التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

بيت المقدس.

[٢ / ٢٠٨٢] وعن السّدّي في قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) قال : أمّا الباب فباب من أبواب بيت المقدس.

[٢ / ٢٠٨٣] وعن ابن عبّاس في قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) قال : إنّه أحد أبواب بيت المقدس ، وهو يدعى باب حطّة.

وأما قوله : (سُجَّداً) فإنّ ابن عبّاس كان يتأوّله بمعنى الرّكّع.

[٢ / ٢٠٨٤] روي عن ابن عبّاس في قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) قال : ركّعا من باب صغير.

[٢ / ٢٠٨٥] وعن سعيد ، عن ابن عبّاس في قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) قال : أمروا أن يدخلوا ركّعا. وأصل السجود : الانحناء لمن سجد له معظّما بذلك ، فكلّ منحن لشيء تعظيما له فهو ساجد ، ومنه قول الشاعر ـ وهو زيد الخيل (١) ـ :

بجمع تضلّ البلق في حجراته

ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر (٢)

يعني بقوله : سجّدا : خاشعة خاضعة. ومن ذلك قول أعشى بني قيس بن ثعلبة :

يراوح من صلوات الملي

ك طورا سجودا وطورا جؤارا (٣)

فذلك تأويل ابن عبّاس قوله : (سُجَّداً) ركّعا ، لأنّ الراكع منحن ، وإن كان الساجد أشدّ انحناء منه (٤).

وقال في تأويل قوله تعالى : (حِطَّةٌ) : فعلة ، من قول القائل : حطّ الله عنك خطاياك فهو يحطّها حطّة ، بمنزلة الردّة والحدّة والمدّة من رددت وحددت ومددت.

واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا.

[٢ / ٢٠٨٦] فقد روى عبد الرزّاق ، عن معمر : في قوله (وَقُولُوا حِطَّةٌ) : قال الحسن وقتادة : أي

__________________

(١) على ما صرّح به الطبري ذيل الآية ٧٤ البقرة (١ : ٤٧٢).

(٢) البلق : جمع أبلق وبلقاء ، الفرس يرتفع تحجيلها إلى الفخذين. الحجرات : جمع حجرة ، وهي الناحية. والأكم : جمع أكمة ، وهي تلّ يكون أشدّ ارتفاعا ممّا حوله.

(٣) الجؤار : رفع الصوت بالدعاء مع تضرّع واستغاثة وجزع.

(٤) الطبري ١ : ٤٢٧ ـ ٤٢٨.

١٦١

احطط عنّا خطايانا.

[٢ / ٢٠٨٧] وروى ابن وهب عن ابن زيد : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) : يحطّ الله بها عنكم ذنبكم وخطاياكم.

[٢ / ٢٠٨٨] وروى ابن جريج ، عن ابن عبّاس : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) قال : يحطّ عنكم خطاياكم.

[٢ / ٢٠٨٩] وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس قوله : (حِطَّةٌ) : مغفرة.

[٢ / ٢٠٩٠] وروى أبو جعفر عن الربيع قوله : (حِطَّةٌ) قال : يحطّ عنكم خطاياكم.

[٢ / ٢٠٩١] وروى حجّاج ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء في قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) قال : سمعنا أنّه يحطّ عنهم خطاياهم.

وقال آخرون : معنى ذلك : قولوا : لا إله إلّا الله. كأنّهم وجّهوا تأويله : قولوا الذي يحطّ عنكم خطاياكم ، وهو قول لا إله إلّا الله. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٢٠٩٢] روى المثنّى وسعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، قالا : أخبرنا حفص بن عمرو عن الحكم بن أبان عن عكرمة ، قال : قولوا : لا إله إلّا الله (١).

[٢ / ٢٠٩٣] وهكذا أخرج البيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عبّاس في قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) قال : قولوا : لا إله إلّا الله (٢).

وقال آخرون بمثل معنى قول عكرمة ، إلّا أنّهم جعلوا القول الّذي أمروا بقيله الاستغفار. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٢٠٩٤] روى سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) قال : أمروا أن يستغفروا.

وقال آخرون نظير قول عكرمة ، إلّا أنّهم قالوا القول الذي أمروا أن يقولوه هو أن يقولوا هذا الأمر حقّ كما قيل لكم. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٢٠٩٥] روى الضحّاك ، عن ابن عبّاس في قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) قال : قولوا هذا الأمر حقّ كما قيل لكم.

__________________

(١) الطبري ١ : ٤٢٧ ـ ٤٢٨.

(٢) الدرّ ١ : ١٧٣ ؛ الأسماء والصفات : ١٧٢ ، باب : ما جاء في فضل الكلمة الباقيه في عقب إبراهيم عليه‌السلام وهي كلمة التقوى ودعوة الحقّ لا إله إلّا الله.

١٦٢

قال أبو جعفر ، واختلف أهل العربيّة في المعنى الذي من أجله رفعت الحطّة ، فقال بعض نحويّي البصرة : رفعت الحطّة بمعنى قولوا ليكن منكم حطّة لذنوبنا ، كما تقول للرجل : سمعك.

وقال آخرون منهم : هي كلمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة ، وفرض عليهم قيلها كذلك.

وقال بعض نحويّي الكوفيين : رفعت الحطّة بضمير «هذه» ، كأنّه قال : وقولوا هذه حطّة.

وقال آخرون منهم : هي مرفوعة بضمير معناه الخبر ، كأنّه قال : قولوا ما هو حطّة ، فتكون حطّة حينئذ خبرا ل «ما».

والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب وأشبه بظاهر الكتاب ، أن يكون رفع حطّة بنيّة خبر محذوف (١) قد دلّ عليه ظاهر التلاوة ، وهو : دخولنا الباب سجّدا حطّة ، فكفى من تكريره بهذا اللفظ ما دلّ عليه الظاهر من التنزيل ، وهو قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) كما قال ـ جلّ ثناؤه ـ : (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ)(٢) يعني موعظتنا إيّاهم معذرة إلى ربّكم. فكذلك عندي تأويل قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) يعني بذلك : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) ... (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا) دخولنا ذلك سجّدا (حِطَّةٌ) لذنوبنا ، وهذا القول على نحو تأويل الربيع بن أنس وابن جريج وابن زيد الذي ذكرناه آنفا.

وأمّا على تأويل قول عكرمة ، فإنّ الواجب أن تكون القراءة بالنصب في «حطّة» لأنّ القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا : لا إله إلّا الله ، أو أن يقولوا : نستغفر الله ، فقد قيل لهم : قولوا هذا القول ، ف «قولوا» واقع حينئذ على الحطّة ، لأنّ الحطّة على قول عكرمة هي قول لا إله إلّا الله ، وإذ كانت هي قول لا إله إلّا الله ، فالقول عليها واقع ، كما لو أمر رجل رجلا بقول الخير ، فقال له : «قل خيرا» نصبا ، ولم يكن صوابا أن يقول له : «قل خير» إلّا على استكراه شديد.

وفي إجماع القرّاء على رفع «حطّة» بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في

__________________

(١) أي خبرا عن مبتدء محذوف.

(٢) الأعراف ٧ : ١٦٤. وقراءتنا في مصاحفنا «مَعْذِرَةً» بالنصب. وأراد الطبري هنا «معذرة» بالرفع. وقد قال في تفسير الآية ١٦٤ من سورة الأعراف : قرأ ذلك عامّة قرّاء الحجاز والكوفة والبصرة «معذرة» بالرفع وقرأ ذلك بعض أهل الكوفة «مَعْذِرَةً» نصبا.

١٦٣

قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ). وكذلك الواجب على التأويل الذي رويناه عن الحسن وقتادة في قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) أن تكون القراءة في «حطّة» نصبا ، لأنّ من شأن العرب إذا وضعوا المصادر مواضع الأفعال وحذفوا الأفعال أن ينصبوا المصادر ، كما قال الشاعر :

أبيدوا بأيدي عصبة وسيوفهم

على أمهات الهام ضربا شآميا (١)

وكقول القائل للرجل : سمعا وطاعة ، بمعنى : أسمع سمعا وأطيع طاعة ، وكما قال جلّ ثناؤه :

(مَعاذَ اللهِ)(٢) بمعنى : نعوذ بالله (٣).

***

وقال في تأويل قوله تعالى : (نَغْفِرْ لَكُمْ) :

يعني بقوله : (نَغْفِرْ لَكُمْ) نتغمّد لكم بالرحمة خطاياكم ونسترها عليكم ، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها. وأصل الغفر : التغطية والستر ، فكلّ ساتر شيئا فهو غافره. ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتّخذ جنّة للرأس «مغفر» لأنّها تغطّي الرأس وتجنّه ، ومنه غمد السيف ، وهو ما يغمده فيواريه ؛ ولذلك قيل لزئبر (٤) الثوب «غفر» ، لتغطيته العورة ، وحؤوله بين الناظر والنظر إليها. ومنه قول أوس بن حجر :

فلا أعتب ابن العمّ إن كان جاهلا

وأغفر عنه الجهل إن كان أجهلا (٥)

يعني بقوله : وأغفر عنه الجهل : أستر عليه جهله بحلمي عنه.

وقوله تعالى : (خَطاياكُمْ) والخطايا جمع خطيّة بغير همز ، كما في المطايا جمع مطيّة ، والحشايا جمع خشيّة. وإنّما ترك جمع الخطايا بالهمز ، لأنّ ترك الهمز في خطيئة أكثر من الهمز ، فجمع على خطايا ، على أنّ واحدتها غير مهموزة. ولو كانت الخطايا مجموعة على خطيئة بالهمز لقيل خطائي

__________________

(١) البيت للفرزدق في ديوانه ، وروايته عنده : «أناخوا بأيدي طاعة وسيوفهم». أناخوا : ذلّوا وانقادوا. وأيدي طاعة : أهل طاعة. والشآمي : من الشؤم أي ضربة بؤس وشؤم.

(٢) يوسف ١٢ : ٢٣ و ٧٩.

(٣) الطبري ١ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠.

(٤) زئبر الثوب : هو ما يعلو الثوب الجديد من مائه كالذي يعلو القطيفة والخزّ ، ويسمّونه درز الثوب أيضا.

(٥) أجهل : بمعنى جاهل ، كما قالوا أوحد بمعنى واحد وأميل بمعنى مائل.

١٦٤

على مثل قبيلة وقبائل ، وصحيفة وصحائف. وقد تجمع خطيئة بالتاء فيهمز فيقال : خطيئات ، والخطيئة فعيلة من خطىء الرجل يخطأ خطأ ، وذلك إذا عدل عن سبيل الحقّ. ومنه قول الشاعر :

وإنّ مهاجرين تكنّفاه

لعمر الله قد خطئا وخابا (١)

يعني أضلّا الحقّ وأثما (٢).

***

وقال في تأويل قوله تعالى : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) :

تأويل ذلك ما روي لنا عن ابن عبّاس ، وهو ما :

[٢ / ٢٠٩٦] رواه ابن جريج ، عن ابن عبّاس في قوله : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) قال : من كان منكم محسنا زيد في إحسانه ، ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته.

فتأويل الآية : وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحا لكم كلّ ما فيها من الطيّبات ، موسّعا عليكم بغير حساب ، وادخلوا الباب سجّدا ، وقولوا : سجودنا هذا لله حطّة من ربّنا لذنوبنا يحطّ به آثامنا ، نتغمّد لكم ذنوب المذنب منكم ، فنسترها عليه ، ونحطّ أوزاره عنه ، وسنزيد المحسنين منكم إلى إحساننا السالف عنده إحسانا.

__________________

(١) البيت لأميّة بن الأسكر كما في أمالي القالي (٣ : ١٠٨) ضمن أبيات أنشدها لعمر بن الخطّاب ؛ يقول :

لمن شيخان قد نشدا كلابا

كتاب الله إن رقب الكتابا

ننفّض مهده شفقا عليه

ونجنبه أباعرنا الصعابا

إذا هتفت حمامة بطن واد

على بيضاتها دعوا كلابا

تركت أباك مرعّشة يداه

وأمّك ما تسيغ لها شرابا

أناديه وولّاني قفاه

فلا وأبي ، كلاب ما أصابا

فإنّ مهاجرين تكنّفاه

ليترك شيخه خطئا وخابا

وإنّ أباك حيث علمتماه

يطارد أينقا شسبا طرابا

إذا بلغ الرسيم فكان شدّا

يخرّ فخالط الذقن الترابا

وكان أميّة قد أسنّ في الجاهلية ، وتركه ابنه كلاب وخرج غازيا. فلمّا سمع عمر هذه الأبيات كتب إلى سعد بن أبي وقّاص أن رحّل كلاب بن أميّة بن الأسكر ؛ فرحّله.

(٢) الطبري ١ : ٤٣٠ ـ ٤٣١.

١٦٥

ثمّ أخبر الله ـ جلّ ثناؤه ـ عن عظيم جهالتهم ، وسوء طاعتهم ربّهم وعصيانهم لأنبيائهم واستهزائهم برسله ، مع عظيم آلاء الله ـ عزوجل ـ عندهم ، وعجائب ما أراهم من آياته وعبره ، موبّخا بذلك أبناءهم الّذين خوطبوا بهذه الآيات ، ومعلمهم أنّهم إن تعدّوا في تكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجحودهم نبوّته مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم ، وعجائب ما أظهر على يديه من الحجج بين أظهرهم ، أن يكونوا كأسلافهم الّذين وصف صفتهم. وقصّ علينا أنباءهم في هذه الآيات ، فقال ـ جلّ ثناؤه ـ : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) الآية.

قوله : (فَبَدَّلَ) فغيّر. ويعني بقوله : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) الّذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله. ويعني بقوله : (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) بدّلوا قولا غير الذي أمروا أن يقولوه فقالوا خلافه ، وذلك هو التبديل والتغيير الذي كان منهم. وكان تبديلهم ـ بالقول الذي أمروا أن يقولوه ـ قولا (١) غيره ما :

[٢ / ٢٠٩٧] رواه عبد الرزّاق ، عن معمر عن همّام بن منبّه أنّه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قال الله لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجّدا وقولوا حطّة نغفر لكم خطاياكم ، فبدّلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا : حبّة في شعيرة» (٢).

[٢ / ٢٠٩٨] وروى همّام ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : (حِطَّةٌ) قال : «بدّلوا فقالوا : حبّة».

[٢ / ٢٠٩٩] وروى أبو الكنود ، عن عبد الله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) قالوا : حنطة حمراء فيها شعيرة ، فأنزل الله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

[٢ / ٢١٠٠] وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس في قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) قال : ركوعا

__________________

(١) «قولا» مفعول «تبديلهم».

(٢) رواه البخاري ٤ : ١٢٩ و ٥ : ١٤٨ ، في الأنبياء ، باب ٢٨ ، وتفسير سورة ٧ باب ٤ وسورة ٢ باب ٥. ومسلم ٨ : ٢٣٨ كتاب الزهد والرقاق وكتاب التفسير حديث ١. والترمذي ٤ : ٢٧٣ / ٤٠٣٢ في تفسير سورة ٢ باب ٢. وأحمد في المسند ٢ :

٣١٨. وروايتهم كلّهم : «حبّة في شعرة». قال ابن كثير (١ : ١٠٢ ـ ١٠٣) : هذا حديث صحيح رواه البخاري ومسلم والترمذي كلّهم عن عبد الرزّاق.

١٦٦

من باب صغير. فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم. ويقولون حنطة ؛ فذلك قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

[٢ / ٢١٠١] وروى سعيد ، عن ابن عبّاس ، قال : أمروا أن يدخلوا ركّعا ، ويقولوا : حطّة ـ قال : أمروا أن يستغفروا ـ قال : فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم من باب صغير ويقولون حنطة يستهزئون ، فذلك قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

[٢ / ٢١٠٢] وروى عبد الرزّاق عن معمر ، عن قتادة والحسن : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) قالا : دخلوها على غير الجهة التي أمروا بها ، فدخلوها متزحفين على أوراكهم ، وبدّلوا قولا غير الذي قيل لهم ، فقالوا : حبّة في شعيرة.

[٢ / ٢١٠٣] وروى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجّدا ويقولوا حطّة ، وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا فلم يسجدوا ودخلوا على أدبارهم وقالوا حنطة.

[٢ / ٢١٠٤] وروى أيضا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أمر موسى قومه أن يدخلوا المسجد ويقولوا حطّة ، وطؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤسهم ، فلم يسجدوا ودخلوا على أستاههم إلى الجبل ، وهو الجبل الذي تجلّى له ربّه وقالوا : حنطة. فذلك التبديل الذي قال الله عزوجل : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

[٢ / ٢١٠٥] وروى بالإسناد إلى ابن مسعود أنّه قال : إنّهم قالوا : «هطى سمقايا أزبة هزبا» (١) ، وهو بالعربيّة : حبّة حنطة حمراء مثقوبة (٢) فيها شعيرة سوداء. فذلك قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

[٢ / ٢١٠٦] وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) قال : فدخلوا على أستاههم مقنعي رؤوسهم.

[٢ / ٢١٠٧] وروى أبو النضر بن عديّ ، عن عكرمة : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) فدخلوا مقنعى

__________________

(١) ولعلّ الصحيح ما أخرجه الحاكم (٢ : ٣٢١) في الحديث الآتي وصحّحه عن ابن مسعود قال : قالوا : «هطا سمقاثا ازبه مزبا».

(٢) ولعلّ الصحيح على ما رواه الحاكم : «حنطة حمراء قويّة».

١٦٧

رؤوسهم ، (وَقُولُوا حِطَّةٌ) فقالوا : حنطة حمراء فيها شعيرة ، فذلك قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

[٢ / ٢١٠٨] وروى عن الربيع بن أنس : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) قال : فكان سجود أحدهم على خدّه ، (وَقُولُوا حِطَّةٌ) نحطّ عنكم خطاياكم ، فقالوا : حنطة ، وقال بعضهم : حبّة في شعيرة. (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

[٢ / ٢١٠٩] وروى ابن وهب عن ابن زيد : في قوله (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) قال : يحطّ الله بها عنكم ذنبكم وخطيئاتكم. قال : فاستهزأوا به ـ يعني بموسى ـ وقالوا : ما يشاء موسى أن يلعب بنا إلّا لعب بنا حطّة حطّة! أيّ شيء حطّة؟ وقال بعضهم لبعض : حنطة.

[٢ / ٢١١٠] وروى ابن جريج ، عن ابن عبّاس قال : لمّا دخلوا قالوا : حبّة في شعيرة.

[٢ / ٢١١١] وروى عن ابن عبّاس ، قال : لمّا دخلوا الباب قالوا : حبّة في شعيرة ، فبدّلوا قولا غير الذي قيل لهم (١).

***

[٢ / ٢١١٢] قال مقاتل بن سليمان : وذلك أنّ بني إسرائيل خرجوا مع يوشع بن نون بن اليشامع بن عميهوذ بن غيران بن شونالخ بن إفراييم بن يوسف عليه‌السلام من أرض التيه إلى العمران حيال أريحا وكانوا أصابوا خطيئة فأراد الله ـ عزوجل ـ أن يغفر لهم وكانت الخطيئة أنّ موسى عليه‌السلام كان أمرهم أن يدخلوا أرض أريحا التي فيها الجبّارون فلهذا قال لهم : قولوا حطّة ، يعني بحطّة : حطّ عنّا خطايانا.

ثمّ قال : (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) الّذين لم يصيبوا خطيئة ؛ فزادهم الله إحسانا إلى إحسانهم. (٢)

[٢ / ٢١١٣] وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد قال : «سرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى إذا كان من آخر الليل اجتزنا في ثنيّة يقال لها : ذات الحنظل ، فقال : ما مثل هذه الثنيّة اللّيلة إلّا كمثل الباب الذي قال

__________________

(١) الطبري ١ : ٤٣٢ ـ ٤٣٥ ، بتصرّف وتخليص.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١١٠ وقد خلط بين إيليا وأريحا!

١٦٨

الله لبني إسرائيل : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ)(١).

[٢ / ٢١١٤] وأخرج الحاكم بالإسناد إلى السدّي عن مرّة الهمداني عن عبد الله بن مسعود ، قال : إنّ أصحاب العجل قالوا : هطّا سمقاثا أزبه مزبا ، وهي بالعربيّة : حنطة حمراء قويّة فيها شعرة سوداء ، فذلك قوله ـ عزوجل ـ : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ)(٢).

قال القرطبي : وهي لفظة عبرانيّة ، تفسيرها : حنطة حمراء. حكاها ابن قتيبة وحكاها الهروي عن السدّي ومجاهد (٣).

***

وقال الحجّة البلاغي : قالوا ما لا يرجع إلى الاستغفار وطلب الحطّ لأثقال ذنوبهم ، ولعلّ من مصداق ذلك أنّهم حذفوا الأمر بالعبادة والاستغفار ودوام السجود في بيت المقدس وبدّلوه بأنّ الله أمرهم في التوراة بأنّهم إذا لم يقدروا أن يحملوا زكواتهم ، أن يبيعوها بفضّة وينفقوها في بلد بيت المقدس بما تشتهي أنفسهم في البقر والغنم والخمر والمسكر ، كما في الفصل الرابع عشر من سفر التثنية!

قال : وهل يعقل أنّ الله يأمر بإنفاق الزكاة في شرب الخمر والمسكر في بيت عبادته؟! (٤).

وقال الشيخ محمّد عبده : منشأ هذه الأقوال ، الروايات الإسرائيليّة ، ولليهود في هذا المقام كلام كثير وتأويلات خدع بها المفسّرون. ولا نجيز حشوها في تفسير كلام الله تعالى. قال : وما ورد في الصحيح منها لا يخلو من علّة إسرائيليّة (٥).

وذكر السيّد رشيد رضا عن أستاذه : وأمّا معنى تبديلهم قولا غير الذي قيل لهم ، فهو أنّهم عصوا بالقول والفعل ، وخالفوا الأمر مخالفة تامّة لا تحتمل الاجتهاد ولا التأويل.

قال : ولا ثقة لنا بشيء ممّا روي في هذا التأويل من ألفاظ عبرانيّة ولا عربيّة ، فكلّه من الإسرائيليّات الوضعيّة ، وإن خرج بعضه في الصحيح والسنن موقوفا ومرفوعا كحديث أبي هريرة

__________________

(١) الدرّ ١ : ١٧٤ ؛ ابن كثير ١ : ١٠٣.

(٢) الحاكم ٢ : ٣٢١ ؛ الكبير ٩ : ٢١١ / ٩٠٢٧ ؛ مجمع الزوائد ٦ : ٣١٤.

(٣) القرطبي ١ : ٤١١.

(٤) تفسير آلاء الرحمان ١ : ٩٥ ـ ٩٦.

(٥) تفسير المنار ١ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

١٦٩

المرفوع في الصحيحين وغيرهما. قال : ولم يصرّح أبو هريرة بسماع هذا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيحتمل أنّه سمعه من كعب الأحبار ، إذ ثبت أنّه روي عنه. قال السيّد : وهذا مدرك عدم اعتماد الأستاذ رحمه‌الله على مثل هذا من الإسرائيليّات وإن صحّ سنده (١).

وفسّر أبو مسلم التبديل هنا بمجرّد المخالفة وترك ما أمروا به ، لا أنّهم بدّلوه بقول آخر.

قال : قوله تعالى : (فَبَدَّلَ) يدلّ على أنّهم لم يفعلوا ما أمروا به ، لا على أنّهم أتوا له ببدل .. قال :

والدليل عليه ، أنّ تبديل القول قد يستعمل في المخالفة [محضا] ، كما في قوله تعالى : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ ...)(٢) ، ولم يكن تبديلهم إلّا الخلاف في الفعل لا في القول ، فكذا هنا فيكون المعنى : أنّهم لمّا أمروا بالتواضع وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله (٣).

وهذا القول رجّحة المراغى والقاسمي وغيرهما من مفسّرين معاصرين (٤).

لكن هذا ينافي ظاهر قوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ)(٥).

***

وقال ابن عاشور : وكان المخاطبون العرب واليهود يعلمون تفاصيل القصّة ، ومن ثمّ جاءت الآية مختصرا فيها الكلام ، الأمر الذي جعل المفسّرين حيارى فسلكوا طرائق لانتزاع تفصيل المعنى ، ولم يأتوا بشيء مقنع ، وفيها بعض التضارب والمخالفات.

قال : والذي عندي أنّ الآية أشارت إلى قصّة معروفة تضمّنتها كتبهم (٦) وهي أنّ بني إسرائيل لمّا طوّحت بهم الرحلة إلى برّيّة «فاران» (٧) نزلوا بمدينة «قادش» (٨) فأصبحوا على حدود أرض

__________________

(١) تفسير المنار ٩ : ٣٧٣.

(٢) الفتح ٤٨ : ١٥.

(٣) التفسير الكبير ٣ : ٩١. وتفسير أبي مسلم ـ إخراج الغياثي ـ : ٩٤.

(٤) راجع : تفسير المراغي ١ : ١٢٤. والقاسمي ١ : ٢٩٦.

(٥) البقرة ٢ : ٥٩. والأعراف ٧ : ١٦٢.

(٦) راجع : سفر الخروج : ١٦. وسفر التثنيه : ١ ـ ٢. وسفر الأعداد : ١٣ ـ ١٤.

(٧) برّيّة فاران : صحراء وسيعة واقعة في سفح جبل بهذا الاسم ، بمعنى : ذات مغارات ، كانت متاه بني إسرائيل ، بين وادي سيناء جنوبا ، وأرض كنعان شمالا ، وخليج العقبه شرقا ، وصحراء الشام غربا.

(٨) قاديشا ، يعني الوادي المقدّس ، واد في لبنان الشمالي. دعي كذلك لكثرة النسّاك والرهبان الّذين أقاموا فيه منصرفين إلى العبادة في مغارة. كان ملجأ للموارنة في أيّام الشدّة.

١٧٠

كنعان (الأرض الموعودة) وذلك أثناء السنة الثانية بعد خروجهم من مصر. فأرسل موسى اثني عشر رجلا يتجسّسون أرض كنعان ، من كلّ سبط رجل ، وفيهم يوشع بن نون وكالب بن يفنّة ، فصعدوا وأتوا إلى مدينة «حبرون» (١) فوجدوا الأرض ذات خيرات ، فأخذوا من عنبها ورمّانها وتينها ورجعوا بعد أن قضوا أربعين يوما وأخبروا القوم وأروهم ثمر الأرض ، وقالوا : إنّها ـ حقّا ـ تفيض لبنا وعسلا. غير أنّ أهلها ذوو عزّة ، ومدنها حصينة جدّا. فأوعز موسى إلى كالب ويوشع بأنّهم سوف يصعدون إلى المدينة ويمتلكونها ، غير أنّ العشرة الباقين أشاعوا في بني إسرائيل مذمّة الأرض وأنّ فيها جبابرة ، فخافت بنو إسرائيل وجبنوا عن القتال. فقام يوشع وكالب وقالا : لا تخافوا فإنّهم سوف يذلّهم الله على أيدينا ، فلم يكترث القوم بقولهما وتجابنوا. فأوحى الله إلى موسى أنّ قومه قد أساؤوا الظنّ بربّهم ، فعاقبهم بالحرمان من دخول الأرض المقدّسة أربعين سنة يتيهون في الأرض.

قال ابن عاشور : هذه القصّة كما وردت في العهد القديم تنطبق بعض الانطباق مع الآية الكريمة : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ. قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(٢).

قال : قوله تعالى : (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) الظاهر أنّه أراد بها «حبرون» (٣) التي كانت قريبة منهم والتي ذهب إليها جواسيسهم وأتوا بأخبارها وثمارها.

__________________

(١) سيأتي الكلام عنها.

(٢) المائدة ٥ : ٢١ ـ ٢٦.

(٣) حبرون : هي مدينة الخليل ، من أقدم مدن العالم. معروفة بزراعة العنب والتين وصناعة الزجاج. كانت مسكن إبراهيم الخليل وفيها مقبرته. مبنيّة على هضبة على مسافة ٢٠ ميلا من جنوبي أورشليم و ١٠٠ ميل من بلدة ناصرة. بناؤها من حجر الكلس وكانت لها أبواب وأسوار. وكانت بعد فتحها عاصمة الحكم الإسرائيلي ، حتّى اتّخذ داوود أورشليم عاصمة البلاد.

١٧١

قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) يبدو أنّها إشارة إلى ما أشاعته الجواسيس العشرة من مذمّة الأرض وصعوبتها وقوّة رجالها وما شابه ذلك ممّا يدلّ على وهن عزيمتهم للقيام والمقابلة وأنّهم لم يقولوا كما قال لهم موسى ولم ينتهضوا كما استنهضهم موسى ورجلان معه يوشع وكالب.

ولعلّ التعبير بكلمة «هذه» المفيدة للقرب ما يرجّح أنّ القرية هي «حبرون» الّتي تطلّع عليها جواسيسهم. والقرية : مجتمع المساكن المبنيّة العامرة ، من القري وهو الجمع ، وتطلق على البلدة الصغيرة وعلى المدينة الكبيرة ذات الأسوار والأبواب ، كما أريد هنا.

وقوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) مراد به باب القرية المعهودة. ومعنى السجود عند الدخول : الانحناء شكرا لله تعالى أن فضّلهم بهذه النعم .. لا لأنّ بابها قصير كما قيل ، إذ لا جدوى له .. كما لم يعهد أن يجعل للمدينة باب قصير.

قال ابن عاشور : ولعلّ الأمر بالانحناء عند الدخول ، إيهام لإظهار العجز والضعف فلا يفطن لهم أهل القرية ولا يهابونهم ، وهذا من أحوال الجوسسة ولم تتعرّض لها التوراة. قال : ويبعد أن يكون السجود المأمور به سجود الشكر ، لأنّهم داخلون متجسّسين لا فاتحين.

وقوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ). ولعلّ هذا القول كان معروفا ذلك العهد للدلالة على العجز ، أو هو من أقوال السّؤّال والشحّاذين كي لا يحسب لهم حساب فلا يتحذّر منهم أهل القرية.

وقوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي بدّل العشرة القول الذي أمر موسى بإعلانه في القوم وهو الترغيب في دخول القرية وتهوين العدوّ عليهم ، فقالوا ـ بدلا من ذلك ـ : لا تستطيعون مقابلتهم فثبّطوهم. ولذلك عوقبوا فأنزل عليهم رجز من السماء ـ أي بتقدير من السماء ـ وهو بلاء الطاعون. وقد خصّ بالمثبّطين.

وإنّما جاء بالظاهر في موضع المضمر في قوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً) ولم يقل : «عليهم» لئلّا يتوهّم أنّ الرجز عمّ الجميع. وبذلك تنطبق الآية على ما ذكرته التوراة تمام الانطباق (١).

__________________

(١) جاء في سفر الأعداد : ١٤ / ٣٦ و ٣٧ و ٣٨ : «أمّا الرجال الاثنا عشر الّذين أرسلهم موسى للتجسّس فرجعوا وثبّطوا القوم فأخذهم الله بالوباء ، سوى يشوع بن نون وكالب بن يفنّة فعاشا. وكان لهما التوفيق بدخول المدينة بعد أربعين عاما.

١٧٢

كلام في تأويل الحطّة

وأنّ أولياء الله هم الذرائع لغفران الذنوب وبلوغ المآرب

قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١).

أي تحرّوا ما يوصلكم إلى قربه تعالى. قال الراغب : الوسيلة أخصّ من الوصيلة ، لتضمّنها لمعنى الرغبة. والواسل : الراغب.

قال تعالى ـ بشأن الأنبياء ومن تبعهم من المؤمنين حقّا ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً)(٢). أي يتحرّون أقرب الوسائل إليه تعالى!

وأقرب الوسائل إلى الله تعالى ـ بعد الطاعة والعمل الصالح ـ هو التزلّف لدى نبيّ الرحمة صاحب اللّواء والشّفاعة والوسيلة الناجحة.

كما جاء التصريح بذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن وأنّه الوسيلة الناجحة.

قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(٣).

أي جاؤوك يبتغون الوسيلة فيك. فكان اقتران استغفاره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم ، لاستغفارهم تضامنا لغفرانه تعالى وشمول رحمته لهم جميعا.

وهكذا فهم المسلمون منذ أوّل يومهم أنّ أفضل وسيلة مقرّبة إلى الله هو التوسّل بباب الرحمة نبيّ الإسلام ، الشافع المشفّع.

قال سواد بن قارب عند مقدمه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

فأشهد أنّ الله لا ربّ غيره

وأنّك مأمون على كلّ غائب

وأنّك أدنى المرسلين وسيلة

إلى الله يا ابن الأكرمين الأطائب

فمرنا بما يأتيك من وحي ربّنا

وإن كان فيما جئت شيب الذوائب

__________________

(١) المائدة ٥ : ٣٥.

(٢) الإسراء ١٧ : ٥٧.

(٣) النساء ٤ : ٦٤.

١٧٣

وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة

بمغن فتيلا عن سواد بن قارب (١)

[٢ / ٢١١٥] وروى البخاري في الصحيح بالإسناد إلى عبد الله بن عمر أنّه كان يتمثّل عند الاستسقاء بشعر أبي طالب ـ رضوان الله عليه ـ :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

قال عمر بن حمزة : حدّثنا سالم عن أبيه (عبد الله بن عمر) قال : ربّما ذكرت قول الشاعر ـ وأنا أنظر إلى وجه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستسقي ، فما ينزل [عن المنبر] حتّى يجيش كلّ ميزاب ـ :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

قال البخاري : وهو قول أبي طالب.

[٢ / ٢١١٦] وروى بالإسناد إلى أنس أنّ عمر بن الخطّاب كان إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المطّلب. فقال : «اللهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا ، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا». قال : فيسقون (٢).

[٢ / ٢١١٧] وروى عبد الرزّاق من حديث ابن عبّاس : أنّ عمر استسقى بالمصلّى فقال للعبّاس : قم فاستسق! فقام العبّاس ... وساق الحديث ... (٣).

[٢ / ٢١١٨] وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح (٤) من رواية أبي صالح السمّان عن مالك الداري ـ وكان خازن عمر ـ قال : أصاب الناس قحط في زمن عمر ، فجاء رجل (٥) إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، استسق لأمّتك ، فإنّهم قد هلكوا! فأتي الرجل في المنام فقيل له : ائت عمر ... وساق الحديث (٦).

__________________

(١) الاستيعاب لابن عبد البرّ ، بهامش الإصابة ٢ : ١٢٤. والإصابة لابن حجر ١ : ٩٦. وروض الأنف للسهيلي ١ : ٢٤٤. وغيرها من كتب السير والتاريخ والحديث.

(٢) البخاري ٢ : ١٥ ، باب ٣ ، من الاستسقاء. والباب ١١ من فضائل الصحابة و ٤ : ٢٠٨ ؛ البيهقي ٣ : ٣٥٢.

(٣) المصنّف لعبد الرزّاق ٣ : ١٦ / ٤٩٢٧ ـ ٣ / ٩٢.

(٤) ذكره ابن حجر في فتح الباري ٢ : ٤١٢.

(٥) قال ابن حجر : وقد روى سيف في الفتوح : أنّ الّذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحرث المزني أحد الصحابة (الفتح ٢ : ٤١٢).

(٦) فتح الباري لابن حجر ٢ : ٤١٢.

١٧٤

وفي هذا دلالة على جواز مناجاة النبيّ عند قبره ، وعرض الحوائج لدى ضريحه المقدّس ، بل والاستلهام من فيض قدسه الشريف.

وهكذا كان أجلّاء الصحابة يأتون قبره ويناجونه في سرّ خلدهم مع سيّدهم سيّد الأبرار.

[٢ / ٢١١٩] وروى الحاكم بإسناد صحيح عن داوود بن أبي صالح قال : أقبل مروان يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر ، فأخذ برقبته وقال : أتدري ما تصنع؟ قال : نعم! فأقبل عليه فإذا هو أبو أيّوب الأنصاري ـ رضوان الله عليه ـ (١) فقال : جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم آت الحجر! سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله» (٢) معرّضا بمروان! وكان واليا على المدينة من قبل معاوية!!

[٢ / ٢١٢٠] وروى ابن عساكر بالإسناد إلى أبي الدرداء قال : لمّا رحل عمر بن الخطّاب من فتح بيت المقدس فصار إلى جابية ، سأله بلال بن رباح مؤذّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقرّه بالشام ، ففعل. ثمّ إنّ بلالا رأى في منامه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول : «ما هذه الجفوة يا بلال؟! أما آن لك أن تزورني يا بلال؟» فانتبه حزينا وجلا خائفا ، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه (٣).

وهكذا كان جلّ الصحابة يتبرّكون بقبره ويناجونه ، أورد السمهودي كثيرا منها في فصل زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذا صاحب الغدير والأحمدي في كتابه تبرّك الصحابة والتابعين بآثار النبيّ وذويه.

[٢ / ٢١٢١] وأخرج البيهقي في الدلائل بالإسناد إلى مسلم الملائي عن أنس بن مالك ، قال : جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، لقد أتيناك ومالنا بعير يئطّ ولا صبّي يغطّ (٤) وأنشده :

__________________

(١) هو خالد بن زيد بن كليب أبو أيّوب الأنصاري النجاري معروف باسمه وكنيته. توفّي سنة اثنتين وخمسين.

(٢) الحاكم ٤ : ٥١٥. مسند أحمد ٥ : ٤٢٢.

(٣) قال السمهودي : إسناده جيّد (وفاء الوفاء ٤ : ١٣٥٦). ورواه ابن الأثير في أسد الغابة ١ : ٢٠٨. راجع : الغدير ٥ : ١٤٧. والتبرّك للأحمدي : ١٤٧ ـ ١٥٥.

(٤) الأطيط : صوت البعير المثقّل بالحمل. والغطيط : صوت النائم يغطّ في نومة مريحة.

١٧٥

أتيناك والعذراء يدمي لبانها

وقد شغلت أمّ الصبيّ عن الطفل

وألقى بكفّيه الصبيّ استكانة

من الجوع ضعفا ما يمرّ ولا يخلي

ولا شيء ممّا يأكل الناس عندنا

سوى الحنظل العامّي والعلهز الفسل (١)

وليس لنا إلّا إليك فرارنا

وأين فرار الناس إلّا إلى الرّسل

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجرّ رداءه حتّى صعد المنبر ، ثمّ رفع يديه إلى السماء فقال : «اللهمّ اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا غدقا ، طبقا عاجلا غير رائث (٢) ، نافعا غير ضارّ ، تملأ به الضرع وتنبت به الزرع ، وتحيي به الأرض بعد موتها ، وكذلك تخرجون».

قال : فوالله ما ردّ يديه إلى نحره حتّى ألقت السماء بأبراقها. فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى بدت نواجذه ثمّ قال : لله درّ أبي طالب لو كان حيّا قرّت عيناه ، من ينشدنا قوله؟ فقام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : يا رسول الله كأنّك أردت :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

وهذا البيت من أبيات في قصيدة لأبي طالب رحمه‌الله ذكرها ابن اسحاق في السيرة بطولها وهي أكثر من تسعين بيتا (٣). قالها لمّا تمالأت قريش على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونفّروا عنه من يريد الإسلام.

قال السهيلي : كيف قال أبو طالب : وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ، ولم يره قطّ استسقى ، وإنّما كان استسقاءاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة ، وفيها شوهد ما كان من سرعة إجابة الله له؟!

قال : فالجواب : أنّ أبا طالب قد شاهد من ذلك أيضا في حياة عبد المطّلب ما دلّه على ما قال.

[٢ / ٢١٢٢] فقد روى أبو سليمان حمد بن محمّد بن إبراهيم البستي النيسابوري : أنّ رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم قالت :

تتابعت على قريش سنو جدب قد أقحلت الظّلف (٤) وأرقّت العظم ، فبينا أنا راقدة للهمّ أو

__________________

(١) الحنظل العامّي : الّذي مضى عليه عام ويبس. والعلهز ، وبركان يخلط بدماء الحلم (وهي القردان تمصّ الدم من الجلد) ثمّ يشوى بالنار. فكانت العرب تقتات به عند سنيّ المجاعة. والفسل : الهزيل الذي لا رواء له.

(٢) يقال : طبق يفعل الشيء : طفق وأخذ يفعل. ويقال : راث وتريّث : أبطأ.

(٣) أوردها ابن هشام في السيرة (١ : ٢٩١ ـ ٢٩٩) أربعا وتسعين بيتا.

(٤) أي ذوات الظّلف. وأقحل الشيء : أيبسه.

١٧٦

مهدمة (١) ومعي صنوي (٢) إذا أنا بهاتف صيّت يصرخ بصوت صحل (٣) يقول : يا معشر قريش إنّ هذا النبيّ المبعوث منكم ، هذا إبّان نجومه (٤) فحيّهلا بالحيا والخصب (٥) ، ألا فانظروا منكم رجلا طوالا عظاما أبيض فظّا ، أشمّ العرنين ، له فخر يكظم عليه. ألا فليخلص هو وولده ، وليدلف إليه من كلّ بطن رجل. ألا فليشنّوا من الماء (٦) ، وليمسّوا من الطيب ، وليطوّفوا بالبيت سبعا .. ألا وفيهم الطيّب الطاهر لذاته. ألا فليدع الرجل وليؤمّن القوم. ألا فغثتم أبدا ما عشتم (٧).

قالت : فأصبحت مذعورة قد قفّ جلدي (٨) ووله عقلي ، فاقتصصت رؤياي ، فوا لحرمة والحرم ، إن بقي أبطحيّ إلّا قال : هذا شيبة الحمد (٩).

وتتامّت عنده قريش (١٠) وانفضّ إليه الناس من كلّ بطن رجل ، فشنّوا ومشوا واستلموا واطّوّفوا ، ثمّ ارتقوا أبا قبيس ... حتّى قرّوا بذروة الجبل ، واستكفّوا جنابيه (١١).

فقام عبد المطّلب فاعتضد (١٢) ابن ابنه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرفعه على عاتقه ، وهو يومئذ غلام قد أيفع أو قد كرب (١٣). ثمّ قال :

«اللهم سادّ الخلّة وكاشف الكربة ، أنت عالم غير معلّم ومسؤول غير مبخّل (١٤). وهذه

__________________

(١) أي خائرة القوى منهارة الأشلاء.

(٢) الصّنو : الأخ الشقيق.

(٣) يقال : صحل صوته صحلا : غلظ وخشن فهو صحل.

(٤) أي هذا أوان ظهوره.

(٥) أي هلمّوا وأقبلوا بالحيا وهو ريع الزرع بوفور المطر. والخصب : كثرة العشب والخير.

(٦) أي يصبّوا عليهم الماء ، يراد به غسل الوجه والأكفّ أو الاغتسال.

(٧) غثتم : أي عمّكم الغيث. يقال : غاث الله البلاد : أنزل بها الغيث. غاث الغيث الأرض : نزل بها ، فغيثت الأرض وهي مغيثة.

(٨) أي يبس وتعضّن ، وهو تثنّي الجلد وتشنّجه.

(٩) لقب فخيم كان يلقّب به عبد المطّلب ، لأنّه تشيّب محمودا في قومه.

(١٠) يقال : تتامّ القوم أي جاؤوا كلّهم وانفضّ إليه الناس ، أي أتوه متفرّقين من كلّ بطن رجل.

(١١) أي أحاطوا بجوانبه. والجنابان : الناحيتان.

(١٢) اعتضده : احتضنه.

(١٣) يفع الغلام : ترعرع وناهز البلوغ. قوله : أو كرب أي أو قرب من اليفعة.

(١٤) أي غير منسوب إلى البخل.

١٧٧

عبداؤك (١) وإماؤك ، بعذرات حرمك (٢) ، يشكون إليك سنتهم (٣) ، فاسمعنّ اللهمّ وأمطرنّ علينا غيثا مريعا مغدقا (٤)». فما راموا (٥) ـ والبيت ـ حتّى انفجرت السماء بمائها واكتظّ الوادي بثجيجه (٦). (٧).

[٢ / ٢١٢٣] وذكر البيهقي في الدلائل : فتسمّعت شيخان قريش وجلّتها (٨) : عبد الله بن جدعان وحرب بن أميّة وهشام بن المغيرة ، يقولون لعبد المطّلب : هنيئا لك أبا البطحاء ، أي عاش بك أهل البطحاء.

وفي ذلك ما تقول رقيقة :

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا

لمّا فقدنا الحيا واجلوّذ المطر (٩)

فجاء بالماء جونيّ له سبل

سحّا فعاشت به الأنعام والشجر (١٠)

منّا من الله بالميمون طائره

وخير من بشّرت يوما به مضر (١١)

مبارك الأمر يستسقى الغمام به

ما في الأنام له عدل ولا خطر (١٢). (١٣).

__________________

(١) عبداء جمع عبيد وعباد : جمع عبد.

(٢) عذرات جمع عذرة : فناء الدار.

(٣) السّنة : القحط.

(٤) مطر مريع : يورث الخصب. وأغدق المطر : كثر قطره وتوسّع.

(٥) رام المكان : فارقه.

(٦) يقال : اكتظّ المسيل بالماء : ضاق به لكثرته ، وثجّ الماء : سال. ومطر ثجّاج : سيّال شديد الانصباب والثجيج : السيل الغزير.

(٧) الروض الأنف ـ السهيلي ٢ : ٢٨ ـ ٢٩. وراجع : هامش السيرة ١ : ٣٠٠.

(٨) شيخان جمع شيخ وهو كبير القوم. والجلّة جمع جليل هو كبير السنّ المتقدّم في القوم.

(٩) الحيا : المطر والخصب والنبات ، واجلوّذ المطر : امتدّ تأخّره.

(١٠) الجونيّ : المنسوب إلى الجون وهو من الألوان ، يقع على الأسود والأبيض ، وهو هنا كناية عن السحب ذوات الألوان البيض والسود. والسّبل : المطر النازل من السحاب قبل أن يصل إلى الأرض. ويقال : سحّ الماء سحّا : صبّه صبّا متتابعا غزيرا.

(١١) الطائر من الطّيرة : ما تيمّنت به أو تشاءمت.

(١٢) الخطر : المثل والعدل ولا يقال إلّا فيما له قدر وعلوّ شرف.

(١٣) دلائل النبوّة للبيهقي ٢ : ١٨ ـ ١٩. وراجع ؛ فتح الباري ٢ : ٤١١ ـ ٤١٣.

١٧٨

وبعد فإذ كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشخصه الكريم من أكبر الوسائل إلى الله في الابتهال إليه والمسائلة لديه ، ولطلب الحطّ والاستغفار من الذنوب ، فلا غرو أن يكون ذووه من آله الأطهار خلفاءه من بعده لنجح حوائج الأمّة مدى الأيّام ، كما فهمه عمر بن الخطّاب فيما توسّل بعمّ النبيّ بدلا عمّا كانوا يستسقون بالنبيّ الكريم (١).

ودليلا على صحّة هذا الفهم ، ابتهال النبيّ نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآله الأطيبين في حديث المباهلة ، خرج بعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام قائلا : اللهمّ هؤلاء أهلي ـ كما رواه مسلم وغيره (٢) ـ أراد أن يباهل بهم وفد نجران ، لو لا أنّهم تداركوا الأمر وأذعنوا لقبول الجزية (٣).

[٢ / ٢١٢٤] فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي نفسي بيده لو لا عنوا لمسخوا ولاضطرم عليهم الوادي نارا» (٤).

***

ولعلّ قائلا يقول : هلّا كان ينبغي لعمر بن الخطّاب أن يبتهل إلى الله بمن ابتهل بهم النبي نفسه ، وهم البقيّة الباقية من آل الرسول. (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ)(٥)؟!

الأمر الذي نبّه عليه الذرّيّة الطيّبة من آله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما جاء في كلام الرسول منوّها بهم عليهم‌السلام.

[٢ / ٢١٢٥] روى أبو جعفر الصدوق بإسناده إلى الحسين بن خالد عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لكلّ أمّة صدّيق وفاروق ، وصدّيق هذه الأمّة وفاروقها عليّ بن أبي طالب. إنّ عليّا سفينة نجاتها وباب حطّتها» (٦).

[٢ / ٢١٢٦] وروى في باب مناقب عليّ عليه‌السلام وتعدادها بالإسناد إلى مكحول ، قال : قال عليّ عليه‌السلام : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لي : «مثلك في أمّتي مثل باب حطّة في بني إسرائيل ، فمن دخل في

__________________

(١) فيما تقدّم من كلامه : «اللهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا ، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا ، فاسقنا» (البخاري ١ : ٣٤).

(٢) مسلم ٧ : ١٢١ ـ ١٢٢ ، باب فضائل الصحابة ، باب فضل علي عليه‌السلام ؛ مسند أحمد ١ : ١٨٥ ؛ الحاكم ٣ : ١٥٠ ، قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ؛ الترمذي ٤ : ٢٤٣ / ٤٠٨٥ كتاب المناقب ، باب ٢١ مناقب عليّ عليه‌السلام.

(٣) قال أسقف نجران : يا معشر النصارى إنّي لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها ، فلا تبتهلوا فتهلكوا .. (الكشّاف للزمخشري ١ : ٣٦٨ ـ ٣٦٩).

(٤) الكشّاف ١ : ٣٦٩.

(٥) هود ١١ : ٨٦.

(٦) العيون ٢ : ١٦ / ٣٠ ، باب ٣٠ ؛ البحار ٣٨ : ١١٢ / ٤٧.

١٧٩

ولايتك فقد دخل الباب كما أمره الله عزوجل» (١).

[٢ / ٢١٢٧] وجاء في خطبته عليه‌السلام المعروفة بخطبة الوسيلة : «ألا وإنّي فيكم أيّها الناس كهارون في آل فرعون ، وكباب حطّة في بني إسرائيل ، وكسفينة نوح ...» (٢).

[٢ / ٢١٢٨] وهكذا تكرّر منه عليه‌السلام قوله : «أنا باب حطّة ...» (٣) ، فيما أخرجه الكليني والصدوق وغيرهما.

[٢ / ٢١٢٩] وأخرج أبو النضر محمّد بن مسعود بن عيّاش السلمي السمرقندي بالإسناد إلى سليمان الجعفري قال : سمعت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام قال : قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «نحن باب حطّتكم» (٤).

[٢ / ٢١٣٠] وأخرج ابن أبي شيبة في المصنّف بالإسناد إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «إنّما مثلنا في هذه الأمّة كسفينة نوح وكباب حطّة في بني إسرائيل» (٥).

[٢ / ٢١٣١] قال ابن حجر الهيثمي ـ في ملحق الصواعق ـ : وجاء من طرق كثيرة يقوّي بعضها بعضا : «مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق».

و «إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل ، من دخله غفر له» (٦).

وأخرجه جلال الدين السيوطي في تفسيره (٧) معتمدا عليه.

ومن ثمّ نراه في كتبه ومؤلّفاته يتذرّع بالنبيّ وآله ويجعلهم الوسيلة لنجح مطالبه ـ على غرار سائر الأكابر من العلماء الأبرار ـ يقول في مؤخّرة كتابه الإتقان بشأن تفسير جامع بين الرواية

__________________

(١) الخصال : ٥٧٤ / ١ ـ ٢٠ ، أبواب السبعين ؛ البحار ٣١ : ٤٣٥ ـ ٤٣٦ / ٢.

(٢) برواية أبي جعفر الكليني عن محمّد بن عليّ بن معمر بالإسناد إلى جابر بن يزيد عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، قال : خطب أمير المؤمنين بعد بضعة أيّام من وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن فرغ من جمع القرآن ، قال فيها ... (الكافي ٨ : ٣٠).

(٣) فيما رواه الصدوق في كتاب التوحيد : ١٦٥ / ٢ ، باب ٢٢ ، بالإسناد إلى النضر بن سويد عن ابن سنان عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٤) العيّاشي ١ : ٦٣ / ٤٧ ؛ مجمع البيان ١ : ٢٢٩ ؛ البحار ١٣ : ١٦٨ ، باب ٦.

(٥) المصنّف ٧ : ٥٠٣ ، الفضائل باب ١٨ / ٥٢ ، فضائل عليّ عليه‌السلام.

(٦) الصواعق المحرقة : ١٤٠ باب الأمان ببقائهم عليهم‌السلام.

(٧) الدرّ ١ : ١٧٤.

١٨٠