التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

وقال آخرون : المنّ : عسل. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٢٠٠٤] عن ابن زيد قال : المنّ : عسل كان ينزل لهم من السماء.

[٢ / ٢٠٠٥] وعن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، قال : عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المنّ.

وقال آخرون : المنّ : خبز الرقاق. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٢٠٠٦] روى إسماعيل بن عبد الكريم ، عن عبد الصمد ، قال : سمعت وهبا وسئل ما المنّ؟ قال : خبز الرقاق ، مثل الذرّة ، ومثل النّقي (١).

وقال آخرون : المنّ : الترنجبين (٢). ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٢٠٠٧] روى أسباط ، عن السدّي قال : المنّ كان يسقط على شجر الترنجبين.

وقال آخرون : المنّ هو الذي يسقط على الشجر الذي تأكله الناس. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٢٠٠٨] روى حجّاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عبّاس : كان المنّ ينزل على شجرهم فيغدون عليه فيأكلون منه ما شاؤوا.

[٢ / ٢٠٠٩] وروى مجالد ، عن عامر في قوله : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَ) قال : المنّ : الذي يقع على الشجر.

[٢ / ٢٠١٠] وروى عن الضحّاك ، عن ابن عبّاس في قوله : (الْمَنَ) قال : المنّ : الذي يسقط من السماء على الشجر فتأكله الناس.

[٢ / ٢٠١١] وروى عن مجالد ، عن عامر بن سعد بن وقّاص قال : المنّ : هذا الذي يقع على الشجر. وقد قيل إنّ المنّ : هو الترنجبين.

وقال بعضهم : المنّ : هو الذي يسقط على الثمام (٣) والعشر (٤) ، وهو حلو كالعسل ، وإيّاه عنى

__________________

(١) النقي (بكسر النون وسكون القاف) : مخّ العظم.

(٢) قال ابن سينا في القانون في الطبّ (١ : ٤٤٣) : الترنجبين : طلّ أكثر ما يسقط بخراسان وما وراء النهر.

(٣) الثمام : نبت ضعيف لا يطول. واحدته ثمامة.

(٤) العشر : شجر له صمغ وفيه حرّاق مثل القطن يقتدح به. (اللسان : مادة عشر). قال : وقال أبو حنيفة : العشر من العضاه وهو من كبار الشجر وله صمغ حلو ، وهو عريض الورق ينبت صعدا في السماء ، وله سكّر يخرج من شعبه ومواضع زهره يقال له سكّر العشر ، وفي سكّره شيء من مرارة ، ويخرج له نفّاخ كأنّها شقاشق الجمال التي تهدر فيها ، وله نور مثل نور الدفلى مشرب مشرق حسن المنظر وله ثمر.

١٤١

الأعشى ميمون بن قيس بقوله :

لو أطعموا المنّ والسلوى مكانهم

ما أبصر الناس طعما فيهم نجعا (١)

[٢ / ٢٠١٢] وتظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «الكمأة من المنّ ، وماؤها شفاء للعين» (٢).

وقال بعضهم : المنّ : شراب حلو كانوا يطبخونه فيشربونه. وأمّا أميّة بن أبي الصلت فإنّه جعله في شعره عسلا ، فقال يصف أمرهم في التيه وما رزقوا فيه :

فرأى الله أنّهم بمضيع

لا بذي مزرع ولا مثمورا (٣)

فنساها عليهم غاديات

ومرى مزنهم خلايا وخورا (٤)

عسلا ناطفا وماء فراتا

وحليبا ذا بهجة ممرورا (٥)

الممرور : الصافي من اللبن ، فجعل المنّ الذي كان ينزل عليهم عسلا ناطفا ، والناطف : هو القاطر (٦).

__________________

(١) ديوانه (ص ١٠٨). الطعم : ما أكل من الطعام. ونجع الطعام في الإنسان : هنأ آكله وتبينت تنميته واستمرأه وصلح عليه.

(٢) هذا الحديث روي في الصحاح من حديث سعيد بن زيد وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله. رواه البخاري في تفسير سورة البقرة باب ٤ ، وفي تفسير سورة الأعراف باب ٢ ، والطبّ باب ٢٠. ومسلم في الأشربة ٦ : ١٢٦. والترمذي في الطبّ باب ٢٢. وابن ماجه في الطبّ باب ٨. وأحمد في المسند (١ : ١٨٧).

(٣) مضيع : بموضع ضياع وهوان وهلاك. ومزرع : مصدر ميمي من زرع ، يعني ليس بذي زرع. ومثمورا : يقال : الثمير والثميرة : اللبن الذي ظهر زبده وتحبب.

(٤) نساها : أصلها نسأها مهموزة ، ونسأ الدابة والإبل : زجرها وساقها. والغاديات : جمع غادية ، وهي السحابة التي تنشأ غدوة. ومرى الناقة : مسح ضرعها لتدرّ. والمزن : جمع مزنة ، وهي السحابة ذات الماء. وخلايا : جمع خلية ، وهي الناقة التي خليت للحلب لكرمها وغزارة لبنها. والخور : إبل حمر إلى الغبرة رقيقات الجلود طوال الأوبار. والناطف : المتقطّر قليلا قليلا.

(٥) الفرات : أشدّ الماء عذوبة. وممرور أي مهيّج.

(٦) الطبري ١ : ٤١٩ ـ ٤٢١.

١٤٢

وقال في تأويل قوله تعالى : (وَالسَّلْوى) : والسلوى اسم طائر يشبه السّمانى ، واحده وجماعه بلفظ واحد ، كذلك السمانى لفظ جماعها وواحدها سواء. وقد قيل : إنّ واحدة السلوى سلواة. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٢٠١٣] روى أسباط ، عن السدّي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عبّاس ، وعن مرّة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : السلوى : طير يشبه السّمانى.

[٢ / ٢٠١٤] وعن السدّيّ أيضا ، قال : كان طيرا أكبر من السّمانى.

[٢ / ٢٠١٥] وعن قتادة ، قال : السلوى : طائر كانت تحشرها عليهم الريح الجنوب.

[٢ / ٢٠١٦] وعن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : السلوى : طائر.

[٢ / ٢٠١٧] وعنه أيضا قال : السلوى : طير.

[٢ / ٢٠١٨] وروى عبد الصمد ، قال : سمعت وهبا وسئل : ما السلوى؟ فقال : طير سمين مثل الحمام.

[٢ / ٢٠١٩] وعن ابن زيد قال : السلوى : طير.

[٢ / ٢٠٢٠] وعن الربيع بن أنس قال : السلوى ، كان طيرا يأتيهم مثل السّمانى.

[٢ / ٢٠٢١] وعن مجالد ، عن عامر ، قال : السلوى : السّمانى.

[٢ / ٢٠٢٢] وعن الضحّاك ، عن ابن عبّاس ، قال : السلوى : هو السّمانى.

[٢ / ٢٠٢٣] وعن الضحّاك ، قال : السّمانى هو السلوى.

[٢ / ٢٠٢٤] وأخرج عن السدّي : لمّا تاب الله على قوم موسى وأحيا السبعين الّذين اختارهم موسى بعد ما أماتهم ، أمرهم الله بالمسير إلى أريحا ، وهي أرض بيت المقدس. فساروا حتّى إذا كانوا قريبا منها بعث موسى اثني عشر نقيبا. وكان من أمرهم وأمر الجبّارين ، وأمر قوم موسى ما قد قصّ الله في كتابه ، فقال قوم موسى لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)(١) فغضب موسى ، فدعا عليهم قال : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(٢). فكانت عجلة

__________________

(١) المائدة ٥ : ٢٤. ونصّها : «فاذهب».

(٢) المائدة ٥ : ٢٥.

١٤٣

من موسى عجّلها فقال الله تعالى : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ)(١). فلمّا ضرب عليهم التيه ندم موسى! وأتاه قومه الّذين كانوا معه يطيعونه ، فقالوا له : ما صنعت بنا يا موسى؟ فلمّا ندم أوحى الله إليه أن لا تأس على القوم الفاسقين ؛ أي لا تحزن على القوم الّذين سمّيتهم فاسقين. فلم يحزن. فقالوا : يا موسى كيف لنا بماء هاهنا ، أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ ، فكان يسقط على شجر الترنجبين ، والسلوى : وهو طير يشبه السمانى ، فكان يأتي أحدهم ، فينظر إلى الطير إن كان سمينا ذبحه ، وإلّا أرسله ، فإذا سمن أتاه. فقالوا : هذا الطعام ، فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، فشرب كلّ سبط من عين ، فقالوا : هذا الطعام والشراب ، فأين الظلّ؟ فظلّل عليهم الغمام ، فقالوا : هذا الظلّ فأين اللّباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ، ولا يتخرّق لهم ثوب ، فذلك قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) وقوله : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ)(٢).

[٢ / ٢٠٢٥] عن ابن إسحاق ، قال : لمّا تاب الله ـ عزوجل ـ على بني إسرائيل ، وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف من عبادة العجل ، أمر موسى أن يسير بهم إلى الأرض المقدّسة ، وقال : إنّني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلا ، فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدوّ فإنّي ناصركم عليهم. فسار بهم موسى إلى الأرض المقدّسة بأمر الله ـ عزوجل ـ حتّى إذا نزل التيه بين مصر والشام وهي أرض ليس فيها خمر (٣) ولا ظلّ ، دعا موسى ربّه حين آذاهم الحرّ ، فظلّل عليهم بالغمام ، ودعا لهم بالرزق ، فأنزل الله لهم المنّ والسلوى.

[٢ / ٢٠٢٦] وأخرج عن الربيع بن أنس قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) قال : ظلّل عليهم الغمام في التيه : تاهوا في خمسة فراسخ أو ستّة ، كلّما أصبحوا ساروا غادين ، فأمسوا فإذا هم في مكانهم الّذي ارتحلوا منه ، فكانوا كذلك حتّى مرّت أربعون سنة. قال : وهم في ذلك ينزل عليهم المنّ والسلوى ولا تبلى ثيابهم ، ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم ، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه ،

__________________

(١) المائدة ٥ : ٢٦.

(٢) البقرة ٢ : ٦٠.

(٣) الخمر : كلّ ما سترك ما شجر أو بناء أو غيره.

١٤٤

فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا.

[٢ / ٢٠٢٧] وعن إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : حدّثني عبد الصمد ، قال : سمعت وهبا يقول : إنّ بني إسرائيل لمّا حرّم الله عليهم أن يدخلوا الأرض المقدّسة أربعين سنة يتيهون في الأرض شكوا إلى موسى ، فقالوا : ما نأكل؟ فقال : إنّ الله سيأتيكم بما تأكلون. قالوا : من أين لنا إلّا أن يمطر علينا خبزا؟ قال : إنّ الله ـ عزوجل ـ سينزل عليكم خبزا مخبوزا. فكان ينزل عليهم المنّ. ـ سئل وهب : ما المنّ؟ قال : خبز الرقاق مثل الذرّة أو مثل النّقي (١) ـ قالوا : وما نأتدم ، وهل بدّلنا من لحم؟ قال : فإنّ الله يأتيكم به. فقالوا. من أين لنا إلّا أن تأتينا به الريح؟ قال : فإنّ الريح تأتيكم به ، وكانت الريح تأتيهم بالسلوى ـ فسئل وهب : ما السلوى؟ قال : طير سمين مثل الحمام كانت تأتيهم فيأخذون منه من السبت إلى السبت ـ قالوا : فما نلبس؟ قال : لا يخلق لأحد منكم ثوب أربعين سنة. قالوا : فما نحتذي؟ قال : لا ينقطع لأحدكم شسع (٢) أربعين سنة ، قالوا : فإنّ فينا أولادا فما نكسوهم؟ قال : ثوب الصغير يشبّ معه. قالوا : فمن أين لنا الماء؟ قال : يأتيكم به الله. قالوا : فمن أين؟ إلّا أن يخرج لنا من الحجر. فأمر الله ـ تبارك وتعالى ـ موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا : فبم نبصر؟ تغشّانا الظلمة. فضرب لهم عمود من نور في وسط عسكرهم أضاء عسكرهم كلّه ، قالوا : فبم نستظل؟ فإنّ الشمس علينا شديدة قال : يظلّكم الله بالغمام.

[٢ / ٢٠٢٨] وعن حجّاج ، قال : قال ابن جريج ، قال : عبد الله بن عبّاس : خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن (٣). قال : وقال ابن جريج : إن أخذ الرجل من المنّ والسلوى فوق طعام يوم فسد ، إلّا أنّهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسدا (٤).

***

وقال في تأويل قوله تعالى : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ :)

وهذا ممّا استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه ، وذلك أنّ تأويل الآية : وظلّلنا عليكم الغمام ، وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى ، وقلنا لكم : كلوا من طيّبات ما رزقناكم فترك ذكر قوله : «وقلنا لكم ...» لما بيّنّا من دلالة الظاهر في الخطاب عليه.

__________________

(١) النّقي : مخّ العظم.

(٢) الشسع : أحد سيور النعل الذي يدخل بين الأصبعين.

(٣) تدرن : تلطّخ بالوسخ.

(٤) الطبري ١ : ٤٢٢ ـ ٤٢٥.

١٤٥

وعنى ـ جلّ ذكره ـ بقوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) كلوا من مشتهيات رزقنا الذي رزقناكموه. وقيل عنى بقوله : (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) من حلاله الذي أبحناه لكم ، فجعلناه لكم رزقا.

والأوّل من القولين أولى بالتأويل لأنّه وصف ما كان القوم فيه من هنيء العيش الذي أعطاهم ، فوصف ذلك بالطيب الذي هو بمعنى اللذّة أحرى من وصفه بأنّه حلال مباح.

و «ما» التي مع «رزقناكم» بمعنى «الذي» كأنّه قيل : كلوا من طيّبات الرزق الذي رزقناكموه.

***

وقال في تأويل قوله تعالى : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) :

وهذا أيضا من الذي استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أنّ معنى الكلام : كلوا من طيّبات ما رزقناكم ، فخالفوا ما أمرناهم به ، وعصوا ربّهم ثمّ رسولنا إليهم ، وما ظلمونا. فاكتفى بما ظهر عمّا ترك. وقوله : (وَما ظَلَمُونا) يقول : وما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم ، (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). ويعني بقوله : (وَما ظَلَمُونا) : وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيّانا موضع مضرّة علينا ومنقصة لنا ، ولكنّهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرّة عليها ومنقصة لها. كما :

[٢ / ٢٠٢٩] روى أبو روق ، عن الضحّاك ، عن ابن عبّاس : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) قال : يضرّون.

وقد دلّلنا فيما مضى على أنّ أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه بما فيه الكفاية ، فأغنى ذلك عن إعادته. وكذلك ربّنا ـ جلّ ذكره ـ لا تضرّه معصية عاص ، ولا يتحيّف خزائنه ظلم ظالم ، ولا تنفعه طاعة مطيع ، ولا يزيد في ملكه عدل عادل ؛ بل نفسه يظلم الظالم ، وحظّها يبخس العاصي ، وإيّاها ينفع المطيع ، وحظّها يصيب العادل (١).

***

وهكذا روى ابن أبي حاتم قريبا ممّا رواه ابن جرير :

قال في قوله تعالى : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ :)

[٢ / ٢٠٣٠] روى القاسم بن أبي أيّوب عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال : ثمّ ظلّل عليهم في

__________________

(١) الطبري ١ : ٤٢٥ ـ ٤٢٦.

١٤٦

التيه بالغمام. قال أبو محمّد : وروي عن ابن عمر والربيع بن أنس وأبي مجلز والضحّاك والسدّي نحو قول ابن عبّاس.

[٢ / ٢٠٣١] وعن يونس بن محمّد عن سفيان عن قتادة قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) قال : كان هذا في البرّيّة ، ظلّل الغمام من الشمس. وروي عن الحسن نحو ذلك.

[٢ / ٢٠٣٢] وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) قال ليس بالسحاب ، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ، ولم يكن إلّا لهم.

[٢ / ٢٠٣٣] وعن ابن ثور عن ابن جريج : قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) قال ابن جريج : قال آخرون : هو غمام أبرد من هذا وأطيب (١).

***

وقال في قوله : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ) :

[٢ / ٢٠٣٤] روى عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد قال : «خرج إلينا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي يده كمأة فقال : أتدرون ما هذا؟ هذا من المنّ الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين».

[٢ / ٢٠٣٥] وعن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس قال : كان المنّ ينزل عليهم بالليل على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا.

[٢ / ٢٠٣٦] وعن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) قال : المنّ صمغة.

[٢ / ٢٠٣٧] وعن الحكم عن أبان عن عكرمة قال : المنّ شيء أنزله الله عليهم مثل الطلّ (٢) ، شبه الربّ الغليظ.

[٢ / ٢٠٣٨] وعن أسباط عن السّدّي : قالوا يا موسى ، فكيف لنا بما هاهنا ، أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ ، فكان يسقط على شجرة الترنجبين.

[٢ / ٢٠٣٩] وعن سعيد بن بشير عن قتادة في قول الله : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَ) قال : كان المنّ يسقط عليهم في محلّتهم سقوط الثلج ، أشدّ بياضا من اللبن وأحلى من العسل ، يسقط عليهم من طلوع

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ١١٣ / ٥٤٧ ـ ٥٥٠.

(٢) الطلّ : الندى.

١٤٧

الفجر إلى طلوع الشمس ، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك ، فإذا تعدّى ذلك فسد ولم يبق ، حتّى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه ؛ لأنّه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا لشيء يطلبه ، وهذا كلّه في البرّيّة.

[٢ / ٢٠٤٠] وعن إسماعيل بن عبد الكريم ، عن عبد الصمد بن معقل أنّه سمع وهب بن منبّه وسئل : ما المنّ؟ قال : خبز الرقاق مثل الذرّة أو مثل النّقي.

[٢ / ٢٠٤١] وعن الربيع بن أنس قال : المنّ شراب كان ينزل عليهم مثل العسل ، يمزجونه بالماء ثمّ يشربونه (١).

***

وقال في قوله : (وَالسَّلْوى) :

[٢ / ٢٠٤٢] روى قرّة بن خالد عن جهضم عن ابن عبّاس قال : السلوى هو السّمانى.

[٢ / ٢٠٤٣] وعن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس قال : السلوى طائر شبيه بالسّمانى ، كانوا يأكلون منه.

[٢ / ٢٠٤٤] وعن عمرو بن دينار عن ابن منبّه قال : سألت بنو إسرائيل موسى اللّحم فقال الله : لأطعمنّهم من أقلّ لحم يعلم في الأرض ؛ فأرسل عليهم ريحا فأذرت على مساكنهم السلوى وهو السّمانى ، مثل ميل في ميل قيد رمح في السماء ، فخبّأوا للغد فنتن اللحم وخنز الخبز ، قال أبو محمّد : وروي عن مجاهد والشعبي والضحّاك والحسن وعكرمة والربيع بن أنس نحو ممّا روى جهضم عن ابن عبّاس.

[٢ / ٢٠٤٥] وعن سعيد عن قتادة قوله : (وَالسَّلْوى) قال : كان السلوى من طير إلى الحمرة يحشرها عليهم الريح الجنوب ، فكان الرجل منهم يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك ، فإذا تعدّى فسد ولم يبق عنده ، حتّى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه ؛ لأنّه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه.

[٢ / ٢٠٤٦] وعن عبد الصمد بن معقل أنّه سمع وهب بن منبّه وسئل ما السلوى؟ قال طير سمين

__________________

(١) المصدر ١ : ١١٤ ـ ١١٥ / ٥٥١ ـ ٥٥٨.

١٤٨

مثل الحمام فكان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت.

[٢ / ٢٠٤٧] وعن عكرمة : وأمّا السلوى فطير ، كطير يكون باطنه أكبر من العصفور أو نحو ذلك.

وقال في قوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ :)

[٢ / ٢٠٤٨] روى أبو عامر الخزّاز عن الحسن في قول الله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أما إنّه لم يذكر أصفركم وأحمركم ولكنّه قال ينتهون إلى حلاله. وروى عن مقاتل بن حيّان نحو ذلك.

وفي قوله : (وَما ظَلَمُونا) :

[٢ / ٢٠٤٩] روى عمرو بن عطية عن أبيه عن ابن عبّاس في قوله : (وَما ظَلَمُونا) قال : نحن أعزّ من أن نظلم.

وفي قوله : (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) :

[٢ / ٢٠٥٠] روى أبو روق عن الضحّاك عن ابن عبّاس في قوله : (أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) قال : يضرّون.

[٢ / ٢٠٥١] وعن موسى بن إسماعيل عن مبارك عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أحد أحبّ إليه المدح من الله ، ولا أكثر معاذير من الله ، عذّب قوما بذنوبهم ، واعتذر إلى المؤمنين قال : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)» (١).

[٢ / ٢٠٥٢] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) وذلك أنّ موسى عليه‌السلام قالت له بنو إسرائيل وهم في التيه : كيف لنا بالأبنية ، وقد نزلنا في القفر ، وخرجنا من العمران ، من حرّ الشمس؟ فظلّل الله ـ عزوجل ـ عليهم الغمام الأبيض يقيهم حرّ الشمس.

قال : ثمّ إنّهم سألوا موسى عليه‌السلام الطعام فأنزل الله عليهم طعام الجنّة وهو (الْمَنَّ وَالسَّلْوى) : أمّا المنّ فهو الترنجبين ، فكان ينزل بالليل على شجرهم أبيض كالثلج حلو مثل العسل ، فيغدون عليه لكلّ إنسان صاع لكلّ ليلة ، فيغدون عليه فيأخذون ما يكفيهم ليومهم ذلك ، لكلّ رجل صاع ولا يرفعون منه في غد ، ويأخذون يوم الجمعة ليومين ، لأنّ السبت كان عندهم لا يشخصون فيه ولا يعملون. كان هذا لهم في التيه وتنبت ثيابهم مع أولادهم فأمّا الرجال فكانت ثيابهم عليهم لا تبلى ولا تنخرق ولا تدنس.

__________________

(١) المصدر ١ : ١١٥ ـ ١١٦ / ٥٥٩ ـ ٥٦٨.

١٤٩

قال وأمّا السلوى فهو الطير ، وذلك أنّ بني إسرائيل سألوا موسى اللحم ، وهم في التيه ، فسأل موسى ربّه ـ عزوجل ـ فقال الله : لأطعمنّهم أقلّ الطير لحما ، فبعث الله ـ سبحانه ـ السماء فأمطرت لهم السلوى وهي السّمانى ، وجمعتهم ريح الجنوب. وهي طير حمر تكون في طريق مصر ، فأمطرت قدر ميل في عرض الأرض ، وقدر رمح في السماء بعضه على بعض.

فقال الله ـ عزوجل ـ لهم : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ) يعني من حلال. كقوله : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) يعني حلالا طيّبا في غير مأثم وإذا وجدوا الماء فهو حرام ، فمن ثمّ قال : طيّبا يعني حلالا من (ما رَزَقْناكُمْ) من السلوى ، ولا تطغوا فيه يعني لا تعصوا الله في الرزق فيما رزقكم ولا ترفعوا منه لغد ، فرفعوا وقدّدوا مخافة أن ينفد ، ولو لم يفعلوا لدام لهم ذلك فقدّدوا منه ورفعوا ، فدوّد وتغيّر ما قدّدوا منه وما رفعوا فعصوا ربّهم ، فذلك قوله ـ سبحانه ـ : (وَما ظَلَمُونا) يعني وما ضرّونا يعني ما نقصونا من ملكنا بمعصيتهم شيئا حين رفعوا وقدّدوا منه في غد (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يعني أنفسهم يضرّون (١).

[٢ / ٢٠٥٣] وأخرج عبد الرزّاق عن معمر عن قتادة قال : كان المنّ ينزل عليهم مثل الثلج ، والسلوى طير كانت تحشوها عليهم ريح الجنوب (٢).

[٢ / ٢٠٥٤] وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) قال : هو السحاب الأبيض الذي لا ماء فيه! (٣)

[٢ / ٢٠٥٥] وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ ...) الآية. قال : كان هذا في البرّيّة ، ظلّل عليهم الغمام من الشمس ، وأطعمهم المنّ والسلوى حين برزوا إلى البرّيّة ، فكان المنّ يسقط عليهم في محلّتهم سقوط الثلج أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، فيأخذ الرجل قدر ما يكفيه يومه ذلك فإن تعدّى فسد وما يبقى عنده ، حتّى إذا كان يوم سادسه يوم جمعته ، أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه فبقي عنده ، لأنّه إذا كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشة ولا لطلب شيء ، وهذا كلّه في البرّيّة (٤).

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٢) عبد الرزّاق ١ : ٢٧١.

(٣) الدرّ ١ : ١٧٠ ؛ التبيان ١ : ٢٥٨ ، بلفظ : قيل هو ما ابيضّ من السحاب.

(٤) الدرّ ١ : ١٧١ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١١٣ ـ ١١٤ / ٥٤٨ و ٥٥٦.

١٥٠

[٢ / ٢٠٥٦] وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) قال : ليس بالسحاب ، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ولم يكن إلّا لهم (١).

[٢ / ٢٠٥٧] وروي عن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام قال : «قال الله عزوجل : (وَ) اذكروا يا بني إسرائيل إذ (ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) لمّا كنتم في التيه يصيبكم حرّ الشمس (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَ) الترنجبين كان يسقط على شجرهم فيتناولونه (وَالسَّلْوى) السمانى طير أطيب طير لحما يسترسل لهم فيصطادونه ، قال الله عزوجل لهم : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) واشكروا نعمتي» (٢).

[٢ / ٢٠٥٨] وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن أبي حاتم عن سعيد بن زيد قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الكمأة من المنّ ، وماؤها شفاء للعين».

وأخرج أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة مثله.

وأخرج النسائي من حديث جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وابن عبّاس مثله (٣).

[٢ / ٢٠٥٩] وهكذا روى ثقة الإسلام الكليني وأبو جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي بالإسناد إلى أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الكمأة من المنّ ، والمنّ من الجنّة. وماؤها

__________________

(١) الدرّ ١ : ١٧٠ ؛ الطبري ١ : ٤١٨ / بعد رقم ٨١٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١١٣ / ٥٤٩ ؛ ابن كثير ١ : ٩٨ ؛ التبيان ١ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

عن ابن عبّاس ومجاهد. بلفظ : لم يكن بالسحاب ولكنّه الذي عني في قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) وهو الغمام الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر ولم يكن لغيرهم.

(٢) تفسير الإمام : ٢٥٧ / ١٢٦ ؛ البحار ١٣ : ١٨٢ / ١٩ ، باب ٦.

(٣) الدرّ ١ : ١٧١ ؛ مسند أحمد ١ : ١٨٧ ـ ١٨٨ عن سعيد بن زيد ، و ٢ : ٣٠١ عن أبي هريرة ؛ البخاري ٥ : ١٤٨ ، كتاب التفسير ، سورة البقرة و ١٩٧ ، سورة الأعراف ؛ مسلم ٦ : ١٢٦ ، كتاب الأشربة ، باب فضل الكمأة ومداواة العين بها ؛ الترمذي ٣ : ٢٧١ / ٢١٤٧ ، أبواب الطبّ ، باب ٢١ ، عن سعيد بن زيد و ٢٧٠ ـ ٢٧١ / ٢١٤٦ ، عن أبي هريرة ؛ النسائي ٤ : ١٥٦ ـ ١٥٧ / ٦٦٦٨ عن سعيد بن زيد و ٦٦٦٩ عن ابن عبّاس و ٦٦٧٣ عن أبي هريرة و ٦٦٧٤ عن جابر ؛ ابن ماجة ٢ : ١١٤٣ / ٣٤٥٤ كتاب الأشربة ، باب ٨ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١١٤ / ٥٥١ ، بلفظ : «عن سعيد بن زيد قال : خرج إلينا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي يده كمأة فقال : أتدرون ما هذا؟ هذا من المنّ الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين» ؛ الطبري ١ : ٤٢١ ، بلفظ : «تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (وذكر الحديث) ؛ البغوي ١ : ١١٩ / ٥٤ ؛ الثعلبي ١ : ٢٠٠ ؛ ابن كثير ١ : ٩٩ ذكره بطرق مختلفة.

١٥١

شفاء للعين» (١).

[٢ / ٢٠٦٠] وروى الشيخ أبو جعفر الطوسي ـ بشأن كراهة النوم بعد صلاة الغداة ـ عن الصادق عليه‌السلام قال : «نومة الغداة مشومة تطرد الرزق وتصفرّ اللّون وتقبّحه وتغيّره. وهو نوم كلّ مشوم. إنّ الله تعالى يقسّم الأرزاق ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وإيّاكم وتلك النومة!

قال : وكان المنّ والسلوى ينزل على بني إسرائيل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، فمن نام تلك الساعة لم ينزل نصيبه. وكان إذا انتبه فلا يرى نصيبه ، احتاج إلى السؤال والطلب» (٢).

ورواه الطبرسي ملخّصا (٣).

[٢ / ٢٠٦١] وروى أبو جعفر الصدوق بالإسناد إلى أبي الحسن الرضا عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الكمأة من المنّ الذي نزل على بني إسرائيل ، وهي شفاء للعين. والعجوة التي من البرنيّ من الجنّة ، وهي شفاء من السمّ» (٤).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٣٧٠ / ٢ ، كتاب الأطعمة ، باب الكمأة ؛ المحاسن ٢ : ٥٢٧ / ٧٦١ ، باب ١٠٨ (الكمأة) ؛ البحار ٥٩ : ١٥٢ / ٢٨ ، باب ٥٦.

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ١٣٩ / ٥٤٠.

(٣) مجمع البيان ١ : ٢٢٥.

(٤) عيون أخبار الرضا ٢ : ٨٠ / ٣٤٩ ، باب ٣١ ؛ البحار ٦٣ : ١٢٧ / ٦ ، باب ٣. والكمأة معروفة ، تنبت تحت الأرض ـ في الربيع ـ لا ساق له ولا عرق كالبتاتة. يقال له : شحمة الأرض. لذيذة الطعم. والعجوة : ضرب من أجود تمر المدينة يضرب إلى السواد. قال ابن الأثير : وفي الحديث : «العجوة من الجنّة» ويقال : إنّه من غرس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والبرنيّ : ضرب من التمر أحمر مشرب بصفرة كثير اللحاء عذب الحلاوة.

وبما أنّ العجوة والبرنيّ قريبان ، جعل الإمام عليه‌السلام العجوة التي هي من نوع البرنيّ نازلا من الجنّة وكان فيها الشفاء من السمّ.

روى ابن الشيخ بالإسناد إلى عامر بن سعد بن أبي وقّاص عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تصبّح بسبع تمرات من عجوة لم يضرّه ذلك اليوم سمّ ولا سحر». (أمالي الطوسي ، المجلس ١٤ ، الحديث ٢٤) وترتيب الأمالي ٦ : ١٤٢ ـ ١٤٣ / ٢٧٨٨ ـ ٢.

١٥٢

قال تعالى :

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩))

هنا وقفة أخرى مع بني إسرائيل من مواضعهم التعنّتيّة وملؤها الانحراف والعصيان والجحود ، ونكران ما أنعم الله عليهم من كبير فضل وعناية.

يمضي السياق في مواجهتهم هذه : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ)

والقرية هذه هي مدينة «حبرون» (١) وكانت عامرة : زاهية بثمارها ولا سيّما العنب والزيتون. وبصناعتها واشتهرت بصناعة الزجاج. وهي من أقدم مدن العالم ، سكنها إبراهيم الخليل عليه‌السلام وفيها مقبرته ومقبرة ذويه وعرفت باسم الخليل (٢) ، تقع على بعد ٢٠ ميلا من القدس الشريف.

وكانت ذات أسوار وأبواب وحصون منيعة ، تحرسها رجال أقوياء ، منهم العمالقة أصحاب الأجسام الضخام.

والقرية اسم لمجموعة سكن مبنيّة بعضها إلى جنب البعض ، من القري وهو الجمع. وتطلق على صغار المدن وكبارها ، كما أريد به هنا. بدليل قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ) أي باب المدينة. وفي القرآن إطلاق القرية على مكّة وعلى مصر وعلى غيرهما من مدن عامرة وآهلة.

__________________

(١) حسبما استظهره ابن عاشور في التحرير والتنوير ١ : ٤٩٦ و ٤٩٧. وسيأتي كلامه.

(٢) جاء في قاموس الكتاب المقدّس ص ٣١٠ : تدعى اليوم بحبرون الخليل أو حبرون الزاهرة ، على بعد ٢٠ ميلا جنوبي أورشليم. و ١٠٠ ميل من الناصرة.

قلت : ولعلّ التسمية بحبرون ـ بناء على اشتراك اللغتين العبريّة والعربيّة في أصول الكلمات ـ جاءت من قبل المعنى ، حيث يقال : أحبرت الأرض ، كثر نباتها. وحبره : زيّنه. وشّاه.

قال تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) (الزخرف ٤٣ : ٧٠) أي يفرحون يظهر عليهم حبار نعيمهم أي أثره المبتهج.

١٥٣

ويبدو أنّ القرية كانت قريبة (١) من مرتحلهم آنذاك ، وهم في برّيّة «فاران» حيث نزلوا بمدينة «قادش» مشرفين على أرض كنعان التي هي الأرض المقدّسة التي وعدها الله بني إسرائيل ، مذ خرجوا من مصر ، وقد مضت سنة وهم في غضون السنة الثانية من ترحالهم هذا.

وعنذ ذاك جاء الأمر من عنده تعالى لموسى عليه‌السلام : أن ابعث اثني عشر رجلا يتجسّسون أرض كنعان ويدخلون أولى وأزهر مدينة منها : حبرون ، الآهلة بالسكّان والعامرة بوفور النعم. فبعث موسى من كلّ قبيلة رجلا يتجسّسون الأخبار (٢) وقال لهم : اصعدوا إلى الجبل ، وانظروا الأرض ما هي وما سكّانها وتأكّدوا من عددهم وعدّتهم ، وكذلك انظروا في ثمرات الأرض وبركاتها .. فصعدوا إلى الجبل وأتوا إلى حبرون وجمعوا الأخبار ورجعوا بعد أربعين يوما ، يحملون أخبارا عن ثمرات الأرض وعوائدها ، وشيئا من قوّة رجالها ومناعة حصونها ، الأمر الذي هابه القوم ، لو لا أنّ كالبا ويوشع أخذا يخفّفان من هولهم ويثبتان من عزيمتهم على الاستقامة ، وأنّهم سوف يغلبونهم بحوله تعالى وقوّته. وقد وعدهم الله ذلك.

أمّا البقيّة (العشرة) فجعلوا يبالغون في تهويل القوم والحديث عن مقدرة رجال المدينة الجبّارة وفيهم العمالقة بنو العناق ، ذوو الأجسام الضخام ، كما أخذوا يزهّدون القوم ويستقلّون من ثمرات الأرض وضحالة عوائدها ، بما كاد يثبّط من عزيمة القوم وتخوير قواهم.

فتذمّر القوم وتندّموا عن مغادرة مصر ذات النعم الوفيرة ، وأخذوا يتمرّدون عن أوامر موسى ، فاحتار موسى في أمره وكاد يأخذه الغضب.

وهنا نزل العذاب المفاجئ (٣) بأولئك المثبّطين العشرة ، فماتوا لفورهم ، إذ كانوا قد بدّلوا القول ، فبدلا من أن يشجّعوا القوم ويرغّبوهم في القيام والجهاد ، وأنّ الظفر حليفهم ماداموا على الإيمان ،

__________________

(١) حيث الإشارة إليها ب «هذه» المفيدة للقرب. وقد كان بينهم وبينها ما يقرب من ستّين ميلا ، حيث كانوا نزلوا في مدينة قادش من برّيّة فاران. وبرّيّة فاران تقع في شرقيّ وادي سيناء بين برّيّة شور وبرّيّة سين. ومدينة قادش تقع في منتهى برّيّة فاران نحو الأرض المقدّسة ، بينها وبين أولى مدينة عامرة من أرض كنعان المقدّسة ما يقرب من ستّين ميلا.

(٢) جاءت أساميهم في سفر العدد (١ : ١٣) : يوشع ، كالب ، شموع ، شافاط ، يجال ، فلطي ، جدى ئيل ، جدى ، عمي ئيل ، ستور ، نحبي ، جاوئيل.

(٣) جاء في سفر العدد ١٤ : ٣٦ ـ ٣٨ : أهلكهم الوباء ، وهو كلّ مرض متفشّ سريع الإهلاك.

١٥٤

كما لهم الحظّ الأوفر من خيرات البلد وبركاته ، جعلوا يجبّنونهم ويزهّدونهم في أمر القيام.

وهكذا كانت عقوبة القوم في تزمّرهم وتمرّدهم أن تاهوا في برّيّة فاران أربعين سنة يتيهون في الأرض وهم على مشارف الأرض الموعودة (١).

وكما جاء في سورة المائدة : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ. قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ)(٢).

***

هذا ، وللمفسّرين في تعيين هذه القرية ـ التي أمر بنو إسرائيل أن يدخلوها وهم على مشارف الأرض المقدّسة ، والتي كانت عامرة وزاهرة حينذاك ـ أقوال وآراء :

فمن قائل : إنّها «أريحا» (٣) مدينة قديمة من بلاد فلسطين ، بنيت منذ العصر الحجري وقد اتّخذها الكنعانيّون مساكنهم فيها منذ عهد بعيد.

وهذه المدينة واقعة في الشمال الشرقيّ من أورشليم بمسافة ١٥ ميلا وبينها وبين الأردن ٥ أميال.

وهي وإن كانت زاهية وعامرة حينذاك ، غير أنّها تقع في الضفة المقابلة لمسيرة بني إسرائيل المتّجهة نحو القدس.

وقيل : هي إيلياء (٤) ، اسم مدينة بيت المقدس. قيل : معناه بيت الله. وحكى الحفصي فيه القصر.

__________________

(١) راجع : سفر العدد : ١٣ ـ ١٤. وسفر التثنية ١ : ١٩ ـ ٤٦ و ٢ : ١ ـ ٢.

(٢) المائدة ٥ : ٢١ ـ ٢٦.

(٣) برواية الطبري (١ : ٤٢٦) عن أبي وهب عن عبد الرحمان بن زيد بن أسلم.

(٤) تفسير مقاتل ١ : ١٠٩.

١٥٥

وفيه لغة ثالثة : إلياء.

قال الفرزدق :

وبيتان بيت الله نحن ولاتها

وقصر بأعلى إيليا مشرّف

قيل : إنّما سمّيت إيلياء باسم بانيها وهو إيلياء بن أرم بن سام بن نوح (١).

ومن ثمّ صرّح آخرون بأنّها القدس الشريف (٢). غير أنّها ليست بتلك المثابة التي جاء وصفها في التوراة : (تفيض لبنا وعسلا) وفي القرآن : (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً).

وقيل : هي البلقاء ، كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادى القرى ، قصبتها عمّان وفيها قرى كثيرة ومزارع واسعة ، وبجودة حنطتها يضرب المثل .. قال ياقوت : ومن البلقاء : قرية الجبّارين التي أراد الله تعالى بقوله : (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ)(٣).

والبلقاء ـ اليوم ـ محافظة في المملكة الأردنيّة الهاشميّة ، قاعدتها مدينة السّلط ، مشهورة بالبساتين والكروم والحبوب يضرب المثل بجودة حنطتها.

وقيل : هي الرملة والأردن وفلسطين وتدمر ، أي جميعا. يعني : الهلال الخصيب ، وهو حدس لا بأس به.

***

وبعد فإليك الآن سياق الآية تطابقا مع الوصف المتقدّم :

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) حبرون المفاضة بالخير والبركات (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ) أي اقتحموا المدينة بقوّة الملك الجبّار ولا تخافوا الجبّارين (سُجَّداً) أي حال كونكم خاضعين لله وشاكرين لأنعمه التي حباكم بها ، وأظفركم على أعدائكم.

(وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي استغفروا لذنوبكم وعمّا جرحتم من تمرّد وعصيان. (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) ما فرط منكم من آثام. (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) حيث الشكر يوجب ازدياد النعم.

والأمر بالسجود والاستغفار هنا يعني الابتهاج بنعم الله وفيض آلائه ، فلا يرو عنهم سوى

__________________

(١) معجم البلدان ١ : ٢٩٣.

(٢) رواه الثعلبي (١ : ٢٠١) عن مجاهد.

(٣) معجم البلدان ١ : ٤٨٩.

١٥٦

قدرة الله العزيز الجبّار ، الأمر الذي كان يبعثهم على الجرأة والشجاعة والإقدام ، وغير مهابين من أحد ولا خائفين من شيء.

هذا الأمر كان في بدء الأمر موجّها إلى العيون الاثني عشر الّذين بعثهم موسى لغرض الاستطلاع واستخبار الحال ، ليعودوا بالبشائر والترغيب في المكافحة والنضال. الأمر الذي وفى به اثنان منهم وهما : يوشع وكالب. فجعلا يحرّضان القوم ويشجّعانهم على الجرءة والقيام.

أمّا العشرة الباقية فعاكسوا الدستور وجعلوا يجبّنون القوم ويثبّطونهم. وبدلا من أن يذكروا وفور النعم وفيض بركاتها ، جعلوا يزهّدونهم فيها باستقلالها والاستهانة بها.

كما أنّهم بدلا من أن يذكروا الثغرات المؤاتية لإمكان الظفر على القوم ، جعلوا يصفون من قوّة القوم وشكيمتهم ، بما كاد يهول بني إسرائيل ويوجب إحجامهم عن القيام والإقدام.

وهذا معنى قوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ). أي بدلا من أن يذكروا ما يثبّت عزيمة القوم ، ذكروا ما يثبّطهم.

(فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم العشرة المتخلّفة (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ).

والرّجز : العذاب. قال الخليل : وكلّ عذاب أنزل على قوم فهو رجز (١).

قال أبو إسحاق : ومعنى الرّجز في القرآن هو العذاب المقلقل ، لشدّته ، وله قلقلة شديدة متتابعة (٢). أي البلاء النازل المورث للاضطراب المتتابع حتّى الهلاك. ومن ثمّ فسّروه بالوباء أو الطاعون من الأوبئة التي توجب اضطرابا متتابعا ، وتسريعا إلى الهلاك.

وخصّ بالذين ظلموا ـ ولم يعمّ القوم ـ لأنّ الّذين بدّلوا القول هم العشرة المتخلّفة المثبّطة للقوم.

***

هذا وأمّا الروايات الواردة بشأن هذا الحادث الخطير ، فأكثرها مشوّهة ومشوّشة إلى حدّ بعيد. ويبدو أنّها من مصطنعات اليهود وعامّيّاتهم الشائعة ، تسرّبت إلى التفسير والتاريخ (٣). وليس فيها

__________________

(١) العين ٦ : ٦٦.

(٢) لسان العرب ٥ : ٣٥٢.

(٣) كما قال العلّامة ابن خلدون : كانت العرب يراجع أهل الكتاب قبلهم ، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبعهم من حمير ،

١٥٧

حديث مرفوع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوى رواية واحدة رواها أبو هريرة ـ حسبما يأتي ـ ولعلّه رفعها ذهولا ، كما عرف من دأبه كان أحيانا ، ينسب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما سمعه من كعب وغيره ، وربما كان عن غفلة وذهول (١).

وبعد إليك ما ذكره كبار المفسّرين القدامى :

قال أبو جعفر الطبري :

والقرية التي أمرهم الله ـ جلّ ثناؤه ـ أن يدخلوها ، فيأكلوا منها رغدا حيث شاؤوا فيما ذكر لنا : بيت المقدس. ذكر الرواية بذلك :

[٢ / ٢٠٦٢] روى عبد الرزّاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) قال : بيت المقدس.

[٢ / ٢٠٦٣] وروى أسباط ، عن السدّي : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) أمّا القرية فقرية بيت المقدس.

[٢ / ٢٠٦٤] وروي عن الربيع : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) يعني بيت المقدس.

[٢ / ٢٠٦٥] وروى ابن وهب عن ابن زيد في قوله : (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها) قال : هي أريحا ، وهي قريبة من بيت المقدس (٢).

وهكذا ذكر ابن أبي حاتم قال :

[٢ / ٢٠٦٦] روى معمر عن قتادة (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) قال : بيت المقدس.

وروي عن الربيع بن أنس والسدّي نحو ذلك (٣).

[٢ / ٢٠٦٧] وروى أبو إسحاق الثعلبي عن ابن عبّاس ، قال : هي أريحا وهي قرية الجبّارين وكان

__________________

وهم يومئذ بادية مثلهم لا يعرفون سوى العامّيّات الشائعة وأكثرها خرافات وأساطير بائدة! قال : وتساهل المفسّرون فدبّجوا كتبهم بهذه المنقولات العامّيّة يرويها أناس لا علم لهم ولا معرفة ولا تحقيق بمعرفة ما ينقلونه ، أمثال كعب الأحبار وعبد الله ابن سلام وتميم الداري وأشباههم. فمن ذلك جاءت البليّة في كتب التفسير والحديث. (المقدّمة : ٤٣٩ ـ ٤٤٠).

(١) راجع ما كتبناه بهذا الشأن في «الجزء العاشر من التمهيد» : ١٠٤. وراجع أيضا : الأضواء لأبي ريّة : ٢٠٢ ـ ٢٠٦.

(٢) الطبري ١ : ٤٢٦.

(٣) ابن أبي حاتم ١ : ١١٦ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٧١ / ٥٦.

١٥٨

فيها قوم من بقيّة عاد يقال لهم العمالقة ورأسهم عوج بن عناق. وقيل : هي بلقاء. وقال ابن كيسان : هي الشام.

[٢ / ٢٠٦٨] وقال الضحّاك : هي الرّملة والأردن وفلسطين وتدمر.

[٢ / ٢٠٦٩] وقال مجاهد : بيت المقدس.

[٢ / ٢٠٧٠] وقال مقاتل : إيلياء (١).

[٢ / ٢٠٧١] وقال مقاتل بن سليمان : وهم يومئذ من وراء البحر (٢).

***

قال أبو جعفر في قوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) : يعني بذلك : فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشا هنيّا واسعا بغير حساب. قال : وقد بيّنّا معنى الرغد فيما مضى من كتابنا ، وذكرنا أقوال أهل التأويل فيه (٣).

[٢ / ٢٠٧٢] وروى ابن أبى حاتم بإسناده عن مجاهد (٤) في قوله (رَغَداً) قال : لا حساب عليهم.

[٢ / ٢٠٧٣] وروى عن السدّي في قوله : (رَغَداً) قال : الهنيء (٥).

[٢ / ٢٠٧٤] وقال مقاتل بن سليمان : يعني : ما شئتم وإذ شئتم وحيث شئتم. (٦)

[٢ / ٢٠٧٥] وقال أبو إسحاق الثعلبي : (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) : موسّعا عليكم. (وَادْخُلُوا الْبابَ) يعني بابا من أبواب القرية وكان لها سبعة أبواب. (سُجَّداً) منحنين متواضعين. وأصل السجود الخضوع.

قال الشاعر :

بجمع تضلّ البلق في حجراته

ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر (٧)

وقال وهب : قيل لهم ادخلوا الباب ، فاذا دخلتموه فاسجدوا شكرا لله عزوجل ، وذلك أنّهم

__________________

(١) الثعلبي ١ : ٢٠١.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١٠٩.

(٣) الطبري ١ : ٤٢٦.

(٤) تفسير مجاهد ١ : ٧٦.

(٥) ابن أبي حاتم ١ : ١١٧.

(٦) تفسير مقاتل ١ : ١٠٩.

(٧) سيأتي شرح البيت عند ذكر كلام الطبري.

١٥٩

أذنبوا بإبائهم دخول أريحا ، فلمّا فصلوا من التيه أحبّ الله ـ عزوجل ـ أن يستنقذهم من الخطيئة.

[٢ / ٢٠٧٦] وفي قوله تعالى : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) قال قتادة : حطّ عنّا خطايانا وهو أمر بالاستغفار.

[٢ / ٢٠٧٧] وقال ابن عبّاس : يعني : لا إله إلّا الله ؛ لأنّها تحطّ الذنوب.

وهي رفع على الحكاية في قول أبي عبيدة. وقال الزجاج : مسألتنا حطّة (أي رفع على كونه خبرا عن مبتدء مقدّر).

(نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) وقرأ أهل المدينة بياء مضمومة وأهل الشام بتاء مضمومة. (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) إحسانا وثوابا. (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالمعصية ، وقيل كفروا.

[٢ / ٢٠٧٨] وقال مجاهد : طؤطىء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم ، فلم يخفضوا ولم يركعوا ولم يسجدوا ، فدخلوا يزحفون على أستاههم.

(قَوْلاً) يعني وقالوا قولا (غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) وذلك إنّهم أمروا أن يقولوا (حِطَّةٌ) فقالوا : حطانا سمقاثا. يعنون حنطة حمراء ، استخفافا بأمر الله.

(فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً) عذابا (مِنَ السَّماءِ) وذلك أنّ الله تعالى أرسل عليهم ظلمة وطاعونا فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفا.

(بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) يعني يلعبون ويخرجون من أمر الله عزوجل (١).

[٢ / ٢٠٧٩] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) يعني باب إيلياء سجّدا فدخلوا متحرّفين على شقّ وجوههم (٢).

[٢ / ٢٠٨٠] وقال الحسن البصري : أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم (٣).

***

قال أبو جعفر الطبري : أما الباب الذي أمروا أن يدخلوه ، فإنّه قيل : هو باب الحطّة من بيت المقدس. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٢٠٨١] روي عن مجاهد في قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) قال : باب الحطّة من باب إيلياء من

__________________

(١) الثعلبي ١ : ٢٠١ ـ ٢٠٢.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ١١٠.

(٣) ابن كثير ١ : ١٠٢.

١٦٠