التفسير الأثري الجامع - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-03-6
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

إبراهيم قد انتهت إذن إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين به حقّا.

***

وعند هذا الحدّ يبدأ سياق السورة يتّجه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى الجماعة المسلمة من حوله ، حيث يأخذ في وضع الأسس الّتي تقوم عليها حياة هذه الجماعة المستخلفة على دعوة الله في الأرض ، وفي تمييز هذه الجماعة بطابع خاصّ ، وبمنهج في التصوّر وفي الحياة خاصّ.

ويبدأ في هذا بتعيين القبلة الّتي تتّجه إليها هذه الجماعة ـ ممتازة عن سائر الجماعات غير المهذّبة ـ وهو أوّل حجر أساسي لهذا الامتياز والانفصال عن المفترقات. ثمّ تمضي السورة في بيان المنهج الربّاني لهذه الجماعة المسلمة ، منهج التصوّر والعبادة ، ومنهج السلوك والمعاملة. ومنهج الكفاح الحرّ في سبيل تثبيت الدعوة وانتشارها في الأرض.

وفي النهاية نرى ختام السورة ينعطف على افتتاحها ، فيبيّن طبيعة التصوّر الإيماني وإيمان الأمّة المسلمة بالأنبياء كلّهم ، وبالكتب كلّها وبالغيب وماوراءه ، مع السمع والطاعة :

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ). (١)

ومن ثمّ يتناسق البدء والختام ، وتتجمّع موضوعات السورة بين ضفّتين ، من صفات المؤمنين وخصائص الإيمان (٢).

نقلنا كلامه بطوله ـ مع شيء من الاختزال وتصرّف يسير ـ لما فيه من الإجادة والإفادة وحسن البيان.

***

قلت : وبحقّ كانت سورة البقرة مسرحا خصبا لتنمية جذور الدعوة وتثبيت أركانها شامخة إلى الأبد! إلى جنب تربية أمّة واعية ، عارفة وحاذرة ، عارفة بمصيرها وما ينشطها في درب الحياة ،

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٢) في ظلال القرآن ١ : ٢٥ ـ ٣٦.

٤١

وحاذرة من مكائد الخصوم طول المسير.

وقد استغرق نزول سورة البقرة خمسة أعوام ، منذ مطالع السنة الثالثة للهجرة فحتّى السابعة خطّطت خلالها كلّ معالم الحضارة الإسلامية العليا ، ورسمت أصول بناء أمّة وسط هي شاهدة على الأمم عبر الأجيال.

بدأت ببدء الخليقة وعقّبها بمسألة الخلافة ، ثمّ الكفاح في معترك الحياة ، والنضال في سبيل الحصول على السعادة المنشودة ، والّتي تنشأ من الإيمان الصادق والعمل الصالح والإخلاص في المسعى الجميل.

ولا تزال السورة ـ على رسالتها الأولى ـ في التربية والتعليم وبثّ روح النشاط في جماعة المسلمين ، إن كانت هناك أذن واعية.

٤٢

تفسير سورة البقرة

في ضوء الدّلائل والبيّنات

٤٣
٤٤

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤))

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

أمّا البسملة فقد مرّ تفسيرها والكلام عن سائر شؤونها ، في مفتتح تفسير سورة الحمد.

وكذا الحروف المقطّعة ، جمعنا أطراف الكلام فيها في مقال ضاف ، فيما سبق من المقدّمات التمهيديّة.

أمّا الآيات ـ حتّى الآية العشرين فبحث تمهيديّ للورود في مقاصد السورة وبيان أهدافها على ما سبق ، وتشتمل على بيان أحوال الناس تجاه دعوة الأنبياء وغيرهم من مصلحين ذوي إخلاص ، إمّا أناس متعهدون فيصغون بكلّ مسامعهم لما يلقى عليهم من عظات وحكم (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(١).

وإمّا جاحدون مناوؤون ، يرفضون كلّ أطروحة ـ مهما كانت إصلاحيّة ـ فور أن لمسوا منها منافية لمصالحهم هم بالذات ، من غير ملاحظة مصالح الآخرين من سائر الناس. (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)(٢).

وإمّا مراوغون ، لا جرأة لهم على المخالفة ، ولا رضا لهم بالتسليم ، (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ)(٣).

أمّا احتمال وجود فئة رابعة ، شاكّة ومرتابة في أمر دعوة الحقّ ، فهذا شيء ينفيه القرآن بكلّ صراحة : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) حيث وفور الدلائل الواضحة بإثبات الحقّ الصريح.

***

فهناك ـ وعلى مرّ الدهور ـ فئات ثلاث تجاه دعوة الحقّ الصّريح ، إمّا أناس متعهدون ، ـ وعبّر

__________________

(١) الزمر ٣٩ : ١٧.

(٢) النمل ٢٧ : ١٤.

(٣) النساء ٤ : ١٤٣.

٤٥

عنهم القرآن بالمتّقين ـ يحتضنون الحقّ فور ما وجدوه.

والآيات الأربع ـ بدء السورة ـ تخصّ هؤلاء المسالمين.

والآيتان السادسة والسابعة ـ تعنيان أولئك الجاحدين المناوئين.

وبقيّة الآيات حتّى الآية العشرين ، تصف موقف المراوغين المنافقين ، في تفصيل وتفضيع.

ولنبدأ بالفئة الأولى المسالمة :

قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)

«ذلك» إشارة إلى البعيد ، بعدا في ارتفاع الشأن.

و «الكتاب» : القرآن أو الشريعة الغرّاء. (١)

قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا مجال للريب بعد وفور دلائل اليقين ، إذ كلّ تعاليم الشريعة ، أصولا وفروعا ، تتوافق ومباني العلم والحكمة ، وتتواءم مع الفطرة والعقل السليم. وليس في الشرع ما يتنافر منه الطبع ، فضلا عن العقل الرشيد والفكر السديد.

ومن ثمّ جاء قوله تعالى ـ من غير محاباة ـ :

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(٢). فقد كانت الغاية من إنزال الذكر وكذلك تبيين الرسول ، هو أن يتفكّر أولئك الألباب ، في مطاوي تعاليم الشريعة ، وليكن أخذهم بها والعمل عليها عن بصيرة نافذة ، وليس عن متابعة عمياء. وهكذا جاء الأمر بالتدبّر والتعقّل والتفكير ، في كثير من آيات القرآن ، متحدّيا شعور ذوي القلوب والأبصار ، الأمر الّذي يجعل من دين الإسلام ، دين الفطرة ودين العقل ودين الشعور والتفكير. فلا يحابي ولا يداهن

__________________

(١) باعتبارها كتابا أي مكتوبا ، يعني مفروضا على المؤمنين. كما في قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (النساء ٤ : ١٠٣). والكتاب في المصطلح القرآني ، كثيرا ما يراد به نفس الشريعة السمحاء ، ولا سيّما في أمثال قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) (آل عمران ٣ : ٨١). حيث الكتاب المسموح به إلى جنب الحكمة ، يراد به الشريعة : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (البقرة ٢ : ١٥١) أي علم الشريعة مع البصيرة في الدين. فالكتاب هي المفروضات ، والحكمة هي التبصّر في الدين والفهم المستقيم وعلم اليقين.

(٢) النحل ١٦ : ٤٤.

٤٦

ولا يهاب أحدا في مسيرة الدعوة العصماء.

المتّقون هم أهل الفضائل

قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وهم الفريق الأوّل من الفرق الثلاث تجاه دعوة الحقّ وهم النموذج الأوفى من النماذج البشريّة ذو تأصّل عريق ، هم على سلامة الطبع ورصانة العقل وأصحاب الفكر الرشيد. وقد كان الحقّ منشودهم في مناحي الحياة ، فمتى وجدوه احتضنوه بكلّ شعور ووعي صادق فكان هذا الاختصاص ـ بالهدى ـ لأجل أنّهم هم الآهلون للاستضاءة بنوره والانضواء تحت لوائه. وليست التقوى سوى التعهّد النفسي العميق ، يشعر به كلّ انسان حرّ في تعقّله وفي تفكّره وفي سلوكه ، فالتقوى في القلب هي الّتي تؤهّله للانتفاع بهذا الكتاب ، وهي الّتي تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤدّي وره هناك ، وهي الّتي تهيّء لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقّى وأن يستجيب. فلا بدّ لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن ، أن يجيء إليه بقلب سليم ، بقلب خالص ، ثمّ يجيء إليه بقلب يخشى ويتّقي. ويحذر أن يكون على ضلالة ، أو أن تستهويه ضلالة. وعندئذ يتفتّح القرآن عن أسراره وأنواره ، ويسكبها في هذا القلب الّذي جاء إليه متّقيا ، خائفا ، حسّاسا ، مهيّأ للتلقّي. ممّن (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ)(١)

(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ)(٢).

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(٣).

(كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(٤).

(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ)(٥).

إلى غيرها من آيات تنبؤك عن آهليّة هذا النمط من الناس ، مرنوا على قبول الحقّ والتسليم له إطلاقا لا يلويهم شيء عن الانصياع للحقيقة مهما كلّف الأمر.

__________________

(١) الرعد ١٣ : ٢١.

(٢) الأنبياء ٢١ : ٤٩.

(٣) سورة ق ٥٠ : ٣٧.

(٤) فصلت ٤١ : ٣.

(٥) المائدة ٥ : ٨٣ ـ ٨٤.

٤٧

تلك هي التقوى ، حسّاسية في الضمير ، وشفّافيّة في الشعور ، وخشية مستمرّة ، وحذر دائم ، وتوقّ لأشواك الطريق ، طريق الحياة ، الّذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات ، وأشواك المطامع والمطامح ، وأشواك المخاوف والهواجس ، وأشواك الرجاء الكاذب ، فيمن لا يملك إجابة رجاء ، والخوف الكاذب ممّن لا يملك نفعا ولا ضرّا ، وعشرات غيرها من الأشواك (١).

إذن فالمتّقون كما :

[٢ / ٩١] وصفهم الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : هم أهل الفضائل ، منطقهم الصواب ، وملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع. غضّوا أبصارهم عمّا حرّم الله عليهم ، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم ... عظم الخالق في أنفسهم فصغر مادون ذلك في أعينهم ... فمن علامة أحدهم : أنّك ترى له قوّة في دين ، وحزما في لين ، وإيمانا في يقين ، وحرصا في علم ، وعلما في حلم ، وقصدا في غنى ، وخشوعا في عبادة ، وتجمّلا في فاقة ، وصبرا في شدّة ، وطلبا في حلال ، ونشاطا في هدى ، وتحرّجا عن طمع ... الخير منه مأمول ، والشرّ منه مأمون ... بعيدا فحشه ، ليّنا قوله ، غائبا منكره ، حاضرا معروفه ، مقبلا خيره ، مدبرا شرّه ... في الزلازل وقور ، وفي المكاره صبور ، وفي الرخاء شكور ... يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه. لا يضيع ما استحفظ ، ولا ينسى ما ذكّر ... ولا يدخل في الباطل ، ولا يخرج من الحقّ ... نفسه منه في عناء ، والناس منه في راحة (٢).

فالتقوى : هي مجموعة فضائل نفسيّة تجعل صاحبها في قمّة المكرمة الإنسانيّة الرفيعة ، له شرفه ونبله وكرامته. وهذه الفضائل هي الّتي آهلته لإفاضة النفحات القدسيّة عليه في جميع أنحاء حياته الكريمة ، وانفتاح أبواب الخير والبركات عليه. (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)(٣).

ألا وهي الاستقامة على طريقة الحقّ اللائحة ، فتستعقب لا محالة صفاء في علم وضياء في حكمة ، (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(٤). (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ)(٥).

فهناك التقوى تستجلب العلم والحكمة والهداية إلى سبيل الرشاد.

__________________

(١) انظر تفاصيل ما بيّنه سيّد قطب في هذا المجال (في ظلال القرآن ١ : ٣٩ ـ ٤١).

(٢) نهج البلاغة ٢ : ١٦٠ ـ ١٦٤ ، الخطبة : ١٩٣.

(٣) الجنّ ٧٢ : ١٦.

(٤) البقرة ٢ : ١٩٤.

(٥) البقرة ٢ : ٢٨٢.

٤٨

قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً)(١). وهذا الفرقان هي الحكمة الرشيدة الّتي يمنحها الله تعالى لمن يشاء (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ)(٢).

[٢ / ٩٢] وقد جعل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام من حقائق القرآن ما لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه ، ولطف حسّه ، وصحّ تمييزه ، ممّن شرح الله صدره للإسلام (٣).

وهذا هو المعنيّ بقوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(٤). وصدق الله العظيم.

سمات المتقين الخمس

ثمّ أخذ ـ تعالى ـ في بيان سمات هؤلاء المتّقين ، الّذين هم وحدهم موضع الاهتداء بهدي القرآن الكريم ، والارتواء من منهل عذبه الرحيق. فذكر منها سمات خمسا ، هنّ الرؤوس والأسس لسائر الفضائل والمكرمات :

١ ـ الإيمان بالغيب

أولاها ـ وهو الركن الركين لسائر الأسس ـ الإيمان بالغيب. قال تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، والغيب هنا مطلق. أي العقيدة بأنّ هناك وراء الشهود غيبا هو أرقى وأفسح ، وأن ليست الحياة محدودة بهذه الدنيا القصيرة المدى ، فيما زعمه القاصرون (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ)(٥).

فالّذي يرى من الحياة هي الفانية وأن ليس الموجود سوى المحسوس ، ما وراءه شيء ، فهذا لا يمكن التفاهم معه على أمر الوحي وشريعة السماء والكتاب والنبيّين والمبدأ والمعاد وغيرها من أمور هي فوق المادّة المحسوسة. فكيف يا ترى يمكنه ـ وهوناكر لوجوده تعالى ـ أن يراعي تقوى

__________________

(١) الأنفال ٨ : ٢٩.

(٢) البقرة ٢ : ٢٦٩.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٩٤ عن كتاب الاحتجاج للطبرسي ١ : ٣٧٦.

(٤) الواقعة ٥٦ : ٧٧ ـ ٧٩.

(٥) الجاثية ٤٥ : ٢٤.

٤٩

الله واليوم الآخر (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)(١).

وعليه فالإيمان بالغيب ، وأنّ هناك وراء عالم الشهود عالما أرقى وأبقى كان أسّ الأسس لجميع العقائد الدينيّة ، والباعث الأوفى للاستسلام لوحي السماء.

وكما قال سيّد قطب : كان الإيمان بالغيب هو العتبة الأولى الّتي يجتازها الإنسان ، فيرتقي من مرتبة الحيوان ـ الّذي لا يدرك سوى ما تدركه حواسّه ـ إلى مرتبة الإنسان الّذي يدرك أنّ الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيّز الصغير المحدّد.

قال : وهي نقلة بعيدة الأثر في تصوّر الإنسان لحقيقة الوجود كلّه ، ولحقيقة وجوده الذاتي ، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود ، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنّها بعيدة الأثر في حياته على الأرض ؛ فليس من يعيش في الحيّز الصغير الّذي تدركه حواسّه ، كمن يعيش في الكون الفسيح الّذي تدركه بديهته وبصيرته ؛ ويتلقّى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ، ويشعر أنّ مداه أوسع في الزمان والمكان من كلّ ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود ، وأنّ وراء الكون ظاهره وخافيه ، حقيقة أكبر من الكون ، هي الّتي صدر عنها ، واستمدّ من وجودها وجوده. حقيقة الذات الإلهيّة الّتي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول.

وعندئذ تصان الطاقة الفكريّة المحدودة المجال ، عن التبدّد والتمزّق والانشغال بما لم تخلق له ، وما لم توهب القدرة للإحاطة به ، وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه.

إنّ الطاقة الفكريّة الّتي وهبها الإنسان ، وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الأرض ، فهي موكلّة بهذه الحياة الواقعة القريبة ، تنظر فيها وتتعمّقها وتتقصّاها ، وتعمل وتنتج ، وتنمي هذه الحياة وتجمّلها ، على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحيّة الّتي تتّصل مباشرة بالوجود كلّه وخالق الوجود ، وعلى أن تدع للمجهول حصّته في الغيب الّذي لا تحيط به العقول.

فأمّا محاولة إدراك ما وراء الواقع ، بالعقل المحدود الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة عليها ، دون سند من الروح الملهم والبصيرة المفتوحة ، وترك حصة للغيب لا ترتادها العقول.

فهذه المحاولة محاولة فاشلة أوّلا ، ومحاولة عابثة أخيرا. فاشلة ، لأنّها تستخدم أداة لم تخلق

__________________

(١) الأنعام ٦ : ٢٩.

٥٠

لرصد هذا المجال. وعابثة ، لأنّها تبدّد طاقة العقل الّتي لم تخلق لمثل هذا المجال.

ومتى سلّم العقل البشري بالبديهة العقليّة الأولى (بديهة الفطرة) ، وهي : أنّ المحدود لا يدرك المطلق ، لزمه ـ احتراما لمنطقه ذاته ـ أن يسلّم بأنّ إدراكه للمطلق مستحيل ؛ وأنّ عدم إدراكه للمجهول ، لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون ؛ وأنّ عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل ؛ وأن يتلقّى العلم في شأنه من العليم الخبير الّذي يحيط بالظاهر والباطن ، والغيب والشهود. وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن ، هو الّذي يتحلّى به المؤمنون ، وهو الصفة الأولى من صفات المتّقين.

لقد كان الإيمان بالغيب ، هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان من عالم البهيمة. ولكن جماعة المادّيّين في هذا الزمان ، كجماعة المادّيّين في كلّ زمان ، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى إلى عالم البهيمة الّذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمّون هذا «تقدّميّة» وهو النكسة الّتي وقى الله المؤمنين إيّاها ، فجعل صفتهم المميّزة ، صفة (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) والحمد لله على نعمائه ، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين (١).

***

[٢ / ٩٣] وهكذا قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصف أهل الضلال : «ولا يؤمنون بغيب ، ولا يعفّون عن عيب».

فقد رتّب عليه‌السلام عدم عفّهم عن الرذائل ، على رفضهم الإيمان بالغيب ، فأصبحوا منطلقين في الشهوات غير آبهين ولا مكترثين.

قال عليه‌السلام ـ تعقيبا على ذلك ـ : «يعملون في الشبهات ، ويسيرون في الشهوات. المعروف فيهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا ، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم في المهمّات على آرائهم ، كأنّ كلّ امرء منهم إمام نفسه ، قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات» (٢).

[٢ / ٩٤] وكذلك روي عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ : أنّ الغيب هو ما غاب عن العباد علمه. قال الطبرسي : وهذا أولى لعمومه. (٣)

__________________

(١) في ضلال القرآن ١ : ٤٢ ـ ٤٣ مع تصرّف يسير.

(٢) نهج البلاغة ١ : ١٥٦ ، الخطبة : ٨٨.

(٣) مجمع البيان ١ : ٨٦.

٥١

٢ ـ الإخلاص في العبادة

السمة الثانية : العبادة لله خالصة (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ). فيتوجهون بالعبادة لله وحده ، ويترفّعون عن عبادة العباد وعبادة الأشياء : يتّجهون إلى القوّة المطلقة بغير حدود ويحنون جباههم لله وحده. والقلب الّذي يسجد لله حقّا ويتّصل به على مدار الليل والنهار ، يستشعر أنّه موصول السبب بواجب الوجود ، ويجد لحياته غاية أعلى من أن تستغرق في الأرض وحاجات الأرض ، ويحسّ أنّه أقوى من المخاليق ، لأنّه موصول بخالق المخاليق.

قال سيد قطب : وهذا كلّه مصدر قوّة للضمير ، كما أنّه مصدر تحرّج وتقوى ، وعامل خطير من عوامل تربية الشخصيّة ، وجعلها ربّانيّة التصوّر ، ربّانيّة الشعور ، ربّانيّة السلوك (١).

٣ ـ الإنفاق في سبيل الله

السمة الثالثة : البذل بالمال وبما آتاه الله ، في سبيل الله وفي سبيل الخدمة الإنسانيّة النبيلة. حيث المؤمنون حقّا المتقون ، يعترفون ابتداء بأنّ المال الّذي في أيديهم هو من رزق الله ومنحته الكريمة ، وليس من عندهم ، ومن هذا الشعور ينبثق حبّ البرّ والإيثار ، وحبّ التضامن مع ضعاف الناس ، شعورا بالآصرة الإنسانيّة ، وبالأخوّة البشريّة. وقيمة هذا كلّه تتجلّى في تطهير النفس من الشحّ ، وتزكيتها بالبرّ. وقيمتها أنّها تردّ الحياة مجال تعاون لا معترك تطاحن ، وأنّها تؤمّن العاجز والضعيف والقاصر ، وتشعرهم أنّهم يعيشون بين قلوب ووجوه ونفوس إنسانية كريمة ، لا بين أظفار ومخالب وأنياب.

وقد وصف الله المتقين ـ في سورة الذاريات (٥١ : ١٩) بقوله : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). يعني أنّ المؤمن المتّقي (المتعهد بأصول الإنسانية) يرى للضعفاء حقّا في أمواله ، فيسهل عليه الإيثار والإنفاق. لأنّ فيه خروجا عن حقّ مفروض عليه.

وجاء في سورة المعارج (٧٠ : ٢٠) في وصف المصلّين : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ. وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ).

وفي سورة الأنفال (٨ : ٢ ـ ٤) : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ

__________________

(١) في ضلال القرآن ١ : ٤٣.

٥٢

حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).

ولقد كان الإنفاق قرينا بالصلاة ، سمة بارزة للإيمان الصادق ، قال تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً)(١).

الأمر الّذي كان يتحاشاه أهل النفاق وكانوا يصدّون عن الإنفاق في سبيل الله والمستضعفين من المؤمنين ، على ما جاء في سورة المنافقين (٦٣ : ٧) : (يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) وقد ردّ عليهم سبحانه بقوله : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ).

وفي سورة محمّد (٤٧ : ٣٨) : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ).

وفي سورة الحديد (٥٧ : ١٠) : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى).

الضرائب في شريعة الإسلام

فريضة الضرائب في الإسلام كانت قبل فريضة الزكاة ، وتختلفان في الشرائط والأحكام :

تعتبر الضريبة فريضة ماليّة يسدّ بها خلل النظام في الحكم الإسلامي ، السياسي والثقافي والاقتصادي وسائر شؤون الدولة في إدارة البلاد ، يجب دفعها على الأمّة ، موزّعة على فوائد المكاسب والصنائع والتجارات. كلّا بحسب النسبة العادلة.

وهذا غير فريضة الزكاة الخاصّة بأمور ، وتصرف في شؤون المعوزين من عامّة الناس ، وكان أحد مصارفها : «في سبيل الله». على خلاف الضريبة الخاصّة بمصرف سبيل الله محضا. أي ما يقوم به أود النظام الحكومي والإداري في كافّة شؤون الدولة ، ومنها : الجهاد في سبيل الدفاع عن حوزة الإسلام.

[٢ / ٩٥] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ في المال حقّا سوى الزكاة» (٢).

ومسألة التأكيد على الإنفاق في سبيل الله ، ذلك التأكيد البالغ في القرآن الكريم ، إنّما يعني

__________________

(١) إبراهيم ١٤ : ٣١.

(٢) أخرجه الترمذي ٢ : ٨٥ / ٦٥٦ ، باب ٢٧ من كتاب الزكاة.

٥٣

تأمين حاجة الدولة في سبيل تمشية مآربها في تنظيم شؤون الأمّة العامّة. وإلّا أصبحت معتازة ، ومهدّدة بالسقوط والانهيار ، الأمر الّذي يعود وبالها على الأمّة أنفسهم.

قال تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(١)

وقد كانت نفقات نظام الحكم الإسلامي ، في بدء تأسيسه ، مفروضة على عاتق الأمّة ، من ذوي الثروات ، فيقوموا بدفع ما يلزمهم حسب إمكانيّاتهم ، في سبيل تثبيت وتقوية الحكم القائم. فقد كان مفروضا عليهم ذلك ، تسديدا لأود النظام الحاكم ، وإلّا لعاد محذور ضعف الدولة في أيّ ركن من أركانها ، على الأمّة بالذات.

فلا يكن تهاونهم في البذل في هذا السبيل ، موجبا لضعضعة كيان الأمّة ووهن شوكتهم ، لا سمح الله.

٤ ـ الإيمان الشامل

والسمة الرابعة : التوحيد الإيماني ، والتصديق بجميع شرائع الله ، حيث وحدة المصدر والهدف.

وهي الصفة اللائقة بالأمّة المسلمة الواعية ، وهي وارثة العقائد السماويّة ، ووارثة النبوّات منذ فجر البشريّة ، والحفيظة على تراث العقيدة وتراث النبوّة ، وحادية موكب الإيمان في الأرض إلى آخر الزمان. وهذا هو شعار الإسلام الخالد.

قال سيد قطب : وقيمة هذه الصفة هي الشعور بوحدة البشريّة ، ووحدة دينها ، ووحدة رسلها ، ووحدة معبودها. قيمتها هي تنقية الروح من التعصّب الذميم ضدّ الديانات والمؤمنين بالديانات ، ماداموا على الطريق الصحيح. قيمتها هي الاطمئنان إلى رعاية الله للبشريّة على تطاول أجيالها وأحقابها. هذه الرعاية البادية في توالي الرسل والرسالات ، بدين واحد وهدى واحد.

قيمتها هي الاعتزاز بالهدى الذي تتقلّب الأيّام والأزمان ، وهو ثابت مطّرد ، كالنجم الهادي في دياجير الظلام (٢).

٥ ـ الإيقان بالآخرة

والسمة الخامسة : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ). وهذه خاتمة السمات ، الخاتمة الّتي تربط الدنيا بالآخرة ، والمبدأ بالمصير ، والعمل بالجزاء ؛ والّتي تشعر الإنسان أنّه ليس لقى مهملا ، وأنّه لم يخلق

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٥.

(٢) في ظلال القرآن ١ : ٤٤.

٥٤

عبثا. ولن يترك سدى ؛ وأنّ العدالة المطلقة في انتظاره ، ليطمئنّ قلبه ، وتستقرّ بلابله ، ويفيء إلى العمل الصالح ، وإلى عدل الله ورحمته في نهاية المطاف.

قال سيّد قطب : واليقين بالآخرة هو مفرق الطريق بين من يعيش بين جدران الحسّ المغلقة ، ومن يعيش في الوجود المديد الرحيب. بين من يشعر أنّ حياته على الأرض هي كلّ ما له في هذا الوجود ، ومن يشعر أنّ حياته على الأرض ابتلاء يمهّد للجزاء ، وأنّ الحياة الحقيقيّة إنّما هي هنالك ، وراء هذا الحيّز الصغير المحدود. (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ)(١). (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)(٢).

[٢ / ٩٦] وفي الحديث : «إنّما خلقتم للبقاء لا للفناء» (٣).

فهذه العقيدة ـ في حقيقتها ـ تجعل الإنسان على أهبة العمل لحياة خالدة ، وأن لا يقصر همّه على متع الحياة الدنيا الزائلة. (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٤)(وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى)(٥). والتأكيد على الحياة الأخرى كثير في القرآن ، سوف نبحث عنه في مجاله. إن شاء الله.

***

وكلّ صفة من هذه الصفات ـ كما رأينا ـ ذات قيمة في الحياة الإنسانيّة ، ومن ثمّ كانت هي صفة المتّقين ، أي المتعهّدين بالذمم الأخلاقيّة وأصحاب الشعور الإنساني في الحياة.

قال سيد قطب : وهناك تساوق وتناسق بين هذه الصفات جميعا ، هو الّذي يؤلّف منها وحدة متناسقة متكاملة. فالتقوى شعور في الضمير ، وحالة في الوجدان ، تنبثق منها اتّجاهات وأعمال ؛ وتتوحّد بها المشاعر الباطنة والتصرّفات الظاهرة ؛ وتصل الإنسان بالله في سرّه وجهره. وتشفّ منها الروح ، فتقلّ الحجب بينها وبين الكلّيّ الّذي يشمل عالمي الغيب والشهادة ، ويلتقي فيه المعلوم والمجهول. ومتى شفّت الروح وانزاحت الحجب بين الظاهر والباطن ، فإنّ الإيمان بالغيب عندئذ

__________________

(١) الانشقاق ٨٤ : ٦.

(٢) البقرة ٢ : ١٥٦.

(٣) راجع : تفسير الإمام : ١١٧ ؛ البحار ٣٧ : ١٤٥. وكذا اعتقادات الصدوق : ٤٧ ، باب ١٥ (مصنفات المفيد ٢٥) ؛ البحار ٦ : ٢٤٩ و ٥٨ : ٧٨.

(٤) العنكبوت ٢٩ : ٦٤.

(٥) الأعلى ٨٧ : ١٧.

٥٥

يكون هو الثمرة الطبيعيّة لإزالة الحجب الساترة ، واتّصال الروح بالغيب والاطمئنان إليه. ومع التقوى والإيمان بالغيب عبادة الله في الصورة الّتي اختارها ، وجعلها صلة بين العبد والربّ. ثمّ السخاء بجزء من الرزق ، اعترافا بجميل العطاء ، وشعورا بالإخاء. ثمّ سعة الضمير لموكب الإيمان العريق ، والشعور بآصرة القربى لكلّ مؤمن ولكلّ نبيّ ولكلّ رسالة. ثمّ اليقين بالآخرة بلا تردّد ولا تأرجح في هذا اليقين.

وهذه كانت صورة الجماعة المسلمة الّتي قامت في المدينة يوم ذاك ، مؤلّفة من السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار. وكانت هذه الجماعة بهذه الصفات شيئا عظيما ، شيئا عظيما حقّا يتمثّل هذه الحقيقة الإيمانيّة فيها. ومن ثمّ صنع الله بهذه الجماعة أشياء عظيمة في الأرض ، وفي حياة البشر جميعا. ومن ثمّ كان هذا التقرير : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ...

وكذلك اهتدوا وكذلك أفلحوا. والطريق للهدى والفلاح ، هو هذا الطريق المرسوم للأبد. والعاقبة للمتّقين.

***

وأمّا الروايات فإليك منها :

[٢ / ٩٧] ما أخرجه أبو نصر السجزي في كتاب «الإبانة» عن ابن عبّاس ، قال : آخر حرف عارض به جبرئيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(١).

[٢ / ٩٨] وأخرج أبو جعفر بالإسناد إلى مجاهد قال : أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين. وآيتان في نعت الكافرين. وثلاث عشرة في المنافقين. (٢)

[٢ / ٩٩] وهكذا ذكر الثعلبي نقلا عن مجاهد قال : أربع آيات من أوّل هذه السورة نزلت في المؤمنين ، وآيتان بعدها نزلت في الكافرين ، وثلاث عشرة آية بعدها نزلت في المنافقين (٣).

[٢ / ١٠٠] وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن الضريس وابن المنذر عن مجاهد قال : من أوّل البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين ، وآيتان في نعت الكافرين ، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين. ومن آية أربعين إلى عشرين ومائة في بني إسرائيل (٤).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٥٩.

(٢) الطبري ١ : ١٥٢ / ٢٣٠.

(٣) الثعلبي ١ : ١٤٩.

(٤) الدرّ ١ : ٥٩.

٥٦

قلت : ولعلّ الصحيح : إلى ثلاث وعشرين ومائة.

[٢ / ١٠١] وأخرج وكيع عن مجاهد قال : هؤلاء الآيات الأربع في أوّل سورة البقرة إلى قوله :

(الْمُفْلِحُونَ)(١) نزلت في نعت المؤمنين ، واثنتان من بعدها إلى قوله : (عَظِيمٌ) نزلت في نعت الكافرين ، وإلى العشرين نزلت في المنافقين (٢).

[٢ / ١٠٢] وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس قال : أربع آيات من فاتحة سورة البقرة في الّذين آمنوا ، وآيتان في قادة الأحزاب (٣).

[٢ / ١٠٣] وقال مقاتل بن سليمان : فلمّا سمع أبو ياسر بن أخطب اليهودي بهؤلاء الآيات ، قال لأخيه جديّ بن أخطب : لقد سمعت من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلمات أنزلهنّ الله على موسى بن عمران عليه‌السلام ، فقال جديّ لأخيه : لا تعجل حتّى تتثبت في أمره. فعمد أبو ياسر وجديّ ابنا أخطب ، وكعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، ومالك بن الضيف ، وحييّ بن أخطب ، وسعيد بن عمرو الشاعر ، وأبو لبابة ابن عمرو ، ورؤساء اليهود ، فأتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال جديّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أبا القاسم ، أخبرني أبو ياسر بكلمات تقولهنّ آنفا. فقرأهنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال جديّ : صدقتم أمّا (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فنحن هم. وأمّا (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) فهو كتابك (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) فهو كتابنا (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فأنتم هم ، قد آمنتم بما أنزل إليكم وإلينا وآمنتم بالجنّة والنار. فآيتان فينا وآيتان فيكم. ثمّ قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ننشدك بالله أنّها نزلت عليك من السماء؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أشهد بالله أنّها نزلت عليّ من السماء.

فذلك قوله ـ سبحانه ـ في يونس : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي)(٤) يعني : ويستخبرونك أحقّ هو؟ قل : إي وربّي. ويعني : بلى وربّي إنّه لحقّ.

فقال جديّ : لئن كنت صادقا فإنّكم تملكون إحدى وسبعين سنة ، ولقد بعث الله ـ عزوجل ـ في بني إسرائيل ألف نبيّ كلّهم يخبرون عن أمتّك ولم يخبروناكم تملكون حتّى أخبرتنا أنت الآن. ثمّ قال جديّ لليهود : كيف ندخل في دين رجل منتهى ملك أمته إحدى وسبعون سنة! فقال عمر : وما

__________________

(١) إذا لم تعدّ البسملة ولا الحروف المقطّعة آية.

(٢) الدرّ ١ : ٥٩ ؛ أبو الفتوح ١ : ١١١.

(٣) الدرّ ١ : ٦٠ ؛ الطبري ١ : ١٥٢ / ٢٣١.

(٤) يونس ١٠ : ٥٣.

٥٧

يدريك أنّها إحدى وسبعون سنة؟ فقال جديّ : أمّا ألف في الحساب فواحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون سنة. فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال جديّ : هل غير هذا؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم (المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ)(١). فقال جديّ : هذه أكبر من الأولى ، ولئن كنت صادقا فإنّكم تملكون مائتي سنة واثنتين وثلاثين سنة. ثمّ قال : هل غير هذا؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)(٢) فقال جديّ : هذه أكبر من الأولى والثانية وقد حكم وفصل ، ولئن كنت صادقا فإنّكم تملكون أربعمائة سنة وثلاثا وستّين سنة ؛ فاتّق الله ولا تقولنّ إلّا حقّا. فهل غير هذا؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ)(٣). فقال جديّ : لئن كنت صادقا فإنّكم تملكون سبعمائة سنة وأربعا وثلاثين سنة.

ثمّ إنّ جديّ قال : الآن لا نؤمن بما تقول ولقد خلطت علينا فما ندري بأيّ قولك نأخذ ، وأيّما أنزل عليك نتّبع ، ولقد لبست علينا حتّى شككنا في قولك الأوّل ، ولو لا ذلك لاتّبعناك!

قال أبو ياسر : أمّا أنا فأشهد أنّ ما أنزل على أنبيائنا حقّ وأنّهم قد بيّنوا لنا ملك هذه الأمّة ، فإن كان محمّد صادقا فيما يقول ليجمعنّ له هذه السنون كلّها ، ثمّ نهضوا من عنده. فقالوا : كفرنا بقليله وكثيره. فقال جديّ لعبد الله بن سلام وأصحابه : أما تعرفون الباطل فيما خلط عليكم. فقالوا : بلى ، نعرف الحقّ فيما يقول ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ في كفّار اليهود بالقرآن (الم. اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ) : الّذي لا يموت (الْقَيُّومُ) : يعني القائم على كلّ شيء (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) يا محمّد (بِالْحَقِ) لم ينزل باطلا (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) : يقول ـ سبحانه ـ قرآن محمّد يصدّق الكتب الّتي كانت قبله (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) يعني لبني إسرائيل من الضلالة ، ثمّ قال ـ عزوجل ـ : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ)(٤) يعني قرآن محمّد بعد التوراة والإنجيل. يعني بالفرقان المخرج من الشبهات والضلالة. نظيرها في الأنبياء (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ)(٥). يعني المخرج. وفي البقرة : (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ)(٦). (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) اليهود ، كفروا بالقرآن يعني هؤلاء النفر المسمّين

__________________

(١) الأعراف ٧ : ٢.

(٢) هود ١١ : ١.

(٣) الرعد ١٣ : ١.

(٤) آل عمران ٣ : ١ ـ ٤.

(٥) الأنبياء ٢١ : ٤٨.

(٦) البقرة ٢ : ١٨٥.

٥٨

وأصحابهم (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ) في ملكه وسلطانه (ذُو انْتِقامٍ)(١) من أهل معصيته.

وأنزلت أيضا في اليهود في هؤلاء النفر وما يحسبون من المتشابه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ)(٢).

فأمّا المحكمات فالآيات الثلاث اللّاتي في الأنعام : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ...) إلى قوله سبحانه : (... لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٣) فهنّ محكمات ولم ينسخهنّ شيء من الكتاب ، وإنّما سمّين أمّ الكتاب لأنّ تحريم هؤلاء الآيات في كلّ كتاب أنزله الله ـ عزوجل ـ.

(وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) يعني الم ، المص ، الر ، المر ، شبّهت على هؤلاء النفر من اليهود ، كم تملك هذه الأمّة من السنين (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) يعني ميل عن الهدى وهم هؤلاء اليهود (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) يعني الكفر (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) : يعني منتهى كم يملكون.

يقول الله ـ عزوجل ـ : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) : يعني كم تملك هذه الأمّة من السنين (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) يعني عبد الله بن سلام وأصحابه ، (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) : يعني بالقرآن كلّه. (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ)(٤) : يعني من كان له لبّ أو عقل.

ثمّ قال ابن سلام وأصحابه : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) كما أزغت قلوب اليهود (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) إلى الإسلام (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).

فآيتان من أوّل هذه السورة نزلتا في أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المهاجرين والأنصار. والآيتان اللّتان تليانهما نزلتا في مشركي العرب. وثلاث عشرة آية في المنافقين من أهل التوراة (٥).

قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ)

[٢ / ١٠٤] أخرج ابن جرير والحاكم وصحّحه عن ابن مسعود (الم) حرف اسم الله ، و (الْكِتابُ) القرآن ، (لا رَيْبَ) لا شكّ فيه (٦).

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٤.

(٢) آل عمران ٣ : ٧.

(٣) الأنعام ٦ : ١٥١.

(٤) آل عمران ٣ : ٧.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ٨٤ ـ ٨٨.

(٦) الدرّ ١ : ٦٠ ؛ الطبري ١ : ١٤٤ / ٢٠٨ ؛ الحاكم ٢ : ٢٦٠.

٥٩

[٢ / ١٠٥] وأخرج ابن جرير عن ابن عبّاس في قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) قال : هذا الكتاب.

وأخرج ابن جرير وابن الأنباري في المصاحف عن عكرمة. مثله (١).

[٢ / ١٠٦] وروى أبو الفتوح الرازي عن سعيد بن جبير ، قال : الكتاب ، هو اللوح المحفوظ ، وقد أظهر الله القرآن فيه ، حتّى كان جبرئيل يقرؤه ثمّ يتلوه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يعني : أنّ الكتاب المنزل هو المنقول عن اللوح المحفوظ (٢).

[٢ / ١٠٧] وقال ابن كيسان : إنّ الله تعالى أنزل قبل سورة البقرة سورا كذّب بها المشركون ثمّ أنزل سورة البقرة ، فقال : ذلك الكتاب ، يعني ما تقدّم البقرة من السور ، لا شك فيه (٣).

[٢ / ١٠٨] وقال مقاتل بن سليمان : (الم ذلِكَ الْكِتابُ) وذلك أنّ كعب بن الأشرف ، وكعب ابن أسيد لمّا دعاهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الإسلام قالا : ما أنزل الله كتابا من بعد موسى ، تكذيبا به فأنزل الله ـ عزوجل ـ في قولهما : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ) بمعنى هذا الكتاب الّذي كفرت به اليهود (لا رَيْبَ فِيهِ) يعني لا شكّ فيه أنّه من الله جاء ، وهو أنزله على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قال : هذا القرآن (هُدىً) من الضلالة (لِلْمُتَّقِينَ) من الشرك (٤).

[٢ / ١٠٩] وقال الفرّاء : كان الله قد وعد نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق عن كثرة الردّ ، فلمّا أنزل القرآن قال : هذا ذلك الكتاب الّذي وعدتك ـ أن أنزله عليك ـ في التوراة والإنجيل وعلى لسان النبيّين من قبلك (٥).

[٢ / ١١٠] وقال الشيخ في «التبيان» : قال قوم : إنّ معناه : ذلك الكتاب الّذي وعدوا به على لسان

__________________

(١) الدرّ ١ : ٦٠ ؛ الطبري ١ : ١٤٢ / ٢٠٤ ، بلفظ : عن ابن جريج قوله «ذلك الكتاب» : هذا الكتاب. قال : قال ابن عبّاس : «ذلك الكتاب» : هذا الكتاب. ورقم ٢٠١ عن مجاهد و ٢٠٢ عن عكرمة و ٢٠٣ عن السّدي ؛ ابن كثير ١ : ٤١ ، نقلا عن ابن عبّاس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسّدّي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وابن جريج ؛ التبيان ١ : ٥١ ، نقلا عن عكرمة ؛ أبو الفتوح ١ : ٩٧ ، نقلا عن ابن عبّاس والحسن البصري وقتادة ومجاهد والضحّاك ومقاتل.

(٢) أبو الفتوح ١ : ٩٨ ؛ الثعلبي ١ : ١٤١ ، بلفظ : قال سعيد بن جبير : هو اللوح المحفوظ.

(٣) البغوي ١ : ٨١ ؛ أبو الفتوح ١ : ٩٨.

(٤) تفسير مقاتل ١ : ٨١.

(٥) الثعلبي ١ : ١٤١ ؛ البغوي ١ : ٨١ ؛ مجمع البيان ١ : ٨٢ ، نقلا عن الفرّاء وأبي عليّ الجبّائي. وراجع : معاني القرآن للفرّاء ١ : ١٠. قال : ومعنى ذلك : أنّ هذه الحروف ـ يا أحمد ـ ذلك الكتاب الّذي وعدتك أن أوحيه إليك.

٦٠