التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

[٢ / ٢٢٠٦] وروى بإسناده إلى ابن عبّاس قال : الفوم : الحنطة بلسان بني هاشم (١).

[٢ / ٢٢٠٧] وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ، قال : الفوم : الخبزة (٢).

قال أبو جعفر : وقال آخرون : هو الثوم.

[٢ / ٢٢٠٨] فقد روى ليث ، عن مجاهد ، قال : هو هذا الثوم.

[٢ / ٢٢٠٩] وعن الربيع ، قال : الفوم : الثوم.

قال : وهو في بعض القراءات : «وثومها». وقد ذكر أنّ تسمية الحنطة والخبز جميعا فوما من اللّغة القديمة ، حكي سماعا من أهل هذه اللغة : فوّموا لنا ، بمعنى اختبزوا لنا. وذكر أنّ ذلك قراءة عبد الله بن مسعود : «وثومها» بالثاء. فإن كان ذلك صحيحا فإنّه من الحروف المبدلة ، كقولهم : وقعوا في عاثور شرّ وعافور شرّ ، وكقولهم للأثافي أثاثي ، وللمغافير مغاثير ، وما أشبه ذلك ممّا تقلب الثاء فاء والفاء ثاء لتقارب مخرج الفاء من مخرج الثاء. والمغافير شبيه بالشيء الحلو يشبه بالعسل ينزل من السماء حلوا يقع على الشجر ونحوها (٣).

قال الفرّاء : إنّ الفوم فيما ذكر لغة قديمة وهي الحنطة والخبز جميعا قد ذكرا. قال بعضهم : سمعنا العرب من أهل هذه اللغة يقولون : فوّموا لنا ، بالتشديد لا غير ، يريدون : اختبزوا. وهي في قراءة عبد الله : «وثومها» بالثاء ، فكأنّه أشبه المعنيين بالصواب ؛ لأنّه مع ما يشاكله من العدس والبصل وشبهه. والعرب تبدل الفاء بالثاء فيقولون : جدث وجدف ، ووقعوا في عاثور شرّ وعافور شرّ. والأثاثي والأثافي. وسمعت كثيرا من بني أسد يسمّي المغافير المغاثير (٤).

[٢ / ٢٢١٠] وأخرج الطسيّ في مسائله عن ابن عبّاس أنّ نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله عزوجل : (وَفُومِها). قال : الفوم : الحنطة. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت أبا محجن الثقفي وهو يقول :

__________________

(١) المصدر : ٤٤٤.

(٢) عبد الرزّاق ١ : ٢٧٣ / ٦١.

(٣) الطبري ١ : ٤٤٥.

(٤) معاني القرآن للفرّاء ١ : ٤١. قولهم : وقعوا في عاثور شرّ أي اختلط أمرهم واشتدّ. والمغافير : صمغ يسيل من شجر الرمث والعرفط وهو حلو يؤكل غير أنّ رائحته ليست بطيّبة.

٢٠١

قد كنت أحسبني كأغنى واحد

قدم المدينة عن زراعة فوم

قال : يا ابن الأزرق ومن قرأها على قراءة ابن مسعود فهو هذا المنتن ، قال أميّة ابن أبي الصلت :

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة

فيها الفراديس والفومات والبصل

وقال أميّة بن أبي الصلت أيضا :

أنفى الدياس (١) من الفوم الصحيح كما

أنفي من الأرض صوب الوابل البرد (٢)

***

وقال أبو جعفر في تأويل قوله تعالى : (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) :

تأويل ذلك : فدعا موسى فاستجبنا له ، فقلنا لهم : اهبطوا مصرا. وهو من المحذوف الذي اجتزئ بدلالة ظاهره على ذكر ما حذف وترك منه. وقد دلّلنا فيما مضى على أنّ معنى الهبوط إلى المكان إنّما هو النزول إليه والحلول به.

فتأويل الآية إذن : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها) قال لهم موسى : أتستبدلون الذي هو أخسّ وأردأ من العيش بالذي هو خير منه؟ فدعا لهم موسى ربّه أن يعطيهم ما سألوه ، فاستجاب الله له دعاءه ، فأعطاهم ما طلبوا ، وقال الله لهم : (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ).

ثمّ اختلف القرّاء في قراءة قوله : (مِصْراً) فقرأه عامّة القرّاء : (مِصْراً) بتنوين مصر وإجرائه (٣) ؛ وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه. فأمّا الّذين نوّنوه وأجروه ، فإنّهم عنوا به مصرا من الأمصار لا مصرا بعينه ، فتأويله على قراءتهم : اهبطوا مصرا من الأمصار ، لأنّكم في البدو ، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي ، وإنّما يكون في القرى والأمصار ، فإنّ لكم إذا هبطتموه ما سألتم من العيش. وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك بالإجراء والتنوين ، كان تأويل الكلام عنده : اهبطوا مصرا البلدة التي تعرف بهذا الاسم وهي «مصر» التي خرجوا عنها ، غير أنّه أجراها ونوّنها اتّباعا منه خطّ المصحف ، لأنّ في المصحف ألفا ثابتة في مصر ، فيكون سبيل قراءته ذلك

__________________

(١) الدياس : ما يداس من سنابل الحبوب.

(٢) الدرّ ١ : ١٧٧.

(٣) أي صرفه بالتنوين.

٢٠٢

بالإجراء والتنوين سبيل من قرأ : (قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ)(١) منوّنة اتباعا منه خطّ المصحف. وأمّا الذي لم ينوّن مصر فإنّه لا شكّ أنّه عنى مصر التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها.

وقد اختلف أهل التأويل في ذلك نظير اختلاف القرّاء في قراءته :

[٢ / ٢٢١١] فعن قتادة : (اهْبِطُوا مِصْراً) أي مصرا من الأمصار (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ).

[٢ / ٢٢١٢] وعن السدّي : (اهْبِطُوا مِصْراً) من الأمصار ، (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) فلمّا خرجوا من التيه رفع المنّ والسلوى وأكلوا البقول.

[٢ / ٢٢١٣] وعن مجاهد : (اهْبِطُوا مِصْراً) قال : مصرا من الأمصار ، زعموا أنّهم لم يرجعوا إلى مصر.

[٢ / ٢٢١٤] وعن ابن زيد : (اهْبِطُوا مِصْراً) قال : مصرا من الأمصار. ومصر لا تجرى في الكلام ، فقيل : أيّ مصر؟ فقال : الأرض المقدسة التي كتب الله لهم. وقرأ قول الله جلّ ثناؤه : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)(٢).

وقال آخرون : هي مصر التي كان فيها فرعون. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٢٢١٥] روى الربيع ، عن أبي العالية في قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) قال : يعني به مصر فرعون.

قال أبو جعفر : ومن حجّة من قال : إنّ الله جلّ ثناؤه إنّما عنى بقوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) مصرا من الأمصار دون مصر فرعون بعينها ، أنّ الله جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر ، وإنّما ابتلاهم بالتيه بامتناعهم على موسى في حرب الجبابرة إذ قال لهم : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) إلى قوله : (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)(٣). فحرّم الله جلّ وعزّ على قائل ذلك فيما ذكر لنا دخولها حتّى هلكوا في التيه وابتلاهم بالتّيهان في الأرض أربعين سنة ، ثمّ أهبط ذرّيتهم الشام ، فأسكنهم الأرض المقدسة ، وجعل هلاك الجبابرة على

__________________

(١) الإنسان ٧٦ : ١٥ و ١٦ ، بإثبات الألف في كليهما.

(٢) المائدة ٥ : ٢١.

(٣) المائدة ٥ : ٢١ ـ ٢٤.

٢٠٣

أيديهم مع يوشع بن نون بعد وفاة موسى بن عمران. فرأينا الله جلّ وعزّ قد أخبر عنهم أنّه كتب لهم الأرض المقدّسة ، ولم يخبرنا عنهم أنّه ردّهم إلى مصر بعد إخراجه إيّاهم منها ، حتّى يجوز لنا أن نقرأ : اهبطوا مصر ، ونتأوّله أنّه ردّهم إليها.

قالوا : فإن احتجّ محتجّ بقول الله جلّ ثناؤه : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ)(١). قيل لهم : فإنّ الله جلّ ثناؤه إنّما أورثهم ذلك فملّكهم إيّاها ولم يردّهم إليها ، وجعل مساكنهم الشأم.

وأمّا الّذين قالوا : إنّ الله إنّما عنى بقوله جلّ وعزّ : (اهْبِطُوا مِصْراً) مصر ، فإنّ من حجّتهم التي احتجّوا بها الآية التي قال فيها : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ)(٢) وقوله : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ)(٣). قالوا : فأخبر الله جلّ ثناؤه أنّه قد ورّثهم ذلك وجعلها لهم ، فلم يكونوا يرثونها ثمّ لا ينتفعون بها. قالوا : ولا يكونون منتفعين بها إلّا بمصير بعضهم إليها ، وإلّا فلا وجه للانتفاع بها إن لم يصيروا أو لم يصر بعضهم إليها! قالوا : وأخرى أنّها في قراءة أبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود : «اهبطوا مصر» بغير ألف ، قالوا : ففي ذلك الدلالة البيّنة أنّها مصر بعينها.

والذي نقول به في ذلك أنّه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين ، ولا خبر به عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقطع مجيئه العذر ، وأهل التأويل متنازعون تأويله.

فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إنّ موسى سأل ربّه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض على ما بيّنه الله جلّ وعزّ في كتابه وهم في الأرض تائهون ، فاستجاب الله لموسى دعاءه ، وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قرارا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك ، إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلّا القرى والأمصار وأنّه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه ، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر ، وجائز أن يكون الشام.

فأما القراءة فإنّها بالألف والتنوين : (اهْبِطُوا مِصْراً) وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها

__________________

(١) الشعراء ٢٦ : ٥٧ ـ ٥٩.

(٢) الشعراء ٢٦ : ٥٧ ـ ٥٩.

(٣) الدخان ٤٤ : ٢٥ ـ ٢٨.

٢٠٤

لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين ، واتّفاق قراءة القرّاء على ذلك. ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه إلّا من لا يجوز الاعتراض به (١) على الحجّة فيما جاءت به من القراءة مستفيضا بينها (٢).

***

وقال في تأويل قوله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ).

يعني بقوله : (وَضُرِبَتْ) أي فرضت ووضعت عليهم الذلّة وألزموها ؛ من قول القائل : ضرب الإمام الجزية على أهل الذمّة ، وضرب الرجل على عبده الخراج ؛ يعني بذلك وضعه فألزمه إيّاه ، ومن قولهم : ضرب الأمير على الجيش البعث (٣) ، يراد به ألزمهموه.

وأمّا الذلّة ، فهي الفعلة من قول القائل : ذلّ فلان يذلّ ذلّا وذلّة ، كالصغرة من صغر الأمر ، والقعدة من قعد ، والذلّة : هي الصغار الذي أمر الله جلّ ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ما هم عليه من كفرهم به وبرسوله إلّا أن يبذلوا الجزية عليه لهم ، فقال جلّ وعزّ : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)(٤). كما :

[٢ / ٢٢١٦] روى معمر ، عن الحسن وقتادة في قوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) قالا : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.

وأمّا المسكنة ، فإنّها مصدر المسكين ، يقال : ما فيهم اسكن من فلان وما كان مسكينا ولقد تمسكن مسكنة. ومن العرب من يقول : تمسكن تمسكنا. والمسكنة في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة ، وهي خشوعها وذلّها ، كما :

[٢ / ٢٢١٧] روى الربيع ، عن أبي العالية في قوله : (وَالْمَسْكَنَةُ) قال : الفاقة.

[٢ / ٢٢١٨] وروى أسباط ، عن السدّي ، قوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) قال : الفقر.

__________________

(١) إذ لا يعتبر قراءة ابن مسعود حجّة في مقابلة قراءة المشهور وإجماع المصاحف.

(٢) الطبري ١ : ٤٤٦ ـ ٤٤٩.

(٣) البعث : بعث الجند إلى الغزو.

(٤) التوبة ٩ : ٢٩.

٢٠٥

[٢ / ٢٢١٩] وروى ابن وهب ، عن ابن زيد في قوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) قال : هؤلاء يهود بني إسرائيل. قلت له : هم قبط مصر؟ قال : وما لقبط مصر وهذا؟ لا والله ما هم هم ، ولكنّهم اليهود يهود بني إسرائيل. فأخبرهم الله جلّ ثناؤه أنّه يبدلهم بالعزّ ذلّا ، وبالنعمة بؤسا ، وبالرضا عنهم غضبا ، جزاء منه لهم على كفرهم بآياته وقتلهم أنبياءه ورسله اعتداء وظلما منهم بغير حقّ ، وعصيانهم له ، وخلافا عليه.

وقال في تأويل قوله تعالى : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ)

يعني بقوله : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال باؤوا إلّا موصولا إمّا بخير وإمّا بشرّ ، يقال منه : باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء. ومنه قول الله عزوجل : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ)(١) يعني : تنصرف متحمّلهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني.

فمعنى الكلام إذن : ورجعوا منصرفين متحمّلين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم منه سخط. كما :

[٢ / ٢٢٢٠] روي عن الربيع في قوله : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) قال : فحدث عليهم غضب من الله.

[٢ / ٢٢٢١] وعن الضحّاك قال : استحقوا الغضب من الله (٢).

***

وقال في تأويل قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).

يعني بقوله جلّ ثناؤه : (ذلِكَ) ضرب الذلّة والمسكنة عليهم ، وإحلاله غضبه بهم. فدلّ بقوله : (ذلِكَ) ـ وهي يعني به ما وصفنا ـ على أنّ قول القائل ذلك يشمل المعاني الكثيرة إذا أشير به إليها.

ويعني بقوله : (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ) : من أجل أنّهم كانوا يكفرون ، يقول : فعلنا بهم من إحلال الذلّ والمسكنة والسخط بهم ، من أجل أنّهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير الحقّ ، كما قال أعشى بني ثعلبة (٣) :

__________________

(١) المائدة ٥ : ٢٩.

(٢) الطبري ١ : ٤٤٩ ـ ٤٥٠.

(٣) ديوانه (ص ٦٨) من قصيدة يمدح بها هوذة بن عليّ الحنفي ، أوّلها :

غشيت لليلى بليل خدورا

وطالبتها ونذرت النذورا

٢٠٦

مليكيّة جاورت بالحجا

ز قوما عداة وأرضا شطيرا (١)

بما قد تربّع روض القطا

وروض التناضب حتّى تصيرا (٢)

يعني بذلك : جاورت بهذا المكان هذه المرأة قوما عداة وأرضا بعيدة من أهله ـ لمكان قربها كان منه ومن قومه وبلده ـ من تربّعها روض القطا وروض التناضب. فكذلك قوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) يقول : كان ذلك منّا بكفرهم بآياتنا ، وجزاء لهم بقتلهم أنبياءنا. وقد بيّنا فيما مضى من كتابنا أنّ معنى الكفر : تغطية الشيء وستره ، وأنّ آيات الله : حججه وأعلامه وأدلّته على توحيده وصدق رسله.

فمعنى الكلام إذن : فعلنا بهم ذلك من أجل أنّهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده ، وتصديق رسله ويدفعون حقّيّتها ، ويكذّبون بها.

ويعني بقوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) : ويقتلون رسل الله الّذين ابتعثهم لإنباء ما أرسلهم به عنه لمن أرسلوا إليه.

وهم جماع واحدهم نبيّ غير مهموز ، وأصله الهمز ، لأنّه من أنبأ عن الله ، فهو ينبئ عنه إنباء ، وإنّما الاسم منه منبئ ، ولكنّه صرف وهو «مفعل» إلى «فعيل» ، كما صرف سميع إلى فعيل من مفعل وبصير من مبصر ، وأشباه ذلك ، وأبدل مكان الهمزة من النبئ الياء ، فقيل نبيّ.

هذا ويجمع النبيّ أيضا على أنبياء ، وإنّما جمعوه كذلك لإلحاقهم النبىء ـ بإبدال الهمزة منه ياء ـ بالنعوت التي تأتي على تقدير فعيل من ذوات الياء والواو ، وذلك أنّهم إذا جمعوا ما كان من النعوت على تقدير فعيل من ذوات الياء والواو جمعوه على أفعلاء ، كقولهم وليّ وأولياء ، ووصيّ وأوصياء ، ودعيّ وأدعياء ، ولو جمعوه على أصله الذي هو أصله ، وعلى أنّ الواحد «نبىء» مهموز

__________________

(١) مليكيّة : منسوبة إلى المليك ، وهو الملك. يريد أنّها من بنات الملوك. والعداة : جمع عاد ، وهو العدو المعتدي. والشطير : البعيد والغريب.

(٢) بما قد تربّع : يعني بسبب تربّعها ، والتربّع في المكان : الإقامة فيه زمن الربيع. وروضة القطا : قال ياقوت : من أشهر رياض العرب وأكثرها دورا في أشعارهم ، وهي بناحية كتلة وجدود. (معجم البلدان : مادة روضة القطا). وروضة التناضب : ذكرها أيضا ياقوت وأورد بيتي الأعشى وأضاف إليهما بيتا ثالثا ، وقوله : «حتّى تصيرا» : من قولهم صار الرجل يصير فهو صائر : إذا حضر الماء ، والقوم الّذين يحضرون الماء يقال لهم الصائرة ، والصير : الماء الذي يحضره الناس.

٢٠٧

لجمعوه على فعلاء ، فقيل لهم النبآء ، على مثال النبغاء ، لأنّ ذلك جمع ما كان على فعيل من غير ذوات الياء والواو من النعوت كجمعهم الشريك شركاء ، والعليم علماء ، والحكيم حكماء ، وما أشبه ذلك. وقد حكي سماعا من العرب في جمع النبي النبآء ، وذلك من لغة الّذين يهمزون النبىء ، ثمّ يجمعونه على النبآء على ما قد بيّنت ، ومن ذلك قول عبّاس بن مرداس في مدح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يا خاتم النّبآء إنّك مرسل

بالخير ، كلّ هدى السبيل هداكا

فقال : يا خاتم النّبآء على أنّ واحدهم نبىء مهموز.

وقد قال بعضهم : النبيّ والنبوّة غير مهموز ، لأنّهما مأخوذان من النّبوة ، وهي مثل النجوة وهو المكان المرتفع. وكان يقول : إنّ أصل النبي الطريق ، ويستشهد على ذلك ببيت القطامي :

لمّا وردن نبيّا واستتبّ بها

مسحنفر كخطوط السّيح منسحل (١)

يقول : إنّما سمّي الطريق نبيّا ، لأنّه ظاهر مستبين من النبوة. ويقول : لم أسمع أحدا يهمز النبيّ.

قال : وقد ذكرنا ما في ذلك وبيّنّا ما فيه الكفاية إن شاء الله.

ويعني بقوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) : أنّهم كانوا يقتلون رسل الله بغير إذن الله لهم بقتلهم منكرين رسالتهم جاحدين نبوّتهم.

وقال في تأويل قوله تعالى : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) :

قوله : (ذلِكَ) ردّ على «ذلك» الأولى. ومعنى الكلام : وضربت عليهم الذلّة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ، من أجل كفرهم بآيات الله. وقتلهم النبيّين بغير الحقّ ، من أجل عصيانهم ربّهم واعتدائهم حدوده ؛ فقال جلّ ثناؤه : (ذلِكَ بِما عَصَوْا) والمعنى : ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين. والاعتداء : تجاوز الحدّ الذي حدّه الله لعباده إلى غيره ، وكلّ متجاوز حدّ شيء إلى غيره فقد تعدّاه

__________________

(١) رواية هذا البيت في معجم البلدان لياقوت (٥ : ٢٥٩): «واستتب بنا ... الشيخ». قال : وفي كتاب نصر : النبيّ : ماء بالجزيرة من ديار تغلب والنمر بن قاسط ... قال : والنبيّ أيضا موضع من وادي ظبي على القبلة منه إلى الهيل. واستتبّ الأمر والطريق : استوى واستقام وتبيّن واطّرد وامتدّ. ومسحنفر : صفة للطريق أي واسع ممتدّ. والسيح : ضرب من البرود أو العباء مخطّط ، يلبس أو يستتر به ويفرش. وسحلت الريح الأرض فانسحلت : كشطت ما عليها. وأمّا الشيح فهو نبات أنواعه كثيرة كلّه طيّب الرائحة والواحدة شيحة.

٢٠٨

إلى ما جاوز إليه. ومعنى الكلام : فعلت بهم ما فعلت من ذلك بما عصوا أمري وتجاوزوا حدّي إلى ما نهيتهم عنه (١).

***

[٢ / ٢٢٢٢] وأخرج أحمد عن ابن مسعود : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبيّ أو قتل نبيّا ، وإمام ضلالة وممثّل من الممثّلين» (٢).

[٢ / ٢٢٢٣] وأخرج الحاكم عن ابن عمر قال : «ما همز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا أبو بكر ، ولا عمر ، ولا الخلفاء ، وإنّما الهمز بدعة ابتدعوها من بعدهم» (٣).

[٢ / ٢٢٢٤] وأخرج ابن عديّ عن حمران بن أعين «أنّ رجلا من أهل البادية أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : السّلام عليك يا يا نبىء الله! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لست بنبىء الله ولكنّني نبيّ الله» (٤).

[٢ / ٢٢٢٥] وأخرج الحاكم وصحّحه عن أبي ذرّ قال : «جاء أعرابيّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا نبىء الله! قال : لست بنبىء الله ولكنّني نبيّ الله» (٥).

[٢ / ٢٢٢٦] وأخرج الواحدي عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) قال : يريد الحكمة التي أنزلت على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٦).

[٢ / ٢٢٢٧] وجاء في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ثمّ قال الله عزوجل : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ ،) واذكروا إذ قال أسلافكم : لن نصبر على طعام واحد ، المنّ والسلوى ، ولا بدّ لنا من خلطة معه (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ) موسى : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ،) يريد أتستدعون الأدون ليكون لكم بدلا من الأفضل ، ثمّ قال : (اهْبِطُوا مِصْراً) من الأمصار من هذا التيه ، (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) في المصر ، قال الله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) الجزية أخزوا بها عند ربّهم وعند مؤمني عباده. (وَالْمَسْكَنَةُ) هي الفقر والذلّة (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) احتملوا الغضب واللعنة من الله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ

__________________

(١) الطبري ١ : ٤٤٩ ـ ٤٥٣.

(٢) الدرّ ١ : ١٧٨ ؛ مسند أحمد ١ : ٤٠٧.

(٣) الدرّ ١ : ١٧٩ ؛ الحاكم ٢ : ٢٣١ ، كتاب التفسير.

(٤) الدرّ ١ : ١٧٨ ـ ١٧٩ ؛ الكامل ٢ : ٤٣٧.

(٥) الدرّ ١ : ١٧٨ ؛ الحاكم ٢ : ٢٣١ ، كتاب التفسير ؛ كنز العمّال ١١ : ٤٥٧ / ٣٢١٤٨.

(٦) الوسيط ١ : ١٤٨.

٢٠٩

كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) قبل أن يضرب عليهم الذلّة والمسكنة (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) كانوا يقتلونهم بغير حقّ : بلا جرم كان منهم إليهم ولا إلى غيرهم (ذلِكَ بِما عَصَوْا) ذلك الخذلان الذي استولى عليهم حتّى فعلوا الآثام التي من أجلها ضربت عليهم الذلّة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) يتجاوزون أمر الله تعالى إلى أمر إبليس (١).

[٢ / ٢٢٢٨] وقال عليه‌السلام : وفي ذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا فلا تفعلوا كما فعلت بنو إسرائيل ولا تسخطوا الله تعالى ولا تقترحوا على الله تعالى ، وإذا ابتلي أحدكم في رزقه أو معيشته بما لا يحبّ فلا يحدس (٢) شيئا يسأله لعلّ في ذلك (٣) حتفه وهلاكه ، ولكن ليقل : اللهم بجاه محمّد وآله الطيّبين إن كان ما كرهته من أمري خيرا لي وأفضل في ديني فصبّرني عليه وقوّني على احتماله ونشّطني على النهوض بثقل أعبائه ، وإن كان خلاف ذلك خيرا فجد عليّ به ورضّني بقضائك على كلّ حال ، فلك الحمد. فإنّك إذا قلت ذلك قدّر الله ويسّر لك ما هو خير».

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا عباد الله ، فاحذروا الانهماك في المعاصي والتهاون بها ، فإنّ المعاصي يستولي بها الخذلان على صاحبها حتّى يوقعه في ما هو أعظم منها ، فلا يزال يعصي ويتهاون ويخذل ويقع في ما هو أعظم حتّى يوقعه في ردّ ولاية ولاية الله ورسوله وأوليائه». (٤)

[٢ / ٢٢٢٩] وقال عليّ بن إبراهيم : فلمّا طال عليهم الأمد قالوا : (يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها). والفوم : الحنطة. فقال لهم موسى : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) فقالوا : (يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) فنصف الآية في سورة البقرة وتمامها وجوابها لموسى في المائدة (٥).

__________________

(١) تفسير الإمام : ٢٦٣ / ١٣٠ ؛ البحار ١٣ : ١٨٤ ـ ١٨٥ / ١٩ ، باب ٦.

(٢) أي لا يسرع في اقتراح شيء على الله.

(٣) أي في الذي سأله واقترحه.

(٤) تفسير الإمام : ٢٦٣ ـ ٢٦٤ / ١٣١ و ١٣٢ ؛ البحار ٦٨ : ١٤٩ / ٤٦ ، باب ٦٢. إلى قوله : «ويسّر لك ما هو خير» والبقيّة في ٧٠ : ٣٦٠ / ٨٣ ، باب ١٣٧.

(٥) القمي ١ : ٤٨ ؛ البحار ١٣ : ١٧٤ ، ذيل رقم ٢ ، باب ٦ والآية من سورة المائدة ٥ : ٢٢.

٢١٠

قال تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))

كانت لليهود وكذا غيرهم من أهل الكتاب أو شبهة الكتاب ، دعاو عريضة يزعم كلّ قبيل منهم أنّهم وحدهم على الحقّ وأنّ غيرهم على الباطل. ولا سيّما اليهود كانوا يدّعون أنّهم المهتدون وأنّهم شعب الله المختار ، وإلى أمثال ذلك من دعاو فارغة لا مستند لها سوى الغرّة والاستهواء.

وهنا يأتي القرآن ليفنّد تلكم الدعاوي والاستهواءات ، ويقرّر قاعدته الأصيلة : أن لا فضل إلّا بالتقوى. (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(١) .. كما لا تفاضل بين الأديان بعد أن كان ملاكها وقوامها الأوّل هو الإيمان بالله العظيم ، إيمانا راسخا في القلوب ولينبثق منه العمل الصالح وفي سلامة النفس وصدق النيّة والإخلاص.

هذا هو ملاك الفضيلة ، وقد تسامى به الإنسان على سائر الحيوان!

والآية تقرّر هذا الأصل الأصيل ، وأنّ المؤمن له قيمته وزنته عند الله ، في أيّ زمان وفي أيّ مكان ، سواء أكان مؤمنا بشرائع سابقة أم بشرائع لا حقة ، كلّا في حدّه الخاصّ ، فالمؤمن بشريعة موسى عليه‌السلام إذا كان مؤمنا بها لأنّها شريعة الله ، فهو مؤمن بشريعة عيسى وبشريعة الإسلام ، لأنّ الكلّ على نمط واحد ، نازلة من عند الله ، فلا عصبيّة عمياء ، ولا انحياز ولا تزاحم في العقائد والسلوك.

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ)(٢).

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ١٣.

(٢) البقرة ٢ : ١٣٦ ـ ١٣٨.

٢١١

هذه هي صبغة الله ، الإيمان بجميع شرائع الله ، وأنّ ما تأتي به شريعة ، هو ما أتت به سائر الشرائع ، سواء بسواء.

نعم كانت الشريعة اللاحقة مستكملة للشرائع قبلها ، فلازم الإيمان بالجميع هو الإيمان بالشريعة الحاضرة ، الجامعة لكلّ ما سبقها.

ومن ثمّ فإنّ الدين الكامل عند الله هو الإسلام (١) وسيبقى في ذمّة الخلود. (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) ـ والحال هذه ـ (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٢).

***

وبعد فمن ابتغى دينا فهو إنّما يبتغي شريعة من شرائع الله ، إذ كان يحاول العثور على الدين الخالص .. ولكن مهما يجده وقد لعبت بها الأدوار والأقدار واعتوار الزمان؟!

فإن كان صادقا في نيّته فعليه باتّباع شريعة الإسلام الغرّاء ، والتي جاءت نقيّة بيضاء ، وقد ضمن الله لها البقاء سليمة عن الأكدار والأقذار ، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٣).

وجاء عن لسان نبيّ الإسلام : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)(٤). أي : إن كنتم تستهدفون شريعة تقرّبكم إلى الله حبّا لله .. فها أنا على شريعة ومنهاج يوصلكم إلى هذا الهدف الكريم إن كنتم صادقين.

وهذا لا ينفي حقّانيّة سائر الشرائع في أصولها ومباني فروعها .. سوى أنّها لم تبق خالصة نقيّة ، وهذا الإسلام شريعة الله الكاملة بين أيديكم لم يمسّها ولن يمسّها كدر ولا قذر. ألا فاستمسكوا بها تهديكم إلى الصراط السويّ المستقيم ، والنهج القويم الذي تبتغونه ، إن صدقت نواياكم.

إذن فلا عصبيّة ولا موضع لقولتهم العجيبة : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا)(٥). (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) أي الفوز بالقربى (إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى)(٦) ، مزاعم تنشأ من عصبيّة عمياء لا مستند لها سوى الأوهام الفارغة.

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٩.

(٢) آل عمران ٣ : ٨٥.

(٣) الحجر ١٥ : ٩.

(٤) آل عمران ٣ : ٣١.

(٥) البقرة ٢ : ١٣٥.

(٦) البقرة ٢ : ١١١.

٢١٢

أمّا الصابئون فهم طائفة من العرب ساورهم الشكّ فيما كان عليه قومهم من عبادة الأصنام ، فصبوا عن دين قومهم ، ومالوا إلى الحنيفيّة الأولى ، ملّة إبراهيم ، دين التوحيد والخلق الكريم ، واعتزلوا عبادة قومهم ، ولكن من غير أن تكون لهم دعوة فيهم ، فقال عنهم المشركون : إنّهم صبأوا أي مالوا عن دين آبائهم ، وسجّلهم التاريخ باسم الحنفاء.

منهم : ورقة بن نوفل وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث وزيد بن عمرو بن نفيل.

قال ابن إسحاق : واجتمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم كانوا يعظّمونه وينحرون له ويعكفون لديه ويديرون به ، فخلص منهم أربعة نفر ، وقال بعضهم لبعض : والله ما قومكم على شيء! لقد اخطأوا دين أبيهم إبراهيم ، ما حجر نطيف به ، لا يسمع ولا يبصر ولا يضرّ ولا ينفع؟! يا قوم التمسوا لأنفسكم ، فتفرّقوا في البلدان يلتمسون الحنيفيّة دين إبراهيم!

فأمّا ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانيّة.

وأمّا عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس.

وأمّا عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصّر وحسنت منزلته لديه.

وأمّا زيد بن عمرو فوقف ولم يدخل في يهوديّة ولا نصرانيّة وفارق دين قومه! فاعتزل الأوثان وامتنع من أكل الميتة والدّم والذبائح الّتي تذبح على الأوثان ونهى عن قتل الموؤودة وقابل هذه الشنعة بجرأة وشهامة.

وهكذا رافقه في هذا الموقف العصيب صعصعة بن معاوية جدّ الفرزدق رحمه‌الله وفي ذلك يقول الفرزدق :

ومنّا الذي منع الوائدا

ت ، وأحيا الوئيد ، فلم يوأد

ولزيد بن عمرو شعر طويل في فراق الوثنيّة يقول فيه :

أربّا واحدا ، أم ألف ربّ

أدين إذا تقسّمت الأمور

عزلت اللات والعزّى جميعا

كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا العزّى أدين ولا ابنتيها

ولا صنمي بني عمرو أزور

ولا هبلا أدين ، وكان ربّا

لنا في الدهر إذ حلمي يسير

٢١٣

عجبت وفي اللّيالى معجبات

وفي الأيّام يعرفها البصير

بأنّ الله قد أفنى رجالا

كثيرا كان شأنهم الفجور

وأبقى آخرين ببرّ قوم

فيربل منهم الطفل الصغير

وبينا المرء يعثر ثاب يوما

كما يتروّح الغصن المطير

ولكن أعبد الرحمان ربّي

ليغفر ذنبي الربّ الغفور

فتقوى الله ربّكم احفظوها

متى ما تحفظوها لا تبوروا

ترى الأبرار دارهم جنان

وللكفّار حامية سعير

وخزي في الحياة وإن يموتوا

يلاقوا ما تضيق به الصدور

وله مواقف مشهودة ورحلات في البحث عن الدين الحنيف ، وله في ذلك وفيمن حاول صدّه عن هذا التجوال أشعار وقصائد مرهفة ، سجّلها يراع التاريخ المجيد (١).

***

قلت : والآية الكريمة خطاب مع هؤلاء الّذين حاولوا نبذ خرافات الأوهام ، سعيا وراء الأخذ بعرى الاعتصام ، اعتصاما بحبل الله المتين والسير على النهج المستقيم.

فليكن الطالب للحقّ من أيّ طائفة من طوائف الناس ، ممّن دانوا بدين تفكّكت أو اصره أو صبوا عن خرافة الوثنيّة الجهلاء. فإن كانوا يبتغون الحقيقة الناصعة ، فليستمسكوا بعرى الإيمان الوثيقة ، ويؤمنوا بالله واليوم الآخر ، وليكن عملهم على الصلاح ومشيتهم على الطمأنينة والسّلام ، الأمر الذي يهتف به الإسلام في جامع أصوله وفروعه.

نكتة ظريفة

وهنا نكتة دقيقة لا يسمح التغافل عنها ، وهي ما تشير إليه الآية الكريمة : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ). الأصل الذي يقرّر الإسلام : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)(٢).

__________________

(١) راجع : السيرة لابن هشام ١ : ٢٣٧ ـ ٢٤٧. والروض الأنف للسهيلي ١ : ٢٥٣ ـ ٢٦٣.

(٢) الكهف ١٨ : ٣٠.

٢١٤

فأيّ إنسان خيّر قام بعمل إنساني نبيل ، فإنّه مشكور عند الله ولا تفوته مثوبته ، وهي قاعدة عقلانيّة قرّرها الإسلام على الأصل : «الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ» (١).

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٢).

وهذا أصل عام يشمل المتعبّد بدين وغيره على سواء ، نعم إذا كان العمل الذي قدّمه خالصا من الأكدار ، نظيفا من الأقذار .. وإلّا فإن كان فسده بسوء النيّات لم يكن عمله خيرا محضا .. «وإنّما الأعمال بالنيّات» (٣).

فلو كان العمل مشوبا بالرياء والسمعة والامتنان المستدعي للتحقير والتوهين ، فعمله هذا بالشرّ أشبه منه إلى الخير.

فربّ عمل خطير صغّرته نيّة ، العامل الهزيلة ، وعلى العكس : ربّ عمل صغير عظّمته نيّة صاحبه الفخيمة. «فلا عمل إلّا بنيّة» (٤). وهي التي تحدّد من قيمة العمل إن فخيما أو ضئيلا.

هل لغير المؤمن نصيب في الآخرة؟

هنا سؤال آخر بعد تقرير الأصل القائل بعدم ضياع الأعمال ، وهو : هل لغير المؤمن نصيب في حظوظ الآخرة ، إذا كان ممّن أحسن عملا ، ولم يعاند الحقّ الصريح؟

قلت : ظاهر إطلاق الآية هو التعميم والشمول حتّى مثوبات دار البقاء ، بعد عدم دليل على اختصاص مثوبات الآخرة بالمؤمنين محضا ، وحرمان غيرهم منها بصورة عامّة.

ويتأيّد إطلاق الآية بالمستفيض عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام بأنّ القاصر والمستضعف الذي لم ينكشف له وجه الحقّ صريحا ولم يعانده ، لا يعدّ مخالفا ولا هو من أهل الباطل ، وسوف تشمله

__________________

(١) المستفاد من الكلام النبوي المشهور ، راجع : كنز العمّال ٣ : ٢٥ / ٥٢٧٥ والبحار ٦٨ : ٣٦٨ / ١٨.

(٢) سورة الزلزال.

(٣) تهذيب الأحكام ، ١ : ٨٣ / ٢١٨.

(٤) المحاسن ، ١ : ٢٢٢ ؛ الكافي ١ : ٧٠ / ٩ ، رواه في حديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتمام الحديث : عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا قول إلّا بعمل ولا قول ولا عمل إلّا بنيّة ولا قول ولا عمل ولا نيّة إلّا بإصابة السنّة.

٢١٥

رحمة الله الواسعة ، على حدّ رعايته الحدود المضروبة ولم يفرّط في جنب الله عن علم وقصد.

[٢ / ٢٢٣٠] روى ثقة الإسلام الكليني بإسناده الصحيح إلى زرارة بن أعين ، قال : «دخلت على الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام وقلت له : إنّا نمدّ المطمار (١) فمن وافقنا [أي في الرأي والعقيدة] تولّيناه ، ومن خالفنا برئنا منه؟!

فقال عليه‌السلام : يا زرارة ، قول الله ـ عزوجل ـ أصدق من قولك ، فأين الّذين قال الله [بشأنهم] : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً)(٢)؟!

أين المرجون لأمر الله (٣)؟! أين الّذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا (٤)؟!

أين أصحاب الأعراف (٥)؟! أين المؤلّفة قلوبهم (٦)؟!

قال : فارتفع صوت أبي جعفر حتّى كان يسمعه من على باب الدار!». (٧)

[٢ / ٢٢٣١] وروى أيضا بالإسناد إلى هشام عن حمزة بن الطيّار قال : قال لي أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : «الناس على ستّة أصناف :

١ و ٢ ـ أهل الوعيد من أهل الجنّة وأهل النار (٨)

٣ ـ (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٩).

٤ ـ (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٠).

٥ ـ (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً)(١١).

__________________

(١) المطمار : خيط المعمار ، يقيس به البناء والحائط دون الأود.

(٢) النساء ٤ : ٩٨.

(٣) انظر : التوبة ٩ : ١٠٦.

(٤) انظر : التوبة ٩ : ١٠٢.

(٥) انظر : الأعراف ٧ : ٤٦.

(٦) انظر : التوبة ٩ : ٦٠.

(٧) الكافي ٢ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣ / ٣ ، باب أصناف الناس.

(٨) أي جاء وعدهم بالجنّة أو النار في القرآن صريحا.

(٩) التوبة ٩ : ١٠٢.

(١٠) التوبة ٩ : ١٠٦.

(١١) النساء ٤ : ٩٨ ـ ٩٩.

٢١٦

٦ ـ وأصحاب الأعراف!

قال : قلت : ومن أصحاب الأعراف؟ قال : قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم ، فإن أدخلهم الله النار فبذنوبهم ، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته» (١).

وفي هذا الحديث دلالة على أنّ العذاب والحرمان ليس حتما على من لم يؤمن إيمانا كإيمان أهل المعرفة واليقين.

[٢ / ٢٢٣٢] وفي ذلك روى الكليني بإسناد صحيح إلى عبد الرحمان بن الحجّاج عن زرارة قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : يدخل النار مؤمن؟ قال : لا ، والله. قلت : فما يدخلها إلّا كافر؟ قال : لا ، إلّا من شاء الله .. فرددت عليه مرارا فقال لي : أي زرارة ، إنّي أقول : لا ، وأقول : إلّا من شاء الله! وأنت تقول : لا ، ولا تقول : إلّا من شاء الله!». (٢)

[٢ / ٢٢٣٣] وفي حديث آخر : «يا زرارة ، ما تقول فيمن أقرّ لك بالحكم ، أتقتله؟ ما تقول في خدمكم وأهليكم ، أتقتلهم؟» (٣).

[٢ / ٢٢٣٤] وروى زرارة عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا ، لم يكفروا» (٤).

إذن فليس كلّ من خالف المذهب الحقّ أي لم يتوافق معه ، لجهل أو قصور ، كان مناوئا أي جاحدا معاندا.

كما ليس كلّ كافر أي غير معتقد بدين الحقّ ، لجهل أو قصور أيضا ، كان مستوجبا للنار ويحرم المثوبات الأخرويّة على الإطلاق.

بل ولعلّه ـ إن كانت نيّته صادقة واستقام في أمره على طريقة العقل الرشيد وأحسن عملا ـ لعلّه يثاب وفق نيّته وتشمله رحمة الله الواسعة : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)(٥).

[٢ / ٢٢٣٥] فقد روى الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق عن آبائه عن عليّ عليهم‌السلام قال ـ ما

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٨١ / ١ ، باب أصناف الناس.

(٢) المصدر ٢ : ٣٨٥ / ٧.

(٣) المصدر : ٣٨٦. قوله : «أقرّ لك بالحكم» أي نزل على حكمك فيه.

(٤) المصدر : ٣٨٨ / ١٨ ، باب الكفر.

(٥) الكهف ١٨ : ٣٠.

٢١٧

مضمونه ـ : إنّ للجنّة بابا يدخل منه الصلحاء من سائر الناس ، إذا لم يجابهوا الحقّ ولم يعاندوا أئمّة الدين ، في مسيرتهم في الحياة (١).

نعم قد يتوهم التنافي مع آيات خصّت نعيم الآخرة بأهل التقوى واليقين وأن لا حظّ لمن ابتغى الدنيا وآثرها على الآخرة.

(فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(٢).

(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(٣).

قال تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا)(٤).

قلت : هذا صحيح ، غير أنّ التقوى التي هي شرط التلذّذ بنعيم الآخرة ، مراد بها : التعهّد الإنساني النبيل في هذه الحياة .. فمن سار على منهج الإنسانيّة والتزم بما فرضت عليه من تعهّدات تجاه بني جلدته ووفّى حقوقهم ولم يحد عن جادّة الصواب التي يرشد إليها العقل الرشيد. والتي توارثها بنو الإنسان منذ عهدهم بالنبوّات والشرائع الإلهية طول التاريخ ، فالملتزم بها ملتزم بمكارم الأخلاق ومتعهّد بتعاليم السماء .. وكان ممّن دعى إلى الفضيلة وقد أحسن عملا.

نعم من كان باع حظّه بالثمن الأبخس وعاكس طريق الهدى فهذا ممّن آثر الحياة الدنيا وماله في الآخرة من خلاق.

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ)(٥).

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(٦).

__________________

(١) روى الصدوق في باب الثمانية من كتابه الخصال : أنّ عليّا عليه‌السلام قال : «إنّ للجنّة ثمانية أبواب : باب يدخل منه النبيّون والصدّيقون. وباب يدخل منه الشهداء والصالحون. وخمسة أبواب يدخل منها الموالون العارفون. والباب الثامن يدخل منه سائر المسلمين ممّن شهد بالتوحيد ولم يبغض أولياء الله الأطيبين». ومنه يظهر شموله لسائر الناس من أصحاب الملل والنحل ممّن شهد بالوحدانيّة ـ التي هي فطرة الناس جميعا ـ ولم يقم في وجه أئمّة الدين بالمجاحدة والمنابذة الرذيلة. راجع : الخصال ٦ : ٤٠٨ ، أبواب الثمانية والبحار ٨ : ٣٩ / ١٩. و ١٢١ / ١٢ ، و ٦٩ : ١٥٩ / ٥.

(٢) البقرة ٢ : ٢٠٠.

(٣) البقرة ٢ : ١٠٢.

(٤) مريم ١٩ : ٦٣.

(٥) آل عمران ٣ : ٧٧.

(٦) القصص ٢٨ : ٨٣.

٢١٨

ملحوظة

والذي نستشّفه من حديثنا السابق : أنّ لذوي العقول الكبيرة من علماء وحكماء خدموا الناس بفكرتهم وبمبتكرات علومهم في الصناعة والزراعة بما أفاض على الناس بركات وخيرات وسّعت عليهم المعيشة في الحياة وصعدت بالمدنيّة وازدهرت معالمها ملأ الآفاق أن لا بدّ لهم الحظّ الأوفى عند الله والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

نعم هناك للنيّة الصادقة دورها في النيل بحظوظ الآخرة.

[٢ / ٢٢٣٦] وإنّما الأعمال بالنيّات وإنّما لكلّ امرء ما نوى كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١). وفي ذيل الحديث : «فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها ، فهجرته ما هاجر إليه» (٢).

فمن كانت نيّته الشهرة وحسن السّمت ، فذاك حظّه. ومن كانت نيّته إسداء الخدمة إلى الناس والترفيه بحالتهم في الحياة ، فهذا أجره على الله ، إذ لا يقابل عمله بشيء سوى رضى الله له والترفيع بشأنه.

***

وبعد فإليك ما ذكره أصحاب التفسير بالمأثور بشأن الآية :

قال أبو جعفر : أمّا الّذين آمنوا فهم المصدّقون رسول الله فيما أتاهم به من الحقّ من عند الله ، وإيمانهم بذلك : تصديقهم به على ما قد بيّنّاه فيما مضى من كتابنا هذا (٣). وأمّا الّذين هادوا ، فهم اليهود ، ومعنى هادوا : تابوا ، يقال منه : هاد القوم يهودون هودا وهادة.

[٢ / ٢٢٣٧] وقيل : إنّما سمّيت اليهود يهود من أجل قولهم : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ)(٤). قاله ابن جريج.

وقال أبو جعفر : والنصارى جمع ، واحدهم نصران ، كما واحد سكارى سكران ، وواحد النشاوى نشوان. وكذلك جمع كلّ نعت كان واحده على فعلان ، فإنّ جمعه على فعالى ؛ إلّا أنّ

__________________

(١) عوالي اللئالي ١ : ٣٨٠ / ٢.

(٢) البخاري ١ : ٢ / ١ باب بدء الوحي ؛ مسند أحمد ١ : ٤٣.

(٣) المراد من الكتاب : تفسير الطبري.

(٤) الأعراف ٧ : ١٥٦. والمعنى : رجعنا بتوبتنا إليك. قال الطبرسي : والهود : الرجوع ، مجمع البيان ٤ : ٤٨٦.

٢١٩

المستفيض من كلام العرب في واحد النصارى نصرانيّ. وقد حكي عنهم سماعا «نصران» بطرح الياء ، ومنه قول الشاعر :

تراه إذا زار العشيّ محنّفا

ويضحي لديه وهو نصران شامس (١)

سمع منهم في الأنثى نصرانة ، قال الشاعر :

فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها

كما سجدت نصرانة لم تحنّف (٢)

يقال : أسجد : إذا مال. وقد سمع في جمعهم أنصار بمعنى النصارى ، قال الشاعر :

لمّا رأيت نبطا أنصارا

شمّرت عن ركبتي الإزارا

كنت لهم من النّصارى جارا

وهذه الأبيات التي ذكرتها تدلّ على أنّهم سمّوا نصارى لنصرة بعضهم بعضا وتناصرهم بينهم.

[٢ / ٢٢٣٨] وقد قيل إنّهم سمّوا نصارى من أجل أنّهم نزلوا أرضا يقال لها : «ناصرة». ذكره ابن جريج.

ويقول آخرون : لقوله : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ)(٣).

[٢ / ٢٢٣٩] وقد ذكر عن ابن عبّاس من طريق غير مرتضى أنّه كان يقول : إنّما سمّيت النصارى نصارى ، لأنّ قرية عيسى بن مريم كانت تسمّى ناصرة ، وكان أصحابه يسمّون الناصريّين ، وكان يقال لعيسى : الناصريّ.

[٢ / ٢٢٤٠] وعن قتادة قال : إنّما سمّوا نصارى لأنّهم كانوا بقرية يقال لها : ناصرة ينزلها عيسى بن مريم ، فهو اسم تسمّوا به ولم يؤمروا به.

[٢ / ٢٢٤١] وروى عبد الرزّاق عن معمر ، عن قتادة في قوله : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) قال : تسمّوا

__________________

(١) محنّفا : صار إلى الحنيفيّة. ولديه : أي لدى العشيّ. وشامس : مستقبل الشمس.

(٢) البيت لأبي الأخزر الحماني. ذكره سيبويه في الكتاب (٣ / ٢٥٦ و ٤١١) وابن منظور في اللسان (مادة حنف). يصف ناقتين خرتا من الإعياء أو نحرتا فطأطأتا رؤوسهما ، فشبّه إسجادهما بسجود النصرانة. والإسجاد : طأطأة الرأس. والسجود : وضع الجبهة على الأرض ، أو هما بمعنى طأطأة الرأس. والتحنّف : اعتناق الحنيفيّة أي الإسلام.

(٣) الصفّ ٦١ : ١٤.

٢٢٠