التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

بقرية يقال لها : ناصرة ، كان عيسى بن مريم ينزلها (١). (٢)

***

قال أبو جعفر : والصابئون جمع صابئ ، وهو المستحدث سوى دينه دينا ، كالمرتدّ من أهل الإسلام عن دينه. وكلّ خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميّه العرب صابئا ، يقال منه : صبأ فلان يصبأ صبأ ، ويقال : صبأت النجوم : إذا طلعت ، وصبأ علينا فلان موضع كذا وكذا ، يعني به طلع.

واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل. فقال بعضهم : يلزم ذلك كلّ من خرج من دين إلى غير دين. وقالوا : الّذين عنى الله بهذا الاسم قوم لا دين لهم.

[٢ / ٢٢٤٢] روى ليث ، عن مجاهد ، قال : (الصَّابِئُونَ) ليسوا بيهود ولا نصارى ولا دين لهم.

[٢ / ٢٢٤٣] وعنه أيضا ، قال : الصابئون بين المجوس واليهود لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم.

[٢ / ٢٢٤٤] وعن قتادة ، عن الحسن مثل ذلك.

[٢ / ٢٢٤٥] وعن ابن أبي نجيح : الصابئين بين اليهود والمجوس لا دين لهم.

[٢ / ٢٢٤٦] ورواه عن مجاهد ، وقال : الصابئون بين المجوس واليهود ، لا دين لهم.

[٢ / ٢٢٤٧] وقال ابن جريج : قلت لعطاء : «الصابئين» زعموا أنّها قبيلة من نحو السواد (٣) ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى. قال : قد سمعنا ذلك ، وقد قال المشركون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد صبأ.

[٢ / ٢٢٤٨] وقال ابن زيد : الصابئون : دين من الأديان ، كانوا بجريرة الموصل يقولون : «لا إله إلّا الله» ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبيّ إلّا قول لا إله إلّا الله. قال : ولم يؤمنوا برسول الله ، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه : هؤلاء الصابئون. يشبّهونهم بهم.

وقال آخرون : هم قوم يعبدون الملائكة ، ويصلّون إلى القبلة ، كما :

[٢ / ٢٢٤٩] قال الحسن ، قال : حدّثني زياد : أنّ الصابئين يصلّون إلى القبلة ويصلّون الخمس. قال :

فأراد أن يضع عنهم الجزية. قال : فخبّر بعد أنّهم يعبدون الملائكة.

__________________

(١) ذكر أرباب اللغة : النصرانيّ نسبة إلى الناصرة على غير قياس. والجمع : نصارى. والناصرة : مدينة في شماليّ فلسطين (الجليل). بلدة العذراء مريم. قضى فيها المسيح حياته المحتجبة فدعى ناصريّا وأتباعه نصارى.

(٢) الطبري ١ : ٤٥٣ ـ ٤٥٥.

(٣) يعني سواد العراق.

٢٢١

[٢ / ٢٢٥٠] وقال قتادة : الصابئون قوم يعبدون الملائكة ، ويصلّون إلى القبلة ، ويقرأون الزبور.

[٢ / ٢٢٥١] وقال أبو العالية : الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرأون الزبور.

قال أبو جعفر الرازي : وبلغني أيضا أنّ الصابئين قوم يعبدون الملائكة ، ويقرأون الزبور ، ويصلّون إلى القبلة.

وقال آخرون : بل هم طائفة من أهل الكتاب كما :

[٢ / ٢٢٥٢] روى سفيان ، قال : سئل السدّيّ عن الصابئين فقال : هم طائفة من أهل الكتاب (١).

***

وأخرج ابن أبي حاتم ـ في تفسيره للصابئين ـ ثمانية أقوال :

[٢ / ٢٢٥٣] فعن سعيد بن جبير : هم منزلة بين اليهود والنصارى.

[٢ / ٢٢٥٤] وعن ليث عن مجاهد وكذا عن عطا : قوم بين المجوس واليهود والنصارى. ليس لهم دين.

[٢ / ٢٢٥٥] وعن أبي العالية وكذا عن الضحّاك والسدّي والربيع بن أنس وجابر بن زيد : هم فرقة من أهل الكتاب يقرأون الزبور.

[٢ / ٢٢٥٦] وعن الحسن : إنّهم كالمجوس.

[٢ / ٢٢٥٧] وعن ابن وهب عن ابن أبي الزناد عن أبيه : هم قوم ممّا يلي العراق ، وهو بكوثى (٢) وهم يؤمنون بالنبيّين كلّهم ويصومون من كلّ سنة شهرا ثلاثين يوما ويصلّون إلى اليمن كلّ يوم خمس صلوات.

[٢ / ٢٢٥٨] وعن أبي جعفر الرازي قال : بلغني أنّ الصابئين قوم يعبدون الملائكة ويقرأون الزبور ويصلّون إلى القبلة.

__________________

(١) الطبري ١ : ٤٥٥ ـ ٤٥٦.

(٢) مدينة قديمة بسواد العراق في أرض بابل واشتهرت بتلّ إبراهيم ورد ذكرها في التوراة ، كانت مركزا للتعليم الديني في العهد السومري. وبها كانت ولادة إبراهيم. ومن ثمّ لمّا سئل علي عليه‌السلام عن أصل قريش ، قال : نحن من كوثى. قال ابن الأعرابي : أراد كوثى السواد الّتي ولد بها إبراهيم الخليل. (معجم البلدان ٤ : ٤٨٨).

٢٢٢

[٢ / ٢٢٥٩] وعن وهب بن منبّه سئل : ما الصابئيّ؟ قال : الّذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرا.

[٢ / ٢٢٦٠] وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : هم بين المجوس واليهود ، لا دين لهم (١).

[٢ / ٢٢٦١] وأخرج عبد بن حميد عن ابن عبّاس قال : يقولون : الصابئون وما الصابئون؟ الصابئون! ويقولون : الخاطئون وما الخاطئون؟ الخاطئون! (٢).

***

وقال أبو إسحاق الثعلبي : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) يعني اليهود ، واختلف العلماء في سبب تسميتهم به ؛ فقال بعضهم : سمّوا بذلك لأنّهم هادوا أي تابوا من عبادة العجل ، كقوله إخبارا عنهم : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ)(٣).

وأنشد أبو عبيدة :

إنّي امرؤ من مدحه هائد (٤).

أي تائب.

وقال بعضهم : لأنّهم هادوا أي مالوا عن الإسلام وعن دين موسى. يقال : هاد يهود هودا : إذا مال. قال امرؤ القيس :

قد علمت سلمى وجاراتها

أنّي من الناس لها هائد (٥)

أي إليها مائل.

وقال أبو عمرو بن العلاء : لأنّهم يتهوّدون أي يتحرّكون عند قراءة التوراة ، ويقولون : إنّ السماوات والأرض تحرّكت حين أتى الله موسى التوراة.

وقرأ أبو السمّاك العدوي وإسمه قعنب : هادوا بفتح الدال من المهاداة ، أي مال بعضهم إلى بعض

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٢) الدرّ ١ : ١٨٣.

(٣) الأعراف ٧ : ١٥٦.

(٤) لسان العرب : ٣ / ٤٣٩.

(٥) كتاب العين : ٥ / ٩٦ : والعبارة كالتالي :

قد علمت سلمى وجاراتها

ما قطر الفارس إلّا أنا

٢٢٣

في دينهم.

(وَالنَّصارى) واختلفوا في سبب تسميتهم بهذا الاسم ، فقال الزّهري : سمّوا نصارى لأنّ الحواريّين قالوا : نحن أنصار الله.

[٢ / ٢٢٦٢] وقال مقاتل : لأنّهم نزلوا قرية يقال لها : ناصرة ، فنسبوا إليها.

وقال الخليل بن أحمد : النصارى : جمع نصران ، كقولهم : ندمان وندامى.

وأنشد :

تراه إذا دار العشيّ محنّفا

ويضحى لربّه وهو نصران شامس

فنسبت فيه ياء النسبة كقولهم لذي اللحية : لحياني ، ورقابي لذي الرقبة.

فقال الزجّاج : يجوز أن يكون جمع نصري كما يقال : بعير حبري ، وإبل حبارى ، وإنّما سمّوا نصارى لاعتزائهم إلى نصرة وهي قرية كان ينزلها عيسى وأمّه.

(وَالصَّابِئِينَ) قرأ أهل المدينة بترك الهمزة من الصّابئين والصّابئون الصّابين والصّابون في جميع القرآن ، وقرأ الباقون بالهمز وهو الأصل ، يقال : صبا يصبوا صبوءا ، إذا مال وخرج من دين إلى دين.

قال الفرّاء : يقال لكلّ من أحدث دينا : قد صبأ وأصبأ بمعنى واحد ، وأصله الميل ، وأنشد :

إذا أصبأت هوادي الخيل عنّا

حسبت بنحرها شرق البعير

واختلفوا في الصّابئين من هم :

[٢ / ٢٢٦٣] قال عمر : هم طائفة من أهل الكتاب ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب ، وبه قال السدّي.

[٢ / ٢٢٦٤] وقال ابن عبّاس : لا تحلّ ذبائحهم ولا مناكحة نسائهم.

[٢ / ٢٢٦٥] وقال مجاهد : هم قبيلة نحو الشّام بين اليهود والمجوس لا دين لهم.

[٢ / ٢٢٦٦] وقال السّدي : هم طائفة من أهل الكتاب ، وهو رأي أبي حنيفة.

[٢ / ٢٢٦٧] وقال قتادة ومقاتل : هم قوم يقرّون بالله عزوجل ، ويعبدون الملائكة ، ويقرأون الزبور ويصلّون إلى الكعبة ، أخذوا من كلّ دين شيئا.

[٢ / ٢٢٦٨] وقال الكلبي : هم قوم بين اليهود والنصارى ، يحلقون أوساط رؤوسهم ويجبّون

٢٢٤

مذاكرهم (١) قال عبد العزيز بن يحيى : درجوا وانقرضوا فلا عين ولا أثر (٢).

***

وقال في قوله تعالى : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) : اختلفوا في حكم الآية ومعناها ، ولهم فيها طريقان :

أحدهما : أنّه أراد بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) على التحقيق وعقد التصديق ، ثمّ اختلفوا في هؤلاء المؤمنين من هم؟ فقال قوم : هم الّذين آمنوا بعيسى ثمّ لم يتهوّدوا ولم يتنصّروا ولم يصبئوا ، وانتظروا خروج محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال آخرون : هم طلّاب الدين ، منهم : حبيب النجّار ، وقسّ بن ساعدة ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، والبراء (٣) ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، ويحيى الراهب ، ووفد النجاشي. فمنهم من آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل مبعثه ، فمنهم من أدركه وتابعه ، ومنهم من لم يدركه.

وقيل : هم مؤمنو الأمم الماضية. وقيل : المؤمنون من هذه الأمّة.

(وَالَّذِينَ هادُوا) يعني الّذين كانوا على دين موسى عليه‌السلام ولم يبدّلوا ولم يغيّروا.

(وَالنَّصارى) : الّذين كانوا على دين عيسى عليه‌السلام ولم يبدّلوا وماتوا على ذلك.

قالوا : وهذان اسمان لزماهم زمن موسى وعيسى عليهما‌السلام ، حيث كانوا على الحقّ فبقي الاسم عليهم كما بقي الإسلام على أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(وَالصَّابِئِينَ) زمن استقامتهم. (مَنْ آمَنَ) منهم أي مات منهم وهو مؤمن ؛ لأنّ حقيقة الإيمان المؤافاة. ويجوز أن يكون الواو فيه مضمرا أي : ومن آمن بعدك يا محمّد إلى يوم القيامة.

والطريق الآخر : أنّ المذكورين بالإيمان في أوّل الآية إنّما هو على طريق المجاز والتّسمية

__________________

(١) البغوي ١ : ١٢٤. قوله : يجبّون مذاكيرهم أي يقطعونها ، ولعلّه كناية عن الختان كما هو شريعة اليهود.

(٢) درج القوم : انقرضوا وبادوا.

(٣) وفي نسخة المتن وصفه بالسندي أو السني. ولعلّه تصحيف السلمي ، وهو البراء بن معرور الخزرجي السلمي الأنصاري أوّل من بادر إلى البيعة بالعقبة ، وكان حريصا على الإسلام. مات قبل هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهر فصلّى على قبره. وكان أوصى بوصية للنبيّ فردّها إلى ابنه.

٢٢٥

دون الحكم والحقيقة ، ثمّ اختلفوا فيه :

فقال بعضهم : إنّ الّذين آمنوا بالأنبياء الماضين والكتب المتقدّمة ولم يؤمنوا بك ولا بكتابك.

وقال آخرون : يعني بهم المنافقين أراد : إنّ الّذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ)(١).

والّذين هادوا : أي اعتقدوا اليهوديّة وهي الدين المبدّل بعد موسى عليه‌السلام.

والنصارى : هم الّذين اعتقدوا النصرانيّة والدّين المبدّل بعد عيسى عليه‌السلام.

والصابئين : يعني أصناف الكفّار من آمن بالله من جملة الأصناف المذكورين في الآية.

وفيه اختصار وإضمار تقديره : من آمن منهم بالله واليوم الآخر ؛ لأنّ لفظ «من» يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث. قال الله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ)(٢)(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ)(٣)(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ)(٤). (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)(٥) ، وقال الفرزدق في التشبيه :

تعال فإن عاهدتني لا تخونني

تكن مثل من ناديت يصطحبان (٦)

(وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فيما قدّموا. (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما خلّفوا ، وقيل : لا خوف عليهم بالخلود في النار ، ولا يحزنون بقطيعة الملك الجبّار ، ولا خوف عليهم من الكبائر وإنّي أغفرها ، ولا هم يحزنون على الصغائر فأنّي أكفّرها. وقيل : لا خوف عليهم فيما تعاطوا من الأجرام ، ولا هم يحزنون على ما اقترفوا من الآثام لما سبق لهم من الإسلام (٧).

***

وقال أبو جعفر في تأويل الآية : يعني بقوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) : من صدّق وأقرّ بالبعث بعد الممات يوم القيامة وعمل صالحا فأطاع الله ، فلهم أجرهم عند ربّهم ، يعني بقوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ

__________________

(١) النساء ٤ : ١٣٦.

(٢) الأنعام ٦ : ٢٥.

(٣) يونس ١٠ : ٤٣.

(٤) يونس ١٠ : ٤٢.

(٥) الأحزاب ٣٣ : ٣١.

(٦) لسان العرب : ١٣ / ٤١٩.

(٧) الثعلبي ١ : ٢٠٨ ـ ٢١٠.

٢٢٦

عِنْدَ رَبِّهِمْ) فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربّهم.

فإن قال لنا قائل : فأين تمام قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ؟) قيل : تمامه جملة قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأنّ معناه : من آمن منهم بالله واليوم الآخر ، فترك ذكر «منهم» لدلالة الكلام عليه استغناء بما ذكر عمّا ترك ذكره.

فإن قال : وما معنى هذا الكلام؟ قيل : إنّ معناه : إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنصارى والصابئين من يؤمن بالله واليوم الآخر فلهم أجرهم عند ربهم.

فإن قال : وكيف يؤمن المؤمن؟ قيل : ليس المعنى في المؤمن ، المعنى الذي ظننته من انتقال من دين إلى دين كانتقال اليهوديّ والنصرانيّ إلى الإيمان ـ وإن كان قد قيل إنّ الّذين عنوا بذلك من كان من أهل الكتاب على إيمانه بعيسى وبما جاء به ، حتّى أدرك محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فآمن به وصدّقه ، فقيل لأولئك الّذين كانوا مؤمنين بعيسى وبما جاء به إذ أدركوا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آمنوا بمحمّد وبما جاء به ـ ولكن معنى إيمان المؤمن في هذا الموضع ثباته على إيمانه وتركه تبديله.

وأمّا إيمان اليهود والنصارى والصابئين ، فالتصديق بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبما جاء به ، فمن يؤمن منهم بمحمّد ، وبما جاء به واليوم الآخر ، ويعمل صالحا ، فلم يبدّل ولم يغيّر ، حتّى توفّي على ذلك ، فله ثواب عمله وأجره عند ربّه ، كما وصف جلّ ثناؤه.

فإن قال قائل : وكيف قال : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، وإنّما لفظ «من» لفظ واحد ، والفعل معه موحّد؟ قيل : «من» وإن كان الذي يليه من الفعل موحّدا ، فإنّ له معنى الواحد والاثنين والجمع والتذكير والتأنيث ، لأنّه في كلّ هذه الأحوال على هيئة واحدة وصورة واحدة لا يتغيّر ، فالعرب توحّد معه الفعل وإن كان في معنى جمع ، للفظه ، وتجمع أخرى معه الفعل لمعناه ، كما قال جلّ ثناؤه : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ)(١) فجمع مرّة مع «من» الفعل لمعناه ، ووحّد أخرى معه الفعل ؛ لأنّه في لفظ الواحد ، كما قال الشاعر :

__________________

(١) يونس ١٠ : ٤٢ و ٤٣.

٢٢٧

ألمّا بسلمى عنكما إن عرضتما

وقولا لها عوجي على من تخلّفوا (١)

فقال : تخلّفوا ، وجعل «من» بمنزلة الّذين.

وقال الفرزدق :

تعال فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (٢)

فثنّى يصطحبان لمعنى «من». فكذلك قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وحّد آمن وعمل صالحا للفظ «من» وجمع ذكرهم في قوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) لمعناه ، لأنّه في معنى جمع.

وأمّا قوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فإنّه يعني به جلّ ذكره : ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة ، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم من الدنيا وعيشها ، عند معاينتهم ما أعدّ الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده (٣).

***

[٢ / ٢٢٦٩] قال مقاتل بن سليمان في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) يعني اليهود (وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) «وهم» قوم يصلّون للقبلة ، يقرأون الزبور ويعبدون الملائكة ، وذلك أنّ سلمان الفارسي كان من جندي سابور ، فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأسلم وذكر سلمان أمر الراهب وأصحابه ، وأنّهم مجتهدون في دينهم يصلّون ويصومون ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هم في النار فأنزل الله ـ عزوجل ـ فيمن صدّق منهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبما جاء به (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) يعني صدّقوا يعني أقرّوا وليسوا بمنافقين (وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) يقول : من صدّق منهم بالله ـ عزوجل ـ بأنّه واحد لا شريك له وصدّق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنّه

__________________

(١) عرضتما : من قولهم : عرض الرجل ، إذا أتى العروض ، وهي مكّة والمدينة وما حولهما.

(٢) في الديوان : «تعش فإن واثقتني» والرواية المشهورة : «تعش فإن عاهدتني». وكان الفرزدق قد اجتزر شاة ثمّ أعجله المسير فسار بها ، فجاء الذئب فحرّكها وهي مربوطة على بعير ، فأبصر الفرزدق الذئب وهو ينهشها ، فقطع رجل الشاة فرمى بها إليه. فأخذها وتنحّى ثمّ عاد. فقطع له اليد فرمى بها إليه. فلمّا أصبح القوم خبّرهم الفرزدق. والبيت في كتاب سيبويه (٢ : ٤١٦).

(٣) الطبري ١ : ٤٥٦ ـ ٤٥٨.

٢٢٨

كائن (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من نزول العذاب (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) عند الموت. يقول : إنّ الّذين آمنوا يعني صدّقوا بتوحيد الله ـ تعالى ـ ومن آمن من الّذين هادوا ومن النصارى ومن الصابئين من آمن منهم بالله واليوم الآخر فيما تقدّم إلى آخر الآية (١).

[٢ / ٢٢٧٠] وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال : نحن أعلم الناس من أين تسمّت اليهود باليهوديّة؟ بكلمة موسى عليه‌السلام : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) ولم تسمّت النصارى بالنصرانيّة؟ من كلمة عيسى عليه‌السلام : (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ)(٢).

[٢ / ٢٢٧١] وأخرج أبو الشيخ عن ابن مسعود قال : نحن أعلم الناس من أين تسمّت اليهود باليهوديّة ، والنصارى بالنصرانيّة ، إنّما تسمّت اليهود باليهوديّة بكلمة قالها موسى : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) فلمّا مات قالوا : هذه الكلمة كانت تعجبه فتسمّوا باليهود ، وإنّما تسمّت النصارى بالنصرانيّة لكلمة قالها عيسى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) فتسمّوا بالنصرانيّة (٣).

[٢ / ٢٢٧٢] وروى أبو جعفر الصدوق بإسناده إلى عليّ بن فضّال عن أبيه أنّه سأل الإمام أبا الحسن الرضا عليه‌السلام : لم سمّي الحواريّون الحوارييّن؟ قال : «أمّا عند الناس فإنّهم سمّوا حواريّين لأنّهم كانوا قصّارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل.

وأمّا عندنا فسمّي الحواريّون الحواريّين لأنّهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلصين لغيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير.

قال : فقلت له : فلم سمّي النصارى نصارى؟ قال : لأنّهم من قرية إسمها ناصرة من بلاد الشام نزلتها مريم وعيسى بعد رجوعهما من مصر» (٤).

[٢ / ٢٢٧٣] وأخرج ابن سعد في طبقاته وابن جرير عن ابن عبّاس قال : إنّما سمّيت النصارى

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ١١١ ـ ١١٢.

(٢) الدرّ ١ : ١٨٢ ؛ ابن أبي حاتم ٥ : ١٥٧٧ / ٩٠٤٣ ، والآيتين من الأعراف ٧ : ١٥٦ ، والصفّ ٦١ : ١٤.

(٣) الدرّ ١ : ١٨٢ والآية من آل عمران ٣ : ٥٢.

(٤) العيون ٢ : ٨٥ ، باب ٣٢ / ١٠ ؛ علل الشرائع ١ : ٨٠ ـ ٨١ ، باب ٧٢ / ١ ؛ البحار ١٤ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣ / ٢ باب ٢٠.

٢٢٩

نصارى ، لأنّ قرية عيسى كانت تسمّى ناصرة (١).

[٢ / ٢٢٧٤] وقال عليّ بن إبراهيم القمّي : الصابئون قوم لا مجوس ولا يهود ولا نصارى ولا مسلمون وهم يعبدون الكواكب والنجوم (٢).

[٢ / ٢٢٧٥] وقال قتادة والبلخي في قوله : (الصَّابِئُونَ) : هم قوم معروفون ولهم مذهب يتفرّدون به ، ومن دينهم عبادة النجوم. وهم يقرّون بالصانع وبالمعاد وببعض الأنبياء (٣).

[٢ / ٢٢٧٦] وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى ، هم قوم من المشركين لا كتاب لهم (٤).

[٢ / ٢٢٧٧] وأخرج عبد الرزّاق عن مجاهد قال : سئل ابن عبّاس عن الصابئين؟ فقال : هم قوم بين اليهود والنصارى والمجوس ، لا تحلّ ذبائحهم ولا مناكحهم (٥).

[٢ / ٢٢٧٨] وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : الصابئون منزلة بين النصرانيّة والمجوسيّة. ولفظ ابن أبي حاتم : منزلة بين اليهود والنصارى (٦).

[٢ / ٢٢٧٩] وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال : ذهبت الصابئون إلى اليهود فقالوا : ما أمركم؟ قالوا : نبيّنا موسى جاءنا بكذا وكذا ونهانا عن كذا وكذا ، وهذه التوراة فمن تابعنا دخل الجنّة ، ثمّ أتوا النصارى فقالوا في عيسى ما قالت اليهود في موسى ، وقالوا : هذا الإنجيل فمن تابعنا دخل الجنّة ، فقالت الصابئون : هؤلاء يقولون : نحن ومن اتّبعنا في الجنّة ، واليهود يقولون : نحن ومن اتّبعنا في الجنّة ، فنحن به لا ندين ، فسمّاهم الله الصابئين (٧).

__________________

(١) الدرّ ١ : ١٨٢ ؛ الطبقات الكبرى ١ : ٥٣ ـ ٥٤ ، باب ذكر القرون والسنين التي بين آدم عليه‌السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ابن عساكر ١ : ٣٢ ، باب في مبتدأ التاريخ.

(٢) نور الثقلين ١ : ٨٤ ؛ القمّي ١ : ٤٨ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٣٢ ؛ الصافي ١ : ٢٠٤ ، بلفظ : والقمّي : إنّهم ليسوا من أهل الكتاب ولكنّهم يعبدون الكواكب والنجوم ؛ البرهان ١ : ٢٣١ ـ ٢٣٢ / ١١.

(٣) التبيان ١ : ٢٨٢ ـ ٢٨٣ ؛ مجمع البيان ١ : ٢٤٢.

(٤) الدرّ ١ : ١٨٢ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٧٢ / ٥٩.

(٥) الدرّ ١ : ١٨٣ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٧٢ / ٥٩.

(٦) الدرّ ١ : ١٨٣ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٢٧ / ٦٣٧.

(٧) الدرّ ١ : ١٨٣. ولعلّنا في عرض آخر نتكلّم عن الصابئين بصورة أوسع.

٢٣٠

[٢ / ٢٢٨٠] وذكر أبو جعفر في سبب نزول الآية : أنّها نزلت في أصحاب سلمان الفارسي ، وكان سلمان من جندي سابور ، وكان من أشرافهم ، وكان ابن الملك صديقا له مؤاخيا ، لا يقضي واحد منهم أمرا دون صاحبه ، وكانا يركبان إلى الصيد جميعا. فبينما هما في الصيد إذ رفع لهما بيت من عباء (١) ، فأتياه فإذا هما فيه برجل بين يديه مصحف يقرأ فيه وهو يبكي ، فسألاه ما هذا؟ فقال : الذي يريد أن يعلم هذا لا يقف موقفكما ، فإن كنتما تريدان أن تعلما ما فيه فانزلا حتّى أعلّمكما ، فنزلا إليه ، فقال لهما : هذا كتاب جاء من عند الله ، أمر فيه بطاعته ونهى عن معصيته ، فيه : أن لا تزني ، ولا تسرق ، ولا تأخذ أموال الناس بالباطل. فقصّ عليهما ما فيه ، وهو الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى. فوقع في قلوبهما وتابعاه فأسلما ، وقال لهما : إنّ ذبيحة قومكما عليكما حرام ، فلم يزالا معه كذلك يتعلّمان منه ، حتّى كان عيد للملك ، فجعل طعاما ، ثمّ جمع الناس والأشراف ، وأرسل إلى ابن الملك فدعاه إلى صنيعه ليأكل مع الناس ، فأبى الفتى وقال : إنّي عنك مشغول ، فكل أنت وأصحابك ، فلمّا أكثر عليه من الرسل ، أخبرهم أنّه لا يأكل من طعامهم ، فبعث الملك إلى ابنه ، فدعاه وقال : ما أمرك هذا؟ قال : إنّا لا نأكل من ذبائحكم ، إنّكم كفّار ليس تحلّ ذبائحكم ، فقال له الملك : من أمرك بهذا؟ فأخبره أنّ الراهب أمره بذلك ، فدعا الراهب فقال : ماذا يقول ابني؟ قال : صدق ابنك ، قال له : لو لا أنّ الدم فينا عظيم لقتلتك ، ولكن اخرج من أرضنا! فأجّله أجلا. فقال سلمان : فقمنا نبكي عليه ، فقال لهما : إن كنتما صادقين ، فإنّا في بيعة بالموصل مع ستّين رجلا نعبد الله فيها ، فأتونا فيها. فخرج الراهب ، وبقي سلمان وابن الملك ؛ فجعل يقول لابن الملك : انطلق بنا ، وابن الملك يقول : نعم ، وجعل ابن الملك يبيع متاعه يريد الجهاز. فلمّا أبطأ على سلمان ، خرج سلمان حتّى أتاهم ، فنزل على صاحبه وهو ربّ البيعة ، وكان أهل تلك البيعة من أفضل الرهبان ، فكان سلمان معهم يجتهد في العبادة ، ويتعب نفسه ، فقال له الشيخ : إنّك غلام حدث تتكلّف من العبادة ما لا تطيق ، وأنا خائف أن تفتر وتعجز ، فارفق بنفسك وخفّف عليها! فقال له سلمان : أرأيت الذي تأمرني به أهو أفضل أو الذي أصنع؟ قال : بل الذي تصنع؟ قال : فخلّ عنّي.

__________________

(١) العباء : ضرب من الأكسية فيه خطوط سود كبار ، وغالبا يكسى بها أخبية البدو في الصحراء.

٢٣١

ثمّ إنّ صاحب البيعة دعاه فقال : أتعلم أنّ هذه البيعة لي ، وأنا أحقّ الناس بها ، ولو شئت أن أخرج هؤلاء منها لفعلت؟ ولكنّي رجل أضعف عن عبادة هؤلاء ، وأنا أريد أن أتحوّل من هذه البيعة إلى بيعة أخرى هم أهون عبادة من هؤلاء ، فإن شئت أن تقيم هاهنا فأقم ، وإن شئت أن تنطلق معي فانطلق. قال له سلمان : أيّ البيعتين أفضل أهلا؟ قال : هذه. قال سلمان : فأنا أكون في هذه. فأقام سلمان بها وأوصى صاحب البيعة عالم البيعة بسلمان ، فكان سلمان يتعبّد معهم ، ثمّ إنّ الشيخ العالم أراد أن يأتي بيت المقدس ، فقال لسلمان : إن أردت أن تنطلق معي فانطلق ، وإن شئت أن تقيم فأقم. فقال له سلمان : أيّهما أفضل أنطلق معك أم أقيم؟ قال : لا بل تنطلق معي. فانطلق معه فمرّوا بمقعد على ظهر الطريق ملقى ، فلمّا رآهما نادى : يا سيّد الرهبان ارحمني يرحمك الله ، فلم يكلّمه ولم ينظر إليه ، وانطلقا حتّى أتيا بيت المقدس ، فقال الشيخ لسلمان : اخرج فاطلب العلم فإنّه يحضر هذا المسجد علماء أهل الأرض. فخرج سلمان يسمع منهم ، فرجع يوما حزينا ، فقال له الشيخ : ما لك يا سلمان؟ قال : أرى الخير كلّه قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبياء وأتباعهم ، فقال له الشيخ : يا سلمان لا تحزن ، فإنّه قد بقي نبيّ ليس من نبيّ بأفضل تبعا منه وهذا زمانه الذي يخرج فيه ، ولا أراني أدركه ، وأمّا أنت فشابّ لعلّك تدركه ، وهو يخرج في أرض العرب ، فإن أدركته فآمن به واتّبعه! فقال له سلمان : فأخبرني عن علامته بشيء. قال : نعم ، هو مختوم في ظهره بخاتم النبوّة ، وهو يأكل الهديّة ولا يأكل الصدقة. ثمّ رجعا حتّى بلغا مكان المقعد ، فناداهما فقال : يا سيّد الرهبان ارحمني يرحمك الله ، فعطف إليه حماره ، فأخذ بيده فرفعه ، فضرب به الأرض ودعا له ، وقال : قم بإذن الله ، فقام صحيحا يشتدّ (١) ، فجعل سلمان يتعجّب وهو ينظر إليه يشتدّ. وسار الراهب فتغيّب عن سلمان ، ولا يعلم سلمان. ثمّ إنّ سلمان فزع بطلب الراهب ، فلقيه رجلان من العرب من كلب فسألهما : هل رأيتما الراهب؟ فأناخ أحدهما راحلته ، قال : نعم راعي الصّرمة (٢) هذا ، فحمله فانطلق به إلى المدينة. قال سلمان : فأصابني من الحزن شيء لم يصبني مثله قطّ. فاشترته امرأة من جهينة فكان يرعي غنمها هو وغلام لها يتراوحان الغنم هذا يوما وهذا يوما ، فكان سلمان يجمع الدراهم ينتظر خروج

__________________

(١) يشتدّ : يعدو ويسرع.

(٢) الصرمة : القطيع من الإبل والغنم.

٢٣٢

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فبينا هو يوما يرعي ، إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه (١) ، فقال : أشعرت أنّه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنّه نبيّ؟ فقال له سلمان : أقم في الغنم حتّى آتيك ، فهبط سلمان إلى المدينة ، فنظر إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودار حوله ، فلمّا رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرف ما يريد ، فأرسل ثوبه ، حتّى خرج خاتمه ، فلمّا رآه أتاه وكلّمه ، ثمّ انطلق ، فاشترى بدينار ببعضه شاة وببعضه خبزا ، ثمّ أتاه به ، فقال : «ما هذا؟» قال سلمان : هذه صدقة! قال : «لا حاجة لي بها فأخرجها فليأكلها المسلمون». ثمّ انطلق فاشترى بدينار آخر خبزا ولحما ، فأتى به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : «ما هذا؟» قال : هذه هديّة ، قال : «فاقعد» ، فقعد فأكلا جميعا منها. فبينا هو يحدّثه إذ ذكر أصحابه ، فأخبره خبرهم ، فقال : كانوا يصومون ويصلّون ويؤمنون بك ، ويشهدون أنّك ستبعث نبيّا ؛ فلمّا فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا سلمان هم من أهل النار»! فاشتدّ ذلك على سلمان ، وقد كان قال له سلمان : لو أدركوك صدّقوك واتبعوك ، فأنزل الله هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)(٢).

فكان إيمان اليهود أنّه من تمسّك بالتوراة وسنّة موسى حتّى جاء عيسى ، فلمّا جاء عيسى كان من تمسّك بالتوراة وأخذ بسنّة موسى فلم يدعها ولم يتّبع عيسى كان هالكا. وإيمان النصارى أنّه من تمسّك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه ، حتّى جاء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن لم يتّبع محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنّة عيسى والإنجيل كان هالكا (٣).

[٢ / ٢٢٨١] وأخرج ابن جرير عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : سأل سلمان الفارسي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم ، قال : لم يموتوا على الإسلام! قال سلمان : فأظلمت عليّ الأرض وذكر اجتهادهم ، فنزلت هذه الآية ، فدعا النبيّ سلمان فقال : «نزلت هذه الآية في أصحابك». ثمّ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي فهو

__________________

(١) أي الذي يأتي بعده في نوبته.

(٢) رواه ابن أبي حاتم صدرا وذيلا مختزلا. التفسير ١ : ١٢٧. قال : وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا ؛ الدرّ ١ : ٣٨٩ ـ ٣٩٤ ، ط : دار هجر.

(٣) الطبري ١ : ٤٥٨ ـ ٤٦١.

٢٣٣

على خير ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك».

[٢ / ٢٢٨٢] وأخرج عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عبّاس في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) إلى قوله : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ..) فأنزل الله تعالى بعد هذا : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)(١). (٢)

قال أبو جعفر : وهذا الخبر يدلّ على أنّ ابن عبّاس كان يرى أنّ الله جلّ ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحا من اليهود والنصارى والصابئين ، على عمله ، في الآخرة الجنّة ، ثمّ نسخ ذلك بقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ).

فتأويل الآية إذن على ما ذكرنا [أوّلا] عن مجاهد والسدّي : أنّ الّذين آمنوا من هذه الأمّة ، والّذين هادوا والنصارى والصابئين ، من آمن من اليهود والنصارى والصابئين بالله واليوم الآخر ، (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

والذي قلنا من التأويل الأوّل أشبه بظاهر التنزيل ، لأنّ الله جلّ ثناؤه لم يخصّص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان ، بعض خلقه دون بعض منهم ، والخبر بقوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) عن جميع ما ذكر في أوّل الآية (٣).

[٢ / ٢٢٨٣] وأخرج الواحدي عن مجاهد قال : لمّا قصّ سلمان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قصّة أصحابه قال : هم في النار. قال سلمان : فأظلمت عليّ الأرض ، فنزلت : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) إلى قوله (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قال : فكأنّما كشف عنّي جبل (٤).

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٨٥.

(٢) الطبري ١ : ٤٦١ / ٩٢٨ ـ ٩٢٩.

(٣) الطبري ١ : ٤٦١.

(٤) الدرّ ١ : ١٧٩ ؛ أسباب النزول : ١٤ ـ ١٥.

٢٣٤

قال تعالى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤))

موقف آخر من مواقف بني إسرائيل المتعنّتة : قصّة أخذ الميثاق ، حسبما جاء تفصيله في الآية ٨٣ من السورة ومواضع أخر من القرآن ، وبما فيه من التملّص والتقلّص منه ، ثمّ التشديد عليه لطفا بهم كتشديد الطبيب الناصح على المريض اللجوج .. ولكن هيهات وتلك القلوب القاسية الجامحة ترفض النصح السليم وتجنح إلى السرح السقيم ، بغيا وعتوّا ، ولا يزالون يبتغون الفساد في الأرض كلّما حلّوا وارتحلوا.

وهكذا كانت يهود المدينة تعمل الخبائث وتقوم بالدسائس تجاه صرح الإسلام القويم.

نعم لا بدّ مع أخذ العهد بقوّة وجدّ واستجماع نفس وتصميم لا بدّ مع هذا من تذكّر ما فيه واستشعار حقيقته ، والتكليف بهذه الحقيقة ، كي لا يكون الأمر كلّه مجرّد حماسة وحميّة وقوّة. فعهد الله منهج الحياة ، منهج يستقرّ في القلب تصوّرا وشعورا ، ويستقرّ في الحياة وضعا ونظاما ، ويستقرّ في السلوك أدبا وخلقا ، وينتهي إلى التقوى والحسّاسيّة برقابة الله وخشية المصير.

ولكن هيهات! لقد أدركت إسرائيل نحيزتها (١) وغلبت عليها جبلّتها : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) غير أنّ رحمة الله وسعت غضبه فأدركتهم مرّة أخرى وشملهم فضله العظيم ، فأنقذهم من الخسار المبين (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ).

حادث نتوق الجبل

ممّا يسترعي الانتباه هنا هو حادث نتوق الجبل فوق رؤوس بني إسرائيل ، بما اضطرّهم إلى قبول العهد والاستسلام للشريعة!

__________________

(١) النحيزة : الطبيعة. يقال : هو كريم النحيزة أي شريف رفيع.

٢٣٥

والسؤال هنا من جهتين : أولاهما : هل صحّ أنّ الجبل اقتلع من مكانه وارتفع فوق رؤوسهم وظنّوا أنّه واقع بهم؟

والثانية : كيف يعنّف على التكليف ، في حين أنّ المقصود من التكليف هو الاختبار غير الحاصل مع الاضطرار. إذ لا اختبار إلّا مع اختيار!

جاء ذكر هذا الحادث في القرآن في موضعين :

١ ـ سورة البقرة : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ)(١).

٢ ـ سورة الأعراف : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(٢).

ليس في الآيتين سوى اقتلاع جزء عظيم من أعالي الجبل ، أثناء رجفة وزلزال مصحوبة بطوفان ورعود وبروق وسحاب ثقيل ـ كما جاء في نصّ التوراة (٣) ـ وقد ارتجف القوم من هول المشهد ، وإذا بالصخرة الهائلة تنحدر إليهم وهم في سفح الجبل.

جاء في سفر الخروج : «وحدث في اليوم الثالث لمّا كان الصباح أنّه صارت رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل. فارتعد كلّ الشعب الذي في المحلّة وكانوا في أسفل الجبل ، وكان جبل سيناء كلّه يدخن وصعد دخانه كدخان الأتون وارتجف كلّ الجبل جدّا ويزداد صوت البرق اشتدادا (٤)».

والصخرة كانت تهطل على صفحة الجبل وتنزلق إلى أسفل بشدّة وقوّة ، حتّى خشي القوم أنّها ستدمّرهم ، بسقوطها عليهم.

لكنّ الله بفضله ورحمته أوقفها في الأثناء ـ في ثنايا منحدرات الجبل ـ وكانت وقفتها بصورة عموديّة مطلّة عليهم جانبيّا كأنّها ظلّة ، فظنّوا أنّها واقعة بهم.

وكما جاء في نصّ التوراة أنّ هذا الحادث الهائل فاجأهم وهم في أثناء مذاكرتهم مع موسى عليه‌السلام عند ما عرض عليهم الشريعة ، وحاول أخذ الميثاق عليها.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٦٣.

(٢) البقرة ٢ : ١٧١.

(٣) سفر الخروج ، أصحاح : ١٩ / ١٥ ـ ١٩.

(٤) المصدر.

٢٣٦

ولعلّ في هذه المباغتة المفاجئة حكمة إلهيّة بالغة ، ليريهم من آيات كونيّة موجّهة لضمير الإنسان إلى جانب ضعف مقدرته تجاه إرادة الله القادر الحكيم.

وهذا من قبيل إراءة المعاجز على أيدي الأنبياء إيقاظا للضمير وليس إكراها على التسليم.

هذا ما دلّت عليه الآية الكريمة ودعمته التوراة بنصّها الصريح.

أمّا اقتلاع الجبل من أصله ورفعه في السماء برمّته فوق رؤوس القوم وكان معسكرهم فرسخا في فرسخ بما اضطروا إلى الاستسلام خوف الدمار والاستئصال ـ كما جاء في بعض التفاسير (١) ـ فلا شاهد له في القرآن ولا في أثر صحيح معتمد .. وإنّما هو شيء جاء في روايات إسرائيليّة عامّيّة اغترّ بها بعض الأوائل المشعوفين بأحاديث مسلمة اليهود.

قال السيّد محمّد رشيد رضا : شايع الأستاذ الإمام (الشيخ محمّد عبده) المفسّرين على أنّ رفع الطور كان آية كونيّة ، أي انتزع من الأرض وصار معلّقا فوقهم في الهواء. وهذا هو المتبادر من الآية بمعونة السّياق ، وإن لم تكن ألفاظها نصّا فيه.

وقال في وجه عدم نصّيّة الآية في ذلك : إنّ أصل النتق ـ في اللّغة ـ الزعزعة والزلزلة ، وأمّا الظلّة فكلّ ما أظلّك وأطلّ عليك سواء أكان فوق رأسك أم في جانبك مرتفعا له ظلّ. فيحتمل أنّهم كانوا بجانب الطور رأوه منتوقا أي مرتفعا مزعزعا ، فظنّوا أن سيقع بهم وينقضّ عليهم. ويجوز أنّ ذلك كان في أثر زلزال تزعزع له الجبل. قال : وإذا صحّ هذا التأويل لا يكون منكر ارتفاع الجبل في الهواء مكذّبا للقرآن! (٢).

قال الأستاذ النجّار : قد يكون جزء عظيم من الجبل اقتلع من مكانه أثناء رجفة أو زلزال ، رأوه بأعينهم وهم في أسفل الجبل كأنّه ظلّة ، وخافوا وقوعه بهم. وذلك عند أخذ ميثاقهم على العمل بالتوراة (٣).

__________________

(١) ستأتي الرواية عن قتادة في قوله تعالى : وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ قال : انتزعه الله من أصله ثمّ جعله فوق رؤوسهم ثمّ قال : «لتأخذنّ أمري أو لأرمينّكم به ...».

(٢) المنار ١ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

(٣) قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهّاب النجّار : ٢٣١.

٢٣٧

قلت : ما أجمل رأيهما بعد احتمال لفظ القرآن ما يترفّع به عن شبهة الإكراه على الدين. ولا سيّما والروايات بهذا الشأن ضعاف بأجمعها ، فضلا عن مخالفتها لأصول الحكمة في التكليف ـ على ما نبّهنا ـ وكما قال السيّد رشيد رضا : إنّ هذا المعنى ـ على ما جاء في الروايات ـ اعترض عليه بأنّه إكراه على الإيمان وإلجاء إليه وذلك ينافي التكليف.

ومن الغريب ما ذكره بعضهم : أنّ نفي الإكراه في الدين خاصّ بالإسلام ، وربّما كان مثل هذا الإلجاء جائزا في الأمم السابقة (١).

وأغرب منه نقد جماعة من علماء الأزهر لهذا التأويل ، بحجّة أنّه خلاف التعبير بالفوقيّة الظاهرة في المسامتة ، لا الارتفاع على جانب.

قالوا : وحيث ظهر فساد هذا التأويل ، وأنّ القرآن الكريم نصّ في إفادة الرفع المخصوص ـ كما قرّره جميع المفسّرين ـ كان القول بعدمه تكذيبا للقرآن (٢).

ولسيّدنا العلّامة الطباطبائي هنا كلام قد يبدو منه عجيبا ، قال : هذا التأويل وصرف الآية عن ظاهرها ، والقول بأنّ بني إسرائيل كانوا في أصل الجبل فزلزل وزعزع حتّى أطلّ رأسه عليهم فظنّوا أنّه واقع بهم ، فعبّر عنها برفعه فوقهم أو نتقه فوقهم ، مبنيّ على أصل إنكار المعجزات وخوارق العادات!! (٣)

وقد ردّ عليهم الأستاذ النجّار بأنّ الفوقيّة تحصل مع عدم المسامتة أيضا ، بدليل قوله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)(٤) أي جاؤوكم من أعلا الوادي ومن أسفله والإضافة هنا كانت لأدنى ملابسة (٥).

وبعد فالنتق عبارة عن النفض ، يقال : نتق الجراب أي نفضه بمعنى حرّكه. ونتق الشيء : زعزعه. رفعه. بسطه. قال الراغب : نتق الشيء : جذبه ونزعه حتّى يسترخي كنتق عرى الحمل. قال تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ).

__________________

(١) راجع : المصدر : ٢٢٩.

(٢) المصدر : ٢٣٢.

(٣) الميزان ١ : ٢٠٠.

(٤) الأحزاب ٣٣ : ١٠. وشواهد أخر ذكرها الأستاذ فراجع.

(٥) قصص الأنبياء : ٢٣٣.

٢٣٨

وعليه فليس نتق الجبل سوى زعزعته ليقتلع جزء من أعلاه فيتدلّى وينحدر نحو السفل ، لو لا أن أوقفه الله أثناء الانحدار ليقوم جانبيّا فوق رؤوس القوم حتّى ظنّوا أنّه واقع بهم.

هذا هو ظاهر الآية الكريمة ، ولا مشاحّة فيه حقيقة لو لا ذهاب الجمهور ووفرة الروايات بخلافه ، الأمر الذي أوقف هؤلاء الأعلام (أعضاء اللجنّة الأفاضل والعلّامة الطباطبائي) عن الانصياع له.

فالعمدة هي الروايات المسوقة بهذا الشأن فلننظر فيها :

قال أبو جعفر في تفسير الآية : الميثاق : المفعال من الوثيقة إمّا بيمين وإمّا بعهد أو غير ذلك من الوثائق.

ويعني بقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) الميثاق الذي أخبر جلّ ثناؤه أنّه أخذ منهم في قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)(١) إلى آخر الآيات وكان سبب أخذ الميثاق عليهم فيما ذكره ابن زيد ما :

[٢ / ٢٢٨٤] أخبر ابن وهب عن ابن زيد أنّه قال : لمّا رجع موسى من عند ربّه بالألواح قال لقومه بني إسرائيل : إنّ هذه الألواح فيها كتاب الله ، وأمره الذي أمركم به ، ونهيه الذي نهاكم عنه ؛ فقالوا : ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتّى نرى الله جهرة ، حتّى يطلع الله علينا فيقول : هذا كتابي فخذوه! فما له لا يكلّمنا كما كلّمك أنت يا موسى ، فيقول : هذا كتابي فخذوه؟ قال : فجاءت غضبة من الله فجاءتهم صاعقة فصعقتهم ، فماتوا أجمعين. قال : ثمّ أحياهم الله بعد موتهم ، فقال لهم موسى : خذوا كتاب الله! فقالوا : لا ، قال : أيّ شيء أصابكم؟ قالوا : متنا ثمّ حيينا ، قال : خذوا كتاب الله! قالوا : لا. فبعث ملائكته فنتقت الجبل فوقهم ، فقيل لهم : أتعرفون هذا؟ قالوا : نعم ، هذا الطور ، قال : خذوا الكتاب وإلّا طرحناه عليكم! قال : فأخذوه بالميثاق. وقرأ قول الله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) حتّى بلغ : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٢) قال : ولو كانوا أخذوه أوّل مرّة لأخذوه بغير ميثاق.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٨٣.

(٢) البقرة ٢ : ٨٣ ـ ٨٥.

٢٣٩

وقال في تأويل قوله تعالى : (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ :)

وأمّا الطور فإنّه الجبل في كلام العرب ، ومنه قول العجّاج :

داني جناحيه من الطور فمرّ

تقضّي البازي إذا البازي كسر (١)

وقيل إنّه إسم جبل بعينه. وذكر أنّه الجبل الذي ناجى الله عليه موسى. وقيل : إنّه من الجبال ما أنبت دون ما لم ينبت.

[٢ / ٢٢٨٥] روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجّدا ويقولوا حطّة وطؤطىء لهم الباب ليسجدوا ، فلم يسجدوا ودخلوا على أدبارهم ، وقالوا حنطة. فنتق فوقهم الجبل ، يقول : أخرج أصل الجبل من الأرض فرفعه فوقهم كالظلّة (والطور بالسّريانية : الجبل) تخويفا فدخلوا سجّدا على خوف وأعينهم إلى الجبل ، وهو الجبل الذي تجلّى له ربّه.

[٢ / ٢٢٨٦] وقال : رفع الجبل فوقهم كالسحابة ، فقيل لهم : لتؤمننّ أو ليقعنّ عليكم ، فآمنوا.

[٢ / ٢٢٨٧] وعن قتادة قال : الطور : الجبل ، كانوا بأصله فرفع عليهم فوق رؤوسهم ، فقال : لتأخذنّ أمري أو لأرمينّكم به.

[٢ / ٢٢٨٨] وبطريق آخر عنه قال : الطور : الجبل اقتلعه الله فرفعه فوقهم ، فقال : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) فأقرّوا بذلك.

[٢ / ٢٢٨٩] وعن أبي العالية ، قال : رفع فوقهم الجبل يخوّفهم به.

[٢ / ٢٢٩٠] وعن عكرمة ، قال : الطور : الجبل.

[٢ / ٢٢٩١] وعن السدّي قال : لمّا قال الله لهم : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) فأبوا أن يسجدوا ، أمر الله الجبل أن يقع عليهم ، فنظروا إليه وقد غشيهم ، فسقطوا سجّدا على شقّ ، ونظروا بالشقّ الآخر. فرحمهم‌الله ، فكشفه عنهم.

[٢ / ٢٢٩٢] وعن ابن جريج ، عن ابن عبّاس قال : الطور : الجبل الذي أنزلت عليه التوراة ، يعني

__________________

(١) دانى جناحيه : أي ضمّهما وقرّبهما وضيّق ما بينهما تأهّبا للانقضاض من ذروة الجبل. ومرّ : أسرع إسراعا شديدا. وتقضّي : أصلها «تقضض» فقلب الضاد الأخيرة ياء ، وتقضض الطائر : هوى في طيرانه يريد الوقوع. وكسر الطائر جناحيه : ضمّ منهما قليلا وهو يريد السقوط.

٢٤٠