يقول : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها).

فمضافا إلى الصفات السابقة تكون بحيث لم تدرّب بعد على الحرث أو السقي ، وأن تكون كذلك خالصة اللون لا تشوبها شية (قطع تخالف معظم لونها) ..

وهنا عرفوا أنّ الأمر جدّ لا محيص لهم عنه. ومن ثمّ قالوا : (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) وكأنّهم لم يستيقنوا ذلك من قبل!!

(فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ!!) فرضخوا للأمر بعد أن واجهوا الصلابة والقاطعيّة الحاسمة.

***

وعندئذ وبعد تنفيذ الأمر ، كشف الله لهم عن الغاية التي كانت خافية عليهم لذلك الوقت.

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

هذا هو الجانب الثاني للقصّة ، وإن شئت قلت : الغاية من عرضها والسياق يتغيّر من الحكاية إلى

٢٧٤

الخطاب والمواجهة :

فقد كشف الله لقوم موسى عن الحكمة من ذبح البقرة : لقد كانوا قد قتلوا نفسا منهم ؛ ثمّ جعل كلّ فريق يدرأ عن نفسه التهمة ويلحقها بسواه ، ولم يكن هناك شاهد ؛ فأراد الله أن يظهر الحقّ على لسان القتيل ذاته ؛ وكان ذبح البقرة وسيلة إلى إحيائه ، وذلك بضربه ببعض من تلك البقرة الذبيح وهكذا كان ، فعادت إليه الحياة ليخبر عن قاتله وليجلوا الريب والشكوك التي أحاطت بمقتله.

وفي هذا دلالة أيضا على قدرة الله على إحياء الموتى (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

والقصّة كما سردها القرآن ، أيضا فيها بعض اللبس : هل القتيل كان تعود إليه الحياة ليعيش حتّى يتوفّاه الموت ، أم كانت إعادة حياة مؤقّته للإفشاء بالقاتل فحسب؟! (١)

وهل كانت تلك سنّة باقية فيهم فيما إذا تدورىء في قتيل لم يعرف قاتله ، نظير إقامة القسامة في شريعة الإسلام لمن لم يعرف قاتله؟ أم كانت قضيّة في واقعة؟

والظاهر أنّها شرّعت سنّة فيجتمع أطراف التهمة على القتيل ، بعد أن تقدّم ذبيحة ، فيتحالفوا وتبرأ ذممهم ، أو يعترف القاتل حيث قوبل بمشهد القتيل وبمحضر الإله حيث القربان؟!

ولعلّ الأمر في بدئه اقترن بإحياء القتيل ـ عبرة وآية ـ فيفشي عن قاتله وبذلك يتحقّق سبب التهمة الموجبة لإقامة القسامة ، إذ نفس إفشاء القتيل ، سواء قبل موته أم بعده ، لا يوجب سوى الاتّهام اللهم إلّا أن يقال : إنّ الإحياء بعد الموت كانت آية إلهيّة ولا مجال للريب فيما ثبت بإعجاز الأمر الذي اختلف فيه أنظار الفقهاء إذ غاية ما في الباب أنّه يوجب العلم لمن شهد المنظر ومنهم القاضي وأثباته ، وهل مثل هذا العلم يكفي للحكم في القضاء؟!

نعم إلّا أن يعترف القاتل حيث وجد نفسه تجاه أمر واقع ، وحفزه وجدانه على الإقرار والاعتراف!

__________________

(١) جاء في رواية ابن سيرين عن أبي عبيدة السلماني : أنّه تكلّم فقال : قتلني فلان ثمّ عاد ميّتا. (التبيان ١ : ٣٠٤).

٢٧٥

قال أبو عبد الله القرطبي : استدلّ الإمام مالك ـ في رواية ابن وهب وابن القاسم ـ على صحّة القول بالقسامة بقول المقتول ـ عند موته ـ : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني. ومنعه الإمام الشافعي وجمهور العلماء. قالوا : لأنّ قول المقتول : دمي عند فلان أو فلان قتلني ، خبر يحتمل الصدق والكذب. ولا خلاف أنّ دم المدّعى عليه معصوم ممنوع إباحته إلّا بيقين ، ولا يقين مع الاحتمال ؛ فبطل اعتبار قول المقتول : دمي عند فلان.

وأمّا قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة وأخبر تعالى أنّه يحييه ، وذلك يتضمّن الإخبار بقاتله خبرا جزما لا يدخله احتمال ؛ فافترقا.

قال ابن العربي : المعجزة كانت في إحيائه ، فلمّا صار حيّا كان كلامه كسائر كلام الناس كلّهم في القبول والردّ ، قال : وهذا فنّ دقيق من العلم لم يتفطّن له إلّا مالك ، وليس في القرآن أنّه إذا أخبر وجب صدقه ، فلعلّه أمرهم بالقسامة معه (١).

قال القرطبي : واستبعد ذلك البخاريّ والشافعيّ وجماعة من العلماء فقالوا : كيف يقبل قوله في الدم وهو لا يقبل قوله في درهم؟! (٢).

وهكذا ذكر الشيخ في الخلاف أنّه لا يقبل قوله. قال :

[٢ / ٢٣٦٨] لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر. وهذا مدّع (٣).

***

وبعد فإليك ما ذكره أرباب التفسير بالمأثور :

قال أبو جعفر الطبري : وهذه الآية ممّا وبّخ الله بها المخاطبين من بني إسرائيل في نقض أوائلهم الميثاق الّذي أخذه الله عليهم بالطاعة لأنبيائه ، فقال لهم : واذكروا أيضا من نكثكم ميثاقي ، إذ قال موسى لقومه ، وقومه بنو إسرائيل ، إذ ادّارأوا في القتيل الذي قتل فيهم ، إليه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) والهزو : اللعب والسخريّة ، كما قال الراجز :

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربيّ ١ : ٢٤ ـ ٢٥.

(٢) القرطبي ١ : ٤٥٧.

(٣) راجع : كتاب الخلاف لأبي جعفر الطوسي ٥ : ٣١١.

٢٧٦

قد هزئت مني أمّ طيسله

قالت أراه معدما لا شيء له (١)

يعني بقوله : قد هزئت : قد سخرت ولعبت. ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله فيما أخبرت عن الله من أمر أو نهي هزو أو لعب. فظنّوا بموسى أنّه في أمره إيّاهم عن أمر الله تعالى ذكره بذبح البقرة عند تدارئهم في القتيل إليه أنّه هازىء لاعب ، ولم يكن لهم أن يظنّوا ذلك بنبيّ الله ، وهو يخبرهم أنّ الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة. وحذفت الفاء من قوله : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) وهو جواب ، لاستغناء ما قبله من الكلام عنه ، وحسن السكوت على قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فجاز لذلك إسقاط الفاء من قوله : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) كما جاز وحسن إسقاط من قوله تعالى : (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا)(٢) ولم يقل : فقالوا إنّا أرسلنا ، ولو قيل : «فقالوا» ، كان حسنا أيضا جائزا ، ولو كان ذلك على كلمة واحدة لم تسقط منه الفاء ؛ وذلك أنّك إذا قلت : قمت وفعلت كذا وكذا ولم تقل : قمت فعلت كذا وكذا ، لأنّها عطف لا استفهام يوقف عليه ، فأخبرهم موسى إذ قالوا له ما قالوا إنّ المخبر عن الله ـ جلّ ثناؤه ـ بالهزء والسخريّة من الجاهلين وبرّأ نفسه ممّا ظنّوا به من ذلك ، فقال : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) يعني من السفهاء الّذين يروون عن الله الكذب والباطل. وكان سبب قيل موسى لهم : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً :)

__________________

(١) نسبه القالي في أماليه (٢ : ٢٨٤) لأعرابي. وفي الحاشية : في كتاب مجموع أشعار العرب المشتمل على الأصمعيات أنّ القصيدة لصخير بن عمير التميمي. ورواية القالي :

تهزأ منّي أخت آل طيسله

قالت أراه مبلّطا لا شيء له

وبعده :

وهزئت من ذاك أمّ موءله

قالت أراه دالفا قد دني له

مالك لا جنّبت تبريح الوله

مردودة أو فاقدا أو مثكله

إلى تتمّة الأبيات ، وهي ٢١ بيتا.

قال أبو علي القالي : طيسلة : اسم. والمبلط : الفقير ، يقال : أبلط الرجل فهو مبلط. وقال الأصمعي : أبلط فهو مبلط إذا لصق بالبلاط وهي الأرض الملساء.

ورواية اللسان (مادّة طسل) للبيت :

تهزأ منّي أخت آل طيسله

قالت أراه في الوقار والعله

(٢) الحجر ١٥ : ٥٧ ـ ٥٨.

٢٧٧

[٢ / ٢٣٦٩] ما رواه محمّد بن سيرين ، عن عبيدة ، قال : كان في بني إسرائيل رجل عقيم أو عاقر ، قال : فقتله وليّه ، ثمّ احتمله ، فألقاه في سبط غير سبطه. قال : فوقع بينهم فيه الشرّ ، حتّى أخذوا السلاح. قال : فقال أولو النّهى : أتقتتلون وفيكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : فأتوا نبيّ الله ، فقال : اذبحوا بقرة! فقالوا : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) إلى قوله : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) قال : فضرب فأخبرهم بقاتله. قال : ولم تؤخذ البقرة إلّا بوزنها ذهبا. قال : ولو أنّهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم ، فلم يورث قاتل بعد ذلك.

[٢ / ٢٣٧٠] وروى الربيع ، عن أبي العالية قال : كان رجل من بني إسرائيل ، وكان غنيّا ولم يكن له ولد ، وكان له قريب وكان وارثه ، فقتله ليرثه ، ثمّ ألقاه على مجمع الطريق (١) ، وأتى موسى ، فقال له : إنّ قريبي قتل ، وأتى إليّ أمر عظيم ، وإنّي لا أجد أحدا يبيّن لي من قتله غيرك يا نبيّ الله! قال : فنادى موسى في الناس : أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلّا بيّنه لنا! فلم يكن عندهم علمه ، فأقبل القاتل على موسى فقال : أنت نبيّ الله ، فاسأل لنا ربّك أن يبيّن لنا! فسأل ربّه فأوحى الله إليه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فعجبوا وقالوا : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ) يعني هرمة (وَلا بِكْرٌ) يعني ولا صغيرة (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي نصف بين البكر والهرمة ، (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) أي صاف لونها (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أي تعجب الناظرين. (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) أي لم يذلّلها العمل (تُثِيرُ الْأَرْضَ) يعني ليست بذلول فتثير الأرض (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) يقول : ولا تعمل في الحرث (مُسَلَّمَةٌ) يعني مسلّمة من العيوب (لا شِيَةَ فِيها) يقول لا بياض فيها. (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ). قال : ولو أنّ القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا (٢) بقرة من البقر فذبحوها لكانت إيّاها ، ولكنّهم شدّدوا على أنفسهم ، فشدّد الله عليهم. ولو لا أن القوم استثنوا فقالوا :

(وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) لما هدوا إليها أبدا. فبلغنا أنّهم لم يجدوا البقر التي نعتت لهم إلّا عند

__________________

(١) مجمع الطريق : حيث تلتقي الطرق.

(٢) استعرضوا : أخذوا من عرض البقر فلم يبالوا أيّها أخذوا.

٢٧٨

عجوز عندها يتامى ، وهي القيّمة عليهم ، فلمّا علمت أنّهم لا يزكو لهم غيرها أضعفت عليهم الثمن ، فأتوا موسى ، فأخبروه أنّهم لم يجدوا هذا النعت إلّا عند فلانة ، وأنّها سألتهم أضعاف ثمنها ، فقال لهم موسى : إنّ الله قد كان خفّف عليكم ، فشدّدتم على أنفسكم ، فاعطوها رضاها وحكمها! ففعلوا واشتروها ، فذبحوها. فأمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل ، ففعلوا ، فرجع إليه روحه ، فسمّى لهم قاتله ، ثمّ عاد ميتا كما كان. فأخذوا قاتله وهو الّذي كان أتى موسى فشكى إليه ، فقتله الله على أسوء عمله.

[٢ / ٢٣٧١] وروى أسباط ، عن السدّي قال : كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال ، وكانت له ابنة وكان له ابن أخ محتاج. فخطب إليه ابن أخيه ابنته فأبى أن يزوّجه إيّاها ، فغضب الفتى وقال : والله لأقتلنّ عمّي ولآخذنّ ماله ولأنكحنّ ابنته ولآكلنّ ديته! فأتاه الفتى وقد قدم تجّار في بعض أسباط بني إسرائيل ، فقال : يا عمّ انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلّي أصيب منها ، فإنّهم إذا رأوك معي أعطوني. فخرج العمّ مع الفتى ليلا ، فلمّا بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ثمّ رجع إلى أهله. فلمّا أصبح جاء كأنّه يطلب عمّه ، كأنّه لا يدري أين هو فلم يجده ، فانطلق نحوه فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه ، فأخذهم وقال : قتلتم عمّي فأدّوا إليّ ديته! وجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي وا عمّاه! فرفعهم إلى موسى ، فقضى عليهم بالدية ، فقالوا له : يا رسول الله : ادع لنا حتّى يتبيّن له من صاحبه فيؤخذ صاحب الجريمة ، فو الله إنّ ديته علينا لهيّنة ، ولكنّا نستحيي أن نعير به. فذلك حين يقول الله ـ جلّ ثناؤة ـ : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) فقال لهم موسى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) قالوا : نسألك عن القتيل وعمّن قتله وتقول اذبحوا بقرة ، أتهزأ بنا؟ قال موسى : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ).

[٢ / ٢٣٧٢] وقال : قال ابن عبّاس : فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكنّهم شدّدوا وتعنّتوا موسى ، فشدّد الله عليهم ؛ فقالوا : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) والفارض : الهرمة التي لا تلد ، والبكر : التي لم تلد إلّا ولدا واحدا ، والعوان :

النصف التي بين ذلك ، التي قد ولدت وولد ولدها ـ فافعلوا ما تؤمرون. (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) قال : تعجب الناظرين : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ

٢٧٩

يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) من بياض ولا سواد ولا حمرة. (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) فطلبوها فلم يقدروا عليها. وكان رجل من بني إسرائيل من أبرّ الناس بأبيه. وإنّ رجلا مرّ به معه لؤلؤ يبيعه ، فكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح ، فقال له الرجل : تشتري منّي هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا؟ فقال له الفتى : كما أنت ، حتّى يستيقظ أبي فآخذه بثمانين ألفا. فقال له الرجل : أيقظ أباك وهو لك بستّين ألفا. فجعل التاجر يحطّ له حتّى بلغ ثلاثين ألفا ، وزاد الآخر على أن ينتظر حتّى يستيقظ أبوه حتّى بلغ مائة ألف. فلمّا أكثر عليه قال : لا والله لا أشتريه منك بشيء أبدا ، وأبى أن يوقظ أباه. فعوّضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة ، فمرّت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة ، فأبصروا البقرة عنده ، فسألوه أن يبيعهم إيّاها بقرة ببقرة فأبى ، فأعطوه ثنتين فأبى ، فزادوه حتّى بلغوا عشرا فأبى ، فقالوا : والله لا نتركك حتّى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى ، فقالوا : يا نبيّ الله إنّا وجدنا البقرة عند هذا فأبى أن يعطيناها ، وقد أعطيناه ثمنا. فقال له موسى : أعطهم بقرتك! فقال : يا رسول الله أنا أحقّ بمالي. فقال : صدقت ، وقال للقوم : أرضوا صاحبكم! فأعطوه وزنها ذهبا فأبى ، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها حتّى أعطوه وزنها عشر مرّات ، فباعهم إيّاها وأخذ ثمنها. فقال : اذبحوها! فذبحوها ، فقال : اضربوه ببعضها! فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش ، فسألوه : من قتلك؟ فقال لهم : ابن أخي قال : أقتله وآخذ ماله وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه.

[٢ / ٢٣٧٣] وكذا قال ابن عبّاس وقتادة ومجاهد : إنّ السبب الذي من أجله قال لهم موسى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) نحو السبب الذي ذكره عبيدة وأبو العالية والسدّي. غير أنّ بعضهم ذكر أنّ الذي قتل القتيل الذي اختصم في أمره إلى موسى كان أخا المقتول. وذكر بعضهم أنّه كان ابن أخيه. وقال بعضهم : بل كانوا جماعة ورثة استبطأوا حياته. إلّا أنّهم جميعا مجمعون على أنّ موسى إنّما أمرهم بذبح البقرة من أجل القتيل إذ احتكموا إليه عن أمر الله إيّاهم بذلك ، فقالوا له : وما ذبح البقرة يبيّن لنا خصومتنا التي اختصمنا فيها إليك في قتل من قتل ، فادّعى على بعضنا أنّه القاتل أتهزأ بنا؟

[٢ / ٢٣٧٤] وروى ابن وهب ، عن ابن زيد قال : قتل قتيل من بني إسرائيل ، فطرح في سبط من

٢٨٠