التفسير الأثري الجامع - ج ٣

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-04-3
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٧٦

قال تعالى :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤))

[٢ / ١٩١٠] أخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن الحسن في قوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) فقال : ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع ، وحين قال الله : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا)(١) قال : فذلك حين يقول موسى : (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ)(٢).

[٢ / ١٩١١] وأخرج الطسّي عن ابن عبّاس أنّ نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله ـ عزوجل ـ : (إِلى بارِئِكُمْ؟) قال : خالقكم. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم. أما سمعت قول تبّع (٣) :

شهدت على أحمد أنّه

رسول من الله باري النّسم (٤)

[٢ / ١٩١٢] وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله (إِلى بارِئِكُمْ) قال : خالقكم (٥).

حديث توبة بني إسرائيل! وقتل أنفسهم!

حديث طريف يحتوى ـ حسب رواياته ـ على غرائب وعجائب قد لا يرتضيها العقل الرشيد ، فضلا عن نكارتها أحيانا.

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٤٩.

(٢) ابن أبي حاتم ١ : ١٠٩ / ٥٢٥.

(٣) لعلّه تبيع بن عامر الحميري. هو من الطبقة العليا التي تلي الصحابة. كان رجلا مرجّلا ، كان دليلا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعرض عليه الإسلام فلم يسلم حتّى توفّي رسول الله ، وأسلم مع أبي بكر وكان يقصّ عند أصحاب رسول الله. وكان ابن امرأة كعب وقد أخذ عنه كثيرا ... (تهذيب التهذيب ١ : ٥٠٨ / ٩٤٥).

(٤) الدرّ ١ : ١٦٩. وراجع : الإتقان ٢ : ٨٧.

(٥) الدرّ ١ : ١٦٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١١٠ / ٥٢٦ ، وعن سعيد بن جبير والربيع بن أنس ؛ الطبري ١ : ٤١١ / ٧٩٥.

١٠١

والأصل فيه ما جاء في سفر الخروج : «ولمّا اقترب موسى من المحلّة أبصر العجل والرقص ، فغضب ورمى اللوحين فكسرهما ، ثمّ أخذ العجل فأحرقه وطحنه وذرّاه على وجه الماء وسقاه بني إسرائيل! ولام موسى هارون فاعتذر إليه.

ولمّا رأى موسى ذلك ، طلب من كان للربّ أن يأتيه ، فأتاه بنو لاوي ـ من قبيل موسى وهارون ، دون سائر الأسباط ـ فأمرهم أن يأخذوا سيوفهم ويمرّوا بالمحلّة بابا بابا ، ويقتل كلّ رجل أخاه وصاحبه وقريبه ، ففعلوا وقتل في ذلك اليوم ثلاثة آلاف رجل .. ثمّ صعد موسى الجبل وطلب لهم المغفرة من الله ، فإذا لم يفعل فليمح موسى من كتابه. فأجابه الربّ إلى ذلك» (١).

وهذه القصّة على غرابتها سرت ـ بزيادة ومبالغة ـ في كتب التفسير والحديث ، ومن غير أن يكون لها شاهد من الكتاب أو الأثر الصحيح.

هكذا ذكر الثعلبي القصّة مبالغا فيها ، قال : لمّا أمرهم موسى بالقتل ، قالوا نصبر لأمر الله!! فجلسوا بالأفنية (٢) محتبئين (٣) مطرقين مهيّئين للقتل!!

وقيل لهم : من حلّ حبوته أو مدّ طرفه إلى قائله أو اتّقاه بيد أو رجل ، فهو ملعون مردود توبته ، وأصلت القوم عليهم الخناجر (٤) وكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه وصديقه وجاره ، فلم يمكنهم المضيّ لأمر الله ، وقالوا لموسى كيف نفعل؟! فأرسل الله ضبابة (٥) وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضا ، فجعلوا يقتلونهم حتّى المساء. فلمّا كثر القتلى دعا موسى وهارون وبكيا وجزعا وتضرّعا إلى الله وقالا : يا ربّ هلكت بنو إسرائيل ، البقيّة البقيّة!

فكشف الله عنهم وأمرهم أن يكفّوا عن القتل. فتكشفت عن ألوف من القتلى .. ويروى أنّ عدد القتلى بلغ سبعين ألفا ، فاشتدّ ذلك على موسى ، فأوحى الله إليه : أما يرضيك أن أدخل القاتل

__________________

(١) سفر الخروج ، أصحاح ٢٥٣٢ ـ ٢٩.

(٢) فناء الدار : الساحة أمام البيت.

(٣) الاحتباء : جلوس على الورك والقدمين ، جامعا للركبتين إلى الصدر ، مع شدّ الساقين إلى الظهر بعمامة ونحوها.

(٤) أصلت السيف : جرّده من غمده وسلّه شاهرا به.

(٥) الضبابة : سحابة تغشي الأرض.

١٠٢

والمقتول الجنّة؟ وكان من قتل منهم شهيدا ، ومن بقي مكفّرا عنه ذنوبه! فذلك قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) يعني : ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم وتجاوز عنكم. (١).

هذا ما لفّقه الثعلبي وأضرابه مستمدّين من نصّ التوراة ، بزيادة وتوفير ، فزادوا في الطين بلّة.

وهكذا جاء أبو جعفر الطبري قبله بهذه الأقاصيص من غير تريّث ولا اكتراث ، قال : وكان الفعل الذي فعله بنو إسرائيل ما أوجب ارتدادهم ، ومن ثمّ أمرهم موسى بالمراجعة والإنابة من ردّتهم بالتوبة إليه تعالى والتسليم لطاعته. فاستجاب القوم (!!) لما أمرهم به موسى. فجعل يروي في ذلك ما يشبه رواية الثعلبي :

[٢ / ١٩١٣] منها ما أخرجه عن ابن عبّاس قال : أمر موسى قومه عن أمر ربّه أن يقتلوا أنفسهم ، واحتبى الّذين عكفوا على العجل فجلسوا ، وقام الّذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم ، وأصابتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضا ، فانجلت الظلمة عنهم وقد أجلوا (٢) عن سبعين ألف قتيل ، كلّ من قتل منهم كانت له توبة ، وكلّ من بقي كانت له توبة (٣).

[٢ / ١٩١٤] وعن ابن إسحاق ، قال : لمّا رجع موسى إلى قومه ، وأحرق العجل وذرّاه في اليمّ ؛ خرج إلى ربّه بمن اختار من قومه ، فأخذتهم الصاعقة ، ثمّ بعثوا. سأل موسى ربّه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل ، فقال : لا ، إلّا أن يقتلوا أنفسهم. قال : فبلغني أنّهم قالوا لموسى : نصبر لأمر الله ، فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده ، فجلسوا بالأفنية وأصلت (٤) عليهم القوم السيوف ، فجعلوا يقتلونهم ، وبكى موسى وبهش (٥) إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم ، فتاب عليهم وعفا عنهم ، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف (٦).

[٢ / ١٩١٥] وعن ابن زيد قال : لمّا رجع موسى إلى قومه ، وكانوا سبعين رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه. فقال لهم موسى : انطلقوا إلى موعد ربّكم ، فقالوا : يا موسى أما من توبة؟ قال : بلى

__________________

(١) الثعلبي ١ : ١٩٨ ؛ البغوي ١ : ١١٨.

(٢) أجلوا : انكشفوا.

(٣) الطبري ١ : ٤٨٠ / ٧٨٦.

(٤) أصلت السيف : جرده من غمده.

(٥) بهش إليه : ارتاح له وخفّ إليه.

(٦) الطبري ١ : ٤١٠ / ٧٩٣ ؛ ابن كثير ١ : ٩٦ ، وفيه : «فهش موسى فبكى».

١٠٣

(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ) الآية ... فاخترطوا (١) السيوف والجرزة (٢) والخناجر والسكاكين. قال : وبعث عليهم ضبابة ، قال : فجعلوا يتلامسون بالأيدي ، ويقتل بعضهم بعضا. قال : ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري ، ويتنادون فيها : رحم الله عبدا صبر حتّى يبلغ الله رضاه. وقرأ قول الله جلّ ثناؤه : (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ)(٣). قال : فقتلاهم شهداء ، وتيب على أحيائهم. وقرأ : (فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٤).

[٢ / ١٩١٦] وعن السدّي ، قال : لمّا رجع موسى إلى قومه (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) إلى قوله : (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ)(٥) ف (أَلْقَى) موسى (الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ)(٦)(قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)(٧) فترك هارون ومال إلى السامريّ ، ف (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) إلى قوله : (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)(٨). ثمّ أخذه فذبحه ، ثمّ حرّقه بالمبرد (٩) ، ثمّ ذراه في اليمّ ، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلّا وقع فيه شيء منه. ثمّ قال لهم موسى : اشربوا منه! فشربوا ، فمن كان يحبّه خرج على شاربيه الذهب ، فذلك حين يقول : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)(١٠). فلمّا سقط في أيدي بني إسرائيل حين جاء موسى ، (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(١١) فأبى الله أن يقبل توبة بني إسرائيل إلّا بالحال التي كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل ، فقال لهم موسى : (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) قال : فصفوا صفّين ثمّ

__________________

(١) اخترطوا : سلّوا.

(٢) الجرزة : جمع جرز ، وهو عمود من حديد يقاتل به.

(٣) الدخان ٤٤ : ٣٣.

(٤) الطبري ١ : ٤١٠ ـ ٤١١ / ٧٩٤ ؛ ابن كثير ١ : ٩٦ ، عن زيد بن أسلم.

(٥) طه ٢٠ : ٨٦ ـ ٨٧.

(٦) الأعراف ٧ : ١٥٠.

(٧) طه ٢٠ : ٩٤.

(٨) طه ٢٠ : ٩٥ ـ ٩٧.

(٩) حرّقه بالمبرد : برده.

(١٠) البقرة : ٢ : ٩٣.

(١١) الأعراف ٧ : ١٤٩.

١٠٤

اجتلدوا بالسيوف. فاجتلد الّذين عبدوه والّذين لم يعبدوه بالسيوف ، فكان من قتل من الفريقين شهيدا ، حتّى كثر القتلى حتّى كادوا أن يهلكوا حتّى قتل بينهم سبعون ألفا ، وحتّى دعا موسى وهارون : ربّنا هلكت بنو إسرائيل ، ربّنا البقيّة البقيّة (١)! فأمرهم أن يضعوا السلاح ، وتاب عليهم. فكان من قتل شهيدا ، ومن بقي كان مكفّرا عنه. فلذلك قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٢).

[٢ / ١٩١٧] وعن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء : سمعت عبيد بن عمير يقول : قام بعضهم إلى بعض يقتل بعضهم بعضا ، ما يتوقّى الرجل أخاه ولا أباه ولا ابنه ولا أحدا حتّى نزلت التوبة.

قال ابن جريج ، وقال ابن عبّاس : بلغ قتلاهم سبعين ألفا ، ثمّ رفع الله عزوجل عنهم القتل ، وتاب عليهم. قال ابن جريج : قاموا صفّين ، فاقتتلوا بينهم ، فجعل الله القتل لمن قتل منهم شهادة ، وكانت توبة لمن بقي. وكان قتل بعضهم بعضا أنّ الله علم أنّ ناسا منهم علموا أنّ العجل باطل فلم يمنعهم أن ينكروا عليهم إلّا مخافة القتال ، فلذلك أمر أن يقتل بعضهم بعضا (٣).

[٢ / ١٩١٨] وعن القاسم بن أبي بزّة أنّه سمع سعيد بن جبير ومجاهدا قالا : قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعضا لا يحنّ (٤) رجل على رجل قريب ولا بعيد ، حتّى ألوى موسى بثوبه ، فطرحوا ما بأيديهم ، فتكشّف عن سبعين ألف قتيل ، وإنّ الله أوحى إلى موسى أن حسبي قد اكتفيت ، فذلك حين ألوى بثوبه (٥). (٦).

[٢ / ١٩١٩] وعن أبي العالية في قوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) الآية ، قال : فصاروا صفّين ، فجعل يقتل بعضهم بعضا ، فبلغ القتلى ما شاء الله ، ثمّ قيل لهم : قد تيب على القاتل والمقتول (٧).

__________________

(١) يدعوان ربّهما أن يبقي بقيّة منهم.

(٢) الطبري ١ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩ / ٧٨٧ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١١١ / ٥٣٣ ، من قوله : فاجتلد الّذين عبدوه والّذين لم يعبدوه.

(٣) الطبري ١ : ٤١٠ / ٧٩٢.

(٤) حنّ عليه : عطف عليه.

(٥) ألوى بثوبه : أشار به يأمرهم بالكفّ عمّا هم فيه.

(٦) الطبري ١ : ٤٠٨ / ٧٨٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١١٠ / ٥٢٨.

(٧) الطبري ١ : ٤٠٩ / ٧٨٩.

١٠٥

[٢ / ١٩٢٠] وعن الزهري وقتادة في قوله : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) قال : قاموا صفّين فقتل بعضهم بعضا حتّى قيل لهم كفّوا. قال قتادة : كانت شهادة للمقتول وتوبة للحيّ (١).

[٢ / ١٩٢١] وعن عبد بن حميد عن مجاهد قال : كان أمر موسى قومه عن أمر ربّه أن يقتل بعضهم بعضا بالخناجر ، فجعل الرجل يقتل أباه ويقتل ابنه فتاب الله عليهم (٢).

[٢ / ١٩٢٢] وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير عن الزهري قال : لمّا أمرت بنو اسرائيل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى ، فتضاربوا بالسيوف وتطاعنوا بالخناجر وموسى رافع يديه ، حتّى إذا فتر بعضهم قالوا : يا نبي الله ادع لنا ، وأخذوا بعضديه. فلم يزل أمرهم على ذلك حتّى إذا قبل الله توبتهم ، قبض أيدي بعضهم عن بعض ، فألقوا السلاح وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم ، فأوحى الله إلى موسى : ما يحزنك؟ أمّا من قتل منكم فحيّ عندي يرزق ، وأمّا من بقي فقد قبلت توبته. فسرّ بذلك موسى وبنو إسرائيل (٣).

[٢ / ١٩٢٣] وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال : قالوا لموسى : ما توبتنا؟ قال : يقتل بعضكم بعضا ، فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه ـ والله لا يبالي من قتل ـ حتّى قتل منهم سبعون ألفا ، فأوحى الله إلى موسى : مرهم فليرفعوا أيديهم وقد غفر لمن قتل ، وتيب على من بقي (٤).

[٢ / ١٩٢٤] وأخرج عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال : فقال الله تبارك وتعالى : إنّ توبتهم أن يقتل كلّ رجل منهم كلّ من لقي من والد أو ولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن ، فتاب أولئك الّذين كان قد خفي على موسى وهارون ما اطّلع الله من ذنوبهم ، فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا به ، فغفر الله للقاتل والمقتول (٥).

[٢ / ١٩٢٥] وعن الحسن : قوله : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) قال أصابت بني إسرائيل ظلمة حندس فقتل

__________________

(١) المصدر / ٧٩١.

(٢) الدرّ ١ : ١٦٦ ؛ الطبري ١ : ٤٠٩ / ٧٨٨.

(٣) الدرّ ١ : ١٦٩ ؛ الطبري ١ : ٤٠٩ ـ ٤١٠ / ٧٩٠ ؛ ابن كثير ١ : ٩٦ ؛ ابن عساكر ٦١ : ١٥٩ ـ ١٦٠ / ٧٧٤١.

(٤) الدرّ ١ : ١٦٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١١١ / ٥٣٢ ؛ ابن كثير ١ : ٩٦ ، بمعناه ؛ البغوي ١ : ١١٨ ؛ كنز العمّال ٢ : ٤٦٧ / ٤٥١٢.

(٥) ابن أبي حاتم ١ : ١١٠ / ٥٢٧.

١٠٦

بعضهم بعضا ثمّ انكشف عنهم ، فجعل توبتهم في ذلك (١).

[٢ / ١٩٢٦] وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ...) الآية. قال : أمر القوم بشديد من البلاء ، فقاموا يتناحرون بالشفار ، ويقتل بعضهم بعضا ، حتّى بلغ الله نقمته فيهم وعقوبته ، فلمّا بلغ ذلك سقطت الشفار من أيديهم وأمسك عنهم القتل ، فجعله الله للحيّ منهم توبة وللمقتول شهادة (٢).

[٢ / ١٩٢٧] وقال مقاتل بن سليمان ـ بعد أن بعث الله الّذين أخذتهم الصاعقة ـ : ثمّ انصرفوا مع موسى راجعين فلمّا دنوا من المعسكر على ساحل البحر سمعوا اللغط حول العجل ، فقالوا : هذا قتال فى المحلّة ، فقال موسى عليه‌السلام ليس بقتال ولكنّه صوت الفتنة ، فلمّا دخلوا المعسكر رأى موسى ماذا يصنعون حول العجل ، فغضب وألقى الألواح فانكسر منها لوحان ، فارتفع من اللوح بعض كلام الله ـ عزوجل ـ فأمر بالسامريّ فأخرج من محلّة بني إسرائيل ، ثمّ عمد إلى العجل فبرده بالمبرد وأحرقه بالنار ثمّ ذرّاه في البحر فذلك قوله : (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)(٣) فقال موسى : إنّكم ظلمتم ـ أي ضررتم ـ أنفسكم باتّخاذكم العجل إلها من دون الله ـ سبحانه وتعالى ـ (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ). يعني خالقكم. وندم القوم على صنيعهم. فذلك قوله ـ سبحانه : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) يعني أشركوا بالله ـ عزوجل ـ (قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٤). فقالوا : كيف لنا بالتوبة يا موسى؟ قال : اقتلوا أنفسكم يعني يقتل بعضكم بعضا كقوله سبحانه في النساء : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)(٥) يقول : لا يقتل بعضكم بعضكم. (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) يعني : ذلك القتل والتوبة خير لكم عند بارئكم ، يعني عند خالقكم. قالوا : قد فعلنا. فلمّا أصبحوا أمر موسى عليه‌السلام البقية الاثني عشر ألفا الّذين لم يعبدوا العجل أن يقتلوهم بالسيف والخناجر ، فخرج كلّ بني أب على حدّه من منازلهم ، فقعدوا بأفنية بيوتهم ، فقال بعضهم لبعض : هؤلاء إخوانكم أتوكم

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ١١٠ / ٥٣٠ ؛ ابن كثير ١ : ٩٦. الحندس : الليل الشديد الظلمة.

(٢) الدرّ ١ : ١٦٩ ؛ ابن كثير ١ : ٩٦ ، بتفاوت ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١١٠ / ٥٢٩ ، بتفاوت.

(٣) طه ٢٠ : ٩٧.

(٤) الأعراف ٧ : ١٤٩.

(٥) النساء ٤ : ٢٩.

١٠٧

شاهرين السيوف فاتّقوا الله واصبروا ، فلعنة الله على رجل حلّ حبوته أو قام من مجلسه أو اتّقى بيد أو رجل أو حار إليهم طرفة عين (١). قالوا : آمين. فقتلوهم من لدن طلوع الشمس إلى انتصاف النهار يوم الجمعة وأرسل الله ـ عزوجل ـ عليهم الظلمة حتّى لا يعرف بعضهم بعضا. فبلغت القتلى سبعين ألفا. ثمّ أنزل الله ـ عزوجل ـ الرحمة فلم يحدّ فيهم السلاح ، فأخبر الله ـ عزوجل ـ موسى عليه‌السلام أنّه قد نزلت الرحمة. فقال لهم : قد نزلت الرحمة ثمّ أمر موسى المنادي فنادى أن ارفعوا سيوفكم عن إخوانكم فجعل الله ـ عزوجل ـ القتلى شهداء ، وتاب الله على الأحياء ، وعفى عن الّذين صبروا للقتل فلم يقتلوا. فمن مات قبل أن يأتيهم موسى عليه‌السلام على عبادة العجل دخل النار. ومن هرب من القتل لعنهم الله فضربت عليهم الذلّة والمسكنة ، فذلك قوله : (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)(٢). وذلك ـ قوله سبحانه ـ : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ)(٣).

فكان الرجل يأتي نادى قومه وهم جلوس فيقتل من العشرة ثلاثة ويدع البقية ، ويقتل الخمسة من العشرين ، ومن كتب عليهم الشهادة ويبقى الّذين لم يقض لهم أن يقتلوا. فذلك قوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) فلم نهلككم جميعا (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) يعني بعد العجل (لَعَلَّكُمْ) يعني لكي (تَشْكُرُونَ) ربّكم في هذه النعم ، يعني العفو. (فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). وذلك قوله ـ سبحانه ـ في الأعراف : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها) يعني من بعد عبادة العجل (وَآمَنُوا) يعني وصدّقوا بأنّ الله واحد لا شريك له (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(٤) لذو تجاوز عنهم رحيم بهم عند التوبة (٥).

[٢ / ١٩٢٨] وقال قتادة : جعل عقوبة عبدة العجل القتل لأنّهم ارتدّوا. والكفر يبيح الدمّ (٦).

قلت : هذا ينافي ما سيأتي عن قتادة أنّه قرأ : «فأقيلوا أنفسكم» من الإقالة. أي استقيلوا العثرة

__________________

(١) حار إليه طرفه أي رجع ببصره إليه.

(٢) الأعراف ٧ : ١٥٢.

(٣) الأعراف ٧ : ١٦٧.

(٤) الأعراف ٧ : ١٥٣.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ١٠٥ ـ ١٠٧.

(٦) أبو الفتوح ١ : ٢٩٤ ؛ الثعلبي ١ : ١٩٨.

١٠٨

بالتوبة (١).

[٢ / ١٩٢٩] وقال الرّماني : لا بدّ أن يكون في الأمر بالقتل لطف لهم ولغيرهم كما يكون في استسلام القاتل لطف له ولغيره (٢).

[٢ / ١٩٣٠] وقيل : معناه استسلموا للقتل فجعل استسلامهم للقتل قتلا منهم لأنفسهم على وجه التوسّع ، عن ابن إسحاق ، واختاره الجبّائي (٣).

***

وهكذا سرت البليّة إلى تفاسير معزوّة إلى بعض أصحابنا الإماميّة ، ممّا قد رفضنا مسبقا أن تكون أمثال هذه التفاسير ذوات استناد صحيح ، وهكذا لم يعتبرها علماؤنا ولم يعتمدوها سلفا وخلفا حتّى اليوم (٤).

من ذلك ما جاء في التفسير الموسوم بتفسير الإمام العسكري عليه‌السلام جاء فيه :

[٢ / ١٩٣١] قال الإمام : «قال الله عزوجل : واذكروا يا بني إسرائيل : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) عبدة العجل (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أضررتم بها (بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) إلها (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) الذي برأكم وصوّركم (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بقتل بعضكم بعضا يقتل من لم يعبد العجل من عبده (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي ذلك القتل خير لكم (عِنْدَ بارِئِكُمْ) من أن تعيشوا في الدنيا وهو لم يغفر لكم ، فتتمّ في الحياة الدنيا حياتكم ويكون إلى النار مصيركم ، وإذا قتلتم وأنتم تائبون جعل الله ـ عزوجل ـ ذلك القتل كفّارة لكم ، وجعل الجنّة منزلكم ومنقلبكم. قال الله عزوجل : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) قبل توبتكم قبل استيفاء القتل لجماعتكم وقبل إتيانه على كافّتكم وأمهلكم للتوبة واستبقاكم للطاعة (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). قال : وذلك أنّ موسى عليه‌السلام لمّا أبطل الله تعالى على يديه أمر العجل فأنطقه بالخبر عن تمويه السامريّ ، وأمر موسى عليه‌السلام أن يقتل من لم يعبده من عبده ، تبرّأ أكثرهم وقالوا : لم نعبده ، فقال الله ـ عزّ

__________________

(١) الثعلبي ١ : ١٩٨.

(٢) مجمع البيان ١ : ٢١٩ ؛ التبيان ١ : ٢٤٦.

(٣) مجمع البيان ١ : ٢١٨ ؛ التبيان ١ : ٢٤٦ ، قال في التبيان : ذكره ابن عبّاس وإسحاق واختاره أبو عليّ (الجبّائي).

(٤) راجع : ما سجّلناه بهذا الصدد في كتابنا «صيانة القرآن من التحريف» (الجزء الثامن من التمهيد).

١٠٩

وجلّ ـ لموسى عليه‌السلام : ابرد هذا العجل الذهب ، بالحديد بردا ، ثمّ ذرّه في البحر ، فمن شرب ماءه اسودّت شفتاه وأنفه وبان ذنبه ، ففعل ، فبان العابدون للعجل. وأمر الله تعالى اثني عشر ألفا أن يخرجوا على الباقين شاهرين السيوف يقتلونهم ، ونادى مناديه ألا لعن الله أحدا اتّقاهم بيد أو رجل ولعن الله من تأمّل المقتول لعلّه تبيّنه حميما أو قريبا فيتوقّاه ويتعدّاه إلى الأجنبي ، فاستسلم المقتولون ، فقال القاتلون : نحن أعظم مصيبة منهم ، نقتل بأيدينا آباءنا وأبناءنا وإخواننا وقراباتنا ، ونحن لم نعبد ، فقد ساوى بيننا وبينهم في المصيبة.

فأوحى الله تعالى إلى موسى ، يا موسى إنّي إنّما امتحنتهم بذلك لأنّهم ما اعتزلوهم لما عبدوا العجل ولم يهجروهم ولم يعادوهم على ذلك» (١).

[٢ / ١٩٣٢] وفي التفسير المنسوب إلى عليّ بن إبراهيم : قال : إنّ موسى عليه‌السلام لمّا خرج إلى الميقات ورجع إلى قومه وقد عبدوا العجل ، قال لهم موسى : (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ ،) فقالوا : وكيف نقتل أنفسنا؟ فقال لهم موسى : اغدوا كلّ واحد منكم إلى بيت المقدس ومعه سكّين أو حديدة أو سيف ، فإذا صعدت أنا منبر بني إسرائيل فكونوا أنتم متلثّمين لا يعرف أحد صاحبه ، فاقتلوا بعضكم بعضا. فاجتمع سبعون ألف رجل ممّن كانوا عبدوا العجل إلى بيت المقدس ، فلمّا صلّى بهم موسى وصعد المنبر ، أقبل بعضهم يقتل بعضا حتّى نزل جبرائيل ، فقال : قل لهم يا موسى : ارفعوا القتل ، فقد تاب الله عليكم ، فقتل منهم عشرة آلاف وأنزل الله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٢).

وفي هذين الحديثين زيادة غرابة من وجوه : جاء في الحديث الأوّل : أنّ الله أنطق العجل لموسى. وأنّ القوم شربوا من ماء البحر وفيه برادة العجل فافتضحوا ..

وفي الحديث الثاني : أنّ موسى أمرهم أن يغدوا إلى بيت المقدس ليصعد هو المنبر. في حين أنّ موسى لم يدخل القدس.

وغير ذلك من غرائب قد يغفل عنها الكذوب!

__________________

(١) تفسير الإمام : ٢٥٤ / ١٢٤.

(٢) القمي ١ : ٤٧.

١١٠

تحقيق لطيف

ولأهل التحقيق هنا بيان لطيف :

قال الإمام أبو عبد الرحمان السّلميّ : أوّل قدم في العبوديّة التوبة وهو : إتلاف النفس وقتلها بترك الشهوات وقطعها عن المراد .. وقال الواسطي : كانت توبة بني إسرائيل إفناء أنفسهم ، ولهذه الأمّة أشدّ ، وهو إفناء أنفسهم مع مراداتها ، وإبقاء رسوم الهياكل. وقال فارس : التوبة محو البشريّة وثبات الإلهيّة (١).

وقال الإمام القشيري : وقتل النفس في الحقيقة التبرّي عن حولها وقوّتها أو شهود شيء منها ، وردّ دعواها إليها ، وتشويش تدبيرها عليها ، وتسليم الأمور إلى الحقّ ـ سبحانه ـ بجملتها ، وانسلاخها من اختيارها وإرادتها ، وانمحاء آثار البشريّة عنها. فأمّا بقاء الرسوم والهياكل فلا خطر له ولا عبرة به (٢).

قال القرطبي : قال أرباب الخواطر : ذلّلوها بالطاعات وكفّوها عن الشهوات (٣).

وذكر أبو حيّان الأندلسي : أنّ بعضهم قال : معنى قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : ذلّلوا أهواءكم.

قال أبو حيّان : وجاء التقتيل بمعنى التذليل ، ومنه قول امرء القيس :

وما ذرفت عيناك إلّا لتضربي

بسهميك في أعشار قلب مقتّل

قال : فسّروه بالمذلّل (٤).

قال الزوزني : المقتّل : المذلّل غاية التذليل. والقتل في الكلام التذليل ، ومنه قولهم : «قتلت الشراب» إذا قلّلت غرب سورته بالمزاج. ومنه قول الأخطل :

فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها

وحبّ بها مقتولة حين تقتل

وقال حسّان :

إنّ الّتي ناولتني فرددتها

قتلت قتلت ، فهاتها لم تقتل (٥)

__________________

(١) تفسير السلمي ١ : ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) تفسير القشيري ١ : ٩٢ تحقيق إبراهيم بسيوني (ط ٣).

(٣) القرطبي ١ : ٤٠١.

(٤) البحر المحيط ١ : ٢٠٤ و ٢٠٧.

(٥) شرح المعلّقات للزوزني : ١٦. غرب الشيء : حدّته.

١١١

وهكذا جاء في قراءة قتادة : «فأقيلوا أنفسكم» من الإقالة : أي استقيلوا العثرة بالتوبة (١). أي امحوها بالتوبة. كما قال ابن الزبير بشأن مقتل عثمان : لا أستقيلها أبدا. أي لا أقيل هذه العثرة ولا أنساها (٢).

ولعلّه قراءة بالمعنى قصدا للتفسير ، كما في قراءات معزوّة إلى ابن مسعود وكثير من السلف.

وفي شواذّ ابن خالويه : قرأ قتادة : «فاقّيّلوا أنفسكم». قال : اقتال في غير هذا (الموضع) بمعنى احتكم ، كما قال كعب :

«وما اقتال من حكم عليّ طبيب» (٣).

وعليه فالمعنى هنا : طلب الإقالة من عثرتها ، المستدعي لشدّة النكير عليها وتعنيفها على ما فرط منها فلا تعود لمثلها أبدا.

***

هذا وقد صحّ التعبير بقتل النفس كناية عن كبح جموحها والحطّ من غلواء شهواتها ، فلا تطغو ولا تتجاوز حدودها المضروبة لها.

قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً. وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً. وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً)(٤).

قوله : (أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بترك هواها والتزام الطاعة محضا.

[٢ / ١٩٣٣] قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «بالتسليم لوليّ الأمر والطاعة له محضا» (٥) وهذا إشارة إلى ما في آية سابقة عليها : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ) إلى قوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(٦).

__________________

(١) الثعلبي ١ : ١٩٨.

(٢) لسان العرب ١١ : ٥٨٠.

(٣) شواذّ القراءات : ٦ / ٥.

(٤) النساء ٤ : ٦٦ ـ ٦٨.

(٥) الكافي ٨ : ١٨٤ / ٢١٠.

(٦) النساء ٤ : ٦٢ ـ ٦٥.

١١٢

فقتل النفس كناية عن التسليم المحض لأوامر الله ، الأمر الذي يؤكّد عليه القرآن كثيرا : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(١).

وقوله : (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) أي الهجرة ممّا ألفوه من ملابسات الديار ، إلى حيث كان الأفضل في سبيل الرشاد.

وهذا يدخل في باب مجاهدة النفس المعبّر عنها بالجهاد الأكبر ، كما في الحديث :

[٢ / ١٩٣٤] روى ثقة الإسلام الكليني بالإسناد إلى الإمام الصادق قال : «بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سريّة ، فلمّا رجعوا قال : مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر ، وبقي عليهم الجهاد الأكبر! قيل : يا رسول الله! ما الجهاد الاكبر؟ قال : جهاد النفس» (٢).

[٢ / ١٩٣٥] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ أفضل الجهاد من جاهد نفسه الّتي بين جنبيه» (٣).

[٢ / ١٩٣٦] وقال الصادق عليه‌السلام : «من ملك نفسه إذا رغب وإذا رهب وإذا اشتهى وإذا غضب وإذا رضي ، حرّم الله جسده على النار» (٤).

على أنّ من شرائط التوبة : الانخلاع عمّا كسبه من مشتهيات الآثام وما اقترفه من لذائذ الحرام .. فعليه أن يجاهد نفسه ويذهب بما فيها من أدران ، وهذا هو قتل النفس وسلبها مقاليد الهوى.

نعم : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥).

فشرط قبول التوبة هو القيام بإصلاح ما أفسدته المعصية.

[٢ / ١٩٣٧] قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ الاستغفار درجة العلّيّين ، وهو اسم واقع على ستّة معان : أوّلها : الندم على ما مضى. والثاني : العزم على ترك العود إليه أبدا. والثالث : أن تؤدّي إلى

__________________

(١) النساء ٤ : ٦٢ ـ ٦٥.

(٢) الكافي ٥ : ١٢ / ٣ ؛ الأمالي ، الصدوق : ٥٥٣ / ٧٤٠ ، المجلس ٧١.

(٣) أمالي الصدوق : ٥٥٣ / ٧٤٠ ؛ معاني الأخبار : ١٦٠ / ١.

(٤) الفقيه ـ ٤ : ٤٠٠ / ١٥٦٠.

(٥) الأنعام ٦ : ٥٤.

١١٣

المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله أملس (نقيّا صافيا) ليس عليك تبعة. والرابع : أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها.

والخامس : أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان ، حتّى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد. والسادس : أن تذيق الجسم ألم الطاعة ، كما أذقته حلاوة المعصية» (١).

فعند ذلك يصحّ الاستغفار ، وتكون التوبة توبة نصوح.

هذه البنود ولا سيّما الخامس والسادس ، هي مجاهدة النفس وقتلها في سبيل هواها ، لتخلص صافية ضاحية ومستبشرة عند الله.

[٢ / ١٩٣٨] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تاب ولم يغيّر خلقه ونيّته فليس بتائب» (٢). والروايات بهذا الشأن كثيرة تؤكّد على مقابلة النفس فيما اشتهته من معاصي وآثام.

هذا فضلا عن دلالة سياق الآية على أنّ المراد هي مجاهدة النفس ومقابلتها مقابلة عنيفة ، لكسر شوكتها وكبح غرورها ، فلا تجرأ على معصية الله أبدا.

فقد جاء في آية سابقة عليها : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ. ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٣).

ثمّ كرّر ذلك وقال : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٤).

فالعفو في الآية السابقة هو العفو في هذه الآية ، لكن مع تفصيل لقبول التوبة : أوّلا : الأوبة إلى الله بالتضرّع لديه والاستغفار.

ثانيا : بمقابلة النفس بالأخذ بنقيض مطلوبها ... فقد كانوا أطلقوا سراحها من قبل ـ وكان ذلك في الواقع ظلما لها ـ فالآن فيجب أن تقابل بالمثل وأن تكبح جموحها.

والتعبير بإماتة النفس كثير في آثار المعصومين عليهم‌السلام.

__________________

(١) نهج البلاغة ٤ : ٩٨ ، الحكمة ٤١٧.

(٢) جامع الأخبار ، السبزواري : ٢٢٧ ؛ البحار ٦ : ٣٦ / ٥٢.

(٣) البقرة ٢ : ٥١ ـ ٥٢.

(٤) البقرة ٢ : ٥٤.

١١٤

[٢ / ١٩٣٩] قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فأعرض عن الدنيا بقلبه وأمات ذكرها عن نفسه» (١).

[٢ / ١٩٤٠] وقال : «السالك الطريق إلى الله سبحانه ، قد أحيا عقله وأمات نفسه» (٢).

[٢ / ١٩٤١] وقال : «أحي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة» (٣).

وهذا هو معنى قول الصادق عليه‌السلام فيما مرّ : «من ملك نفسه ـ لدى المشتهيات ـ حرّم الله جسده على النار» (٤).

فمن شرائط قبول التوبة هو الأخذ الشديد بزمام النفس دون جموحها أخذا مع الأبد. وإذ قد فعل ذلك فقد قتل نفسه وجعل حدّا دون هواها.

***

ودليل آخر على عدم إرادة القتل بمعنى إزهاق الروح ، أن لا فائدة تعود إلى التائب لو أمر بقتل نفسه قتلا حقيقة ، ولا موضع لقوله تعالى : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) إذ لا خير لهم ، أي لا مصلحة لهم في العاجل .. في حين أنّ المراد هنا هي خير الدنيا والآخرة.

وبذلك قال القاضي عبد الجبّار ، قال : حقيقة القتل هي نقض البنية ، ولا يجوز أن يأمر الله بعبادة إلّا إذا ترتّبت عليها مصلحة تعود إلى العباد في مستقبل حياتهم ، وليس بعد القتل حال تكليف حتّى يكون القتل مصلحة فيه (٥).

على أنّ القتل عقوبة على الردّة ـ كما قيل ـ ولا عقوبة على النادم الآئب التائب إلى الله ، ولا سيّما من قوم جاهلين. إذ لم يكن منهم ردّة ، وإنّما زعموا في العجل تجلّيا لإله موسى ، كما نصّ عليه القرآن : (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى)(٦). إذن فقد كانت جهالة ، وقد تكرّرت منهم ذلك فيما

__________________

(١) نهج البلاغة ١ : ٢١٥ ، الخطبة ١٠٩ ، و ٢ : ٥٩ الخطبة ١٦٠.

(٢) المصدر ، الخطبة ٢٢٠.

(٣) المصدر ، الكتاب ٣١.

(٤) انظر : الفقيه ٤ : ٢٥٤ / ٨٢١.

(٥) التفسير الكبير ٣ : ٨١.

(٦) طه ٢٠ : ٨٨.

١١٥

بعد أيضا ، حيث طلبوا من موسى أن يصنع لهم تمثال إله : (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(١). فاكتفى بتجهيلهم ولم يعتبرهم مرتدّين عن عقائدهم وهم في بداية الأمر.

قال الأستاذ عبد الوهّاب النجّار : إنّ بني إسرائيل لم تكن أنفس أكثرهم مرتاضة بالإيمان. وإنّهم كانوا ذوي جهالة لم يحصلوا على الثقافة الكافية لصون عقائدهم من الزيغ. والقوم عاشوا في مصر وألفوا أن يروا عبادة المصريّين للعجل (أبيس). وكان للمصريّين عناية فائقة بعبادة هذا العجل ، وكانت العجول المؤلّهة إذا ماتت حنّطوها كما يحنّط الآدمي بما يحفظ جسمها من التلف ودفنوها في مقبرة خاصّة ، في جهة سقارة تسمّى «سرابيوم» (٢).

فقد كان إلف بني إسرائيل لعبادة العجلّ ـ وهم في مصر ـ قد سهّل لرجل ماكر (السامريّ) ليصنع لهم العجل ويقول لهم : هذا إلهكم وإله موسى! وما ذلك سوى انتهاز الفرصة لموضع جهالة القوم.

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٣٨.

(٢) قصص الأنبياء : ٢١٨.

١١٦

قال تعالى :

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦))

وهذا أيضا موقف من مواقف بني إسرائيل التعنتيّة ، يقابلون النعم بالعتوّ والكفران بدل أن يشكروها.

من ذلك موقف آبائهم إذا هم يطلبون أن يروا الله جهرة ، والّذين طلبوا هذا المستحيل هم السبعون الّذين اختارهم موسى لميقات ربّه ، وإذا هم يرفضون الإيمان لموسى إلّا أن يروا الله عيانا. والقرآن يواجههم بهذا التجديف (١) الذي صدر من آبائهم ، لينكشف تعنّتهم القديم الذي يشابه تعنّتهم الحاضر مع الرسول الكريم ، فقد شابه الأبناء الآباء حذو النعل بالنعل.

نعم إنّ الدلائل والبيّنات وكذا النعم والآلاء كلّها لا تغيّر من تلك الطبيعة الجاسية (٢) التي لا تؤمن إلّا بالمحسوس ، والتي تظلّ مع ذلك تجادل وتماحل ولا تستجيب إلّا تحت وقع العذاب والتنكيل ، ممّا يوحي بأنّ فترة الإذلال التي قضوها تحت حكم فرعون الطاغية قد أفسدت فطرتهم إفسادا عميقا ، وليس أشدّ إفسادا للفطرة من الذلّ الذي ينشئه الطغيان الطويل ، والّذي يحطّم فضائل النفس البشريّة ، ويحلّل مقوّماتها ، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد : استخذاء تحت سوط الجلّاد ، وتمرّدا حين يرفع عنهم السوط ، وتبطّرا حين يتاح لها شيء من النعمة والقوّة. وهكذا كانت إسرائيل ـ وهكذا هي في كلّ حين.

قال سيّد قطب : ومن ثمّ يجدّفون هذا التجديف. ويتعنّتون هذا التعنّت :

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ...)

ومن ثمّ يأخذهم الله جزاء هذا التجديف ، وهم على سفح الجبل في الميقات : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).

__________________

(١) التجديف : كفران النعم.

(٢) الصعبة القاسية.

١١٧

ومرّة أخرى تدركهم رحمة الله وتوهب لهم فرصة الحياة عسى أن يذكّروا ويشكروا. ويذكّرهم هنا مواجهة بهذه النعمة :

(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١).

[٢ / ١٩٤٢] قال عليّ بن إبراهيم ـ في تفسير الآية ـ : وهؤلاء هم السبعون الّذين اختارهم موسى ليسمعوا كلام الله. فلمّا سمعوا الكلام قالوا : لن نؤمن لك يا موسى حتّى نرى الله جهرة ، فبعث الله عليهم صاعقة فاحترقوا ، ثمّ أحياهم الله بعد ذلك وبعثهم أنبياء .. (٢) أي حاملين نبأ هذا الحادث إلى بني إسرائيل.

قال : فهذا دليل على [إمكان] الرجعة في أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لم يكن في بني إسرائيل شيء إلّا وفي أمّتي مثله (٣).

[٢ / ١٩٤٣] وهكذا روى أبو جعفر الطبري بالإسناد إلى السدّي : أنّ معنى قوله تعالى (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) أي بعثناكم أنبياء.

قال : وتأويل الكلام على ما تأوّله السدّي : فأخذتكم الصاعقة ، ثمّ أحييناكم من بعد موتكم وأنتم تنظرون إلى إحيائنا إيّاكم من بعد موتكم ، ثمّ بعثناكم أنبياء لعلّكم تشكرون.

قال : وزعم السدّي أنّ ذلك من المقدّم الذي معناه التأخير ، والمؤخّر الذي معناه التقديم.

قال : والواجب على تأويل السدّي الذي حكيناه عنه أن يكون معنى قوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : تشكروني على تصييري إيّاكم أنبياء.

قال : وهذا تأويل يدلّ ظاهر التلاوة على خلافه ، مع إجماع أهل التأويل على تخطئته (٤).

[٢ / ١٩٤٤] وروى الصدوق بإسناده إلى الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام قال : «إنّهم السبعون الّذين اختارهم موسى وصاروا معه إلى الجبل ، فقالوا له : إنّك قد رأيت الله فأرناه كما رأيته! فقال موسى : إنّي لم أره! فقالوا : لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٩٢ ـ ٩٣.

(٢) القمّي ١ : ٤٧.

(٣) راجع : إكمال الدين للصدوق ٢ : ٥٧٦. والبحار ٢٨ : ١٠ / ١٥. وسنتكلّم عن حديث الرجعة في مجال متناسب إن شاء الله.

(٤) الطبري ١ : ٤١٥ / ٨٠٤ ـ ٨٠٥.

١١٨

آخرهم ، وبقي موسى وحيدا ، فقال : يا ربّ اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم وأرجع وحدي ، فكيف يصدّقني قومي بما أخبرهم به؟! فلو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي ، أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا؟! فأحياهم الله من بعد موتهم» (١).

وقال أبو جعفر الطبري : واذكروا أيضا إذ قلتم يا موسى لن نصدّقك ولن نقرّ بما جئتنا به حتّى نرى الله جهرة : عيانا ، برفع الساتر بيننا وبينه وكشف الغطاء دوننا ودونه حتّى ننظر إليه بأبصارنا ، كما تجهر الركيّة ، وذلك إذا كان ماؤها قد غطّاه الطين ، فنفي ما قد غطّاه حتّى يظهر الماء ويصفو ، يقال :

منه : قد جهرت الركيّة ، أجهرها جهرا وجهرة. ولذلك قيل : قد جهر فلان بهذا الأمر مجاهرة وجهارا ، إذا أظهره لرأي العين وأعلنه ، كما قال الفرزدق :

من اللائي يضلّ الإلف منه

مسيخا من مخافته جهارا (٢)

[٢ / ١٩٤٥] وروى بالإسناد إلى ابن جريج ، قال : قال ابن عبّاس : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) قال : علانية.

[٢ / ١٩٤٦] وعن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) يقول : عيانا.

[٢ / ١٩٤٧] وعن ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) : حتّى يطلع إلينا.

[٢ / ١٩٤٨] وعن قتادة : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) : أي عيانا.

فذكّرهم بذلك ـ جلّ ذكره ـ اختلاف آبائهم وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم ، مع كثرة معاينتهم من آيات الله ـ جلّ وعزّ ـ وعبره ما تثلج بأقلّها الصدور (٣) ، وتطمئنّ بالتصديق معها النفوس ؛ وذلك مع تتابع الحجج عليهم ، وسبوغ النعم من الله لديهم. وهم مع ذلك مرّة يسألون نبيّهم أن يجعل لهم إلها غير الله ، ومرّة يعبدون العجل من دون الله ، ومرّة يقولون : لا نصدّقك حتّى نرى الله جهرة ، وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)(٤) ومرّة

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ١ : ١٤٤ / ١ ، باب ١٢ ؛ التوحيد : ٤٢٤ / ١ ، باب ٦٥ ؛ البحار ١٠ : ٣٠٥ / ١ ، باب ١٩.

(٢) المسيخ : الممسوخ ، المشوّه الخلق. ومن الطعام : ما لا طعم له. الأحمق ... يعني : الأليف يضلّ منه حائرا مشوّش البال علانية.

(٣) يريد ما تثق به وتسكن إليه.

(٤) المائدة ٥ : ٢٤.

١١٩

يقال لهم : (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ)(١) فيقولون : حنطة في شعيرة ، ويدخلون الباب من قبل أستاههم ، مع غير ذلك من أفعالهم التي آذوا بها نبيّهم عليه‌السلام التي يكثر إحصاؤها. فأعلم ربّنا ـ تبارك وتعالى ذكره ـ الّذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل الّذين كانوا بين ظهرانيّ مهاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم لن يعدوا أن يكونوا في تكذيبهم محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجحودهم نبوّته ، وتركهم الإقرار به وبما جاء به ، مع علمهم به ومعرفتهم بحقيقة أمره ، كأسلافهم وآبائهم الّذين فصّل عليهم قصصهم في ارتدادهم عن دينهم مرّة بعد أخرى ، وتوثّبهم على نبيّهم موسى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ تارة بعد أخرى ، مع عظيم بلاء الله ـ جلّ وعزّ ـ عندهم وسبوغ آلائه عليهم.

قال في تأويل قوله تعالى : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ :)

اختلف أهل التأويل في صفة الصاعقة التي أخذتهم. فقال بعضهم بما :

[٢ / ١٩٤٩] روى عبد الرزّاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) قال : ماتوا.

[٢ / ١٩٥٠] وعن الربيع : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) قال : سمعوا صوتا فصعقوا. يقول : فماتوا.

وقال آخرون بما :

[٢ / ١٩٥١] عن أسباط ، عن السدّي : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) والصاعقة : نار.

وقال آخرون بما :

[٢ / ١٩٥٢] روي عن ابن إسحاق ، قال : أخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فماتوا جميعا.

وأصل الصاعقة : كلّ أمر هائل رآه أو عاينه أو أصابه حتّى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب ، وإلى ذهاب عقل وغمور فهم ، أو فقد بعض آلات الجسم ، صوتا كان ذلك ، أو نارا ، أو زلزلة ، أو رجفا.

وممّا يدلّ على أنّه قد يكون مصعوقا وهو حيّ غير ميّت ، قول الله ـ عزوجل ـ : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً)(٢) يعني مغشيّا عليه. ومنه قول جرير بن عطية :

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٦١.

(٢) الأعراف ٧ : ١٤٣.

١٢٠