التفسير الأثري الجامع - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-03-6
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ)(١).

[٢ / ١٠٢٠] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ مولود يولد على الفطرة ، حتّى يكون أبواه [هما اللّذان] يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه» (٢).

وعليه فكلّ إنسان إنّما وضعت فطرته على الهدى والاستقامة ، وجبل على الاهتداء إلى كلّ من سبيلي الهداية والردى ، فإمّا شاكرا متّخذا سبيل الرشاد ، أو كفورا متّخذا سبيل الغيّ والفساد. وأيّما أخذ فباختياره بالذات إمّا لحسن نيّة أو لسوء اختيار لا مجبر ولا مقهور.

قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)(٣).

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)(٤). إمّا شاكرا آخذا إلى الفلاح ، أو ناكرا هاويا إلى الهلاك. (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى)(٥).

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها)(٦).

ولقد كان الأصل في جبلّة الإنسان هو سلامة الطبع والجنوح نحو معالم الهدى والفلاح ، لو لا غلبة الهوى والاستهواء نحو مهاوي الردى والضلال.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ)(٧).

فالإنسان خلق في أحسن هندام ، لكنّه هو الّذي أطاح بحظّه بسوء اختياره.

***

هذا ما يعطيه القرآن من دراسة لواقع الإنسان ـ على أشكاله وألوانه ـ خلق في أصل فطرته سليما وليهفو إلى الخير والسّلام. أمّا الانحراف والانجراف فعارض لا محالة. والجميع في أصل الطينة سواء.

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٧٢.

(٢) عوالي اللئالي ١ : ٣٥ / ١٨.

(٣) الشمس ٩١ : ٧ ـ ٩.

(٤) الإنسان ٧٦ : ٣.

(٥) النجم ٥٣ : ٣٩.

(٦) الإسراء ١٧ : ١٥.

(٧) التين ٩٥ : ٤ ـ ٥.

٣٨١

إذن فكلّ فكرة أو نظرة تخالف معطيات الكتاب ومحكمات الآثار فمردود ومرفوض لدى حكمة العقل الرشيد.

وتلك أخبار الطينة مرّت عليك ، تجعل من طينة المؤمن غير طينة الكافر ، وأنّ هذه الطينة كانت هي المؤثرة في مصير الإنسان في مسيرته في الحياة ، ولا شكّ أنّها بظاهرها المريب تتنافى ومحكمات الكتاب والسنّة القويمة. فلا بدّ إمّا من تأويل مقبول أو الرفض رأسا.

***

وإليك بعض ما ذكره أصحاب النظر في الرفض والقبول :

قال المولى المحقق أبو الحسن الشعراني قدس‌سره ـ في قوله تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) ـ : هذه الآية تدلّ على أنّ الله تعالى فطر الناس جميعا على الدين الحنيف ، وكان خروج من خرج عنه أمرا طارئا ، كالعوارض. المخالفة لمقتضى الطبع. وفي الحديث : «كلّ مولود يولد على الفطرة ...» وكذا آية الذرّ (١) الدالّة على أنّ جميع ولد آدم تسلّموا لذلك وقالوا : بلى ، سواء الّذين كفروا بعد أم آمنوا ؛ وأنّ الله فطرهم جميعا على التوحيد.

ويتأيّد ذلك بأحاديث الفطرة الصادرة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام. أوردها الصدوق رحمه‌الله في كتاب التوحيد.

قال : فإن ورد حديث يخالف بظاهره ما ذكرنا ، وأنّ فطرة الناس مختلفة ، وأنّ بعضهم خلق على فطرة الشرّ والفساد. فلا بدّ من تأويله بحيث لا يخالف العقل ومقتضى الكتاب والسنّة ، ولا يوجب الجبر والظلم منه تعالى على العباد. إذ لو كان الله خلق بعض الناس من طينة سجّين ، بما أوجب مصيره إلى الكفر والفسوق ، للزم الجبر والظلم منه تعالى. وإن اريد إيجاب أقربيّته إلى الشرّ والفساد ، لا القهر والإلجاء ، للزم التبعيض في لطفه تعالى بالنسبة إلى العباد. فبعضهم يجعله على عرضة الشرّ ، وبعضهم يمهّد له أسباب الصلاح ، من غير ما سبب معقول. وهذا أيضا ظلم يتحاشاه ساحة قدسه تعالى (٢).

وقال ـ أيضا ـ في تعليقه على شرح أصول الكافي للمولى صالح المازندراني ـ : ليس في

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٧٢.

(٢) راجع ما كتبه تعليقا على كتاب الوافي للمولى محسن الكاشاني ٤ : ٢٥ بتوضيح.

٣٨٢

الباب حديث يعتمد على إسناده ، بل جميع أخباره ضعيفة. حتّى ولو فرض صحة إسناد بعضها ، لكنّها في محتواها مخالفة لأصول المذهب ، ولأحاديث الفطرة على التوحيد. إنّ من أصول مذهبنا العدل واللطف الشامل. فلا يجعل بعض الناس في فطرتهم أقرب إلى الطاعة وبعضهم أبعد. وكان التبعيض في خلق الإنسان مخالفا لمقتضى العدل. إنّه تعالى سوّى ـ في اللطف والتوفيق ـ بين مختلف الشعوب والطوائف ، ومكّن لهم جميعا القدرة على الامتثال واجتناب الآثام ، بحيث كان تمهيد السبيل للجميع على سواء.

فلو كان خلق بعض الناس من طينة خبيثة ، فإن كان لا يمكنه التخلّص منها ، فهذا جبر باطل. وإمّا يوجب تسهيلا له في ارتكاب القبائح ، فهذا بنفسه قبيح ، لأنّه تبعيض في مرحلة اللطف بعباده. الّذي هو تمهيد الأسباب نحو الخير والصلاح.

على أنّ ذلك مخالف لأحاديث الفطرة على التوحيد ، وأن ليس في أصل الخلقة تشويه أو عيب ، وإنّما العيب عارض. كما خلق الله الماء صافيا ، وإنّما تكدره الأوساخ العارضة. وهكذا الإنسان خلق سليما ـ على الحنيفيّة البيضاء النقيّة ـ لو لا أن يكدر صفوة الأدناس الّتي تعترض طريقه.

قال : فالأصل الّذي عليه اعتقادنا : أنّ جميع آحاد الناس متساوون في الفطرة وفي أصل الخلقة ، ومتصافّون على اجتياز مسالك الخير والصلاح ، واجتناب مباعث الشرّ والفساد ، ماداموا على الفطرة الأولى ولم يجرف بهم الطواري.

فما خالف هذا الأصل الأصيل فهو مرفوض إن لم يكن قابلا للتأويل (١).

***

وللمولى محمّد صالح المازندراني رحمه‌الله هنا توجيها حاول فيه تأويل تلكم الأخبار إلى ما يمكن قبولها بعض الشيء ، دون الرفض الباتّ!

قال : إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ لمّا خلق الأرواح وعلم أنّ بعضها يهوي إلى الخير والصلاح ، وآخر يبغي الشرّ والفساد ، مهما كانوا ومن أيّ طينة خلقوا. فكان من سابق علمه أن جعل طينة أبدان هواة الخير من علّيّين. وطينة أبدان بغاة الشرّ من سجّين. وذلك رعاية للمناسبة والمجانسة بين كلّ

__________________

(١) راجع : شرح أصول الكافي للمولى صالح المازندراني ٨ : ٤ ، التعليقة رقم ١ ، بتوضيح.

٣٨٣

نمط من الأرواح وأبدانها فكانت الخلقة تابعة للفعلة ـ في سابق علمه تعالى ـ لا العكس حتّى يستلزم الجبر. الأمر الّذي لا يتنافى وأصل الاختيار في التكليف فلا جبر ولا ظلم ، بل هو مقتضى الحكمة المتعالية (١).

وهذا الرأي قد استجاده المولى الشعراني ، قال : ولنعم ما قال الفاضل محمّد صالح المازندراني : إنّ كلّا من الطينتين تابع للإيمان والكفر ومسبّب عنهما لا العكس ، لأنّ الله تعالى علم أنّ جماعة يؤمنون باختيارهم ، سواء أكانوا من طينة علّيّين أم من طينة سجّين ، ولذلك خلق المؤمنين من علّيّين تشريفا لهم ، وعلم أنّ جماعة يكفرون باختيارهم ولو كانوا من طينة علّيّين ، ولذلك خلقهم من سجّين ، توهينا بهم. وبذلك تبيّن فساد توهّم أنّ الإيمان وصفات الكمال تابعة لطهارة الطينة ، وأنّ الكفر وسمات الضلال تابعة لخبث الطينة. بل العكس هو الأولى وأنّ طينة الشرّ عارضة على الفطرة الأولى الّتي أرادها الله في الأزل (٢).

والمولى صالح المازندراني قرّب من وجه مراده بضرب مثال قال : إنّك إذا قرّرت لعبدك المطيع بيتا شريفا ، ولعبدك المتمرّد بيتا وضيعا ، استحسنك العقلاء ولا يصفونك بالجور وعدم الاعتدال. بل الجور كان لو تساويت بينهما ، إذ قد وضعت شيئا في غير موقعه اللائق به.

وقال ـ في شرح قوله عليه‌السلام : «إنّ الله خلق المؤمن من طينة الجنّة وخلق الكافر من طينة النار ...» ـ : إنّه تعالى لمّا علم في الأزل من المؤمن طاعته ومن الكافر عصيانه ، خلق كلّ واحد منهما في هذه النشأة ممّا يؤول إليه في النشأة الآخرة (٣).

***

وقريب منه ما ذكره العلّامة المجلسي عن بعضهم ، قال : إنّ الله تعالى لمّا علم في الأزل ، الأرواح الّتي تختار الإيمان باختيارها ، والّتي تختار العصيان باختيارها ، سواء خلقوا من طينة علّيّين أو من طينة سجّين ، فلمّا علم ذلك أعطى أبدان الأرواح الّتي علم أنّهم يختارون الإيمان ، كيفيّة العلّيّين للمناسبة ، وأعطى أبدان الأرواح الّتي علم أنّها تختار الكفر باختيارها ، كيفيّة السجّين ، من غير أن يكون للأمرين مدخل في اختيارهم الإيمان والكفر ... (٤).

__________________

(١) المصدر : ٥.

(٢) راجع كلامه في التعليق على الوافي ٣ : ٢٧ ، بتوضيح.

(٣) راجع : شرح اصول الكافي ٨ : ٥.

(٤) مرآة العقول ٧ : ٣.

٣٨٤

وقال في بحار أنواره : اعلم أنّ أخبار هذا الباب من المتشابهات المعضلات ، ولأصحابنا ـ رضي الله عنهم ـ فيها مسالك :

منها ما ذهب إليه الأخباريّون ، قالوا : نؤمن بها مجملا ونعترف الجهل والعجز عن معرفة حقيقة معناها. ونردّ علمه إلى الأئمّة عليهم‌السلام.

ومنها أنّها صدرت موافقة لمذاهب العامّة ولا سيّما الأشاعرة حسب إذعانهم بهكذا روايات روتها الحشويّة منهم.

ومنها أنّها كناية عن علمه تعالى في الأزل بما هم صائرون إليه في المآل ، فكان علمه تعالى بذلك ، كأنّه خلقهم من طينات مختلفة.

ومنها أنّها كناية عن اختلاف الاستعدادات والّتي لا توجب جبرا في التكليف والاختيار.

ومنها أنّه لمّا كلّف الله الأرواح ـ في عالم الذرّ ـ وأخذ منهم الميثاق ، اختار بعضهم الخير وبعضهم الشرّ حينذاك ، فتفرّع على ذلك اختلاف الطينة حسب اختيارهم (١).

ثمّ إنّ المجلسى تضعّف هذه الوجوه وجنح إلى ترك الخوض في أمثال تلكم المسائل الغامضة الّتي تعجز العقول عن إدراك كنهها ، فليوكل علمها إلى أهله!

لكنّه تراجع غير مقبول من أمثاله من نقّاد الحديث ، ممّن وقفوا على معاريض كلام الأئمّة عليهم‌السلام ، وكانت لهم الحنكة الوافية بتشخيص السليم من السقيم من الأخبار والآثار ، الأمر الّذي يليق بمثله وهو المضطلع الخبير.

***

وهكذا ذكر السيّد عبد الله شبّر هذه الوجوه في شيء من التفصيل ولم يرجّح.

قال : إعلم أنّ هذا الخبر ونحوه من متشابهات الأخبار ومعضلات الآثار ، الّتي تحيّرت فيها الأنظار ، وتصادمت فيها الأفكار ، واختلفت في توجيهها كلمات علمائنا الأبرار ، وقد تخرّجوا عمّا يلزم من ظاهرها من الجبر ورفع الاختيار بوجوه :

(الأوّل) أنّها أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا فيجب ردّها وطرحها لا سيّما وهي مخالفة للكتاب الكريم والسنّة القطعيّة وإجماع الامامية وللأدلة العقليّة والبراهين اليقينيّة.

__________________

(١) البحار ٥ : ٢٦٠ ـ ٢٦١.

٣٨٥

وفيه أنّ هذه الأخبار قد رواها العلماء الأعلام في جوامعهم العظام بأسانيد عديدة وطرق سديدة ولا يبعد أن تكون من المتواترات معنى ، فلا معنى لطرحها وردّها ، بل لا بدّ من توجيهها. وقد رواها ثقة الإسلام الكليني في الكافي بطرق شتّى ومتون عديدة ، والشيخ في الأمالي ، والبرقي في المحاسن ، والصدوق في العلل ، وعليّ بن إبراهيم والعيّاشي في تفسيريهما ، والصفّار في بصائر الدرجات وغيرهم ، بأسانيد وافرة وطرق متكاثرة ، بل الأولى حينئذ أن يقال : إنّ هذه الأخبار متشابهة يجب الوقوف عندها وردّ أمرها وتسليمه إليهم عليهم‌السلام فإنّ كلامهم كالقرآن محكم ومتشابه ، كما ورد عنهم عليهم‌السلام إنّ في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن ومحكما كمحكمه فردّوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا.

(الثاني) أنّها محمولة على موافقة العامّة فيما روته الحشويّة وقد ذهب إليه الأشاعرة ، ولمخالفتها لأخبار الاختيار والاستطاعة المعلومة من طريقة الأئمّة عليهم‌السلام.

وهذا مشارك لما قبله في الضعف ، فإنّ الظاهر من بعضها أنّها من أسرار علومهم وكنوز معارفهم.

(الثالث) أنّها كناية عمّا علمه الله تعالى وقدّره من اختلاط المؤمن والكافر في الدنيا واستيلاء أئمّة الجور وأتباعهم على أئمّة الحقّ وأتباعهم. وعلى أنّ المؤمنين إنّما يرتكبون الآثام لاستيلاء أهل الباطل عليهم وعدم تولّي أئمّة الحقّ لسياستهم فيعذرهم لذلك ويعفو عنهم ويعذّب أئمّة الجور وأتباعهم بتسببهم لجرائم من خالطهم مع ما يستحقون من جرائم أنفسهم.

(الرابع) أنّها كناية عن علمه تعالى بما هم إليه صائرون فإنّه تعالى لمّا خلقهم مع علمه بأحوالهم فكأنّه تعالى خلقهم من طينات مختلفة. ولا يخفى ضعفه.

(الخامس) أنّها كناية عن اختلاف استعدادهم وتفاوت قابليّاتهم.

وهذا أمر بيّن لا يمكن إنكاره إذ لا شبهة في أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبا جهل ليسا في درجة واحدة من الاستعداد والقابلية وهذا لا يستلزم سقوط التكليف ، فإنّ الله تعالى كلّف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسبما أعطاه من الاستعداد لتحصيل الكمالات ، وكلّف أبا جهل حسبما أعطاه من ذلك ولم يكلّفه ما ليس في وسعه ولم يجبره على شيء من الشرّ والفساد.

٣٨٦

(السادس) أنّ غاية ما يلزم من الخلق من الطينتين الميل والمحبّة لما يقتضيه كلّ منهما من خير وشرّ بالاختيار ، وذلك لا يستلزم الجبر لا سيّما بعد التصريح بخلط الطينتين الموجب لتدافع الطبيعتين والوقوف على حدّ الاعتدال بحيث يصير المؤمن قادرا على السيئة والكافر قادرا على الحسنة. ويؤيده قوله عليه‌السلام في بعض أخبار هذا الباب : فقلوب المؤمنين تحنّ إلى ما خلقوا منه ، وقلوب الكافرين تحنّ إلى ما خلقوا منه. وظاهره أنّ ذلك الخلط والمزج صار سببا لمجرّد الميل لا أنّه رفع القدرة والاختيار ، وصار علّة للإجبار ، ولعلّ الحكمة والمصلحة في مزج الطينتين إظهار قدرته تعالى في إخراج الكافر من المؤمن وبالعكس ، دفعا لتوهّم استنادهم إلى الطبايع أو ظهور رحمته تعالى في فسّاق المؤمنين بغفران ذنوبهم ، أو تعيّش المؤمنين في دولة الكافرين ، إذ لو لم تكن رابطة الاختلاط ولم يكن لهم رأفة وأخلاق حسنة كانوا كلّهم بمنزلة الشياطين ، فلم يتخلص أحد من بطشهم. أو لوقوع المؤمن بين الخوف والرجاء حيث لا يعلم أنّ الغالب فيه الخير أو الشرّ ، أو رفع العجب عنه بفعل الطاعات ، أو الرجوع إليه تعالى في حفظ نفسه من المعاصي أو غير ذلك من الحكم والمصالح الّتي لم تدركها عقولنا القاصرة وأفهامنا الفاترة.

(السابع) ما اعتمده أكثر الأصحاب وعوّلوا عليه في هذا الباب ، وهو أنّ ذلك منزّل على العلم الإلهي ، فإنّه تعالى لمّا خلق الأرواح كلّها قابلة للخير والشرّ ، وقادرة على فعلهما ، وعلم أنّ بعضها يعود إلى الخير المحض وهو الإيمان ، وبعضها يعود إلى الشرّ المحض وهو الكفر باختيارها ... عاملها هذه المعاملة كالخلق من الطينة الطيّبة أو الخبيثة ، فحيث علم الله من أحد أنّه يختار الخير والإيمان البتة ، ولو لم يخلق من طينة طيّبة ، خلقه منها. ولمّا علم من آخر أنّه يختار الشرّ والكفر البتة ، خلقه من طينة خبيثة ، لطفا بالأوّل وتسهيلا عليه وإكراما له لما علم من حسن نيّته وعمله. وبالعكس في الثاني. وعلم الله ليس بعلّة لصدور الأفعال.

وهذا معنى جيّد تنطبق عليه أكثر أخبار الباب ويستنبط من أخبارهم عليهم‌السلام كما أشير إليه في حديث (١) حكاية عنه تعالى : أنا المطّلع على قلوب عبادي لا أحيف ولا أظلم ، ولا ألزم أحدا إلّا ما عرفته منه ، قبل أن أخلقه. ويستفاد ذلك من أخبار أخر ذكرها يفضي إلى التطويل.

__________________

(١) أورده في المصابيح ١ : ٩.

٣٨٧

(الثامن) إنّ الله سبحانه وتعالى لمّا خلق الأرواح قبل خلق الأبدان في عالم الذرّ ، وكلّفها بتكليف حين تجرّدها ، أجّج لها نارا وأمرها بالدخول إليها والاقتحام فيها ، فامتثل بعضها وبادر إلى الإطاعة فكانت عليه بردا وسلاما ، وأبى بعضها ولم يمتثل فندم وخسر ، ثمّ طلب الرجوع مرّة أخرى فأبى ولم يمتثل أيضا ، فقامت هناك الحجّة وثبتت المحجّة ، وتحقّق الإيمان والكفر بالإطاعة والعصيان ، قبل استقرار الأرواح في الأبدان ، ووقع معلوم الله تعالى مطابقا لعلمه ، فخلق تعالى للأرواح المطيعة مسكنا مناسبا لها وهو البدن من طينة علّيّين ، وخلق للأرواح العاصية مسكنا من طينة سجّين ، كما خلق تعالى للمؤمن جنّة وللكافر نارا وذلك ليستقرّ كلّ واحد فيما يناسبه ، ويعود كلّ جزء إلى كلّه وكلّ فرع إلى أصله ، فظهر أنّ الخلق من الطينتين تابع للإيمان والكفر ومسبّب عن العمل دون العكس ، فلا يلزم الجبر ولا ينافي الاختيار. ألا ترى أنّ الله تعالى لمّا علم أنّ بين النبيّين والمؤمنين اتصالا من وجه وانفصالا من وجه آخر ، لأنّ المؤمنين يوافقونهم في العقايد ويخالفونهم أحيانا في الأعمال ، لصدور المعصية منهم ، خلق قلوب المؤمنين من طينة النبيّين ، وخلق أبدانهم من دون ذلك ، لانحطاط درجتهم وشرفهم ، فوضع كلّا في درجته. وإنّك إذا قرّرت لعبدك المطيع بيتا شريفا ولعبدك العاصي بيتا وضيعا ، صحّ ذلك عقلا وشرعا ولا يصفك عاقل بالظلم والجور ، إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وهو يلزم لو انعكس الأمر ، أو وقع التساوي ، فبان أنّ الخلق من طينتين علّيّين وسجّين تابع للطاعة والمعصية والإيمان والكفر دون العكس (١).

***

ولسيّدنا العلّامة الطباطبائي توجيه لطيف لهذه الأخبار ، أوجز فيه الكلام في إجمال بليغ ، قال :

قد استفاضت الأخبار بأنّ الله تعالى خلق السعداء من طينه علّيّين (من الجنّة) وخلق الأشقياء من طينة سجّين (من النار) وكلّ يؤول إلى حكم طينته من السعادة أو الشقاء.

وقد أورد عليها : أوّلا بمخالفة الكتاب. وثانيا باستلزام الجبر الباطل ،

أما البحث الأوّل فقد قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ)(٢). وقال : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ

__________________

(١) مصابيح الأنوار في حلّ مشكلات الأخبار ١ : ١١ ـ ١٤.

(٢) الأنعام ٦ : ٢.

٣٨٨

طِينٍ)(١). فأفاد أنّ الإنسان مخلوق من طين. ثمّ قال تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها)(٢). وقال : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها)(٣). فأفاد أنّ للإنسان غاية ونهاية من السعادة والشقاء. وهو متّجه إليها ، سائر نحوها. وقال تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ)(٤) فأفاد أنّ ما ينتهي إليه أمر الإنسان من السعادة أو الشقاء هو ما كان عليه في بدء خلقه ، وقد كان في بدء خلقه طينا فهذه الطينة طينة سعادة وطينة شقاء ، ومآل أمر السعيد إلى الجنّة ومآل أمر الشقىّ إلى النار ، فهما أوّلهما (٥) لكون الآخر هو الأوّل. وحينئذ صحّ أنّ السعداء خلقوا من طينة الجنّة ، والأشقياء خلقوا من طينة النار. قال تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ. كِتابٌ مَرْقُومٌ. يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)(٦). وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ. وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ. كِتابٌ مَرْقُومٌ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٧) وهي تشعر بأنّ علّيّين وسجّين هما ما ينتهي إليه أمر الأبرار والفجّار من النعمة والعذاب فتدبّر.

وأما البحث الثاني وهو أنّ أخبار الطينة تستلزم أن تكون السعادة والشقاء لازمتين حتميّتين للإنسان ، ومعه لا يكونان عن كسب واختيار للإنسان وهو الجبر الباطل.

والجواب أنّ اقتضاء الطينة للسعادة أو الشقاء ليس من قبل نفسها بل من قبل حكمه تعالى وقضائه وما قضى من سعادة وشقاء ، فيرجع الإشكال إلى سبق قضاء السعادة والشقاء في حقّ الإنسان قبل أن يخلق ، وأنّ ذلك يستلزم الجبر ، وقد ذكرنا هذا الإشكال مع جوابه في باب المشيئة والإرادة وحاصل الجواب : أنّ القضاء متعلّق بصدور الفعل عن اختيار العبد ، فهو فعل اختياريّ في عين أنّه حتميّ الوقوع ، ولم يتعلّق بالفعل سواء اختاره العبد أو لم يختر حتّى يلزم منه بطلان الاختيار والله الهادي (٨).

وحاصل ما ذكره سيّدنا الطباطبائي وأشار إليه سائر الأعلام ممّن تقدّمه ، هو : أنّ الخلقة من

__________________

(١) السجده ٣٢ : ٧.

(٢) البقرة ٢ : ١٤٨.

(٣) الحديد ٥٧ : ٢٢.

(٤) الأعراف ٧ : ٢٩.

(٥) لأنّ الغاية ملحوظة من قبل. فالغاية أوّل في اللّحاظ ونهاية في المآل.

(٦) المطفّفين ٨٣ : ١٨ ـ ٢١.

(٧) المطّففين ٨٣ : ٧ ـ ١٠.

(٨) راجع تعليقه على أصول الكافي ٢ : ٢ ـ ٣ / ٣.

٣٨٩

طينة علّيّين أو من طينة سجّين ، كناية عن اختلاف الناس في مآربهم ومشاربهم ، فمنهم من يؤول في مساعيه في الحياة إلى درجات على ، ومنهم من يؤول إلى دركات سفلى. كأنّ الأوّلين خلقوا من علّيّين ، حيث تحنّ نفوسهم إليه ، والآخرين خلقوا من سجّين ، حيث تحنّ نفوسهم إليه ، لأنّ الشيء تحنّ إلى أصله ومنشائه ... وهذا من التشبيه البليغ ، نظير قوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ)(١) أي مطبوع على الاستعجال كأنّه مجبول عليه وقد فطر عليه ، قال تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً)(٢). وهذا لأنّ الإنسان ، بنهمه وحرصه المفرط ، يرى كأنّه قد عجنت فطرته بعنصر العجلة ، فيلهف نحو ما يريد من غير هوادة ...

وهكذا الناس في أشكالهم وأنحائهم متفاوتون ، فبعض يسعى نحو الخير بكلّ همّته ، كأنّه من جبلّة ذاته. وآخر يهتمّ بالشرّ كأنّه من صميم فطرته وإذ كان البناء على التشبيه والتمثيل محضا ، فلا موجب لتداعي القول باستلزام الجبر وسلب الاختيار.

قال الزمخشري : إذا كان الإنسان خلق من عجل وكان في فطرته عجولا ، فما وجه ردعه عن الاستعجال ، أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟

قال : كلّا ، وهذا نظير ما ركّب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها ، حيث أعطاه القدرة على كبحها وتسخيرها في مآربه الصالحة وأن لا يرتكب بها الفساد (٣).

***

وهناك تأويل لعلّه أسدّ ، وهو أنّ تلك التعابير كناية عن تمهيدات تتّخذ بشأن كلّ من المؤمنين والفاسقين ، فمن علم الله منه الخير والصلاح ، مهّد له السبل إلى بلوغ كماله ، ومن علم منه الشرّ والفساد ، مهّد له أرضيّة البلوغ إلى مآربه. ذلك لأنّه تعالى هو مسبّب الأسباب ، ولو لا إرادته تعالى (أي الإذن منه تعالى) لم يقع شيء ، (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ*)(٤) ، أي لا تستطيعون فعل شيء ، إلّا

__________________

(١) الأنبياء ٢١ : ٣٧.

(٢) الإسراء ١٧ : ١١.

(٣) تفسير الكشّاف ٣ : ١١٧ بتوضيح.

(٤) الإنسان ٧٦ : ٣٠. وفي سورة التكوير ٨١ : ٢٩ : وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي هذه المشيئة التابعة لمشيئة العبد ، إنّما هي عن مقتضى تدبير عالم الخلق ، ليقع ما يشاؤه العباد وفق مرادهم ، تحقيقا لمبدأ الاختيار في أفعال العباد.

٣٩٠

أن يأذن الله. (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)(١).

وهذا الإذن منه تعالى تابع لإرادة العبد إن خيرا أراد أو شرّا. وذلك تحقيقا لجانب إمكان اختيار العباد فيما يشاؤون.

وبهذا التمهيد ـ منذ البدء ـ فسّرنا الحديث المعروف : «السعيد من سعد في بطن أمّه ، والشقيّ من شقي في بطن أمّه» (٢). أي من علم الله أنّه يسعد في الحياة ويتّخذ طريق السعادة بفضل اختياره ، فهذا يمنحه تعالى عناية أكثر منذ نعومة أظفاره. وأمّا الّذي يتخذ طريق الغيّ والغواية بسوء نيّته ، فهذا يخذله الله ويتركه في مهاوي ضلاله منذ عرف نفسه. وبهذا التفسير جاء عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام (٣).

قوله تعالى : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)

[٢ / ١٠٢١] أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي صالح في قوله : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) قال : نعظّمك ونمجّدك (٤).

[٢ / ١٠٢٢] وقال ابن عبّاس : كلّ ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة (٥).

[٢ / ١٠٢٣] وقال الحسن : نقول سبحان الله وبحمده وهو صلاة الخلق وصلاة البهائم وغيرهما سوى الآدميّين وعليها يرزقون (٦).

[٢ / ١٠٢٤] وأخرج الحاكم عن طلحة بن عبيد الله قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تفسير سبحان الله ، فقال : هو تنزيه الله عزوجل عن كلّ سوء» (٧).

[٢ / ١٠٢٥] وأخرج عبد الرزّاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٠٢.

(٢) البحار : ١٥٧ / ١٠.

(٣) لنا كلام تفصيلي عن مسألة السعادة والشقاء ، في التمهيد ٣ : ٣١٥ ـ ٣٢٨ فراجع.

(٤) الدرّ ١ : ١١٤ ؛ الطبري ١ : ٣٠٤ / ٥٢٥ ؛ القرطبي ١ : ٢٧٧ ، بلفظ : أي نعظّمك ونمجّدك ونطهّر ذكرك عمّا لا يليق بك ممّا نسبك إليه الملحدون ، قاله مجاهد وأبو صالح وغيرهما.

(٥) المصدر.

(٦) البغوي ١ : ١٠٢.

(٧) الحاكم ١ : ٥٠٢ ، كتاب الدعاء ؛ القرطبي ١ : ٢٧٦.

٣٩١

بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) قال : التسبيح : التسبيح ، والتقديس : الصلاة (١).

[٢ / ١٠٢٦] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي ذرّ ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أحبّ الكلام إلى الله ما اصطفاه الله لملائكته : سبحان ربّي وبحمده ـ وفي لفظ ـ سبحان الله وبحمده» (٢).

[٢ / ١٠٢٧] وروى البيهقي عن عبد الرحمان بن قرط أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السماوات العلا : «سبحان العليّ الأعلى سبحانه وتعالى» (٣).

[٢ / ١٠٢٨] وأخرج ابن جرير وأبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير أنّ ابن الخطّاب سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن صلاة الملائكة ، فلم يردّ عليه شيئا. فأتاه جبريل فقال : إنّ أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة ، يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم القيامة ، يقولون : سبحان ذي العزّة والجبروت ، وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة ، يقولون : سبحان الحيّ الّذي لا يموت (٤).

[٢ / ١٠٢٩] وأخرج ابن جرير بالإسناد إلى ابن إسحاق في قوله تعالى : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) قال : لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه (٥).

__________________

(١) الدرّ ١ : ١١٣ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٦٥ / ٣٧ ؛ الطبري ١ : ٣٠٤ / ٥٢٣ و ٥٢٤ ؛ القرطبي ١ : ٢٧٦ ، بلفظ : قال قتادة : تسبيحهم سبحان الله ؛ ابن كثير ١ : ٧٥ ؛ التبيان ١ : ١٣٥ ، بلفظ : قال قتادة : هو التسبيح المعروف.

(٢) الدرّ ١ : ١١٣ ؛ المصنّف ٧ : ٦٦ ـ ٦٧ / ٧ ، كتاب الدعاء ، باب ٤٨ (في ثواب التسبيح) ؛ مسند أحمد ٥ : ١٤٨ ، بلفظ : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل : أيّ الكلام أفضل؟ قال : ما اصطفى الله لمائكته أو لعباده «سبحان الله وبحمده» ؛ مسلم ٨ : ٨٦ ، كتاب الذكر والدعاء ، باب فضل سبحان الله وبحمده ؛ الترمذي ٥ : ٢٣٤ / ٣٦٦٣ ، باب ١١ ، أبواب الدعاء ؛ النسائي ٦ : ٢٠٧ / ١٠٦٦١ ، باب ١٩٤ ، كتاب عمل اليوم والليلة ، الجزء الثالث ، باب ذكر ما اصطفى الله عزوجل لملائكته. الحاكم ١ : ٥٠١ ، كتاب الدعاء ، باختلاف ؛ كنز العمّال ١ : ٤٦٠ / ١٩٩٢ ؛ الطبري ١ : ٣٠٢ / ٥٢١ ؛ ابن كثير ١ : ٧٥ ، بنحو ما نقله أحمد ؛ البغوي ١ : ١٠٢ / ٤٧ ، بنحو ما نقله أحمد.

(٣) الأسماء والصفات ، الجزء الأوّل ٣٨ ـ ٣٩ ؛ كنز العمّال ١٠ : ٣٦٨ ـ ٣٦٩ / ٢٩٨٤٥ ؛ ابن كثير ١ : ٧٥.

(٤) الدرّ ١ : ١١٣ ـ ١١٤ ؛ الطبري ١ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ / ٥٢٠ ؛ الحلية ٤ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ، ترجمة ٢٧٥ (سعيد بن جبير) ؛ كنز العمّال ١٠ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ / ٢٩٨٣٥.

(٥) الطبري ١ : ٣٠٤ / ٥٢٧.

٣٩٢

[٢ / ١٠٣٠] وقال الضحّاك وغيره ـ في تفسير (وَنُقَدِّسُ لَكَ) ـ : المعنى نطهّر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك (١).

[٢ / ١٠٣١] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : التقديس ، التطهير (٢).

[٢ / ١٠٣٢] وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : (وَنُقَدِّسُ لَكَ) قال : نصلّي لك (٣).

[٢ / ١٠٣٣] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (وَنُقَدِّسُ لَكَ) قال : نعظّمك ونكبّرك (٤).

كلام عن التسبيح والتقديس

التسبيح : تنزيه عن كلّ دنس ورجس.

والتقديس : ترفيع بالشأن بتنزيه شامل. وقد فسّره أهل اللّغة بالتطهير ، طهارة ذاتيّة لا يدنّسها شيء. ومن ثمّ فهو آكد في التنزيه ، لتكون القداسة ترفّع ونزاهة عن كلّ دنس ورجس ترفّعا على الإطلاق.

قال الراغب : السّبح : المرّ السريع في الماء وفي الهواء. يقال : سبح سبحا وسباحة. واستعير لمرّ النجوم في الفلك نحو (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ*)(٥). ولجري الفرس نحو (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً)(٦).

__________________

(١) القرطبي ١ : ٢٧٧.

(٢) الدرّ ١ : ١١٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٧٩ / ٣٣١ ؛ الطبري ١ : ٣٠٥ / ٥٢٨ ، عن الضحّاك ؛ ابن كثير ١ : ٧٥ ، عن الضحّاك.

(٣) الدرّ ١ : ١١٤ ؛ الطبري ١ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ / ٥٢٢ ؛ القرطبي ١ : ٢٧٦ ، نقلا عن ابن مسعود وابن عبّاس : بلفظ : تسبيحهم صلاتهم. وفي ص ٢٧٧ نقلا عن قتادة (بلفظ : قال قوم منهم قتادة ...) ؛ ابن كثير ١ : ٧٥ ، نقلا عن السّدّي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عبّاس وعن مرّة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة ؛ التبيان ١ : ١٣٤ ، بلفظ : قال ابن عبّاس وابن مسعود (نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) بمعنى نصلّي لك وفي ص ١٣٥ بلفظ : قال قوم : معنى نقدّس لك : نصلّي لك ؛ مجمع البيان ١ : ١٤٩ ، بلفظ : قيل : معنى (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) : نصلّي لك ... عن ابن عبّاس وابن مسعود.

(٤) الدرّ ١ : ١١٤ ؛ الطبري ١ : ٣٠٤ / ٥٢٦ ؛ ابن كثير ١ : ٧٥ ؛ التبيان ١ : ١٣٤ ـ ١٣٥ ، بلفظ : قال مجاهد : معناه نعظّمك بالحمد والشكر على نعمك ؛ مجمع البيان ١ : ١٤٩ ، بمعناه.

(٥) الأنبياء ٢١ : ٣٣. ويس ٣٦ : ٤٠.

(٦) النازعات ٧٩ : ٣.

٣٩٣

ولسرعة الذهاب في عمل نحو (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً)(١) ، أي جريا متواصلا بلا هوادة.

قال : والتسبيح تنزيه الله تعالى وأصله المرّ السريع في عبادة الله تعالى. وجعل التسبيح عامّا في العبادات قولا كان أو فعلا أو نيّة ، قال تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ)(٢). قيل : من المصلّين. والأولى أن يحمل على ثلاثتها.

قال تعالى : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ)(٣).

(وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)(٤).

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ)(٥)

(لَوْ لا تُسَبِّحُونَ)(٦) أي هلّا تعبدونه وتشكرونه.

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(٧).

قال : فذلك نحو قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً)(٨). (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)(٩).

قال : فذلك يقتضى أن يكون [تسبيحهم] تسبيحا على الحقيقة وسجودا له على وجه لا نفقهه ، بدلالة (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) ودلالة قوله : (وَمَنْ فِيهِنَ) بعد ذكر السماوات والأرض. ولا يصحّ أن يكون تقديره : يسبّح له من في السماوات ، ويسجد له من في الأرض. لأنّ هذا ممّا نفقهه. ولأنّه محال أن يكون ذلك تقديره ، ثمّ يعطف عليه بقوله : «ومن فيهنّ».

قال : والأشياء كلّها تسبّح له وتسجد بعضها بالتسخير وبعضها بالاختيار. ولا خلاف أنّ السماوات والأرض والدوابّ مسبّحات بالتسخير ، من حيث إنّ أحوالها تدلّ على حكمة الله تعالى ،

__________________

(١) المزّمّل ٧٣ : ٧.

(٢) الصافّات ٣٧ : ١٤٣.

(٣) البقرة ٢ : ٣٠.

(٤) آل عمران ٣ : ٤١.

(٥) ق ٥٠ : ٤٠.

(٦) القلم ٦٨ : ٢٨.

(٧) الإسراء ١٧ : ٤٤.

(٨) الرعد ١٣ : ١٥.

(٩) النحل ١٦ : ٤٩.

٣٩٤

وإنّما الخلاف في السماوات والأرض هل تسبّح باختيار؟ والآية تقتضي ذلك ، بما ذكرت من الدلالة.

قال : وسبحان أصله مصدر نحو غفران ، قال : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ)(١). (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا)(٢). وقول الشاعر (٣) :

أقول ـ لمّا جاءني فخره ـ :

سبحان من علقمة الفاخر!

قيل : تقديره سبحان علقمة ، على طريق التهكّم ، فزاد فيه «من» ردّا إلى أصله.

وقيل : أراد سبحان الله من أجل علقمة ، فحذف المضاف إليه.

قال : والسّبّوح القدّوس من أسماء الله تعالى ، وليس في كلامهم «فعّول» سواهما. وقد يفتحان نحو «كلّوب» و «سمّور».

والسّبحة : التسبيح. وقد يقال للخرزات الّتي بها يسبّح : سبحة (٤).

***

أقول : والمتلخّص من كلامه : أنّ التسبيح هو السبح في عبادة الله ، أي الجري المستديم بلا فتور. والعبادة قد تكون قولا أو فعلا أو نيّة. فإذا أخذ العبد في عبادة ربّه بأيّ نحو من العبادات واستمر عليها بلا فتور ، فهو مسبّح ويصبح من المسبّحين.

وهو تحقيق لطيف تنحلّ به كثير من المشاكل التفسيريّة هنا. وأهمّها تسبيح الكائنات.

قيل : كيف تسبّح السماوات والأرض وما فيهنّ وحتّى تسبيح الرعد والطير صافّات والجبال يسبّحن بالعشيّ والإشراق. (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(٥).

لكن لو فسّرنا التسبيح بالدأب على العبادة ، وخالصها السّجود لله تعالى ، وهو الخضوع والاستسلام لمحض إرادته تعالى في تسيير نظام الكون والجري وفق ناموس الطبيعة الّذي جبل الأشياء عليه (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً)(٦).

__________________

(١) الروم ٣٠ : ١٧.

(٢) البقرة ٢ : ٣٢.

(٣) وهو الأعشى. لسان العرب ٢ : ٤٧١.

(٤) المفردات (سبح) : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

(٥) الإسراء ١٧ : ٤٤.

(٦) النحل ١٦ : ٦٩.

٣٩٥

نعم ، لو فسّرنا التسبيح بذلك انحلّت المشكلة تماما ، حيث الكائنات برمّتها ذلولة تسلك سبل ربّها والّتي جبلت عليها في تشخيص مسيرتها في عالم الوجود.

ومن ثمّ نرى أنّ التسبيح في مثل هذه الآيات ، يخلفه التعبير بالسجود ، سجود الكائنات بأسرها لله تعالى ، فما هذا السجود إلّا تعبيرا آخر عن ذلك التسبيح!.

قال تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)(١).

وقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)(٢).

وقال : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ. وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ)(٣)

وقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ)(٤).

وقال : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)(٥).

وإذا كانت الأظلة خاضعة لنظام وكذا الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار وكلّ شيء خلقه الله في هذا الكون ، فهي جميعا ساجدة لله تعالى ومسبّحة له تسبيحا في عبادة مستمرّة تدأب فيها من غير قصور ولا فتور.

إذن صحّ التعبير بالتسبيح ـ في مفهومه الحقيقي (الدؤوب في العبادة) ـ عن سجود الكائنات بأسرها ، أي خضوعها التامّ واستسلامها المحض ، تجاه نواميس الطبيعة ، لا تجور ولا تحور عن المنهج الّذي رسمته لها الطبيعة ، وفق إرادة الله تعالى وسنته الجارية في الخلق. (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٦) : كلّ ينتهج منهجه الّذي جبل عليه. (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ)(٧).

__________________

(١) الرعد ١٣ : ١٥.

(٢) الحجّ ٢٢ : ١٨.

(٣) الرحمان ٥٥ : ٥ ـ ٨.

(٤) النحل ١٦ : ٤٨.

(٥) النحل ١٦ : ٤٩.

(٦) الأنبياء ٢١ : ٣٣.

(٧) النور ٢٤ : ٤١.

٣٩٦

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)(١).

وهذا هو معنى قوله تعالى : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً)(٢) أي انتهجي المنهج الّذي مهّده الله وفرض ـ فرضا ذاتيّا ـ الجري عليه بلا تهاون ولا فتور.

والأشياء كلّها على ذلك خاضعة لله يسبّحون ليلهم ونهارهم على استمرار دائب. ما عدا الإنسان فقد فرض عليه التكاليف ليمتثلها عن اختيار ذاتي لا قسر ولا جبر ، اختبارا في صميم ذاته ، واستجلاء لمقام خلافته في الأرض. ومن ثمّ عبّر بكثير من الناس (٣) لا جميعهم.

قال أبو إسحاق الزجّاج (٤) ـ في قوله تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(٥) ـ : قيل : إنّ كلّ ما خلق الله يسبّح بحمده ، وإنّ صرير السقف وصرير الباب من التسبيح ، فيكون ـ على هذا ـ الخطاب للمشركين وحدهم في (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). وجائز أن يكون تسبيح هذه الأشياء بما الله به أعلم لا يفقه منه إلّا ما علّمنا.

قال : وقال قوم : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أي ما من شيء إلّا وفيه دليل أنّ الله ـ جلّ وعزّ ـ خالقه ، وأنّ خالقه حكيم مبرّأ من الأسواء ، ولكنّكم أيّها الكفّار لا تفقهون أثر الصنعة في هذه المخلوقات.

قال : وليس هذا بشيء ، لأنّ الّذين خوطبوا بهذا ، كانوا مقرّين بأنّ الله خالقهم وخالق السماوات والأرض ومن فيهنّ ، فكيف يجهلون الخلقة وهم عارفون بها (٦).

قال الأزهري : وممّا يدلّك على أنّ تسبيح هذه المخلوقات تسبيح تعبّدت به ، قول الله ـ جلّ وعزّ ـ للجبال : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)(٧). ومعنى «أوّبي» أي سبّحي مع داوود النهار كلّه إلى

__________________

(١) الأنبياء ٢١ : ١٩ ـ ٢٠. الاستحسار : التعب والإعياء.

(٢) النحل ١٦ : ٦٩.

(٣) الحجّ ٢٢ : ١٨.

(٤) هو إبراهيم بن السري الزجّاج النحوي (توفّي : ٣١١ ه‍) له كتاب معاني القرآن. وقد حضره الأزهري ببغداد وكلّ ما أخذ في التفسير فهو منه. (التهذيب ، المقدمة : ٣٩ و ١ : ٢٤).

(٥) الإسراء ١٧ : ٤٤.

(٦) تهذيب اللغة للأزهري ٤ : ١٩٧.

(٧) سبأ : ١٠.

٣٩٧

الليل ، ولا يجوز أن يكون معنى أمر الله ـ جلّ وعزّ ـ للجبال بالتأويب إلّا تعبّدا لها.

وكذلك قوله ـ جلّ وعزّ ـ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)(١). فسجود هذه المخلوقات عبادة منها لخالقها لا نفقهها عنها كما لا نفقه تسبيحها.

وكذلك قوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)(٢). وقد علم الله هبوطها من خشيته ، ولم يعرّفنا ذلك ، فنحن نؤمن بما أعلمنا ولا ندّعي بما لم نكلّف بأفهامنا من علم فعلها كيفيّة نحدّها (٣).

[٢ / ١٠٣٤] قال أبو زكريّا الفرّاء : حدّثني قيس بن الربيع عن عمّار الدهنيّ عن سعيد بن جبير قال : «كلّ تسبيح في القرآن فهو صلاة ، وكلّ سلطان حجّة ، هذا لقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)(٤). وهذا معنى قوله تعالى : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ)(٥).

ماذا نفقه من تسبيح الكائنات؟

قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(٦).

لو فسّرنا التسبيح ـ هنا ـ بدلالة ذوات الأشياء على بارئها الحكيم ، كما قال الشاعر :

وفي كلّ شيء له آية

يدلّ على أنّه واحد

فهذا لا يصحّ ـ في المراد من الآية ـ حتّى ولو كان المخاطب هم المشركين. إذ قد عرفت من كلام أبي إسحاق الزجّاج : أنّهم كانوا معترفين بالّذي خلق السماوات والأرض ومن فيهنّ. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)(٧).

نعم لو فسّرنا التسبيح بالعبادة والسجود لله ، بمعنى الخضوع والاستسلام لإرادته تعالى ، كان

__________________

(١) الحجّ ٢٢ : ١٨.

(٢) البقرة ٢ : ٧٤.

(٣) تهذيب اللغة ٤ : ١٩٧ ؛ اللسان ٢ : ٤٧٢.

(٤) معاني القرآن للفرّاء ٢ : ١٢٥. والآية من سورة الإسراء ١٧ : ٤٤.

(٥) النور ٢٤ : ٤١.

(٦) الإسراء ١٧ : ٤٤.

(٧) الزخرف ٤٣ : ٩.

٣٩٨

عدم التفقّه لهذا المعنى ـ لمن نظر سطحيّا ـ ذا وجه وجيه ، حيث خضوع الكائنات لقوانين النظام واستسلامها لنواميس الطبيعة ، أمر لا يعلمه إلّا العلماء الراسخون في العلم ، العارفون بأسرار الكون وخبيئات الوجود.

قلت : وحتّى للمتعمّقين من العلماء ، قد خفي عليهم وجه هذا الاستسلام الّذي ينبىء عن شعور ذاتي في ذوات الأشياء ، والّذي يبدو بوضوح في مثل النحل والنمل وغيرهما ، من ذوي الأحاسيس الحادّة ، تعمل وفق مصالحها حسبما جبلها الله عليه. فما هذه الشعور والإحساس الّذي يبعث الكائنات على العمل وفق وظيفتها تماما؟!

هذه السلحفاة تبيض خارج البحر وتطمّ بيضها في حفيرة وتتركها لشأنها. ثمّ لمّا خرجت الفروخ عن البيض ، إذا هي تأخذ طريقها إلى البحر ، لتكرّر حياة أسلافها ، وفق سنّة الله الّتي جرت في الخلق.

كيف هذا الشعور ومن أين؟ الأمر الّذي يجهله الناس كافّة وحتّى العلماء ، وإنّما عرفوا الآثار والنتائج. أمّا العلل والأسباب الكامنة فمجهولة على الإطلاق!

«فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ»

ماذا يعني التسبيح بحمد ربّنا؟

التسبيح : تنزيه عن الأسواء.

والتحميد : تمجيد بجلائل الصفات.

ومن ثمّ قد يكون التنزيه بنفس التمجيد ، فإذا مجّدته تعالى بصفاته العظام فقد نزّهته عن الأسواء ، حيث ترفّعه تعالى عمّا دون شأنه الرفيع.

فإذا قلت : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)(١).

أو قلت : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٥٥.

٣٩٩

سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١).

إذا قلت ذلك وأثنيت على الله بجلائل الصفات فقد نزّهته عن أضدادها ممّا لا يليق بساحة قدسه تعالى.

فهذا هو من التسبيح بالحمد وبالثناء الرفيع.

وبعبارة أصرح ـ وفق مصطلح أهل الكلام ـ : إذا أثنيت على الله بصفات الجمال (الصفات الثبوتيّة) ، فقد وصفته بصفات الجلال (الصفات السلبيّة) ونزّهته عن الأسواء ورفّعته عن الأدناس.

وهذا من أبلغ التسبيح والتقديس بشأنه تعالى.

أمّا قولنا : «سبحان ربّي العظيم وبحمده» و «سبحان ربّي الأعلى وبحمده» فيعني : ومع حمده. أي التنزيه مرفق بالتمجيد معا.

ولسيّدنا العلّامة الطباطبائي ـ هنا ـ رأي يجعل تسبيح الكائنات حصرا في القوليّ ، لكن يفسّر القول بكلّ ما يظهر من بواطن الأشياء ، وليس تكلّما باللّسان محضا.

فالتكلّم إنّما كان قولا ، لأنّه يبدي ما في كمون المتكلّم من مقاصد وآراء. فكلّ ما كان هذا شأنه ، صحّ إطلاق القول بل الكلام عليه بهذا الاعتبار.

فقوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)(٢) ، يعني : بدت منهما ما يكشف عن طوعهما واستسلامهما لإرادة الربّ تعالى.

قال : والتسبيح تنزيه قوليّ كلاميّ ، وحقيقة الكلام الكشف عمّا في الضمير بنوع من الدلالة عليه. غير أنّ الإنسان ألف لإبداء مراده بآلة اللسان واستعمال الألفاظ ، وقد يعبّر عن مقصوده بمجرّد الإشارة بيده أو برأسه ، وربّما استعان بالكتابة أو نصب علامة.

قال : وبالجملة فالّذي يكشف عن معنى مقصود ، قول وكلام. وقيام الشيء بهذا الكشف قول منه وتكليم ، وإن لم يكن بصوت أو لفظ.

وعليه فعند هذه الموجودات المشهودة ، من السماء والأرض وما فيهما ما يكشف كشفا

__________________

(١) الحشر ٥٩ : ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) فصّلت ٤١ : ١١.

٤٠٠