التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

والدراية شرع في إنجازه : «والله أسأل أن يعين على إكماله ، بمحمّد وآله» (١).

وهذا اقتداء بإمامه العظيم محمّد بن إدريس الشافعي رحمه‌الله حيث قوله :

آل النبيّ ذريعتي

وهموا إليه وسيلتي

أرجو بأن أعطى غدا

بيدي اليمين صحيفتي (٢)

والروايات بهذا الشأن كثيرة ومتظافرة جاءت بتعابير متنوّعة رواها الحفّاظ في مسانيدهم ، ولعلّ منها : ما ورد بشأن آل البيت وأنّهم سفن النجاة من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هوى ، وما ورد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أهل بيتي أمان لأمّتي ، وغيرها من تعابير تجعلهم سبل النجاة والذرايع إلى الله في بلوغ المآرب ، نذكر منها شذرا :

[٢ / ٢١٣٢] روى الحاكم بإسناد صحيح عن الكناني قال : سمعت أبا ذرّ يقول ـ وهو آخذ بباب الكعبة ـ : أيّها الناس من عرفني فأنا من عرفتم ، أنا أبوذرّ ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق».

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم (٣). ورواه أبو نعيم الأصبهاني بالإسناد إلى ابن عبّاس (٤). والخطيب البغدادي عن أنس بن مالك عن رسول الله (٥). والهيثمي عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت النبيّ (٦). وغيرهم من الأصحاب ـ رضي الله عنهم ورضوا عنه ـ.

[٢ / ٢١٣٣] وروى الحاكم ـ أيضا ـ في المستدرك ـ بإسناد صحيح عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أهل بيتي أمان لأمّتي ...» (٧).

ورواه المتّقي في الكنز بالإسناد إلى سلمة بن الأكوع (٨). والهيثمي في المجمع (٩) وغيرهما عنه أيضا.

__________________

(١) الإتقان ٤ : ٢١٤.

(٢) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ، أسد حيدر ٢ : ٢٤٩.

(٣) الحاكم ٢ : ٣٤٣. و ٣ : ١٥٠ ؛ كنز العمّال ٦ : ٢١٦ ؛ مجمع الزوائد ٩ : ١٦٨.

(٤) الحلية ٤ : ٣٠٦.

(٥) الخطيب ١٢ : ١٩.

(٦) مجمع الزوائد ٩ : ١٦٨.

(٧) الحاكم ٣ : ٤٥٨. و ١٤٩.

(٨) كنز العمّال ٦ : ١١٦ و ٧ : ٢١٧ قال : أخرجه ابن أبي شيبة ومسدّد والحكيم وأبو يعلى والطبراني وابن عساكر.

(٩) مجمع الزوائد ٩ : ١٧٤ ؛ فيض القدير للمناوي ٦ : ٢٩٧.

١٨١

وقد عرفت من ابن حجر : أنّ حديث السفينة وحديث الأمان من المستفيضات المتظافرة (١).

وبعد فلنرجع إلى بقيّة الآيات السابقة :

قوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)

وقد عرفت أنّ الّذين ظلموا هم العشرة الّذين تخلّفوا عن الذي أمروا بإفشائه من الترغيب والتشجيع في أمر القتال والقيام للنضال. فأخذهم الله بموت الفجأة ، فهلكوا لوقتهم.

قال جمال الدين القاسمي : والرجز هو : الموت بغتة ، ونقل عن بعضهم : أنّ العذاب على ضربين ، ضرب قد يمكن دفعه أو يظنّ إمكان دفعه .. كالهدم والغرق ، وضرب لا يمكن ولا يظنّ دفعه بقوّة آدميّ ، كالطاعون والصاعقة والموت المفاجئ ، قال : وهو المعنيّ بقوله : (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ)(٢).

وللمفسّرين القدامى أقوال وآراء ، فذكر منها ما قاله أبو جعفر الطبري :

قال في تأويل قوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) :

يعني بقوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) على الّذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله من تبديلهم القول ـ الذي أمرهم الله جلّ وعزّ أن يقولوه ـ قولا غيره ، ومعصيتهم إيّاه فيما أمرهم به وبركوبهم ما قد نهاهم عن ركوبه (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). والرّجز في لغة العرب : العذاب ، وهو غير الرّجز (٣) ، وذلك أنّ الرّجز : البثر (٤) ، ومنه الخبر الذي روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الطاعون :

[٢ / ٢١٣٤] أنّه قال : «إنّه رجز عذّب به بعض الأمم الّذين قبلكم» (٥).

[٢ / ٢١٣٥] وروى عامر بن سعد بن أبي وقّاص ، عن أسامة بن زيد ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ هذا الوجع أو السقم رجز عذّب به بعض الأمم قبلكم» (٦).

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ١٤٠.

(٢) تفسير القاسمي ١ : ٢٩٦.

(٣) الرّجز : الأوثان. وهو الذي جاء في قوله تعالى في سورة المدّثر : وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ.

(٤) البثر : الخراج الصغير.

(٥) رواه أحمد في المسند (٥ : ٢٠٧) مطوّلا بلفظ : «إنّ هذا الوباء رجز أهلك الله به الأمم قبلكم ، وقد بقي منه في الأرض شيء يجيء أحيانا ويذهب أحيانا. فإذا وقع بأرض فلا تخرجوا منها ، وإذا سمعتم به في أرض فلا تأتوها».

(٦) مسلم ٧ : ٢٨.

١٨٢

[٢ / ٢١٣٦] وروى عامر بن سعد ، قال : شهدت أسامة بن زيد عن سعد بن مالك يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الطاعون رجز أنزل على من كان قبلكم ـ أو على بني إسرائيل ـ».

وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٢١٣٧] روى معمر ، عن قتادة في قوله : (رِجْزاً) قال : عذابا.

[٢ / ٢١٣٨] وروى أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) قال : الرجز : الغضب.

[٢ / ٢١٣٩] وروى ابن وهب ، عن ابن زيد قال : لمّا قيل لبني إسرائيل : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) بعث الله جلّ وعزّ عليهم الطاعون ، فلم يبق منهم أحدا. وقرأ : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). قال : وبقي الأبناء ، ففيهم الفضل والعبادة التي توصف في بني إسرائيل والخير ، وهلك الآباء كلّهم ، أهلكهم الطاعون.

[٢ / ٢١٤٠] وروى أيضا عن ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الرجز : العذاب ، وكلّ شيء في القرآن رجز فهو عذاب.

[٢ / ٢١٤١] وروى أبو روق ، عن الضحّاك ، عن ابن عبّاس في قوله : (رِجْزاً) قال : كلّ شيء في كتاب الله من الرجز ، يعني به العذاب.

وقد دلّلنا على أنّ تأويل الرجز : العذاب. وعذاب الله جلّ ثناؤه أصناف مختلفة. وقد أخبر الله جلّ ثناؤه أنّه أنزل على الّذين وصفنا أمرهم ، الرجز من السماء ، وجائز أن يكون ذلك طاعونا وجائز أن يكون غيره ، ولا دلالة في ظاهر القرآن ولا في أثر عن الرسول ثابت أيّ أصناف ذلك كان.

فالصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عزوجل : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) بفسقهم. غير أنّه يغلب على النفس صحّة ما قاله ابن زيد ، للخبر الذي ذكرت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إخباره عن الطاعون أنّه رجز ، وأنّه عذّب به قوم قبلنا. وإن كنت لا أقول إنّ ذلك كذلك يقينا ؛ لأنّ الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بيان فيه أيّ أمّة عذّبت بذلك. وقد يجوز أن يكون الّذين عذّبوا به كانوا غير الّذين وصف الله صفتهم في قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

١٨٣

وقال في تأويل قوله تعالى : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) : معنى الفسق : الخروج من الشيء. فتأويل قوله : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) إذا : بما كانوا يتركون طاعة الله عزوجل ، فيخرجون عنها إلى معصيته وخلاف أمره (١).

***

وقال ابن أبي حاتم في قوله تعالى : (وَادْخُلُوا الْبابَ :)

[٢ / ٢١٤٢] روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس في قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) قال : من باب صغير.

[٢ / ٢١٤٣] وعن أبي غسان عن زهير قال : سئل خصيف عن قول الله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) قال عكرمة : قال ابن عبّاس : كان الباب قبل القبلة.

[٢ / ٢١٤٤] وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : باب الحطّة من باب إيلياء من بيت المقدس. وروي عن الضحّاك والسدّي نحو قول مجاهد.

[٢ / ٢١٤٥] وعن همّام بن منبّه أنّه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قال الله لبني إسرائيل : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) فدخلوا الباب يزحفون علي أستاههم».

[٢ / ٢١٤٦] وروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس في قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) قال : ركّعا من باب صغير. فدخلوا من قبل أستاههم.

[٢ / ٢١٤٧] وعن زهير قال : سئل خصيف عن قول الله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) قال عكرمة : قال ابن عبّاس : فدخلوا على شقّ.

[٢ / ٢١٤٨] وعن الربيع بن أنس قوله : (سُجَّداً) قال : كان سجود أحدهم على خدّه.

[٢ / ٢١٤٩] وعن أبي الكنود عن عبد الله بن مسعود قال : قيل لهم : ادخلوا الباب سجّدا ، فدخلوا مقنعي رؤوسهم. قال أبو محمّد : اختلف التابعون ، فروي عن مجاهد نحو قول عكرمة عن ابن عبّاس ، وروي عن السدّي نحو ما روي عن ابن مسعود (٢).

__________________

(١) الطبري ١ : ٤٣٥ ـ ٤٣٧.

(٢) ابن أبي حاتم ١ : ١١٧ ـ ١١٨ / ٥٧٢ ـ ٥٧٩.

١٨٤

وقال في قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) :

[٢ / ٢١٥٠] روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس في قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) قال : مغفرة ، استغفروا. قال أبو محمّد : وروي عن عطاء والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك.

[٢ / ٢١٥١] وروى الضحّاك عن ابن عبّاس في قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) قال : قولوا هذا الأمر حقّ ، كما قيل لكم.

[٢ / ٢١٥٢] وروي عن عكرمة قول ثالث : وهو أنّه قال : قولوا : لا إله إلّا الله.

[٢ / ٢١٥٣] وعن عمر بن عبد الواحد قال : سمعت الأوزاعي يحدّث ، قال : كتب ابن عبّاس إلى رجل قد سمّاه يسأله عن قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) فكتب إليه : أن أقرّوا بالذنب.

[٢ / ٢١٥٤] وعن قتادة في قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) قال الحسن وقتادة : أي احطط عنّا خطايانا.

[٢ / ٢١٥٥] وروى سعيد بن بشير عن قتادة في قوله : (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) : من كان خاطئا غفرت له خطيئته.

[٢ / ٢١٥٦] وأيضا عن قتادة : قوله : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) من كان محسنا زيد في إحسانه (١).

***

وقال في قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) :

[٢ / ٢١٥٧] روى همّام بن منبّه أنّه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال الله لبني إسرائيل : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) فبدّلوا ، فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم ، فقالوا : حبّة في شعرة.

[٢ / ٢١٥٨] وروى عن أبي الكنود في قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) فقالوا : حنطة حبّة حمراء فيها شعرة ، فأنزل الله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

[٢ / ٢١٥٩] وروى عن ابن مسعود أنّه قال : إنّهم قالوا : «هطى سمقاثا أزبه مزبا». فهي بالعربيّه : حبّة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة فذلك قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

__________________

(١) المصدر ١ : ١١٧ ـ ١١٩ / ٥٧٢ ـ ٥٨٦.

١٨٥

[٢ / ٢١٦٠] وعن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس في قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) : ركّعا من باب صغير يدخلون من قبل أستاههم ، وقالوا : حنطة. فهو قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ). وروي عن عطاء ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحّاك والحسن والربيع ويحيى بن رافع نحو ذلك.

وقال في قوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ :)

[٢ / ٢١٦١] روي عن سعد بن مالك وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت قالوا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «١٤٥

الطاعون رجز عذاب ، عذّب به قوم من قبلكم» (١) وروي عن سعيد بن جبير نحو ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٢ / ٢١٦٢] وروى الضحّاك عن ابن عبّاس في قوله : (رِجْزاً) قال : كلّ شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب : قال أبو محمّد : وروي عن الحسن وأبي مالك ومجاهد والسدّي وقتادة نحو ذلك.

[٢ / ٢١٦٣] وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً) قال : الرجز الغضب.

[٢ / ٢١٦٤] وروى مجالد عن الشعبي قال : الرجز إمّا الطاعون ، وإمّا البرد.

[٢ / ٢١٦٥] وروى سعيد بن بشير عن قتادة في قوله : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) : بما كانوا يعصون.

[٢ / ٢١٦٦] وروي عن محمّد بن إسحاق : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بما تعدّوا في أمري (٢).

__________________

(١) انظر : مسلم ٧ : ٢٧ ، ومسند أحمد ٥ : ٢١٣.

(٢) ابن أبي حاتم ١ : ١١٩ ـ ١٢٠ / ٥٨٧ ـ ٥٩٦.

١٨٦

قال تعالى :

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠))

نعم ، وكما يسّر الله لبني إسرائيل الطعام في الصحراء ، والظلّ في الهاجرة ، كذلك أفاض عليهم الريّ بخارقة من الخوارق الكثيرة التي أجراها الله على يدي نبيّه موسى عليه‌السلام والقرآن يذكّرهم بنعمة الله عليهم في هذا المقام ، وكيف مسلكهم بعد ذلك الإفضال والإنعام :

لقد طلب موسى لقومه السقيا. طلبها من ربّه فاستجاب له. وأمره أن يضرب حجرا معيّنا بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بعدّة أسباط بني إسرائيل .. ومن ثمّ فقد علم كلّ أناس مشربهم ، أي العين الخاصّة بهم من الاثنتي عشرة عينا. وقيل لهم ـ على سبيل التذكير بنعم الله فيشكروها وبالتواؤم والائتلاف ولا يكفروها بالتنازع والاختلاف ـ : (كُلُوا وَاشْرَبُوا).

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) والعثوّ : المبالغة في الفساد.

وجاء في سفر الخروج (أصحاح ١٧) : أنّ بني إسرائيل لمّا عبروا البحر وجاوزوا برّيّة «سين» ونزلوا في «رفيديم» (١) ولم يكن ماء ليشربوا ، فشكوا إلى نبيّ الله موسى ليطلب لهم ماء. فدعا موسى ربّه فجاءه النداء : أن اضرب بعصاك الصخرة في جبل «حوريب» ليخرج منها الماء ، فضربها فانفجرت عيونا.

قال الأستاذ النجّار : ولمّا جاوزوا البحر وجاؤوا إلى الشاطئ الشرقي لم يجدوا ماء لشربهم وسقيا دوابّهم ، فشكوا إلى موسى متذمّرين واستسقوه فأمره الله أن يضرب الحجر بعصاه ، فلمّا ضربه انبجست منه اثنتا عشرة عينا ، لكلّ من الأسباط عين تجري بالماء يشرب منها.

__________________

(١) محطّ أثقال بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر. وهي أرض واسعة واقعة في برّيّة «فاران» قريبة من جبل «حوريب» وهي سلسلة جبال كانت قمّتها العليا طور سيناء. والصخرة التي انفجرت منها العيون واقعة في وادي «رفيديم» هذه.

راجع : قاموس الكتاب المقدّس ، لجيمز هاكس : ٤١٨ و ٤٩٨.

١٨٧

قال : وهذه العيون بالبرّ الشرقيّ غير بعيدة من مدينة «السويس» شهيرة بعيون موسى وقلّ اليوم ماء هذه العيون وبعضها طمست آثاره ، ويزرع على تلك المياه بعض النخيل.

قال : والظاهر أنّ ضرب الحجر وانبجاسه بالماء حصل مرّات (١).

***

قال أبو جعفر الطبري : يعني بقوله : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) : وإذ استسقانا موسى لقومه ، أي سألنا أن نسقي قومه ماء. فترك ذكر المسؤول ذلك والمعنى الذي سأل موسى ، إذ كان فيما ذكر من الكلام الظاهر ، دلالة على معنى ما ترك. وكذلك قوله : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) ممّا استغني بدلالة الظاهر على المتروك منه. وذلك أنّ معنى الكلام ، فقلنا : اضرب بعصاك الحجر فضربه فانفجرت ، فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر ، إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه. وكذلك قوله : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) إنّما معناه : قد علم كلّ أناس منهم مشربهم ، فترك ذكر منهم لدلالة الكلام عليه.

وقد دلّلنا فيما مضى على أنّ «الناس» جمع لا واحد له من لفظه ، وأنّ «الإنسان» لو جمع على لفظه لقيل : أناسيّ وأناسية (٢). وقوم موسى هم بنو إسرائيل الّذين قصّ الله ـ عزوجل ـ قصصهم في هذه الآيات ، وإنّما استسقى لهم ربّه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه ، كما :

[٢ / ٢١٦٧] روى سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة في قوله : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) الآية قال : كان هذا إذ هم في البرّيّة اشتكوا إلى نبيّهم الظمأ ، فأمروا بحجر طوريّ ـ أي من الطور ـ أن يضربه موسى بعصاه ، فكانوا يحملونه معهم ، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، لكلّ سبط عين معلومة مستفيض ماؤها لهم.

[٢ / ٢١٦٨] وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : ذلك في التيه ظلّل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى ، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتّسخ ، وجعل بين ظهرانيهم حجر مربّع ، وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كلّ ناحية منه ثلاث عيون ، لكلّ

__________________

(١) قصص الأنبياء : ٢١١.

(٢) وآناس أيضا وأناس في الآية ، جمع إنس ، واحدته : إنسيّ. ويجمع على أناس وأناسي.

١٨٨

سبط عين ، ولا يرتحلون منقلة (١) إلّا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان به معهم في المنزل الأوّل.

[٢ / ٢١٦٩] وروى عكرمة عن ابن عبّاس ، قال : ذلك في التيه ، ضرب لهم موسى الحجر ، فصار فيه اثنتا عشرة عينا من ماء ، لكلّ سبط منهم عين يشربون منها.

[٢ / ٢١٧٠] وروى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) لكلّ سبط منهم عين ، كلّ ذلك كان في تيههم حين تاهوا.

[٢ / ٢١٧١] وروى ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) قال : خافوا الظمأ في تيههم حين تاهوا ، فانفجر لهم الحجر اثنتي عشرة عينا ضربه موسى. قال ابن جريج ، قال ابن عبّاس : الأسباط : بنو يعقوب كانوا اثني عشر رجلا كلّ واحد منهم ولد سبطا أمّة من الناس.

[٢ / ٢١٧٢] وروى ابن وهب ، عن ابن زيد قال : استسقى لهم موسى في التيه ، فسقوا في حجر مثل رأس الشاة. قال : يلقونه في جوانب الجوالق (٢) إذا ارتحلوا ، ويقرعه موسى بالعصا إذا نزل ، فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا ، لكلّ سبط منهم عين. فكان بنو إسرائيل يشربون منه ، حتّى إذا كان الرحيل استمسكت العيون ، وقيل به (٣) فألقي في جانب الجوالق ، فإذا نزل رمي به. فقرعه بالعصا ، فتفجّرت عين من كلّ ناحية مثل البحر.

[٢ / ٢١٧٣] وروى أسباط ، عن السدّي ، قال : كان ذلك في التيه.

وأمّا قوله : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) فإنّما أخبر الله عنهم بذلك ، لأنّ معناهم في الذي أخرج الله ـ جلّ وعزّ ـ لهم من الحجر الذي وصف جلّ ذكره في هذه الآية صفته من الشرب كان مخالفا معاني سائر الخلق فيما أخرج الله لهم من المياه من الجبال والأرضين التي لا مالك لها سوى الله عزوجل. وذلك أنّ الله كان جعل لكلّ سبط من الأسباط الاثني عشر عينا من الحجر الذي وصف صفته في هذه الآية ، يشرب منها دون سائر الأسباط غيره ، لا يدخل سبط منهم في شرب سبط غيره. وكان

__________________

(١) منقلة : مرحلة من السفر ، والجمع مناقل.

(٢) الجوالق : وعاء كبير منسوج من صوف أو شعر تحمل فيه الأطعمة.

(٣) يقال : قال بيده أي أهوى بها وأخذ الشيء. فمعنى قيل به : أنّهم أخذوه وحملوه معهم.

١٨٩

مع ذلك لكلّ عين من تلك العيون الاثنتي عشرة موضع من الحجر قد عرفه السبط الذي منه شربه ؛ فلذلك خصّ جلّ ثناؤه هؤلاء بالخبر عنهم أنّ كلّ أناس منهم كانوا عالمين بمشربهم دون غيرهم من الناس ، إذ كان غيرهم في الماء الذي لا يملكه أحد شركاء في منابعه ومسايله ، وكان كلّ سبط من هؤلاء مفردا بشرب منبع من منابع الحجر دون سائر منابعه خاصّ لهم دون سائر الأسباط غيرهم ، فلذلك خصّوا بالخبر عنهم أنّ كلّ أناس منهم قد علموا مشربهم (١).

***

وقال في تأويل قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) :

وهذا أيضا ممّا استغني بذكر ما هو ظاهر منه عن ذكره ما ترك ذكره. وذلك أنّ تأويل الكلام : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، قد علم كلّ أناس مشربهم ، فقيل لهم : كلوا واشربوا من رزق الله ، أخبر الله جلّ ثناؤه أنّه أمرهم بأكل ما رزقهم في التيه من المنّ والسلوى ، وبشرب ما فجّر لهم فيه من الماء من الحجر المتعاور (٢) الذي لا قرار له في الأرض ، ولا سبيل إليه إلّا لمالكيه ، يتدفّق بعيون الماء ويزخر بينابيع العذب الفرات بقدرة ذي الجلال والإكرام.

ثمّ تقدم جلّ ذكره إليهم (٣) مع إباحتهم ما أباح وإنعامه بما أنعم به عليهم من العيش الهنيء ، بالنهي عن السعي في الأرض فسادا ، والعثا فيها استكبارا ، فقال جلّ ثناؤه لهم : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

ويعني بقوله : (وَلا تَعْثَوْا) لا تطغوا ، ولا تسعوا في الأرض مفسدين. كما :

[٢ / ٢١٧٤] رواه الربيع ، عن أبي العالية : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) يقول : لا تسعوا في الأرض فسادا.

[٢ / ٢١٧٥] وروى ابن وهب ، عن ابن زيد في قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). لا تعث : لا تطغ.

[٢ / ٢١٧٦] وروى سعيد ، عن قتادة : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) : أي لا تسيروا في الأرض مفسدين.

__________________

(١) الطبري ١ : ٤٣٧ ـ ٤٣٩.

(٢) المتعاور : الذي ينقل من يد إلى يد بالتبادل.

(٣) تقدّم إليهم : أمرهم.

١٩٠

[٢ / ٢١٧٧] وروى الضحّاك ، عن ابن عبّاس : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) لا تسعوا في الأرض.

وأصل العثا شدّة الإفساد ، بل هو أشدّ الإفساد ، يقال : عثى فلان في الأرض ، إذا تجاوز في الإفساد إلى غايته ، يعثى عثا مقصور ، وللجماعة : هم يعثون ، وفيه لغتان أخريان : إحداهما عثا يعثو عثوّا ؛ ومن قرأها بهذه اللّغة ، فإنّه ينبغي له أن يضمّ الثاء من يعثو ، ولا أعلم قارئا ـ يقتدى بقراءته ـ قرأ به. ومن نطق بهذه اللّغة مخبرا عن نفسه قال : عثوت أعثو ، ومن نطق باللّغة الأولى ، قال : عثيت أعثي ، والأخرى منهما : عاث يعيث عيثا وعيوثا وعيثانا ، كلّ ذلك بمعنى واحد. ومن العيث قول رؤبة بن العجاج :

وعاث فينا مستحلّ عائث

مصدّق أو تاجر مقاعث (١).

يعني بقوله عاث فينا : أفسد فينا (٢).

***

[٢ / ٢١٧٨] وأخرج ابن أبي حاتم بالإسناد إلى قتادة ، قوله : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) قال :

فاستسقى موسى ، فأمر بحجر أن يضربه بعصاه.

[٢ / ٢١٧٩] وعن ابن عبّاس قال : وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربّعا وأمر موسى فضربه بعصاه.

[٢ / ٢١٨٠] وعن عطيّة العوفي : وجعل لهم حجرا مثل رأس الثور يحمل على ثور ، فإذا نزلوا منزلا وضعوه ، فضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا فاستمسك الماء.

[٢ / ٢١٨١] وعن عثمان بن عطاء عن أبيه قال : كان لبني إسرائيل حجر ، فكان يضعه هارون ويضربه موسى بعصاه.

[٢ / ٢١٨٢] وعن شيبان النحوي عن قتادة : قوله : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) فأمر بحجر أن يضربه بعصاه ، وكان حجرا طوريّا من الطور يحملونه معهم حتّى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه.

__________________

(١) المستحلّ : المستبيح للأموال. والمصدّق : عامل قبض الزكاة. وقعث الشيء يقعثه : استأصله واستوعبه ، وقعثه فانقعث إذا قلعه من أصله فانقلع.

(٢) الطبري ١ : ٤٣٩ ـ ٤٤٠.

١٩١

[٢ / ٢١٨٣] وعن القاسم بن أبي أيّوب ، عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) في كلّ ناحية منه ثلاث عيون.

[٢ / ٢١٨٤] وعن عليّ بن الحكم عن الضحّاك قال : قال ابن عبّاس : لمّا كان بنو إسرائيل في التيه شقّ لهم من الحجر أنهارا.

[٢ / ٢١٨٥] وعن القاسم بن أبي أيّوب ، عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس ، وأعلم كلّ سبط عينهم يشربون منها ، لا يرتحلون من منقلة إلّا وجدوا ذلك الحجر منهم بالمكان الّذي كان منهم بالمنزل الأوّل.

[٢ / ٢١٨٦] وعن يحيى بن أبي النضر قال : قلت لجويبر : كيف علم كلّ أناس مشربهم؟ قال : كان موسى يضع الحجر ويقوم من كلّ سبط رجل ، ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينا ، فينتضح من كلّ عين على رجل فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين!

[٢ / ٢١٨٧] وعن أبي العالية في قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) يقول : لا تسعوا في الأرض فسادا.

[٢ / ٢١٨٨] وعن قتادة : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) قال لا تسيروا في الأرض مفسدين.

[٢ / ٢١٨٩] وعن أسباط عن السدّي عن أبي مالك قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) يعني : لا تمشوا بالمعاصي (١).

***

وذكر الثعلبي في قوله تعالى : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) : السين فيه سين المسألة مثل استعلم واستخبر ونحوهما ، أي سأل السّقيا لقومه وذلك أنّهم عطشوا في التيه فقالوا : يا موسى من أين لنا الشراب؟ فاستسقى لهم موسى فأوحى الله عزوجل إليه : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) وكانت (٢) من آس الجنّة طوله عشرة أذرع على طول موسى ، وله شعبتان تتّقدان في الظلمة نورا ، واسمه عليق.

وكان آدم عليه‌السلام حمله معه من الجنّة إلى الأرض فتوارثته الأصاغر عن الأكابر حتّى وصل إلى شعيب

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ١٢١ ـ ١٢٢ / ٥٩٧ ـ ٦٠٨.

(٢) أي العصا.

١٩٢

فأعطاه لموسى.

و (الْحَجَرَ) اختلفوا فيه :

[٢ / ٢١٩٠] فقال وهب بن منبّه : لم يكن حجرا معيّنا بل كان موسى عليه‌السلام يقرع لهم أقرب حجر من عرض الحجارة فيتفجّر عيونا لكلّ سبط عين وكانوا اثني عشر سبطا ، ثمّ تسيل كلّ عين في جدول إلى السبط الذي أمر سقيهم.

ثمّ أنّهم قالوا : إن فقد موسى عصاه؟! فأوحى الله تعالى إلى موسى لا تقر عنّ الحجارة ولكن كلّمها تطعك لعلّهم يعتبرون. فقالوا : كيف بنا لو أفضينا إلى الرّمل وإلى الأرض التي ليست فيها حجارة؟! فحمل موسى معه حجرا فحيث نزلوا ألقاه.

وقال الآخرون : كان حجرا مخصوصا بعينه ، والدليل عليه قوله تعالى : (الْحَجَرَ) فأدخل الألف واللام للتعريف مثل قولك : رأيت الرجل.

ثمّ اختلفوا فيه ما هو؟ :

[٢ / ٢١٩١] فقال ابن عبّاس : كان حجرا خفيفا مربّعا مثل رأس الرجل أمر أن يحمله وكان يضعه في مخلاته فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه. وفي بعض الكتب : إنّها كانت رخاما.

[٢ / ٢١٩٢] وقال أبو روق : كان الحجر من الكذّان (١) وكان فيه اثنا عشرة حفرة ينبع من كلّ حفرة عين ماء عذب فرات فيأخذوه ، فإذا فرغوا وأراد موسى حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء ، وكان يسقي كلّ يوم ستمائة ألف.

[٢ / ٢١٩٣] وقال سعيد بن جبير : هو الحجر الذي وضع موسى ثوبه عليه ليغتسل حين رموه بالأدرة (٢) ففرّ الحجر بثوبه ومرّ به على ملأ من بني إسرائيل حتّى ظهر إنّه ليس بآدر ، فلمّا وقف الحجر أتاه جبرئيل فقال لموسى : إنّ الله يقول : ارفع هذا الحجر ، فإنّ فيه قدرة فلي فيه قدرة ولك فيه معجزة ، وقد ذكره الله تعالى في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً)(٣). فحمله موسى ووضعه في مخلاته ، فكان إذا احتاج إلى الماء ضربه بالعصا.

__________________

(١) الكذّان ، جمع الكذّانة : حجر فيه رخاوة كأنّه المدر.

(٢) الأدرة : نفخ في الخصيتين.

(٣) الأحزاب ٣٣ : ٦٩.

١٩٣

[٢ / ٢١٩٤] وهو ما روي عن أبي هريرة أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ، وكان موسى يغتسل وحده ، فقالوا : والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلّا أنّه آدر! قال : فذهب مرّة يغتسل فوضع موسى ثوبه على حجر ففرّ الحجر بثوبه ، قال : فجمح موسى في أثره يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتّى نظر بنو إسرائيل إلى سوأة موسى. فقالوا : والله ما بموسى من بأس. قال : فقام الحجر بعد ما نظر إليه ، وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا».

فقال أبو هريرة : والله إنّ بالحجر ندبا ستّة أو سبعة أثر ضرب موسى (١). والندب : أثر الجرح.

وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : كانت ضربة موسى اثنتي عشرة ضربة ، وظهر على موضع كلّ ضربة مثل ثدي المرأة ، ثمّ انفجر بالأنهار المطّردة (٢). وهو قوله : (فَانْفَجَرَتْ).

وفي الآية إضمار واختصار تقديرها : ضرب فانفجرت أي سالت ، وأصل الانفجار : الانشقاق والانتشار ، ومنه فجر النهار.

(قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) موضع شربهم ويكون بمعنى المصدر مثل المدخل ، المخرج.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي قلنا لهم : كلوا من المنّ ، واشربوا من الماء ؛ فهذا كلّه من رزق الله الذي بلا مشقّة ولا مؤنة ولا تبعة.

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) : يقال عثى يعثي عثيا ، وعثا يعثو عثوا ، وعاث يعيث عيثا وعيوثا (بثلاث لغات) وهو شدّة الفساد.

قال ابن الرّقاع :

لو لا الحياء وأنّ رأسي قد عثا

فيه المشيب لزرت أمّ القاسم (٣)

[٢ / ٢١٩٥] وقال مقاتل بن سليمان : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ) يقول : لا تعلوا ولا تسعوا في الأرض (مُفْسِدِينَ) يقول لا تعملوا في الأرض بالمعاصي. فرفعوا من المنّ والسلوى لغد ، فذلك قوله ـ سبحانه ـ : (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ)(٤) يقول : لا ترفعوا منه لغد. وكان موسى عليه‌السلام إذا ظعن حمل الحجر معه

__________________

(١) مسند أحمد ٢ : ٣١٥. يقال : جمح الفرس ، أي ذهب مسرعا لا ينثني.

(٢) اطّردت الأنهار : جرت.

(٣) الثعلبي ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٤) طه ٢٠ : ٨١.

١٩٤

وتنضب (١) العيون منه (٢).

وذكر البغوي ـ نقلا عن عطاء ـ : كان الحجر يضربه موسى اثنتي عشرة ضربة فيظهر على موضع كلّ ضربة مثل ثدي المرأة ، فيعرق ثمّ تفجّر الأنهار ثمّ تسيل.

[٢ / ٢١٩٦] وعن عطاء : كان للحجر أربعة وجوه ، لكلّ وجه ثلاث أعين ، لكلّ سبط عين. وقيل : كان الحجر رخاما.

قال : وأكثر أهل التفسير يقولون : انبجست وانفجرت واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء : انبجست عرقت ، وانفجرت سالت (٣).

[٢ / ٢١٩٧] وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال : استسقى موسى لقومه فقال : اشربوا يا حمير! فقال الله تعالى له : لا تسمّ عبادي حميرا! (٤).

__________________

(١) نضب الماء : غار.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١١١.

(٣) البغوي ١ : ١٢٢.

(٤) الدرّ ١ : ١٧٦ ؛ المصنّف ٦ : ١٨٥ / ٢ ، باب ١١٦ ، كتاب الأدب ؛ ابن عساكر ٦١ : ١٦١ ، رقم ٧٧٤١ (موسى بن عمران).

١٩٥

قال تعالى :

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))

نعم كانوا في صحراء قاحلة ومجدبة ، فمنّ الله عليهم بإنزال المنّ والسلوى وظلّل عليهم الغمام وأرواهم بتفجّر الصخور أنهارا ... ولكن هل ارتوى عطش القوم بهذه البساطة من العيش الهنيء ، أم نازعتهم الرغبة إلى حياة يكدرها تعقيد والتواء وتشريد؟!

فقد طلبوا من موسى أن يدعو ربّه ليخرج لهم أنواع الفواكه والنبات ، غير أنّ موسى عليه‌السلام تلقّى طلبهم هذا بالاستنكار : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ...)

حيث فهم موسى عليه‌السلام ضجرهم عن العيشة الحاضرة وتبرّمهم منها ، بعد مغادرتهم مصر ، ورغبتهم في العودة إلى ما يوفّر عليهم المآكل حتّى ولو كان في ذلّ العبوديّة الأولى.

فأجابهم مستنكرا عليهم : هذا الذي تطلبونه هيّن زهيد ، لا يستحقّ الدعاء فهو موفور في أيّ مصر من الأمصار : (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ ،) من غير حاجة إلى العودة إلى مصر التي أخرجتم منها والتي كانت حياتكم فيها خانعة ذليلة ... فهذا تأنيب لهم من موسى على فكرة قومه في الرجوع إلى مصر.

غير أنّ العيشة في المدن ، حيث وفرة متطلّباتها وتزاحم الرغبات الداعية إلى التطاحن والتنازع في الحياة ، ممّا يورث نكبة الذلّ والهوان ويوجب وفرة الشرّ والفساد ، الأمر الذي جبلت عليه طباع بني إسرائيل ، فما يزيدهم غير تخسير.

وإليك ما جاء في الروايات :

١٩٦

قال أبو إسحاق الثعلبي : وذلك أنّهم ملّوا المنّ والسلوى وسئموهما.

[٢ / ٢١٩٨] قال الحسن : كانوا نتاني (١) أهل كرّاث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء (٢) ، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عاداتهم عليه ، فقالوا : لن نصبر على طعام واحد وكفّوا عن المنّ والسلوى ، وإنّما قالوا : «واحد» (٣) وهما اثنان ؛ لأنّ العرب تعبّر عن اثنين بلفظ الواحد ، وبلفظ الواحد عن الاثنين كقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ)(٤) ، وإنّما يخرجان من المالح منهما دون العذب.

[٢ / ٢١٩٩] وقال عبد الرحمان بن زيد بن أسلم : كانوا يعجنون المنّ والسلوى فيصير طعاما واحدا فيأكلونه (٥).

(فَادْعُ) فاسأل وادع. (لَنا) لأجلنا. (رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها) قراءة العامّة بكسر القاف.

وقرأ يحيى بن وثّاب ، وطلحة بن مصرف ، والأشيب العقيلي : وقثّائها بضمّ القاف ، وهي لغة تميم.

(وَفُومِها) :

[٢ / ٢٢٠٠] قال ابن عبّاس : الفوم : الخبز ، تقول العرب : فوّموا لنا ، أي اختبزوا لنا.

[٢ / ٢٢٠١] وقال عطاء وأبو مالك : هو الحنطة وهي لغة قديمة ، قال الشاعر :

__________________

(١) نتاني جمع نتنى. وهو كمرضى جمع نتن كزمن وزمنى. وجاء في الحديث : «لو كان المطعم بن عدّي حيّا فكلّمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له» يعني أسارى بدر. واحدهم نتن. قال ابن الأثير : سمّاهم نتنى لكفرهم ، كقوله تعالى : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ.

(٢) أي عادوا إلى أصل عادتهم الرّديئة. والعكر : العادة والديدن. قال ابن الأثير : وروي : عكرهم بمعنى الدنس والدرن ، من عكر الزيت. قال : والأوّل الوجه.

(٣) التعبير بالواحد إنّما جاء من قبل وحدة الرويّة ، حيث كانت عيشتهم في المأكل على وتيرة واحدة لا تنوّع فيها.

(٤) الرحمان ٥٥ : ٢٢.

(٥) قال ابن كثير : وإنّما قالوا طعام واحد ، وهم يأكلون المنّ والسلوى؟! لأنّه لا يتبدّل ولا يتغيّر كلّ يوم فهو مأكل واحد. ابن كثير ١ : ١٠٥. قلت : أي كان طعامنا على وتيرة واحدة كلّ يوم.

١٩٧

قد كنت أحسبني كأغنى واحد

نزل المدينة عن زراعة فوم

وقال القتيبي : الحبوب التي تؤكل ، كلّها.

[٢ / ٢٢٠٢] وقال الكلبيّ والنضر بن شميل والكسائيّ والمعرّج : هو الثوم ، وأنشد المعرّج لحسّان :

وأنتم أناس لئام الأصول

طعامكم الفوم والحفول (١)

يعني الثوم والبصل ؛ فالعرب تعاقب بين الفاء والثاء فتقول لصمغ العرفط : مغاثير ومغافير (٢) ، وللقبر جدف وجدث ، ودليل هذا التأويل أنّها في مصحف عبد الله : وثومها.

(وَعَدَسِها وَبَصَلِها) :

[٢ / ٢٢٠٣] عن الحسين بن عليّ عن أبيه عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليكم بالعدس فإنّه مبارك مقدّس وإنّه يرقّق القلب ويكثر الدّمعة ، وإنّه بارك فيه سبعون نبيّا آخرهم عيسى عليه‌السلام» (٣).

فقال لهم موسى عند ذلك : (أَتَسْتَبْدِلُونَ). وفي مصحف أبيّ : أتبدّلون.

(الَّذِي هُوَ أَدْنى) أخسّ وأردأ.

حكى الفرّاء عن زهير الفرقبيّ (٤) : إنّه قرأ «أدنأ» بالهمزة ، والعامّة على ترك الهمزة.

وقال بعض النحاة : هو أدون فقدّمت النون وحوّلت الواو ياء كقولهم : أولى ، من الويل (٥).

(بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) أشرف وأفضل ، ومعناه : أتتركون الذي هو خير وتريدون الّذي هو شرّ ، ويجوز أن يكون هذا الخير والشرّ منصرفين إلى أجناس الطعام وأنواعه ، ويجوز أن يكونا منصرفين إلى اختيار الله لهم ، واختيارهم لأنفسهم.

(اهْبِطُوا مِصْراً) يعني : فإن أبيتم إلّا ذلك فاهبطوا مصرا من الأمصار ، ولو أراد مصر بعينها لقال : «مصر» ولم يصرفه كقوله (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ)(٦). وهذا معنى قول قتادة.

__________________

(١) الحفول : شجر له ورق مدوّر بقدر الإجّاصة ليست له رطوبة والعرب تأكله وفيه مرارة وله عجمة (نواة) لينة تسمّى الحفص. نظير نواة الزعرورة.

(٢) المغافير : صمغ يسيل من شجر العرفط ، ذو رائحة كريهة.

(٣) العيون ١ : ٤٥ / ١٣٦ ؛ القرطبي ١ : ٤٢٧.

(٤) هو من القرّاء النحويّين وكان في زمن عاصم.

(٥) ليكون أصله : أويل.

(٦) يوسف ١٢ : ٩٩.

١٩٨

[٢ / ٢٢٠٤] وقال الضحّاك : هي مصر موسى وفرعون. وكذا قال الأعمش. ودليل هذا القول : قراءة الحسن وطلحة : «مصر» بغير تنوين جعلاها معرفة ، وكذلك هو في مصحف عبد الله وأبيّ بغير ألف ، [قال الأخفش والكسائي : وإنّما أجازوا صرفها ـ على هذا القول ـ لخفّتها وشبهها بهند ودعد ؛ وأنشد :

لم تتلفّع بفضل مئزرها دعد

ولم تسق دعد في العلب (١).

فجمع بين اللّغتين](٢).

(فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) من نبات الأرض.

(وَضُرِبَتْ) : جعلت (عَلَيْهِمُ) وألزموا (الذِّلَّةُ) الذلّ والهوان. قالوا : بالجزية ، يدلّ عليه قوله :

(حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)(٣) وقال عطاء بن السائب : هو الكستيج (٤) وهو زيّ اليهوديّة الدالّ على مهانته (٥).

(وَالْمَسْكَنَةُ) يعني ذي الفقر. فتراهم كأنّهم فقراء وإن كانوا مياسير ، وقيل : المذلّة وفقر القلب فلا يرى في أهل الملل أذلّ ولا أحرص على المال من اليهود ، والمسكنة مفعلة من السكون ، ومنه سميّ الفقير مسكينا لسكونه وقلّة حركاته. يقال : ما في بني فلان أسكن من فلان ، أي أفقر.

(وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي رجعوا في قول الكسائي وغيره. قال أبو روق : استحقوا والباء صلة.

قال أبو عبيدة : احتملوا وأقرّوا به ، ومنه الدعاء المأثور : «أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت» ، وغضب الله عليهم : ذمّه لهم وتوعّده إيّاهم في الدنيا ، وإنزال العقوبة عليهم في العقبى ، وكذلك بغضه وسخطه.

__________________

(١) البيت لجرير. والعلب : أقداح من جلود ، يحلب فيها اللبن ويشرب.

(٢) هذا ما نقلناه عن تفسير القرطبي ١ : ٤٢٩. بدلا عن عبارة الثعلبي وكانت مشوّشة للغاية.

(٣) التوبة ٩ : ٢٩.

(٤) قال الفيروز آبادي : الكستيج خيط غليظ يشدّه الذمّي فوق ثيابه دون الزنار.

(٥) صحّحناه على البغوي والقرطبي. وفي المجمع : عن عطاء : هو الكستيج وزيّ اليهود ، مجمع البيان ١ : ٢٣٩.

١٩٩

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) بصفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه الرحيم في التوراة والإنجيل والفرقان.

(وَيَقْتُلُونَ) قراءة العامّة بالتخفيف من القتل ، وقرأ السّلمي بالتشديد من التقتيل.

(النَّبِيِّينَ) القراءة المشهورة بالتشديد من غيرهم ، وتفرّد نافع بهمز النبيين ، ومدّه فمن همز معناه : المخبر ، من قول العرب : أنبأ النبي إنباء ونبّأ ينبّئ تنبئة بمعنى واحد ، فقال الله عزوجل : (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا)(١) ومن حذف الهمز فله وجهان : أحدهما : أنّه أراد الهمز فحذفه طلبا للخفّة لكثرة استعمالها. والوجه الآخر : أن يكون بمعنى الرّفيع مأخوذ من النبوة وهي المكان المرتفع ، يقال : نبا الشيء عن المكان أي ارتفع.

قال الشاعر (وهو معدي كرب يرثي أخاه شرحبيل) :

إن جنبي عن الفراش لناب

كتجافي الأسرّ فوق الظراب (٢)

وفيه وجه آخر : قال الكسائي : النبيّ بغير همز : الطريق ، فسمّي الرسول نبيّا لأنّه طريق إلى الهدى.

(بِغَيْرِ الْحَقِ) مثل أشعيا وزكريّا ويحيى وسائر من قتل اليهود من الأنبياء.

وفي الخبر : إنّ اليهود قتلوا سبعين نبيّا من أوّل النهار في ساعة واحدة ، وقامت إلى سوق بقلها حتّى آخر النهار.

(ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي (٣).

***

وهكذا روى أبو جعفر الطبري عن بعضهم : أنّ الفوم هي الحنطة أو هو كلّ حبّ يختبز به.

[٢ / ٢٢٠٥] روى بإسناده إلى قتادة قال : الفوم : الحبّ الذي يختبز الناس منه (٤).

__________________

(١) التحريم ٦٦ : ٣.

(٢) الأسرّ : البعير إذا كانت بكركرته دبرة أي في صدره قرحة من أثر الرحل. والظّراب : جمع الظّرب وهي الرابية أي التلّ الصغير.

(٣) الثعلبي ١ : ٢٠٤ ـ ٢٠٧. بتصرّف.

(٤) الطبري ١ : ٤٤٣.

٢٠٠