التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

وهل كان الفرزدق غير قرد

أصابته الصواعق فاستدارا (١)

فقد علم أنّ موسى لم يكن حين غشي عليه وصعق ميّتا ؛ لأنّ الله ـ جلّ وعزّ ـ أخبر عنه أنّه لمّا أفاق قال : (تُبْتُ إِلَيْكَ)(٢). ولا شبّه جرير الفرزدق وهو حيّ بالقرد ميّتا ، ولكن معنى ذلك ما وصفنا.

ويعني بقوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) : وأنتم تنظرون إلى الصاعقة التي أصابتكم ، يقول : أخذتكم الصاعقة عيانا جهارا وأنتم تنظرون إليها (٣).

وقال في تأويل قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

يعني بقوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) ثمّ أحييناكم. وأصل البعث : إثارة الشيء من محلّه ، ومنه قيل : بعث فلان راحلته : إذا أثارها من مبركها للسير ، كما قال الشاعر :

فأبعثها وهي صنيع حول

كركن الرعن ذعلبة وقاحا (٤)

والرعن : منقطع أنف الجبل ، والذعلبة : الخفيفة ، والوقاح ، الشديدة الحافر أو الخفّ. ومن ذلك قيل : بعثت فلانا لحاجتي : إذا أقمته من مكانه الذي هو فيه للتوجّه فيها.

ومن ذلك قيل ليوم القيامة : يوم البعث ، لأنّه يوم يثار الناس فيه من قبورهم لموقف الحساب.

ويعني قوله : (مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) من بعد موتكم بالصاعقة التي أهلكتكم.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يقول : فعلنا بكم ذلك لتشكروني على ما أوليتكم من نعمتي عليكم بإحيائي إيّاكم استبقاء منّي لكم لتراجعوا التوبة من عظيم ذنبكم بعد إحلالي العقوبة بكم بالصاعقة التي أحللتها بكم ، فأماتتكم بعظيم خطئكم الذي كان منكم فيما بينكم وبين ربّكم.

وهذا القول على تأويل من تأوّل قوله قول (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) ثمّ أحييناكم.

__________________

(١) ديوانه (ص ٢٠٩) من قصيدة أوّلها :

ألا حيّ الديار بسعد إنّي

أحب لحبّ فاطمة الديارا

وبعد البيت الذي ذكره الطبري :

وكنت إذا حللت بدار قوم

رحلت بخزية وتركت عارا

وقوله : «استدار» يعني تحوّل إنسانا بعد أن كان قردا.

(٢) الأعراف ٧ : ١٤٣.

(٣) الطبري ١ : ٤١٢ ـ ٤١٤.

(٤) أبعثها : يعني ناقته. وصنيع حول : يعني رعت حولا حتّى سمنت.

١٢١

وقال آخرون :

[٢ / ١٩٥٣] معنى قوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) أي بعثناكم أنبياء. حدّثني بذلك موسى بن هارون بإسناده عن السدّي.

قال أبو جعفر : وتأويل الكلام على ما تأوّله السدّي : فأخذتكم الصاعقة ، ثمّ أحييناكم من بعد موتكم ، وأنتم تنظرون إلى إحيائنا إيّاكم من بعد موتكم ، ثمّ بعثناكم أنبياء لعلّكم تشكرون. وزعم السدّي أنّ ذلك من المقدّم الذي معناه التأخير ، والمؤخّر الذي معناه التقديم.

وهذا تأويل يدلّ ظاهر التلاوة على خلافه مع إجماع أهل التأويل على تخطئته. والواجب على تأويل السدّي الذي حكيناه عنه أن يكون معنى قوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تشكروني على تصييري إيّاكم أنبياء (١).

[٢ / ١٩٥٤] وعن قتادة في قوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) قال : أخذتهم الصاعقة ، ثمّ بعثهم الله تعالى ليكملوا بقيّة آجالهم (٢).

[٢ / ١٩٥٥] وعن الربيع بن أنس في قوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) قال : هم السبعون الّذين اختارهم موسى فساروا معه. قال : فسمعوا كلاما ، فقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) قال : فسمعوا صوتا فصعقوا. يقول : ماتوا. فذلك قوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) فبعثوا من بعد موتهم ؛ لأنّ موتهم ذاك كان عقوبة لهم ، فبعثوا لبقيّة آجالهم (٣).

***

ولأبي جعفر الطبري هنا روايات لا تخلو من تشويش واضطراب في المتن نذكرها كما يلي :

[٢ / ١٩٥٦] روى بإسناده عن محمّد بن إسحاق ، قال : لمّا رجع موسى إلى قومه ، ورأى ما هم فيه من عبادة العجل ، وقال لأخيه وللسامريّ ما قال ، وحرّق العجل وذرّأه في اليمّ ؛ اختار موسى منهم سبعين رجلا الخيّر فالخيّر ، وقال : انطلقوا إلى الله ـ عزوجل ـ فتوبوا إليه ممّا صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا وتطهّروا وطهّروا ثيابكم! فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقّته له ربّه ، وكان لا يأتيه إلّا بإذن منه وعلم. فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما

__________________

(١) تقدّم الحديثان. الطبري ١ : ٤١٥.

(٢) الطبري ١ : ٤١٨ / ٨٠٩.

(٣) المصدر.

١٢٢

أمرهم به وخرجوا للقاء الله : يا موسى اطلب لنا إلى ربّك لنسمع كلام ربّنا! فقال : أفعل. فلمّا دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتّى تغشّى الجبل كلّه ، ودنا موسى فدخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا. وكان موسى إذا كلّمه ربّه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه ، فضرب دونه الحجاب. ودنا القوم حتّى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا ، فسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه : افعل ولا تفعل. فلمّا فرغ من أمره وانكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا لموسى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً. فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ)(١) وهي الصاعقة فماتوا جميعا. وقام موسى يناشد ربّه ويدعوه ، ويرغب إليه ويقول : (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ)(٢) وقد سفهوا ، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما تفعل السفهاء منّا؟ أي أنّ هذا لهم هلاك ، اخترت منهم سبعين رجلا ، الخيّر فالخيّر ارجع إليهم ، وليس معي منهم رجل واحد ، فما الذي يصدّقوني به أو يأمنوني عليه بعد هذا؟ (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ)(٣). فلم يزل موسى يناشد ربّه ـ عزوجل ـ ويطلب إليه ، حتّى ردّ إليهم أرواحهم ، فطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل ، فقال : لا ، إلّا أن يقتلوا أنفسهم (٤).

[٢ / ١٩٥٧] وعن السدّي : لمّا تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل ، وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به ، أمر الله تعالى موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ، ووعدهم موعدا ، فاختار موسى من قومه سبعين رجلا على عينه ، ثمّ ذهب بهم ليعتذروا. فلمّا أتوا ذلك المكان قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) فإنّك قد كلّمته فأرناه. فأخذتهم الصاعقة فماتوا ، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : ربّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا)(٥). فأوحى الله إلى موسى : إنّ هؤلاء السبعين ممّن اتخذ العجل ، فذلك حين يقول موسى : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ. وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٥٥.

(٢) الأعراف ٧ : ١٥٥.

(٣) الأعراف ٧ : ١٥٦.

(٤) الطبري ١ : ٤١٦ / ٨٠٦.

(٥) الأعراف ٧ : ١٥٥.

١٢٣

وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ)(١) وذلك قوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ.) ثمّ إنّ الله ـ جلّ ثناؤه ـ أحياهم ، فقاموا رجلا رجلا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون ، فقالوا : يا موسى أنت تدعو الله فلا تسأله شيئا إلّا أعطاك ، فادعه يجعلنا أنبياء! فدعا الله تعالى ، فجعلهم أنبياء ، فذلك قوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ)(٢).

[٢ / ١٩٥٨] وعن ابن زيد ، قال : قال لهم موسى لمّا رجع من عند ربّه بالألواح ، قد كتب فيها التوراة فوجدهم يعبدون العجل ، فأمرهم بقتل أنفسهم ، ففعلوا ، فتاب الله عليهم ، فقال : إنّ هذه الألواح فيها كتاب الله فيه أمره الذي أمركم به ، ونهيه الذي نهاكم عنه. فقالوا : ومن يأخذ بقولك أنت؟ لا والله حتّى نرى الله جهرة ، حتّى يطلع الله علينا فيقول : هذا كتابي فخذوه! فما له لا يكلّمنا كما يكلّمك أنت يا موسى؟ فيقول : هذا كتابي فخذوه! وقرأ قول الله تعالى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) قال :

فجاءت غضبة من الله ـ عزوجل ـ فجاءتهم صاعقة بعد التوبة ، فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال : ثمّ أحياهم الله من بعد موتهم ، وقرأ قول الله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فقال لهم موسى : خذوا كتاب الله! فقالوا : لا ، فقال : أيّ شيء أصابكم؟ قالوا : أصابنا أنّا متنا ثمّ حيينا. قال : خذوا كتاب الله! قالوا : لا. فبعث الله تعالى ملائكة ، فنتقت الجبل فوقهم (٣).

وهكذا روى ابن أبي حاتم ما يقارب روايات أبي جعفر.

[٢ / ١٩٥٩] فروى بالإسناد إلى عبّاد بن إسحاق عن أبي الحويرث عن ابن عبّاس أنّه قال في قول الله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) : أي علانية ، أي حتّى نرى الله!

[٢ / ١٩٦٠] وعن قتادة في قول الله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) أي عيانا. قال أبو محمّد : وكذا فسّره الربيع بن أنس : عيانا.

[٢ / ١٩٦١] وعن محمّد بن شعيب بن شابور قال سمعت عدوة بن رويم يقول : سأل بنو إسرائيل موسى فقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) فأخبرهم أنّهم لن يطيقوا ذلك ، فأبوا ، فسمعوا من كلام الله فصعق بعضهم وبعض ينظرون ، ثمّ بعث هؤلاء وصعق هؤلاء ..

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٥٦.

(٢) الطبري ١ : ٤١٦ ـ ٤١٧ / ٨٠٧.

(٣) المصدر : ٤١٧ / ٨٠٨.

١٢٤

قال : والسياق لمحمد (١).

[٢ / ١٩٦٢] وعن السدّي : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) فماتوا. فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : ربّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) فأوحى الله إلى موسى أنّ هؤلاء السبعين ممّن اتّخذوا العجل! ثمّ إنّ الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجلا رجلا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون. قال : فذلك قوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ)(٢).

[٢ / ١٩٦٣] وقال : في حديث عيسى بن يونس : ثمّ بعث الّذين صعقوا ، وصعق الآخرون ، ثمّ بعثوا ، فقال الله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).

[٢ / ١٩٦٤] وبإسناده عن قتادة في قوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) قال : أخذتهم الصاعقة أي ماتوا.

[٢ / ١٩٦٥] وعن الربيع بن أنس في قوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) قال : هم السبعون الّذين اختارهم موسى فساروا معه. قال : فسمعوا كلاما فقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) قال : فسمعوا صوتا فصعقوا ، يقول ماتوا.

[٢ / ١٩٦٦] وعن السدّي : قوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) والصاعقة نار.

[٢ / ١٩٦٧] وعن ابن محيصن عن أبيه قال : رأيت مروان بن الحكم على منبر مكّة فسمعته يقول وهو يخطب : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) والصاعقة من السماء ، صيحة من السماء.

[٢ / ١٩٦٨] وعن محمّد بن شعيب بن شابور قال سمعت عروة بن رويم يقول : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) قال : فصعق بعضكم وبعض ينظرون.

[٢ / ١٩٦٩] وعن قتادة : قوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ثمّ بعثهم الله ليكملوا بقيّة آجالهم.

[٢ / ١٩٧٠] وعن الربيع بن أنس : قوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) فبعثوا من بعد موتهم ؛ لأنّ

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ١١١ / ٥٣٤ ـ ٥٣٦.

(٢) المصدر : ١١٣ / ٥٤٥.

١٢٥

موتهم ذلك كان عقوبة لهم فبعثوا من بعد الموت ليوفوا آجالهم (١).

***

وعلى غرارهما مشى الثعلبي في تفسيره للآيات ، قال في قوله تعالى :

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) الآية : وذلك أنّ الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ، فاختار سبعين رجلا من خيارهم ، وقال لهم : صوموا وتطهّروا وطهّروا ثيابكم ، ففعلوا ذلك ، فخرج بهم موسى إلى طور سيناء لميقات ربّه ، فلمّا وصل ذلك الموضع قالوا : اطلب لنا نسمع كلام ربّنا ، فقال : أفعل ، فلمّا دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام وتغشّى الجبل كلّه فدخل في الغمام وقال للقوم : ادنوا ، وكان موسى إذا كلّمه ربّه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد أن ينظر إليه ، فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتّى دخلوا في الغمام وخرّوا سجّدا ، وسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه ، وأسمعهم الله تعالى : إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا ذو بكّة (٢) أخرجتكم من أرض مصر فاعبدوني ولا تعبدوا غيري. فلمّا فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل إليهم ، فقالوا له : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) : (معاينة. وذلك أنّ العرب تجعل العلم بالقلب رؤية ، فقال : جهرة ، ليعلم أنّ المراد منه العيان) (٣).

(فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) وهي نار جاءت من السماء فأحرقتهم جميعا.

وقال وهب : أرسل الله عزوجل عليهم جندا من السماء فلمّا سمعوا بحسّها ماتوا يوما وليلة. والصاعقة : المهلكة ، فذلك قوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ) لن نصدّقك (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً).

قرأه العامّة بجزم الهاء ، وقرأ ابن عبّاس : «جهرة» بفتح الهاء ، وهما لغتان مثل زهرة وزهرة.

(جَهْرَةً) أي معاينة بلا ساتر بيننا وبينه ، وأصل الجهر من الكشف. قال الشاعر :

يجهر أجواف المياه السّدّم (٤)

(فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) قرأ عمر وعثمان وعليّ : «الصعقة» بغير ألف ، وقرأ الباقون (الصَّاعِقَةُ) بالألف وهما لغتان.

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ١١٢ / ٥٣٧ ـ ٥٤٤. وهكذا ورد في تفسير عبد الرزّاق : «ليكملوا بقيّة آجالهم» (١ : ٢٧٠ / ٥٣.

(٢) أي ذو قوّة.

(٣) التكميل من البغوي ١ : ١١٩.

(٤) والسدّم : المندفن تحت الأرض.

١٢٦

(وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) وذلك أنّهم لمّا هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرّع ويقول : يا ربّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم ولو شئت أهلكتهم من قبل ، ويا ربّي (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) فلم يزل يناشد ربّه حتّى أحياهم الله تعالى جميعا رجلا بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون ، فذلك قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) أحييناكم (مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) لتستوفوا بقيّة آجالكم وأرزاقكم ، وأصل البعث : إثارة الشيء من مكمنه يقال : بعثت البعير وبعثت النائم فانبعث (١).

***

[٢ / ١٩٧١] وقال مقاتل بن سليمان : ثمّ أنعم الله عليهم فبعثهم وذلك أنّهم لمّا صعقوا قام موسى يبكي وظنّ أنّهم إنّما صعقوا بخطيئة أصحاب العجل فقال : (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) وقال : يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقد أهلكت أحبارهم! فبعثهم الله ـ عزوجل ـ لما وجد موسى من أمرهم (٢). فذلك قوله ـ سبحانه ـ : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يقول لكي تشكروا ربّكم في هذه النعمة ، فبعثوا يوم ماتوا (٣).

ثمّ يذكر حديث رجوع موسى مع السبعين إلى قومه ليجدهم قد اتّخذوا العجل وعتوا عن أمر ربّهم. وقد تقدّم ذلك ، الأمر الذي يناقض ما أورده الطبري وابن أبي حاتم والثعلبي هنا من كون الخروج بالسبعين كان بعد وقعة العجل. ولعلّنا نعالج هذا الجانب في فصل قادم.

هل يصحّ التكليف بعد الرجعة؟

قد يستشكل التكليف بشأن من بعثه الله بعد موته ، وعاين ما يلجؤه إلى معرفته تعالى ، إذ لا تكليف بعد كمال المعرفة!

قال الشيخ : وهل يجوز أن يردّ الله أحدا إلى التكليف بعد أن مات وعاين ما يضطرّه إلى معرفته بالله؟

__________________

(١) الثعلبي ١ : ١١٩ ـ ٢٠٠.

(٢) أي حزن.

(٣) تفسير مقاتل ١ : ١٠٥.

١٢٧

قال : في ذلك خلاف ؛ قال أبو عليّ : لا يجوز ذلك إلّا على من لم يضطرّه الله إلى معرفته. وقال بعضهم : يجوز التكليف في الحكمة ، وإن اضطرّ إلى المعرفة. قال : وقول أبي عليّ أقوى.

قال : وأعلّ الرمّانيّ (١) قول أبي عليّ الجبّائيّ ، قال : لمّا كان الشكر على النعمة يجب في المشاهد ، مع الضرورة إلى معرفة المنعم ، كان الشكر للنعمة (٢) التي هي أجلّ من نعمة كلّ منعم في الشاهد أولى أن تجب مع الاضطرار إلى المعرفة (٣).

ووجه القول الأوّل : أنّ الغرض من الطاعات لمّا كان هي المعرفة ، فلو حصلت ارتفع الغرض فارتفع التابع له. كما أنّ الغرض من الشرائع هو الاستصلاح في الأصول التي تجب في العقول ، فلو ارتفع ذلك الغرض ـ أي حصل بالفعل ـ ارتفع وجوب العمل بالشرع (٤).

وعمدة هذا الوجه : أنّ الغرض من التكليف هي المعرفة وحصول الكمال العقلاني ، فإذا حصلت الغاية ، فلا موجب للتكليف.

وأجيب بأنّ الحكمة في التكليف هو التعالي في الكمال ، ويتزايد بتزايد درجات الطاعة ، ومن ثمّ كان أصحاب الكمال في المعرفة ـ كالإمام أمير المؤمنين القائل :

[٢ / ١٩٧٢] «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا» كانوا أشدّ اجتهادا في الطاعة والعبادة! وإنّما وجدوا الله أهلا للعبادة فعبدوه.

[٢ / ١٩٧٣] كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» (٥). بل هو القائل : «كيف أعبد ربّا لم أره.» (٦).

كان عليه‌السلام على كمال المعرفة ، ومع ذلك كان أشدّ الناس اجتهادا في عبادة الله سبحانه وتعالى.

وأيضا فإنّ العبادة أداء للشكر الواجب على جزيل الإفضال والإنعام. ولا نعمة أفضل من التكريم بكمال العرفان. وهذه هي عبادة الأحرار.

__________________

(١) أي رآه عليلا غير مستقيم.

(٢) وهي نعمة الرجعة إلى الحياة ليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الآثام.

(٣) وجه الاستدلال : أنّ العمل بالتكليف شكر على النعماء. قال تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ ٣٤ : ١٣).

(٤) التبيان ١ : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

(٥) البحار ٤١ : ١٤.

(٦) نقلا بالمعنى ، البحار ٦٩ : ٢٧٩.

١٢٨

[٢ / ١٩٧٤] كما قال عليّ عليه‌السلام : «وإنّ قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار» (١).

***

وقد مال الإمام الرازي إلى رأي أبي عليّ الجبّائي وأنّه بعد العلم الضروري لا تكليف ، فإذا كان المانع هو هذا ، لم يمتنع في هؤلاء الّذين أماتهم بالصاعقة أن لا يكون قد اضطرّهم إلى المعرفة ، إذ كانوا في غفوة من ذلك ، ويكون موتهم ثمّ الإحياء بمنزلة النوم أو الإغماء (٢).

وهكذا قال الشيخ في التبيان ، قال ـ دعما لمذهب أبي عليّ ـ : ولأبي عليّ أن يقول : لا نمنع من الوجوب ، لكن لا يجوز التكليف ، لأنّ الغرض المعرفة ـ أي هي أصل ما وقع التكليف به للعباد ـ وقد حصلت.

قال : والذي أقوله : إنّ الّذي يحيى بعد الإماتة ، إن كان لم يحصل له المعرفة الضروريّة ولم يضطرّ إليها ، فإنّه لا يمتنع تكليفه ، إذ ليس الإحياء بعد الإماتة ـ حينذاك ـ إلّا كالانتباه من النوم والإفاقة بعد الغشية ، فإنّ ذلك لا يوجب علم الاضطرار (٣).

وللشيخ تقريب آخر لجواز التكليف وعدم حصول المعرفة ، قال : لأنّ العلم بأنّ الإحياء بعد الإماتة ، هو من صنعه تعالى ، لا يحصل إلّا بعد التفكّر والتحقيق لمن كان من أهله. إذ طريق الاستدلال وقيام الحجّة الباهرة ، حيث كانت من غوامض الدلائل وليست من كواشفها الواضحة لكلّ أحد. وعليه فليس مجرّد الإحياء بعد الإماتة ممّا يوجب العلم لمن أحياه الله ، بأنّ ذلك من صنعه تعالى ، فلا يكون مضطرّا إلى المعرفة ولا يوجب بلوغ الكمال.

قال : فلذلك يصحّ تكليفه كما في المنتبه بعد المنام أو المفيق بعد الغشية (٤).

قلت : والأرجح في النظر : أنّ أمثال الآيات التي وقعت في مشاهد من بني إسرائيل والتي منها إحياء السبعين من خيارهم ، إنّها لكانت كافية لتنبّه سائر الأمم الصاحية الواعية. لا لأمّة عاصية عاتية ، قد أشرب في قلوبهم العجل سفها وحمقا. فأين المعرفة وكمالها بشأنهم بالذات ، والبون بعيد والمسافة شاسعة.

__________________

(١) نهج البلاغة ٤ : ٥٣ ، الحكمة ٢٣٧.

(٢) التفسير الكبير ٣ : ٨٦ ـ ٨٧.

(٣) التبيان ١ : ٢٥٤.

(٤) المصدر.

١٢٩

وقفة عند مسألة الرؤية

لعلّنا في مجال آخر نبحث عن مسألة الرؤية بتفصيل ، غير أنّا رأينا من المناسب أن نقف عند مسألة الرؤية هنا وقفة قصيرة ، حيث فصّلنا الكلام عنها في كتابنا التمهيد (١) ، وإليك طرفا منه :

ذهب الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابيه : اللمع والإبانة ، إلى جواز رؤية الله ـ سبحانه ـ في الآخرة رؤية بالأبصار.

واستند في ذلك إلى قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)(٢). قال : يعني رائية. إذ ليس يخلو النظر من وجوه ثلاثة ، إمّا نظر الاعتبار كما في قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)(٣). أو نظر الانتظار كما في قوله تعالى : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً)(٤). أو نظر الرؤية.

أمّا الأوّل فلا يجوز ، لأنّ الآخرة ليست بدار اعتبار.

وكذا الثاني ، لأنّ النظر إذا ذكر مع الوجه فمعناه نظر العينين اللتين في الوجه. ولأنّ نظر الانتظار لا يقرن «إلى».

وتشبّث أيضا بحديث موسى وسؤال الرؤية. إذ لا يجوز أن يكون موسى عليه‌السلام سأل ربّه المستحيل (٥).

وسبقه إلى ذلك أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي في رسالة ردّ بها على الجهميّة ، حشاها بأخبار زعمها صريحة في الدلالة على إثبات رؤية الله في الآخرة.

منها :

[٢ / ١٩٧٥] ما رواه عن شيخ بغدادي لا يعرفه بالإسناد إلى أنس بن مالك قال : يتجلّى ربّنا لأهل الجنّة في كلّ جمعة ، تفسيرا لقوله تعالى : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ)(٦).

[٢ / ١٩٧٦] وبإسناد آخر فيه ضعف وجهالة عن جابر بن عبد الله الأنصاري يحكي ـ فيما زعم ـ حالة المسلمين يوم القيامة ، قال : «ونحن على كوم إذ يأتينا ربّنا فيقول : ماذا تنتظرون؟ فنقول : ننتظر ربّنا! فيقول : ها أنا ربّكم! فنقول : حتّى ننظر إليك! فيتجلّى لنا وهو يضحك ، فنتبعه إلى الجنّة.

__________________

(١) الجزء الثالث : ٧٧ ـ ٩٧.

(٢) القيامة ٧٥ : ٢٣.

(٣) الغاشية ٨٨ : ١٧.

(٤) يس ٣٦ : ٤٩.

(٥) راجع كتابيه الإبانة : ٢٥ واللمع : ٦١.

(٦) سورة ق ٥٠ : ٣٥.

١٣٠

[٢ / ١٩٧٧] وروى عن أبي بكر ـ في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ)(١) قال : الزيادة ، النظر إلى وجه الله (٢).

وتبعهما السلفيّون ابن تيميّة وأذنابه.

قال ابن كثير : وأفضل ما ينعم به أهل الجنّة وأعلاه هو النظر إلى وجهه الكريم ، وقد روي في ذلك عن أبي بكر الصدّيق وحذيفة وابن عبّاس وسعيد بن المسيّب وعبد الرحمان بن أبي ليلى وعبد الرحمان بن سابط ومجاهد وعكرمة وعامر بن سعد وعطاء والضحّاك والحسن وقتادة والسدّي ومحمّد بن إسحاق وغيرهم من السلف والخلف. وقد وردت فيه أحاديث كثيرة (٣).

[٢ / ١٩٧٨] وقال الآلوسي ـ في تفسير الزيادة ـ : وهي النظر إلى وجه ربّهم الكريم. قال : وهو التفسير المأثور عن أبي بكر وعليّ ـ كرّم الله تعالى وجهه ـ وابن عبّاس وحذيفة وابن مسعود وأبي موسى الأشعري. وروي مرفوعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق شتّى.

[٢ / ١٩٧٩] وقد أخرج الطيالسي وأحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبّان وأبو الشيخ والدار قطني وابن مردويه والبيهقي ، عن صهيب : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلا هذه الآية فقال : ... فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه ، فلا شيء أحبّ ولا أقرّ لأعينهم من النظر إليه سبحانه (٤).

***

وعارضهم أهل العدل والتنزيه بامتناع رؤية الله بالأبصار إطلاقا ، لا في هذه الحياة ولا في الآخرة ، حيث استلزامها التحيّز والمقابلة والجهة والمكان ، مضافا إلى مخالفتها لصريح القرآن ، قال تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(٥). وقال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(٦).

والتحيّز والمقابلة من لوازم الجسميّة المستدعية للتشبيه ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

إنّ النظر إلى الشيء بالعين ، عبارة عن إشعاع نوري يحيط بجسم المرئي الواقع في جهة مقابلة

__________________

(١) يونس ١٠ : ٢٦.

(٢) راجع : رسالة الردّ على الجهميّة : ٤٥ ـ ٥٨.

(٣) راجع : تفسير ابن كثير ٢ : ٤١٤.

(٤) راجع : روح المعاني ١١ : ٩١.

(٥) الأنعام ٦ : ١٠٣.

(٦) الشورى ٤٢ : ١١.

١٣١

عين الرائي ، فتنطبع فيها صورته الخارجيّة.

هذه هي حقيقة الرؤية بالعين ، المستدعية للتقابل مع الشيء المرئي تقابلا بالتحيّز ، كلّ في جهة. وهذا تجسيم يستدعي تشبيها بخلقه ، تعالى الله عن ذلك.

وأجاب الأشعري عن آية الأبصار بأنّه من المحتمل أن يراد : لا تدركه الأبصار في الدنيا ، وتدركه في الآخرة. أو يراد : لا تدركه أبصار الكافرين المكذّبين (١).

قلت : لعلّ من الواضح البيّن أنّ شيخ الأشاعرة ارتكب تأويلا باهتا وحوّر وجه الآية إلى غير وجهها الوجيه ، ومن غير ضرورة تدعوه إلى هذا الارتكاب الغريب ، الّذي هو أشبه بالتفسير بالرأي المقيت!

يا ترى ، كيف يصرف إطلاق وجه الآية ويحوّلها إلى ما لا دلالة عليه ، لا من العقل الرشيد ولا من النقل السديد!

ولعلّه استند إلى رواية مجهولة الإسناد حسبها مرفوعة إلى المعصوم ، ممّا دعى بمثل الزمخشري أن يسخر منه ويصفها بالمرقوعة ـ بالقاف ـ أي المفتراة ، لا تصدر إلّا عن رقيع (٢) قال : وزعمت المشبّهة والمجبّرة (٣) أنّ الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى.

[٢ / ١٩٨٠] وجاءت بحديث مرقوع : «إذا دخل أهل الجنّة الجنّة نودوا : يا أهل الجنّة! فيكشف الحجاب فينظرون إليه. فو الله ما أعطاهم الله شيئا هو أحبّ إليهم منه» (٤).

والحديث رواه مسلم وغيره بالإسناد إلى حمّاد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمان بن أبي ليلى عن صهيب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥).

__________________

(١) راجع : الإبانة : ٣٠.

(٢) راجع : روح المعاني للآلوسي ١١ : ٩١. يقال : رقع رقاعة : حمق وكان قليل الحياء ، فهو رقيع وأرقع.

(٣) قال الشيخ محمّد عليان : يريد أهل السنّة القائلين بجواز رؤيته تعالى ووقوعها في الآخرة (هامش الكشّاف ٢ : ٣٤٢).

(٤) الكشّاف ٢ : ٣٤٢.

(٥) مسلم ١ : ١١٢ باب إثبات رؤية المؤمنين ربّهم في الآخرة ؛ مسند أحمد ٤ : ٣٣٢ و ٦ : ١٦ ؛ الترمذي ٥ : ٢٨٦ تفسير سورة يونس ؛ ابن ماجة ١ : ٨١ باب فيما أنكرت الجهمية من المقدّمة.

١٣٢

غير أنّ هذا الحديث بهذا الإسناد مرفوعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وقع مورد نقاش أهل العلم ، قال أبو عيسى الترمذي : هذا الحديث رواه سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبد الرحمان بن أبي ليلى مقتصرا عليه. ولم يذكر فيه عن صهيب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وهكذا نرى أبا جعفر الطبري يروي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله ، عن جماعة منهم أبو بكر وعامر بن سعد وحذيفة وأبو موسى الأشعري وابن أبي ليلى. ويروي عن حمّاد عن ثابت عن عبد الرحمان بن أبي ليلى أنّه قال : الزيادة النظر إلى وجه ربّهم. وهكذا روى بالإسناد إلى سليمان بن المغيرة عن ثابت عن ابن أبي ليلى. قال : روي ذلك بعدّة طرق كلّها موقوفة على عبد الرحمان من غير رفعه إلى صهيب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

الأمر الذي جعل العلماء في ريب من رفع الحديث إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا سيّما وثابت بن أسلم البناني كان قد اختلط في الحديث ، ومن ثمّ تركه أيّوب ولم يكتب عنه. وفي سؤالات أبي جعفر البغدادي لأحمد بن حنبل : سئل أحمد عن ثابت وحميد أيّهما أثبت في أنس؟

فقال : قال يحيى بن سعيد القطّان : ثابت اختلط. وحميد أثبت منه. وفي الكامل لابن عديّ عن القطّان : كان أيّوب يدع ثابتا البنانيّ لا يكتب عنه (٣).

وأمّا حمّاد بن سلمة فقد اتّهم بكثرة الوضع عليه ولا سيّما ربيبه ابن أبي العوجاء كان يدسّ في كتبه. وقد اجتنب البخاري حديث حمّاد لذلك. قال الذهبي : حمّاد بن سلمة ثقة وكانت له أوهام ، وتحايده البخاري. وقال أبو الفضل بن طاهر : إنّ مسلما أخرج أحاديث أقوام ترك البخاري أحاديثهم ، منهم حمّاد بن سلمة. وعن الأعمش قال : حدّثني حمّاد بحديث عن إبراهيم ـ وكان مرجئا ـ وكان ـ أي حمّاد ـ غير ثقة. وقال الأعمش مرّة : حدّثنا حمّاد وما كنّا نصدّقه.

ولعلّ من أوهامه أحاديثه المنكرة في الصفات ، ذكر بعضها الذهبيّ شواهد على نكارة أحاديثه. منها حديث تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله.

[٢ / ١٩٨١] ومنها حديثه عن ثابت عن أنس مرفوعا ـ في قوله تعالى ـ : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) قال : أخرج طرف خنصره ، وضرب على إبهامه ، فساخ الجبل!

__________________

(١) الترمذي ٥ : ٢٨٦ / ٣١٠٥.

(٢) راجع : الطبري ١١ : ٧٤ ـ ٧٥.

(٣) تهذيب التهذيب ٢ : ٣ ؛ الكامل لابن عدي ٢ : ٣٠٦.

١٣٣

قال : فقال حميد الطويل ـ خال حمّاد ـ لثابت : تحدّث بمثل هذا؟! قال حمّاد : فضرب ثابت في صدر حميد وقال : يقوله أنس ويقوله رسول الله ، وأنا أكتمه؟

[٢ / ١٩٨٢] وروى حمّاد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عبّاس مرفوعا : رأيت ربّي جعدا أمرد ، عليه حلّة خضراء!

[٢ / ١٩٨٣] وأيضا عنه : أنّ محمّدا رأى ربّه في صورة شابّ أمرد ، دونه ستر من لؤلؤ قدميه أو رجليه في خضرة! وهكذا في ستّة أحاديث متماثلة.

قال الذهبي : فهذا من أنكر ما أتى به حمّاد بن سلمة (١).

قلت : وكم له من مناكير لعلّها ممّا دسّ عليه أو التبس عليه مادام مثل ابن أبي العوجاء كان في أحضانه.

***

ومن ثمّ فلا تكاد تستغرب لو عرفت من البخاري تركه التحدّث عنه ، ولا سيّما حديث الرؤية ، وفسّر الزيادة ـ كما فسّرها مجاهد ـ بالمغفرة.

[٢ / ١٩٨٤] قال في تفسير سورة يونس عند قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) : للذين أحسنوا الحسنى مثلها حسنى. وزيادة : مغفرة (٢).

قال الإمام الرازي : يجب أن تكون الزيادة من جنس المزيد عليه (٣). كما في قوله تعالى : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)(٤).

[٢ / ١٩٨٥] وكذا روي عن عليّ عليه‌السلام ـ : زيادة في المثوبة.

فالزيادة هنا هي مضاعفة الحسنات وبقرينة ذيل الآية : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها)(٥). فهي نظيرة قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها)(٦). والقرآن يفسّر بعضه بعضا.

__________________

(١) راجع : ميزان الاعتدال ١ : ٥٩٣ ـ ٥٩٤ / ٢٢٥١. وتهذيب التهذيب ٣ : ١٣ ـ ١٤. والكامل لابن عديّ ٣ : ٣٥.

(٢) البخاري ٥ : ٢١١.

(٣) التفسير الكبير ١٧ : ٧٨.

(٤) فاطر ٣٥ : ٣٠.

(٥) يونس ١٠ : ٢٧.

(٦) الأنعام ٦ : ١٦٠.

١٣٤

والتفسير بزيادة المثوبة هو المأثور عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وعن كبار الصحابة والتابعين بأسانيد جياد (١).

***

وبعد فلعلّك أيّها القارئ النبيه عرفت السرّ في تهجين الزمخشري لحديث الرؤية ووصفه بالمرقوع ، أي المرقّع بترقيع أوصال مزاعمهم في التجسيم (٢)!

أمّا ما تشبّث به من الآية الكريمة وتشقيقه الوجوه الثلاثة ، فلعلّه غفل عن وفرة اقتران نظر الانتظار والتوقّع ب «إلى» كثيرا في الشعر وغيره وهذا هو المراد في الآية الكريمة ، فإنّهم ينتظرون رحمته ويتوقّعونها فور حضورهم لديه سبحانه.

يقال : نظري إليك ، أي رجائي منقطع عمّن سواك ، متلهّف لبلوغ عنايتك. كما قال الشاعر :

وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك زدتني نعما

وقال آخر :

إنّي إليك لما وعدت لناظر

نظر الفقير إلى الغنيّ الموسر

ولم يقصدا سوى التوقّع والانتظار لنيل فضله ، انتظارا بكلّ الوجود ، كما في الآية.

قال الزمخشري : سمعت سرويّة مستجدية بمكّة وقت الظهر ، حين غلق الناس أبوابهم وأووا إلى مقائلهم ، تقول : «عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم» ، تقصد راجية ومتوقّعة لإحسانهم إليها. وقال : قولهم : أنا أنظر إلى الله ثمّ إليك ، معناه : أتوقّع فضل الله ثمّ فضلك (٣).

ومن ذلك أيضا قول شاعرهم :

وجوه يوم بكر ناظرات

إلى الرحمان تنتظر الفلاحا

قال الإمام الرازي : أثبت النظر المقرون بحرف «إلى» مع أنّ الرؤية ما كانت حاصلة (٤).

__________________

(١) راجع : التمهيد ٣ : ٨٧.

(٢) يقال : هو صاحب ترقيع وتوصيل ، لمن كان يزيد في حديثه ويأتي فيه برقعات.

(٣) الكشّاف ٤ : ٦٦٢ وأساس البلاغة للزمخشري ٢ : ٤٥٦.

(٤) التفسير الكبير ٣٠ : ٢٧٧.

١٣٥

قال الأستاذ أحمد أمين : وقد كانت نظرة المعتزلة في توحيد الله نظرة في غاية السموّ والرفعة ، فطبّقوا قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أبدع تطبيق وفصّلوه خير تفصيل وحاربوا الأنظار الوضعيّة من مثل أنظار المجسّمة الّذين جعلوا لله تعالى جسما ، له وجه ويدان وعينان. وغاية ما قاله أعقلهم (١) : أنّه جسم لا كالأجسام وله وجه لا كالوجوه ويد لا كالأيدي. وقالوا : بأنّ له جهة هي الفوقيّة ، وأنّه يرى بالأبصار وأنّ له عرشا يستوي عليه. إلى آخر ما قالوا ممّا ينطبق على الجسميّة.

قال : فأتى المعتزلة وسموا على هذه الأنظار ، وفهموا من روح القرآن تجريد الله عن المادّيّة ، فساروا في تفسيرها تفسيرا دقيقا واسعا ، وأوّلوا ما يخالف هذا المبدأ. وسلسلوا عقائدهم تسلسلا منطقيّا ؛ فإذا كان تعالى ليس مادّة ، ولا مركّبا من

مادّة ، فليس له يدان ولا وجه ولا عينان ، لأنّ ذلك يدلّ على جزء من كلّ ، والله تعالى ليس كلّا مركّبا من أجزاء ، وإلّا كان مادّة ، وإذا كان كذلك فليست تدركه عيوننا التي خلقت وليس في قدرتها إلّا أن ترى ما هو مادّة وما هو في جهة.

قال : وعلى كلّ حال كان مسلك المعتزلة مسلكا لا بدّ منه ، لأنّه أشبه بردّ فعل لحالة بعض العقائد في زمنهم. لقد قرّروا سلطان العقل وبالغوا فيه أمام من لا يقرّ للعقل بسلطان ، بل يقول : نقف عند النصّ. وهكذا قال المعتزلة بحرّيّة الإرادة وغلوا فيها أمام قوم سلبوا الإنسان إرادته ، حتّى جعلوه كالريشة في مهبّ الريح أو كالخشبة في اليمّ.

قال : وفي رأيي أنّه لو سادت تعاليم المعتزلة إلى اليوم ، لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحاليّ ، وقد أعجزهم التسليم وشلّهم الجبر وقعد بهم التواكل (٢).

__________________

(١) يريد بهم أصحاب البلكفة الأشعرية قالوا : إنّ الله يرى بلا كيف وله وجه بلا كيف وله يد بلا كيف. وهلمّ جرّا. حاولوا بذلك التخلّص من الشنعة عليهم بالقول بالتجسيم .. راجع : التمهيد ٣ : ٨١.

(٢) راجع : ضحى الإسلام للأستاذ أحمد أمين المصري ٣ : ٦٨ ـ ٧٠.

١٣٦

قال تعالى :

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧))

ونعمة أخرى يذكّرهم بها ـ وإن كانوا لم يشكروها ـ وهي : رعايتهم في الصحراء الجرداء ، حيث وقاهم هجيرها ويسّر لهم طعاما شهيّا لا يجهدون فيه ولا يكدّون ، وهم في مسيرهم إلى أريحا ، موطنهم الأصل المنشود.

وتذكر الروايات أنّ الله ساق لهم الغمام يظلّلهم من الهاجرة والصحراء بغير مطر ولا سحب ، جحيم تقذف لهبها وتفور .. لكنّها بالمطر والسحاب تصبح رخيّة نديّة ترتاح فيها الأبدان والأرواح.

وتذكر الروايات أيضا أنّ الله سخّر لهم «المنّ» (١). يجدونه على الأشجار كالعسل يقتاتون به. وسخّر لهم «السلوى» وهو طائر السّمانى يجدونه بوفرة قريب المنال. وبهذا توافر لهم الطعام الجيّد والمقام المريح ، وأحلّت لهم هذه الطيّبات ولكن أتراهم شكروا واهتدوا! إنّ التعقيب الأخير في الآية يوحي بأنّهم ظلموا وجحدوا ، وإن كانت عاقبة ذلك عليهم ، فما ظلموا إلّا أنفسهم : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

هذا ما توحيه الآية وتدعمه الروايات المعتمدة .. ولكن إلى جنبها روايات قد تشتمل على غرائب ترفضها العقول السليمة وإليك من مجموعتها :

قال أبو إسحاق الثعلبي : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) في التيه تقيكم حرّ الشمس ، وذلك أنّهم كانوا في التّيه ولم يكن لهم كنّ يسترهم فشكوا ذلك إلى موسى ، فأنزل الله عليهم غماما أبيض رقيقا

__________________

(١) قطرات مائيّة (ندى) تنعقد على أوراق أشواك صحرائيّة ، شبه الصمغ ، تحتوي على سكّر وبعض الكحول ذات طعم ورائحة طيّبة ، تستعمل في صنع الحلواء المعروفة ببلاد فارس (أصبهان وضواحيها ولا سيّما خوانسار) تعرف ب «گزانگبين». لها خواصّ دوائيّة ولا سيّما لمنع إسهال الأطفال. وفي حالتها الطبيعية تتكوّن عسلا وتجفّ جفاف الصمغ ، صالح للاقتيات والتفكّه به.

١٣٧

وليس بغمام المطر بل أرقّ وأطيب وأبرد ـ والغمام : ما يغمّ الشيء أي يستره ـ وأظلّهم فقالوا : هذا الظّل قد جعل لنا فأين الطعام ، فأنزل الله عليهم المنّ.

واختلفوا فيه :

[٢ / ١٩٨٦] فقال مجاهد : وهو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار وطعمه كالشهد.

[٢ / ١٩٨٧] وقال الضحّاك (١) : هو الطرنجبين (٢).

[٢ / ١٩٨٨] وقال وهب : الخبز الرّقاق.

[٢ / ١٩٨٩] وقال السدّي : عسل كان يقع على الشجر من الليل فيأكلون منه.

[٢ / ١٩٩٠] وقال عكرمة : شيء أنزله الله عليهم مثل الزّيت الغليظ ، ويقال : هو الزنجبيل.

[٢ / ١٩٩١] وقال الزجاج : جملة المنّ ما يمنّ الله ممّا لا تعب فيه ولا نصب.

[٢ / ١٩٩٢] وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين» (٣).

وكان ينزل عليهم هذا المنّ كلّ ليلة تقع على أشجارهم مثل الثلج ، لكلّ إنسان منهم صاع كلّ ليلة قالوا : يا موسى ، مللنا هذا المنّ بحلاوته ، فادع لنا ربّك أن يطعمنا اللحم ، فدعا ـ عليه‌السلام ـ فأنزل الله عليهم السلوى.

واختلفوا فيه :

[٢ / ١٩٩٣] فقال ابن عبّاس وأكثر المفسرين : هو طائر يشبه السّمانى.

[٢ / ١٩٩٤] وقال أبو العالية ومقاتل : هو طير أحمر ، بعث الله سحابة فمطرت ذلك الطير في عرض ميل وقدر طول رمح في السماء بعضه على بعض!

[٢ / ١٩٩٥] وقال عكرمة : طير يكون بالهند أكبر من عصفور.

__________________

(١) نسبه في زاد المسير (١ / ٧١) : إلى ابن عبّاس ومقاتل ، وذكر بقيّة الأقوال.

(٢) ويصح بالتاء (الترنجبين) راجع لسان العرب : ١٠ / ٩٦ ، وهو طلّ ينزل من الهواء ويجتمع على أطراف الشجر في بعض البلدان ، وقيل : هو ندى شبيه العسل جامد متحبب ينزل من السماء ، وقيل : يشبه الكمأة. ولعلّه ما يجنيه النحل من الشجر وهو ما يسمّى ب «غبار الطلع» إلى صغارها على شكل حبوب صغيرة بأرجلها ، وهو غير العسل وغير الهلام الملكي. والترنجبين معروف وهو نوع من الگزأنگبين (جزأنجبين) في الدرجة الثانية.

(٣) مسند أحمد : ١ / ١٨٧.

١٣٨

وقال المؤرّج (١) : هو العسل بلغة كنانة. قال شاعرهم (٢) :

وقاسمها بالله جهدا لأنتم

ألذّ من السّلوى ، إذا ما نشورها (٣)

وكان يرسل عليهم المنّ والسلوى ، فيأخذ كلّ واحد منه ما يكفيه يوما وليلة ، وإذا كان يوم الجمعة أخذ ما يكفيه ليومين لأنّه لم يكن ينزل إليهم يوم السبت ، فذلك قوله : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا) أي وقلنا لهم كلوا (مِنْ طَيِّباتِ) حلالات. (ما رَزَقْناكُمْ) ولا تدّخروا لغد. فخبّأوا لغد فقطع الله ـ عزوجل ـ ذلك عنهم ودوّد وفسد ما ادّخروا ، فذلك قوله عزوجل : (وَما ظَلَمُونا) ضرّونا بالمعصية. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يصرّون باستيجابهم عذابي وقطع مادّة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا كلفة ولا مؤونة ولا مشقّة في الدنيا ولا تبعة ولا حساب في العقبى.

[٢ / ١٩٩٦] وروى خلّاس بن عمرو عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو لا بنو إسرائيل ، لم يخنز طعام ولم يخبث لحم ، ولو لا حوّاء ، لم تخن أنثى زوجها» (٤). (٥)

***

وقال أبو جعفر الطبري : قوله تعالى : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ) عطف على قوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) فتأويل الآية : ثمّ بعثناكم من بعد موتكم ، وظلّلنا عليكم الغمام ، وعدّد عليهم سائر ما أنعم به عليهم ، (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). والغمام جمع غمامة كما السحاب جمع سحابة ، والغمام هو ما غمّ السماء فألبسها من سحاب وقتام (٦) وغير ذلك ، ممّا يسترها عن أعين الناظرين ، وكلّ مغطّى فإنّ العرب تسمّيه مغموما. وقد قيل : إنّ الغمام التي ظلّلها الله على بني إسرائيل لم تكن سحابا.

__________________

(١) نحويّ أخباري من أصحاب الخليل ، له كتاب غريب القرآن. (معجم الأدباء ٥ : ٥٣٦ / ٩٦٩).

(٢) هو خالد بن زهير ، كما في اللسان.

(٣) أي نأخذها من خليّتها ، يعني العسل. قرئ : نشوزها بالزاي ونشورها بالراء المهملة. وكلاهما بمعنى.

قال ابن سيده : والسّلوى طائر أبيض مثل السّمانى ، واحدته سلواة. قال : والسلوى : العسل. وأنشد البيت لخالد بن زهير.

قال الزجّاج : أخطأ خالد ، إنّما السلوى طائر. قال الفارسي : السلوى : كلّ ما سلاك و [إنّما] قيل للعسل سلوى ، لأنّه يسليك بحلاوته وتأتّيه من غير مؤنة. قال ذلك ردّا على الزجاج. راجع : المحكم لابن سيده ٨ : ٦١١. والعين للخليل ٧ : ٢٩٨. واللسان ١٤ : ٣٩٦.

(٤) صحيح ابن حبّان ٩ : ٤٧٧. قوله : لم يخنز طعام أي لم ينتن. قوله : لم يخبث لحم أي لم يفسد.

(٥) الثعلبي ١ : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٦) القتام : الغبار الأسود. الظلام.

١٣٩

[٢ / ١٩٩٧] فقد روى بالإسناد إلى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) قال : ليس بالسحاب.

[٢ / ١٩٩٨] وأيضا عنه عن مجاهد قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) قال : ليس بالسحاب ، والغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة لم يكن إلّا لهم.

[٢ / ١٩٩٩] وأيضا عن مجاهد في قول الله جلّ ثناؤه : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) قال : وهو بمنزلة السحاب.

[٢ / ٢٠٠٠] وعن حجّاج عن ابن جريج ، قال : قال ابن عبّاس : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) قال : هو غمام أبرد من هذا وأطيب ، وهو الذي يأتي الله عزوجل فيه يوم القيامة في قوله : (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ)(١) ، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عبّاس : وكان (٢) معهم في التيه.

وإذ كان معنى الغمام ما وصفنا ممّا غمّ السماء من شيء فغطّى وجهها عن الناظر إليها ، فليس الذي ظلّله الله ـ عزوجل ـ على بني إسرائيل فوصفه بأنّه كان غماما ، بأولى بوصفه إيّاه بذلك أن يكون سحابا منه بأن يكون غير ذلك ، ممّا ألبس وجه السماء من شيء ، وقد قيل : إنّه ما ابيضّ من السحاب (٣).

***

وقال في تأويل قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ) :

اختلف أهل التأويل في صفة المنّ. فقال بعضهم بما رواه :

[٢ / ٢٠٠١] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : المنّ : صمغة.

[٢ / ٢٠٠٢] وعن معمر ، عن قتادة يقول : كان المنّ ينزل عليهم مثل الثلج.

وقال آخرون : هو شراب. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٢٠٠٣] فعن الربيع بن أنس ، قال : المنّ : شراب كان ينزل عليهم مثل العسل ، فيمزجونه بالماء ، ثمّ يشربونه.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢١٠.

(٢) أي الغمام.

(٣) الطبري ١ : ٤١٨ ـ ٤١٩ ، بتصرّف وتلخيص.

١٤٠