التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين

٣

٤

فهرس مواضيع الكتاب

يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ... ولا هم ينصرون (٤٧ ـ ٤٨)....... ١٣

«واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا».................................. ١٦

«ولا يقبل منها شفاعة»................................................... ١٩

«ولا يؤخذ منها عدل»................................................... ٢١

«ولا هم ينصرون»....................................................... ٢٣

ملحوظة................................................................. ٢٤

كلام في الشفاعة حسب المستفاد من الكتاب والسنّة......................... ٢٦

تعريف بالشفاعة......................................................... ٢٨

شرائط مشروعيّة الشفاعة.................................................. ٢٩

آيات الشفاعة........................................................... ٣٢

وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم (٤٩) ٤٥

وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء لعذاب............................ ٤٦

«يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم»...................................... ٤٧

«وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم».......................................... ٥١

وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون (٥٠)................. ٥٣

قصّة الخروج............................................................. ٥٤

٥

وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده ... لعلكم تشكرون (٥١ ـ ٥٢) ٦٩

«ثم اتخذتم العجل من بعده»............................................... ٧١

قصّة العجل والسامريّ.................................................... ٧٩

مواضع الاختلاف بين القرآن والتوراة بشأن العجل............................ ٨٠

نظرة في قولة السامريّ..................................................... ٨١

ما كانت صفة العجل؟.................................................... ٨٢

من هو السامريّ؟........................................................ ٨٣

«ثم عفونا عنكم من بعد ذلك»............................................ ٨٥

كلام في «لعلّ» حيث جاء في القرآن....................................... ٨٥

«تشكرون»............................................................. ٨٧

كلام عن حقيقة الشكر ومراحله الثلاث : علم وحال وعمل................... ٩٤

وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون (٥٣).............................. ٩٩

وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا (٥٤)...... ١٠١

حديث توبة بني إسرائيل! وقتل أنفسهم!................................... ١٠١

تحقيق لطيف........................................................... ١١١

وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ... لعلكم تشكرون (٥٥ ـ ٥٦).. ١١٧

هل يصحّ التكليف بعد الرجعة؟.......................................... ١٢٧

وقفة عند مسألة الرؤية.................................................. ١٣٠

وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم (٥٧).... ١٣٧

٦

وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم ... بما كانوا يفسقون (٥٨ ـ ٥٩).. ١٥٣

كلام في تأويل الحطّة....................................................... ١٧٣

«فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون»................... ١٨٢

وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر ... ولا تعثوا في الأرض مفسدين (٦٠)                 ١٨٧

وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض(٦١) ١٩٦

إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا (٦٢)                ٢١١

نكتة ظريفة............................................................... ٢١٤

هل لغير المؤمن نصيب في الآخرة؟........................................... ٢١٥

ملحوظة............................................................... ٢١٩

وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم ... لكنتم من الخاسرين (٦٣ ـ ٦٤) ٢٣٥

حادث نتوق الجبل......................................................... ٢٣٥

ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة ... وموعظة للمتقين (٦٥ ـ ٦٦)               ٢٤٨

كلام عن المسوخ.......................................................... ٢٦٢

ماذا تهدينا ملامح التعبير؟.................................................. ٢٦٥

غريبة.................................................................... ٢٧٠

ملحوظة ٢٧٠

وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة .. ويريكم آياته لعلكم تعقلون (٦٧ ـ ٧٣) ٢٧١

التشديد في التكليف عقوبة................................................. ٢٩٦

٧

ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة (٧٤)................. ٣٠٠

أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم ... أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون (٧٥ ـ ٧٧)               ٣٠٣

ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ... أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (٧٨ ـ ٨٢)             ٣١٣

من هو الأمّيّ؟............................................................ ٣١٨

«فويل لهم مما كتبت أيديهم»............................................... ٣١٩

ما هو الويل؟............................................................. ٣٢٠

«وقالوا لن تمسنا النار».................................................... ٣٢٢

«بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون».....        ٣٢٥

مسألة الخلود في النار...................................................... ٣٢٩

وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين ... ولا هم ينصرون (٨٣ ـ ٨٦) ٣٣١

ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل ... فقليلا ما يؤمنون (٨٧ ـ ٨٨)... ٣٤٤

«وأيدناه بروح القدس»..................................................... ٣٤٦

الروح في المصطلح القرآني................................................... ٣٤٨

روح القدس............................................................... ٣٥٥

«وقالوا قلوبنا غلف»...................................................... ٣٦٢

«بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون».................................... ٣٦٦

القلوب أوعية فخيرها أوعاها................................................ ٣٦٧

القلب في المصطلح القرآني.................................................. ٣٧٢

ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ... إن كنتم مؤمنين (٨٩ ـ ٩٣)...... ٣٧٥

«ولما جاءهم كتاب من عند الله»............................................ ٣٧٨

٨

«وكانوا من قبل يستفتحون»................................................ ٣٧٨

«بئسما اشتروا به أنفسهم»................................................. ٣٨٤

فباؤا بغضب على غضب................................................... ٣٨٩

فلم تقتلون أنبيآء الله من قبل................................................ ٣٩٣

«ولقد جاءكم موسى بالبينات»............................................. ٣٩٥

«ثم اتخذتم العجل»........................................................ ٣٩٥

«وأنتم ظالمون»........................................................... ٣٩٥

«وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور».................................... ٣٩٥

«وأشربوا في قلوبهم العجل»................................................. ٣٩٦

قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس ... والله بصير بما يعملون (٩٤ ـ ٩٦)         ٣٩٨

قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ... كأنهم لا يعلمون (٩٧ ـ ١٠١) ٤٠٨

غرائب آثار بشأن جبريل وميكال............................................ ٤١٧

«ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون»..................... ٤٢٨

«أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون»................... ٤٢٨

عهد النبيّ عند مهاجره إلى المدينة............................................ ٤٢٩

«ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله»      ٤٣٣

واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ... والله ذو الفضل العظيم (١٠٢ ـ ١٠٥) ٤٣٤

كلام عن الإذن منه تعالى.................................................. ٤٣٦

«ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم»........................................... ٤٣٦

«وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت»................................ ٤٤١

٩

غرائب وعجائب عن هاروت وماروت ومدينة بابل البائدة!...................... ٤٤٣

الآثار بشأن البلاد......................................................... ٤٤٣

الآثار بشأن مدينة بابل.................................................... ٤٤٥

مدينة بابل بين الأسطورة والواقع............................................. ٤٤٦

هاروت وماروت........................................................... ٤٤٩

الآثار بشأن كوكبة الزهرة................................................... ٤٥٦

كلام عن عصمة الملائكة.................................................. ٤٦٥

وقفة عند مسألة السحر.................................................... ٤٦٦

«ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون»                ٤٦٨

«ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون»..................... ٤٧٠

«يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم»....... ٤٧١

«ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم» ٤٧٩

ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منهآ ... وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (١٠٦ ـ ١٠٧)         ٤٨١

كلام عن النسخ في القرآن.................................................. ٤٨٦

١ ـ نسخ الحكم والتلاوة معا................................................. ٤٨٨

٢ ـ نسخ التلاوة دون الحكم................................................ ٤٩١

مزعومة نسخ التلاوة..................................................... ٤٩٥

مسألة الإنساء......................................................... ٥٠٢

٣ ـ نسخ الحكم دون التلاوة................................................ ٥٠٤

ملحوظة............................................................... ٥١١

روايات العرضة الأخيرة للقرآن............................................... ٥٢٤

١٠

أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى ... إن الله بما تعملون بصير (١٠٨ ـ ١١٠) ٥٢٦

«أم تريدون أن تسئلوا رسولكم»............................................. ٥٢٧

«ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل»............................ ٥٢٩

«ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا»............. ٥٢٩

وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ... فيما كانوا فيه يختلفون (١١١ ـ ١١٣) ٥٣٢

ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك (١١٤).... ٥٣٦

ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم (١١٥).............. ٥٤١

ملحوظة............................................................... ٥٤٣

حادث تحويل القبلة إلى البيت العتيق......................................... ٥٤٤

ملحوظة............................................................... ٥٤٦

القبلة هي جهة الكعبة وسمتها............................................... ٥٤٩

الكعبة من تخوم الأرض إلى عنان السماء..................................... ٥٥١

الصلاة لأربع جهات عند اشتباه القبلة....................................... ٥٥١

إذا صلّى ظانّا ثمّ تبيّن الخلاف............................................... ٥٥٢

الصلاة على الراحلة........................................................ ٥٥٣

صلاة المتطوّع على الراحلة أو ماشيا.......................................... ٥٥٤

الصلاة في جوف الكعبة.................................................... ٥٥٧

الصلاة على ظهر الكعبة................................................... ٥٥٧

قبلة الدعاء والمسألة في غير الصلاة.......................................... ٥٥٩

أين وجه الله؟............................................................. ٥٥٩

١١

وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات ... قد بينا الآيات لقوم يوقنون (١١٦ ـ ١١٨)  ٥٦١

«وقالوا اتخذ الله ولدا»..................................................... ٥٦٢

«قانتون»................................................................ ٥٦٥

«بديع السماوات والأرض»................................................. ٥٦٧

«وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون»................................... ٥٦٨

وقفة عند مسألة الإرادة.................................................... ٥٦٩

إرادة تكوينيّة وإرادة تشريعيّة................................................. ٥٧٣

«وقال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم»     ٥٧٥

١٢

قال تعالى :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨))

تأكيد وتكرار لما سبق من التذكير.

والتفصيل المنوّه عنه في الآية بشأن بني إسرائيل ، تفضيل موقوت بزمان استخلافهم واختيارهم. فأمّا بعد ما عتوا عن أمر ربّهم وعصوا أنبياءهم وجحدوا نعم الله عليهم ونبذوا العهود والمواثيق ، فقد أعلن الله حكمه عليهم باللعنة والغضب والذلّة والمسكنة ، وقضى عليهم بالبعثرة والتشريد وحقّ عليهم الوعيد. (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً)(١). نعم وفي نفس الوقت تذكير لهم بما كان لهم من فضل الله عليهم وعهده إليهم ، وإطماع لهم لينتهزوا الفرصة المتاحة على يدي الدعوة الإسلامية ، فيعودوا إلى موكب الإيمان وإلى عهد الله ، شكرا على تفضيله لآبائهم. ورغبة في العودة إلى مقام التكريم الّذي يناله المؤمنون.

هذا ، ومع الإطماع في الفضل والنعمة ، تحذير من اليوم الّذي (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ؛) حيث التبعة هناك فرديّة والحساب شخصيّ ، وكلّ نفس مسؤولة عن ذاتها ولا تغني نفس عن نفس شيئا.

وهذا هو المبدأ الإسلامي الحنيف ، مبدأ التبعة الفرديّة القائمة على الإرادة والتمييز من الإنسان ذاته ، وعلى العدل المطلق من الله! وهو أقوم المبادئ الّتي تشعر الإنسان بكرامته ، والتي تستجيش اليقظة الدائمة في ضميره. وكلاهما عامل قويّ من عوامل التربية ، فوق أنّه قيمة إنسانيّة تضاف إلى رصيده من القيم التي يكرمه بها الإسلام.

وهكذا (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) إذ لا تنفع يومئذ شفاعة من لم يقدّم إيمانا

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٨.

١٣

وعملا صالحا ؛ كما لا تؤخذ فدية منه لإعفائه عمّا ارتكبه من كفر وآثام. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) حيث لا ناصر لهم يعصمهم من أمر الله ، وينجيهم من سخطه.

وجاء التعبير هنا بالجمع ، مع الالتفات من الخطاب إلى صيغة الغيبة ، إيذانا بأنّه مبدأ كلّي ينال المخاطبين وغيرهم من الناس أجمعين.

ويشهد لإرادة هذا العموم :

[٢ / ١٦٨٣] ما رواه العيّاشي بإسناده عن أبي داوود عمّن سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «أنا عبد الله ، اسمي أحمد. وأنا عبد الله ، اسمي إسرائيل. فما أمره فقد أمرني وما عناه فقد عناني» (١).

يعني صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ ما ورد بشأن إسرائيل وذرّيّته ، من فضيلة ونعم فضّلهم الله بها ، فهو إنّما ورد باعتبار أنّه عبد لله ـ حيث ذلك هو مفاد لفظة إسرائيل العبريّة ـ وبذلك يعمّ كلّ عبد صالح أخلص العبوديّة لله ، فيشمله وذرّيّته الطيّبة ذلك الإنعام والإفضال.

وأنا ـ بسمتي عبد لله : إسرائيل ـ كنت الأحرى بهذا الشمول.

قال العلّامة المجلسي : لعلّ المعنى أنّ المراد بقوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)(٢) في الباطن (أي الفحوى العامّ المستفاد من لحن الآية) هم آل محمّد عليهم‌السلام لأنّ إسرائيل ، معناه : عبد الله.

وأنا ابن عبد الله (٣). وأنا عبد الله لقوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً)(٤).

فكلّ خطاب حسن يتوجّه إلى بني إسرائيل في الظاهر ، فهو يتوجّه إليّ وإلى أهل بيتي في الباطن (٥).

قلت : وإلى ذلك ينظر ما ورد بأنّ المراد ـ في مفهوم الآية العامّ ـ هم آل محمّد عليهم‌السلام :

[٢ / ١٦٨٤] فقد روى العيّاشي بإسناده إلى محمّد بن عليّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ؟) قال : هي خاصّة بآل محمّد» (٦).

__________________

(١) العيّاشى ١ : ٦٢ ـ ٦٣ / ٤٥ ؛ البحار ٢٤ : ٣٩٧ / ١١٩.

(٢) البقرة ٢ : ٤٧.

(٣) زيادة لفظة «ابن» لعلّها من اختلاف النسخ في رواية الحديث.

(٤) الإسراء ١٧ : ١.

(٥) البحار ٢٤ : ٣٩٧ ـ ٣٩٨ ، بيان تحت رقم ١١٩.

(٦) العيّاشي ١ : ٦٢ / ٤٤ ؛ البحار ٢٤ : ٣٩٧.

١٤

[٢ / ١٦٨٥] وروى بإسناده إلى هارون بن محمّد الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ؟) قال : هم نحن خاصّة!» (١).

[٢ / ١٦٨٦] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطّاب أنّه كان إذا تلا : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) قال : مضى القوم وإنّما يعني به أنتم! (٢)

[٢ / ١٦٨٧] وأخرج ابن جرير عن سفيان بن عيينة في قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) قال : أيادي الله عليكم وأيّامه (٣).

[٢ / ١٦٨٨] وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) قال : نعمة الله التي أنعم على بني إسرائيل فيما سمّى وفيما سوى ذلك ؛ فجّر لهم الحجر وأنزل عليهم المنّ والسلوى وأنجاهم من عبوديّة آل فرعون! (٤).

[٢ / ١٦٨٩] وقال عليّ بن إبراهيم في قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) : لفظ العالمين عامّ ومعناه خاصّ ، وإنّما فضّلهم على عالمي زمانهم بأشياء خصّهم بها مثل المنّ والسلوى والحجر الّذي انفجر منه اثنتا عشرة عينا (٥).

[٢ / ١٦٩٠] وأخرج عبد الرزّاق وعبد بن حميد عن قتادة في قوله : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) قال : فضّلوا على العالم الّذي كانوا فيه ، ولكلّ زمان عالم (٦).

[٢ / ١٦٩١] وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) قال : على من هم بين ظهرانيه (٧).

__________________

(١) العيّاشي ١ : ٦٢ / ٤٣.

(٢) الدرّ ١ : ١٦٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٠٤ / ٤٩٦.

(٣) الدرّ ١ : ١٦٥ ؛ الطبري ٤ : ٢٢٩ / ٩٠٦٩ ، سورة المائدة ، الآية ٢٠ و ٨ : ٢٤٢ / ١٥٦٠٤ ، سورة إبراهيم ، الآية ٦ ، بلفظ «أيادي الله عندكم وأيّامه» ؛ البخاري ٥ : ٢١٩ ، كتاب التفسير ، سورة إبراهيم ، بلفظ : «أيادي الله عندكم وأيّامه».

(٤) الدرّ ١ : ١٦٥ ؛ الطبري ١ : ٣٥٦ / ٦٧١.

(٥) القمي ١ : ٤٦.

(٦) الدرّ ١ : ١٦٥ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٦٨ / ٤٧ ، بلفظ : قال : فضّلوا على عالم ذلك الزمان ؛ الطبري ١ : ٣٧٧ / ٧٢٧ ، بلفظ : قال :

فضّلهم على عالم ذلك الزّمان ؛ ابن كثير ١ : ٩٢ نقلا عن أبي العالية ومجاهد والربيع بن أنس وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد ؛ مجمع البيان ١ : ١٩٨ ، عن ابن عبّاس بلفظ : قال ابن عبّاس : أراد به عالمي أهل زمانهم.

(٧) الدرّ ١ : ١٦٥ ؛ الطبري ١ : ٣٧٨ / ٧٢٩.

١٥

[٢ / ١٦٩٢] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) قال : بما أعطوا من الملك والرسل والكتب ، على من كان في ذلك الزمان ، فإنّ لكلّ زمان عالما (١).

[٢ / ١٦٩٣] وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمان بن زيد في قوله : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) قال : عالم أهل ذلك الزمان. وقرأ قول الله : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ)(٢) قال : هذه لمن أطاعه واتّبع أمره ، وقد كان فيهم القردة وهم أبغض خلقه إليه ، وقال لهذه الأمّة : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(٣). قال : هذه لمن أطاع الله واتّبع أمره واجتنب محارمه (٤).

[٢ / ١٦٩٤] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) يعني اليهود بالمدينة (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) يعني أجدادكم. والنعمة «عليهم» حين أنجاهم من آل فرعون فأهلك عدوّهم ، والخير الّذي أنزل عليهم في أرض التيه ، وأعطاهم التوراة. ثمّ قال : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) يعني عالمي ذلك الزمان يعني أجدادهم من غير بني إسرائيل (٥).

[٢ / ١٦٩٥] وأخرج ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدّثنا ابن علية ، وحدّثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر جميعا ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ألا إنّكم وفّيتم سبعين أمّة» قال يعقوب في حديثه : «أنتم آخرها». وقال الحسن : «أنتم خيرها وأكرمها على الله» (٦).

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)

[٢ / ١٦٩٦] أخرج الحاكم وصحّحه عن مجاهد عن ابن عبّاس قال : قرأت على أبيّ بن كعب :

__________________

(١) الدرّ ١ : ١٦٥ ؛ الطبري ١ : ٣٧٨ / ٧٢٨ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٠٤ / ٤٩٧ ؛ ابن كثير ١ : ٩٢ ، وزاد : وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد ؛ التبيان ١ : ٢٠٩ ، رواه ما بمعناه عن أبي العالية وغيره.

(٢) الدخان ٤٤ : ٣٢.

(٣) آل عمران ٣ : ١١٠.

(٤) الطبري ١ : ٣٧٨ / ٧٣٠.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٦) الطبري ١ : ٣٧٨ / ٧٣١ ؛ ابن ماجة ٢ : ١٤٣٣ / ٤٢٨٨ ، باب ٣٤ ؛ الترمذي ٤ : ٢٩٤ / ٤٠٨٧ ، أبواب تفسير القرآن ، سورة آل عمران ؛ مسند أحمد ٥ : ٥.

١٦

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) قال أبي : أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا تَجْزِي) بالتاء ، (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) بالتاء (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) بالياء (١).

[٢ / ١٦٩٧] وأخرج ابن أبي داوود في المصاحف عن الأعمش قال : في قراءتنا قبل الخمسين من البقرة مكان (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) : لا يوخذ (٢).

* * *

قال أبو جعفر : وتأويل قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) : واتّقوا يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا. وجائز أيضا أن يكون تأويله : واتقوا يوما لا تجزيه نفس عن نفس شيئا ، كما قال الراجز :

قد صبّحت صبّحها السّلام (٣)

بكبد خالطها سنام

في ساعة يحبّها الطعام

وهو يعني : يحبّ فيها الطعام ، فحذفت الهاء الراجعة على «اليوم» ، إذ فيه اجتزاء بما ظهر من قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ) الدالّ على المحذوف منه عمّا حذف ، إذ كان معلوما معناه.

وقد زعم قوم من أهل العربيّة أنّه لا يجوز أن يكون المحذوف في هذا الموضع إلّا الهاء. وقال آخرون : لا يجوز أن يكون المحذوف إلّا «فيه». وقد دلّلنا فيما مضى على جواز حذف كلّ ما دلّ الظاهر عليه.

وأمّا المعنى في قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) فإنّه تحذير من الله تعالى عباده الّذين خاطبهم بهذه الآية ، عقوبته أن تحلّ بهم يوم القيامة ، وهو اليوم الّذي لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا ، ولا يجزي فيه والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا.

وأمّا تأويل قوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ) فإنّه يعني : لا تغني. كما :

[٢ / ١٦٩٨] قال السدّي في قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ) قال : أمّا تجزي : فتغني.

__________________

(١) الحاكم ٢ : ٢٣٣ ؛ كتاب التفسير ، سورة البقرة ؛ الدرّ ١ : ١٦٥ ـ ١٦٦ و (ط : مركز هجر) ١١ : ٣٦٣.

(٢) الدرّ ١ : ١٦٦ ؛ المصاحف للسجستاني : ٥٧.

(٣) صبّحت : سقتهم الصبوح ، وهو ما يشرب صباحا من خمر أو لبن.

١٧

قال أبو جعفر : وأصل الجزاء في كلام العرب : القضاء والتعويض ، يقال : جزيته قرضه ودينه أجزيه جزاء ، بمعنى : قضيته دينه ، ومن ذلك قيل : جزى الله فلانا عنّي خيرا أو شرّا ، بمعنى : أثابه عنّي وقضاه عنّي ما لزمني له بفعله الذي سلف منه إليّ. وقد قال قوم من أهل العلم بلغة العرب : يقال : أجزيت عنه كذا : إذا أعنته عليه ، وجزيت عنك فلانا : إذا كافأته. وقال آخرون منهم : بل جزيت عنك : قضيت عنك ، وأجزيت : كفيت. وقال آخرون منهم : بل هما بمعنى واحد ، يقال : جزت عنك شاة وأجزت ، وجزى عنك درهم وأجزى ، ولا تجزي عنك شاة ولا تجزي (١) بمعنى واحد ، إلّا أنهم ذكروا أنّ جزت عنك ولا تجزي عنك من لغة أهل الحجاز ، وأنّ أجزأ وتجزئ من لغة غيرهم. وزعموا أنّ تميما خاصّة من بين قبائل العرب تقول : أجزأت عنك شاة ، وهي تجزئ عنك. وزعم آخرون أنّ جزى بلا همز : قضى ، وأجزأ بالهمز : كافأ. فمعنى الكلام إذا : واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس شيئا ولا تغني عنها غنى.

فإن قال لنا قائل : وما معنى : لا تقضي نفس عن نفس ، ولا تغني عنها غنى؟ قيل : هو أنّ أحدنا اليوم ربما قضى عن ولده أو والده أو ذي الصداقة والقرابة دينه ؛ وأمّا في الآخرة فإنّه فيما أتتنا به الأخبار عنها يسرّ الرجل أن يبرد له على ولده أو والده حقّ (٢) ، وذلك أنّ قضاء الحقوق في القيامة من الحسنات والسيئات. كما :

[٢ / ١٦٩٩] عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رحم الله عبدا كانت عنده لأخيه مظلمة في عرض أو مال فاستحلّه قبل أن يؤخذ وليس ثمّ دينار ولا درهم ، فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته ، وإن لم تكن له حسنات حمّلوه عليه من سيئاتهم» (٣).

[٢ / ١٧٠٠] وعن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يموتّن أحدكم وعليه دين ، فإنّه ليس هناك دينار ولا درهم ، إنّما يقتسمون هنالك الحسنات والسيّئات» وأشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده يمينا وشمالا.

__________________

(١) تجزي الأولى مفتوحة التاء ، والثانية مضمومة. أو بالعكس.

(٢) يقال : برد الحقّ عليه أو له ، إذا ثبت.

(٣) الترمذي ٤ : ٣٦ ـ ٣٧ / ٢٥٣٤ ، وقال : هذا حديث حسن صحيح.

١٨

قال أبو جعفر : فذلك معنى قوله جلّ ثناؤه : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) يعني أنّها لا تقضي عنها شيئا لزمها لغيرها ؛ لأنّ القضاء هنالك من الحسنات والسيّئات على ما وصفنا. وكيف يقضي عن غيره ما لزمه من كان يسرّه أن يثبت له على ولده أو والده حقّ ، فيأخذه منه ولا يتجافى له عنه؟ (١)

وقد زعم بعض نحويّي البصرة أنّ معنى قوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) : لا تجزي منها أن تكون مكانها. وهذا قول يخالفه ظاهر القرآن وذلك أنّه غير معقول في كلام العرب أن يقول القائل : ما أغنيت عنّي شيئا ، بمعنى : ما أغنيت منّي أن تكون مكاني ، بل إذا أرادوا الخبر عن شيء أنّه لا يجزي من شيء ، قالوا : لا يجزي هذا من هذا ، ولا يستجيزون أن يقولوا : لا يجزي هذا من هذا شيئا. فلو كان تأويل قوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) ما قاله هذا القائل ، لقال : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ) كما يقال : لا تجزي نفس من نفس ، ولم يقل : «لا تجزي نفس من نفس شيئا». وفي صحّة التنزيل بقوله : «لا تجزي نفس عن نفس شيئا» أوضح الدلالة على صحّة ما قلنا ، وفساد قول هذا القائل! (٢).

[٢ / ١٧٠١] وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) قال : لا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة من المنفعة شيئا (٣).

[٢ / ١٧٠٢] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ) يقول : لا تغني نفس كافرة (عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) من المنفعة في الآخرة. (وَلا يُقْبَلُ مِنْها) يعني : من هذه النفس الكافرة (٤).

قوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ)

قال أبو جعفر : والشفاعة مصدر من قول الرجل : شفع لي فلان إلى فلان شفاعة ، وهو طلبه إليه في قضاء حاجته. وإنّما قيل للشفيع شفيع وشافع ، لأنّه ثنّى المستشفع به ، فصار له شفعا ، فكان ذو

__________________

(١) تجافى له عن الشيء : أعرض عنه ولم يلازمه بطلبه ، وتجاوز له عنه.

(٢) الطبري ١ : ٣٧٩ ـ ٣٨١ ، بتلخيص.

(٣) ابن أبي حاتم ١ : ١٠٤ / ٤٩٩. عن السدّيّ عن أبي مالك ؛ الدرّ ١ : ١٦٦.

(٤) تفسير مقاتل ١ : ١٠٣.

١٩

الحاجة قبل استشفاعه به في حاجته فردا ، فصار صاحبه له فيها شافعا ، وطلبه فيه وفي حاجته شفاعة ؛ ولذلك سمّي الشفيع في الدار وفي الأرض شفيعا لمصير البائع به شفعا (١).

فتأويل الآية إذا : واتّقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس حقّا لزمها لله ـ جلّ ثناؤه ـ ولا لغيره ، ولا يقبل الله منها شفاعة شافع ، فيترك لها ما لزمها من حقّ! وقيل : إنّ الله ـ عزوجل ـ خاطب أهل هذه الآية بما خاطبهم به فيها ، لأنّهم كانوا من يهود بني إسرائيل ، وكانوا يقولون : نحن أبناء الله وأحبّاؤه وأولاد أنبيائه ، وسيشفع لنا عنده آباؤنا! فأخبرهم الله ـ جلّ وعزّ ـ أنّ نفسا لا تجزي عن نفس شيئا في القيامة ، ولا يقبل منها شفاعة أحد فيها ، حتّى يستوفى لكلّ ذي حقّ منها حقّه. كما :

[٢ / ١٧٠٣] روى ابن عفّان : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الجمّاء ـ وهي الّتي لا قرن لها ـ لتقتصّ من القرناء يوم القيامة ، كما قال الله ـ عزوجل ـ : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً)(٢) الآية (٣).

فآيسهم الله ـ جلّ ذكره ـ ممّا كانوا أطمعوا فيه أنفسهم من النجاة من عذاب الله ، مع تكذيبهم بما عرفوا من الحقّ وخلافهم أمر الله في اتّباع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جاءهم به من عنده ، بشفاعة آبائهم وغيرهم من الناس كلّهم ، وأخبرهم أنّه غير نافعهم عنده إلّا التوبة إليه من كفرهم والإنابة من ضلالهم ، وجعل ما سنّ فيهم من ذلك إماما لكلّ من كان على مثل منهاجهم ، لئلّا يطمع ذو إلحاد في رحمة الله!

قال أبو جعفر : وهذه الآية وإن كان مخرجها عامّا في التلاوة ، فإنّ المراد بها خاصّ في التأويل ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

[٢ / ١٧٠٤] أنّه قال : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» (٤).

[٢ / ١٧٠٥] وأنّه قال : «ليس من نبيّ إلّا وقد أعطي دعوة ، وإنّي خبأت دعوتي شفاعة لأمّتي ، وهي

__________________

(١) الطبري ١ : ٣٨١.

(٢) الأنبياء ٢١ : ٤٧.

(٣) مسند أحمد ١ : ٧٢ ؛ مجمع الزوائد ١٠ : ٣٥٢ ؛ كنز العمال ١٤ : ٣٧٣ / ٣٨٩٨٦. ولكنّ فيه نكارة ، إذ كيف يقتصّ من بهيمة لا تشعر بالعدوان؟! ومن ثمّ فهو مرفوض على أصول الحكمة.

(٤) مسند أحمد ٣ : ٢١٣ ؛ ابن ماجة ٢ : ١٤٤١ / ٤٣١٠ ، عن جابر ؛ وأبو داوود ٢ : ٤٢١ / ٤٧٣٩ ، عن أنس بن مالك ؛ الترمذي ٤ : ٤٥ / ٢٥٥٢ عن أنس و ٢٥٥٣ عن جابر.

٢٠