التفسير الأثري الجامع - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-03-6
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

والأشخاص شيء اقتضته طبيعة الحياة البشريّة بالذات ، وأساسها التفاهم وتبادل الأفكار ، الأمر الّذي تنبو عنه حياة الملك وهو متجرّد عن هذه الملابسات. فما وجه التحدّي ، بعد أن لم تعد حاجة إلى هذه الخاصيّة!؟

وهذا نظير ما إذا بعثنا مندوبا إلى بلاد الأرمن وعلّمناه لغتهم ، ثمّ تحدّينا به مندوبنا العربي المعدّ للذهاب إلى البلاد العربيّة ، وقلنا له : إنّ مندوبنا ذاك يفضّل عليك بعلمه بلغة الأرمن دونك؟!

وأمّا على تفسيرنا للأسماء بمعرفة حقائق الكون وأسرار الطبيعة والقدرة على استكشافها واستنباط خباياها ، بفضل استعداده الذاتي الّذي جبل عليه. فهذا يكون نظير ما لو بعثنا هيأة اكتشافيّة إلى مناطق صعبة أو إلى أجواء السماء للبحث عن الكوامن فيها. وهؤلاء يتحدّى بهم لمقام فضلهم وعلمهم وقدرتهم على هذا التجوال العلمي الواسع الأرجاء.

***

وإذ قد تحقّق ذلك التفوّق الذاتي لهذا الكائن البشري ، جاء دور اخضاع سائر الخلق له وتسخير الكائنات وفق إرادته. وبذلك تتجلّى في وجوده معنى الخلافة التي منحه الله إيّاها على وجه الأرض بأطباقها وأجوائها.

وفي مقدّمتها القوى الفاعلة في تدبير العالم وتنظيم الحياة في الوجود كلّه بإذن الله.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ).

والسجود لآدم ، خضوع له ، حيث المسخّرات خاضعة لهذا الإنسان مدى الدهر.

(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).

وهنا تبتدئ خليقة الشرّ مجسّمة : عصيان الجليل سبحانه ، والاستكبار عن معرفة الفضل لأهله ، والعزّه بالإثمّ والاستغلاق للفهم. وبذلك تبيّن أنّ هناك قوى معارضة تعرقل سبيل الحياة في وجه هذا الكائن ، يرأسها إبليس ، حيث يحاول الغلبة على القوى العاملة في صالح الإنسان ، ليحول دون بلوغ مآربه.

وهكذا الحياة تزدحم بمعارضات ؛ هناك عوامل صالحة تعارضها آفات تعمل في الإفساد. وعلى هذا الإنسان ـ الكائن العاقل المتفكّر المدبّر لشؤون حياته ـ أن يخوض المعركة ويكافح المعارض ويقوم بعلاج حكيم.

٣٤١

نعم كان إبليس وجنوده يشكّلون ركب القوى المعارضة المقاومة في وجه الإنسان ، ركبا انشئت من قبل للطموس على معالم الحياة والحؤول دون ازدهارها. (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).

تلك حكمة الله في الخلق والتدبير ، يجعل من القوى العاملة في هذه الحياة أضدادا متعارضة ليتمخّض الجيّد من الرديء ويذهب الزبد جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وعلى ذمّة الخلود.

والآن وقد انكشف ميدان المعركة الخالدة ، المعركة بين خليقة الشرّ في إبليس وخليفة الله في الأرض. المعركة الخالدة في ضمير الإنسان والّتي ينتصر فيها الخير بمقدار ما يستعصم الإنسان بإرادته وعهده مع ربّه ، وينتصر فيها الشرّ بمقدار ما يستسلم الإنسان لشهوته وينقاد لهوى نفسه ، فيبتعد عن ربّه.

وفي الآيات الّتي تليها (٣٥ ـ ٣٩) عرض نموذجي من تلك المعركة الّتي خاضها الإنسان بدء وجوده وخسرها بعض الشيء ، لتكون تجربة في محاولاته من بعد طول مسيرة الحياة.

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ).

نعم يعيش هذا الإنسان ـ بل وكلّ مخلوق خلقه الله ـ في ظلّ عناية البارئ البارّ الحكيم في طمأنينة وسلام ، هادئ البال فارغ الخيال ، في رغد ورفاهية من العيش يتمتّع بالحياة حيث يشاء.

فقد أبيحت لهما (لآدم وحوّاء وهما يمثّلان النموذج البشري في بدء تكوينه) كلّ ثمار الجنّة إلّا شجرة واحدة. وربما كانت ترمز للمحظور الّذي لا بدّ منه في الحياة على الأرض ، فبغير محظور لا تنبت الإرادة ولا يتميّز الإنسان المريد (صاحب الإرادة الذاتيّة) من الحيوان المسوق. ولا يمتحن صبر الإنسان ومقاومته تجاه جموح النفس وأطماعها الهابطة ، إلّا بمقدار مقدرته ومبلغ صلابته على الوفاء بالعهد والتقيّد بالشرط. فالإرادة هي مفترق الطرق بين الإنسان وغيره.

(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ).

تلك هي التجربة الأولى لم ينجح الإنسان فيها كما أراده الله (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(١). فنسي أم تناسى؟ نعم تناسى حيث غلبته الوساوس ولم يقف موقفه الصارم

__________________

(١) طه ٢٠ : ١١٥.

٣٤٢

الّذي كان ينبغي له.

عندئذ تمّت التجربة : نسي آدم عهده وضعف أمام الغواية. وعندئذ حقّت كلمة الله وتمّ قضاؤه :

(وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ).

وكان هذا إيذانا بانطلاق المعركة في مجالها المقدّر لها ، بين الشيطان والإنسان ، إلى آخر الزمان. وعليه فلا يزال الإنسان في كفاح دائم مع عوامل الشرّ طول مسيرته في الحياة. كما عليه أن يأخذه بجدّه فلا تتكرّر التجربة الأولى «لا يلدغ المؤمن [النابه] من جحر مرّتين».

وعندئذ نهض آدم من عثرته ، بما ركّب في فطرته (من نباهة وذكاء) وأدركته رحمة ربّه التي تدرك الإنسان دائما عند ما يثوب ويئوب إلى بارئه.

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

وتمّت كلمة الله الأخيرة وعهده الدائم مع آدم وذرّيّته ، عهد الاستخلاف في هذه الأرض ، وشرط الفلاح فيها أو البوار :

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

نعم ، انتقلت المعركة الخالدة إلى ميدانها الأصيل ، وانطلقت من عقالها لا تهدأ لحظة ولا تفتر. وعرف الإنسان في فجر البشريّة كيف ينتصر إذا شاء الانتصار ، وكيف ينكسر إذا اختار لنفسه الخسار.

***

وهنا لا بدّ من عودة إلى مطالع القصّة : قصّة البشريّة الأولى :

لقد قال الله تعالى للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وإذن فآدم مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى ، ففيم إذن كانت تلك الشجرة المحرّمة؟ وفيم إذن كان بلاء آدم؟ وفيم إذن كان الهبوط إلى الأرض ، وهو مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى؟

قال سيّد قطب : لعلّني ألمح أنّ هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة وإعدادا ، كانت إيقاظا للقوى المذخورة في كيانه ، كانت تدريبا له على تلقّي الغواية ، وتذوّق العاقبة ، وتجرّع الندامة ، ومعرفة العدوّ ، والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الأمين!

٣٤٣

إنّ قصّة الشجرة المحرّمة ، ووسوسة الشيطان باللذّة ، ونسيان العهد بالمعصية ، والصحوة من بعد السكرة ، والندم وطلب المغفرة. إنّها هي هي تجربة البشريّة المتجدّدة المكرورة! سيتعرّض لمثلها طويلا ، استعدادا للمعركة الدائبة وموعظة وتحذيرا (١).

وبعد ، فأين كان هذا الّذي كان؟ وما الجنّة التي عاش فيها آدم وزوجه حينا من الزمن؟ ومن هم الملائكة؟ ومن هو إبليس؟. كيف قال الله تعالى لهم؟ وكيف أجابوه؟ ...

قال سيّد قطب : هذا وأمثاله في القرآن الكريم غيب من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه ؛ وعلم بحكمته أن لا جدوى للبشر في كنهه وطبيعته ، فلم يهب لهم القدرة على إدراكه والإحاطة به ، بالأداة الّتي وهبهم إيّاها لخلافة الأرض ، وليس من مستلزمات الخلافة أن نطّلع على هذا الغيب. وبقدر ما سخّر الله للإنسان من النواميس الكونيّة وعرّفه بأسرارها ، بقدر ما حجب عنه أسرار الغيب فيما لا جدوى له في معرفته. وما يزال الإنسان مثلا ، على الرغم من كلّ ما فتح له من الأسرار الكونيّة ، يجهل ما وراء اللحظة الحاضرة جهلا مطلقا ، ولا يملك بأيّ أداة من أدوات المعرفة المتاحة له أن يعرف ماذا سيحدث له بعد اللحظة وهل النفس الّذي خرج من فمه عائد أم هو آخر أنفاسه؟ وهذا مثل من الغيب المحجوب عن البشر ، لأنّه لا يدخل في مقتضيات الخلافة ، بل ربما كان معوّقا لها لو كشف للإنسان عنه؟ وهنالك ألوان من مثل هذه الأسرار المحجوبة عن الإنسان ، في طيّ الغيب الّذي لا يعلمه إلّا الله.

ومن ثمّ لم يعد للعقل البشري أن يخوض فيه ، لأنّه لا يملك الوسيلة للوصول إلى شيء من أمره. وكلّ جهد يبذل في هذه المحاولة هو جهد ضائع ، ذاهب سدى ، بلا ثمرة ولا جدوى.

وبعد فإذ كان العقل البشري لم يوهب الوسيلة للاطّلاع على مثل هذا الغيب المحجوب ؛ فليس سبيله إذن أن يتبجّح فينكر. فالإنكار حكم يحتاج إلى المعرفة ، والمعرفة هنا ليست من طبيعة العقل ، وليست في طوق وسائله ، ولا هي ضروريّة له في وظيفته!

إنّ الاستسلام للوهم والخرافة شديد الضرر بالغ الخطورة. ولكن أضرّ منه وأخطر ، التنكّر للمجهول كلّه وإنكاره ، واستبعاد الغيب لمجرّد عدم القدرة على الإحاطة به. إنّها تكون نكسة إلى عالم الحيوان الّذي يعيش في المحسوس وحده ، ولا ينفذ من أسواره إلى الوجود الطليق.

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٧٢.

٣٤٤

فلندع هذا الغيب إذن لصاحبه ، وحسبنا ما يقصّ لنا عنه ، بالقدر الّذي يصلح لنا في حياتنا ، ويصلح سرائرنا ومعاشنا. ولنأخذ من القصّة ما تشير إليه من حقائق كونيّة وإنسانيّة ، ومن تصوّر للوجود وارتباطاته ، ومن إيحاءات بطبيعة الإنسان وقيمته وموازينه. فذلك وحده أنفع للبشريّة وأهدى (١).

إيحاءات من قصّة آدم

ولسيّد قطب هنا ملاحظات عابرة وفي نفس الوقت جليلة استوحاها من قصّة آدم ، قصّة البشريّة الأولى :

يقول : «وفي اختصار يناسب ظلال القرآن سنحاول أن نمرّ بهذه الإيحاءات والتصوّرات والحقائق مرورا مجملا سريعا :

إنّ أبرز إيحاءات قصّة آدم ـ كما وردت في هذا الموضع ـ هو القيمة الكبرى الّتي يعطيها التصوّر الإسلامي للإنسان ولدوره في الأرض ، ولمكانه في نظام الوجود ، وللقيم الّتي يوزن بها. ثمّ لحقيقة ارتباطه بعهد الله ، وحقيقة هذا العهد الّذي قامت خلافته على أساسه.

وتتبدّى تلك القيمة الكبرى الّتي يعطيها التصوّر الإسلامي للإنسان في الإعلان العلوي الجليل في الملأ الأعلى الكريم ، أنّه مخلوق ليكون خليفة في الأرض ؛ كما تتبدّى في أمر الملائكة بالسجود له. وفي طرد إبليس الّذي استكبر وأبى ، وفي رعاية الله له أوّلا وأخيرا.

ومن هذه النظرة للإنسان تنبثق جملة اعتبارات ذات قيمة كبيرة في عالم التصوّر وفي عالم الواقع على السواء.

وأوّل اعتبار من هذه الاعتبارات هو أنّ الإنسان سيّد هذه الأرض ، ومن أجله خلق كلّ شيء فيها ـ كما تقدّم ذلك نصّا ـ فهو إذن أعزّ وأكرم وأغلى من كلّ شيء مادّي ، ومن كلّ قيمة مادّيّة في هذه الأرض جميعا. ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادّيّة أو شيء مادّي. لا يجوز أن يعتدى على أيّ مقوّم من مقوّمات إنسانيّته الكريمة ، ولا أن تهدر أيّة قيمة من قيمه لقاء تحقيق أيّ كسب مادّي ، أو إنتاج أيّ شيء مادّي ، أو تكثير أيّ عنصر مادّي. فهذه المادّيّات كلّها

__________________

(١) المصدر : ٧٢ ـ ٧٣.

٣٤٥

مخلوقة ـ أو مصنوعة ـ من أجله ، من أجل تحقيق إنسانيّته ، من أجل تقرير وجوده الإنساني. فلا يجوز إذن أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه الإنسانيّة ، أو نقض مقوّم من مقوّمات كرامته.

والاعتبار الثاني هو أنّ دور الإنسان في الأرض هو الدور الأوّل. فهو الّذي يغيّر ويبدّل في أشكالها وفي ارتباطاتها ؛ وهو الّذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها. وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع الإنتاج ، هي الّتي تقود الإنسان وراءها ذليلا سلبيّا كما تصوّره المذاهب الّتي تحقّر من دور الإنسان وتصغّر ، بقدر ما تعظّم في دور الآلة وتكبّر!

إنّ النظرة القرآنيّة تجعل هذا الإنسان بخلافته في الأرض ، عاملا مهمّا في نظام الكون ، ملحوظا في هذا النظام. فخلافته في الأرض تتعلّق بارتباطات شتّى مع السماوات ومع الرياح ومع الأمطار ، ومع الشموس والكواكب. وكلّها ملحوظ في تصميمها وهندستها إمكان قيام الحياة على الأرض ، وإمكان قيام هذا الإنسان بالخلافة. فأين هذا المكان الملحوظ من ذلك الدور الذليل الصغير الّذي تخصّصه له المذاهب الماديّة ، ولا تسمح له أن يتعدّاه؟!

وما من شكّ أنّ كلّا من نظرة الإسلام هذه ونظرة الماديّة للإنسان تؤثّر في طبيعة النظام الّذي تقيمه هذه وتلك للإنسان ؛ وطبيعة احترام المقوّمات الإنسانيّة أو إهدارها ؛ وطبيعة تكريم هذا الإنسان أو تحقيره. وليس ما نراه في العالم المادّي من إهدار كلّ حرّيّات الإنسان وحرماته ومقوّماته في سبيل توفير الإنتاج المادّي وتكثيره ، إلّا أثرا من آثار تلك النظرة إلى حقيقة الإنسان ، وحقيقة دوره في هذه الأرض!

كذلك ينشأ عن نظرة الإسلام الرفيعة إلى حقيقة الإنسان ووظيفته ، إعلاء القيم الأدبيّة في وزنه وتقديره ، وإعلاء قيمة الفضائل الخلقيّة ، وتكبير قيم الإيمان والصلاح والإخلاص في حياته. فهذه هي القيم الّتي يقوم عليها عهد استخلافه : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وهذه القيم أعلى وأكرم من جميع القيم المادّيّة ـ هذا مع أنّ من مفهوم الخلافة تحقيق هذه القيم المادّيّة ، ولكن بحيث لا تصبح هي الأصل ولا تطغى على تلك القيم العليا ـ ولهذا وزنه في توجيه القلب البشري إلى الطهارة والارتفاع والنظافة في حياته. بخلاف ما توحيه المذاهب المادّيّة من استهزاء بكلّ القيم الروحيّة ، وإهدار لكلّ القيم الأدبيّة ، في سبيل الاهتمام المجرّد بالإنتاج

٣٤٦

والسلع ومطالب البطون كالحيوان (١)!

وفي التصوّر الإسلامي إعلاء من شأن الإرادة في الإنسان فهي مناط العهد مع الله ، وهي مناط التكليف والجزاء. إنّه يملك الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربّه عن طريق تحكيم إرادته ، وعدم الخضوع لشهواته ، والاستعلاء على الغواية الّتي توجّه إليه. بينما يملك أن يشقي نفسه ويهبط من عليائه ، بتغليب الشهوة على الإرادة ، والغواية على الهداية ، ونسيان العهد الّذي يرفعه إلى مولاه. وفي هذا مظهر من مظاهر التكريم لا شكّ فيه ، يضاف إلى عناصر التكريم الأخرى. كما أنّ فيه تذكيرا دائما بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة ، والرفعة والهبوط ، ومقام الإنسان المريد ودرك الحيوان المسوق!

وفي أحداث المعركة الّتي تصوّرها القصّة بين الإنسان والشيطان مذكّر دائم بطبيعة المعركة. إنّها بين عهد الله وغواية الشيطان ، بين الإيمان والكفر ، بين الحقّ والباطل ، بين الهدى والضلال ، والإنسان هو نفسه ميدان المعركة. وهو نفسه الكاسب أو الخاسر فيها. وفي هذا إيحاء دائم له باليقظة ؛ وتوجيه دائم له بأنّه جنديّ في ميدان ؛ وأنّه هو صاحب الغنيمة أو السلب في هذا الميدان!

وأخيرا تجيء فكرة الإسلام عن الخطيئة والتوبة : إنّ الخطيئة فرديّة والتوبة فرديّة ، في تصوّر واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض ، ليست هنالك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده ـ كما تقول نظريّة الكنيسة ـ وليس هنالك تكفير لاهوتيّ ، كالذي تقول الكنيسة إنّ عيسى عليه‌السلام (ابن الله بزعمهم) قام به بصلبه ، تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم! كلّا! خطيئة آدم كانت خطيئته الشخصيّة ، والخلاص منها كان بالتوبة المباشرة في يسر وبساطة. وخطيئة كلّ ولد من أولاده خطيئة كذلك شخصيّة ، والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة ، تصوّر مريح صريح. يحمل كلّ إنسان وزره ، ويوحي إلى كلّ إنسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس والقنوط «إنّ الله توّاب رحيم».

هذا طرف من إيحاءات قصّة آدم ـ في هذا الموضع ـ نكتفي به في ظلال القرآن. وهو وحده ثروة من الحقائق والتصوّرات القويمة ؛ وثروة من الإيحاءات والتوجيهات الكريمة ؛ وثروة من الأسس التي يقوم عليها تصوّر اجتماعي وأوضاع اجتماعيّة ، يحكمها الخلق والخير والفضيلة. ومن هذا الطرف نستطيع أن ندرك أهميّة القصص القرآنيّ في تركيز قواعد التصوّر الإسلامي ؛ وإيضاح

__________________

(١) يراجع بتوسّع كتاب : «الإنسان بين الماديّة والإسلام» لمحمّد قطب ـ «دار الشروق».

٣٤٧

القيم التي يرتكز عليها. وهي القيم الّتي تليق بعالم صادر عن الله ، متّجه إلى الله ، صائر إلى الله في نهاية المطاف ، عقد الاستخلاف فيه قائم على تلقّي الهدى من الله ، والتقيّد بمنهجه في الحياة. ومفرق الطريق فيه أن يسمع الإنسان ويطيع لما يتلقّاه من الله ، أو أن يسمع الإنسان ويطيع لما يمليه عليه الشيطان. وليس هناك طريق ثالث ، إمّا الله وإمّا الشيطان ، إمّا الهدى وإمّا الضلال ، إمّا الحق وإمّا الباطل ، إمّا الفلاح وإمّا الخسران. وهذه الحقيقة هي الّتي يعبّر عنها القرآن كلّه ، بوصفها الحقيقة الأولى ، الّتي تقوم عليها سائر التصوّرات ، وسائر الأوضاع في عالم الإنسان» (١).

عناية ربّانيّة دائمة

وممّا يستلفت النظر من قصّة البشريّة الأولى ، هي تلك عناية الله سبحانه وتعالى بالنسبة لهذا الإنسان ، ترافقه طول الحياة مادام مستمسكا بعروة الله الوثقى الّتي لا انفصام لها.

لقد كان التساؤل خطيرا : هلّا كان العقل البشري يمنحه دعة في الحياة أم يجعله في قلق دائب؟

فكان الجواب : أنّ الإنسان بما أنّه يعقل الأمور ويتدبّرها بفضل إمعانه في النظر والتفكير ، بما أنّه كذلك فإنّه يصبح ويمسي قلقا وفي اضطراب نفساني دائم ، حيث يرى نفسه في خضمّ من الحوادث والكوارث تترى على العائشين على هذه البسيطة. وهو لا يعلم مصيره بالذات ، فلا يطمئنّ باله حيث توجّه خياله.

والإنسان أوّل ما وضع قدميه على الأرض أحسّ بهذا القلق ، حيث الوحشة ترافقه إذا ما ترك وشأنه!

غير أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ بفضل رحمانيّته ورأفته بعباده ، لم يدع الإنسان غائرا في هواجسه ، وقد خلقه ليكون خليفته في الأرض.

فهو ـ سبحانه ـ إثر ما أهبطه إلى الأرض ـ الموعودة ـ أرفقه بزاده وراحلته في هذا المسير الصعب ؛ وعده بالنصر والهدى : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢).

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٧٣ ـ ٧٦.

(٢) البقرة ٢ : ٣٨ ـ ٣٩.

٣٤٨

فالحياة الوديعة الهادئة المريحة ، والّتي تجعل الإنسان يستلذّ بحياته ، هي الّتي ترعيها عناية ربّانية عليا وتشملها ولاية الله الكبرى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)(١) ، من ظلمات الحياة وأكدارها ، إلى ضوء النور وبهيج سعادة الحياة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ)(٢). فالدعوة الإلهيّة لا تهدف غير السعادة في الحياة. إن ماديّة أو معنويّة.

هذا إذا شعر الإنسان بعناية الله له وشكر نعماءه.

أمّا الّذين أنكروا نعمة الله من بعد ما عرفوها (٣)(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)(٤)(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)(٥). (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٦). (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ)(٧). (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٨).

نعم أولئك أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من نور الفطرة ومن هداية العقل ، إلى غياهب الغيّ والضلال.

[٢ / ٩٤٤] وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين ـ عليه صلوات المصلّين ـ : «فلمّا مهد أرضه وأنفذ أمره ، اختار آدم عليه‌السلام خيرة من خلقه ، وجعله أوّل جبلّته وأسكنه جنّته وأرغد فيها أكله ، وأوعز إليه فيما نهاه عنه ، وأعلمه أنّ في الإقدام عليه التعرّض لمعصيته ، والمخاطرة بمنزلته. فأقدم على ما نهاه عنه موافاة لسابق علمه ، فأهبطه بعد التوبة ليعمر أرضه بنسله وليقيم الحجّة به على عباده. ولم يخلهم بعد أن قبضه ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته ، ويصل بينهم وبين معرفته ، بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه ومتحمّلي ودائع رسالاته ، قرنا فقرنا ، حتّى تمّت بنبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّته وبلغ المقطع عذره ونذره» (٩).

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٥٧.

(٢) الأنفال ٨ : ٢٤.

(٣) (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) (النحل ١٦ : ٨٣).

(٤) النمل ٢٧ : ١٤.

(٥) الأنعام ٦ : ٢٠.

(٦) الأعراف ٧ : ٥٣.

(٧) غافر ٤٠ : ٧٨.

(٨) البقرة ٢ : ١١٤.

(٩) نهج البلاغة ١ : ١٧٧ : الخطبة ٩١ (خطبة الأشباح).

٣٤٩

ملحوظة

قد يتساءل عن مرجع ضمير الجمع المذكّر في قوله : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) مع كون الأسماء جمعا مكسّرا ، وهو بحكم المفردة المؤنث ، بدليل (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها).

وأيضا قوله : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا ...) خطابا مع آدم وحوّاء ، حيث أزلّهما الشيطان وأخرجهما ممّا كانا فيه.

وأجاب الزمخشري عن الأوّل بأنّه من باب التغليب ، قال : وإنّما ذكّر ، لأنّ في المسمّيات العقلاء فغلّبهم (١).

وأجاب عن الثاني بأنّه خطاب لآدم وحوّاء ، والمراد : هما وذريّتهما ، لأنّهما لمّا كانا أصل الإنس ومتشعّبهم ، جعلا كأنّهما الإنس كلّهم. والدليل عليه قوله : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)(٢). ويدلّ على ذلك قوله : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). وما هو إلّا حكم يعمّ الناس كلّهم. ومعنى (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) : ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض (٣).

***

وللإمام أبي جعفر الطبري بحث روائي حول حديث الخلافة في الأرض ، نذكره بنصّه :

قال : اختلف أهل التأويل في قوله : (إِنِّي جاعِلٌ) ، فقال بعضهم : إنّي فاعل. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٩٤٥] حدّثنا القاسم بن الحسن ، بالإسناد إلى الحسن وقتادة ، قالوا : قال الله للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قال لهم : إنّي فاعل.

وقال آخرون : إنّي خالق. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٩٤٦] حدّثت عن المنجاب بن الحارث قال : حدّثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، قال : كلّ شيء في القرآن «جعل» فهو خلق.

قال أبو جعفر : والصواب في تأويل قوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أي مستخلف في الأرض خليفة ومصيّر فيها خلفا ، وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة.

__________________

(١) الكشّاف ١ : ١٢٦.

(٢) طه ٢٠ : ١٢٣.

(٣) الكشّاف ١ : ١٢٨. ولنا عن ذلك بحث مذيّل في كتابنا «شبهات وردود» (الجزء السابع من التمهيد : ٤٢٠ ـ ٤٤٢).

٣٥٠

وقيل إنّ الأرض الّتي ذكرها الله في هذه الآية هي مكّة. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٩٤٧] حدّثنا ابن حميد ، بالإسناد عن ابن سابط أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «دحيت الأرض من مكّة. وكانت الملائكة تطوف بالبيت ، فهي أوّل من طاف به ، وهي الأرض الّتي قال الله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، وكان النبيّ (١) إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتى هو ومن معه فعبدوا الله بها حتّى يموتوا ، فإنّ قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام» (٢).

وقال في تأويل قوله تعالى : (خَلِيفَةً) :

والخليفة الفعيلة ، من قولك : خلف فلان فلانا في هذا الأمر إذا قام مقامه فيه بعده ، كما قال جلّ ثناؤه : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(٣). يعني بذلك : أنّه أبدلكم في الأرض منهم فجعلكم خلفاء بعدهم. ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم : خليفة ، لأنّه خلف الّذي كان قبله ، فقام بالأمر مقامه ، فكان منه خلفا ، يقال منه : خلف الخليفة يخلف خلافة وخليفا.

[٢ / ٩٤٨] وكان محمّد بن إسحاق يقول بما حدّثنا به ابن حميد ، قال : حدّثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) يقول : ساكنا وعامرا ؛ يسكنها ويعمرها ، خلفا ليس منكم.

وليس الّذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها ، وإن كان الله ـ جلّ ثناؤه ـ إنّما أخبر ملائكته أنّه جاعل في الأرض خليفة يسكنها ، ولكن معناها ما وصفت قبل (٤).

فإن قال لنا قائل : فما الّذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرا فكان بنو آدم بدلا منه وفيها منه خلفا؟ قيل : قد اختلف أهل التأويل في ذلك.

[٢ / ٩٤٩] فحدّثنا أبو كريب ، بالإسناد إلى ابن عبّاس ، قال : أوّل من سكن الأرض الجنّ ، فأفسدوا فيها ، وسفكوا فيها الدماء ، وقتل بعضهم بعضا. قال : فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة ، فقتلهم إبليس ومن معه ، حتّى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ؛ ثمّ خلق آدم

__________________

(١) أي كلّ نبيّ من الأنبياء.

(٢) هذا الحديث مرسل ، فاين سابط راوي الحديث تابعيّ لم يدرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولم يوجد هذا الحديث في أيّ من الصحاح.

(٣) يونس ١٠ : ١٤.

(٤) الّذي ذكره ابن إسحاق في معنى الخليفة : هو الخلف منه تعالى ، ليكون هذا المخلوق الجديد خليفة الله في الأرض. وأمّا الّذي اختاره ابن جرير فهو الخلف عن مخلوق قبل آدم ، الجنّ أو النسناس ، على ما ذكره الأخباريّون.

٣٥١

فأسكنه إيّاها ، فلذلك قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).

فعلى هذا القول ، إنّي جاعل في الأرض خليفة من الجنّ يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها.

[٢ / ٩٥٠] وحدّثني المثنّى بالإسناد إلى الربيع بن أنس في قوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) الآية ، قال : إنّ الله خلق الملائكة يوم الأربعاء ، وخلق الجنّ يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة ، فكفر قوم من الجنّ ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ، فكانت الدماء وكان الفساد في الأرض.

وقال آخرون في تأويل قوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أي خلفا يخلف بعضهم بعضا ، وهم ولد آدم الّذين يخلفون أباهم آدم ، ويخلف كلّ قرن منهم القرن الّذي سلف قبله.

وهذا قول حكي عن الحسن البصري ، ونظير له ما :

[٢ / ٩٥١] حدّثنى به محمّد بن بشّار ، بالإسناد إلى ابن سابط في قوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) قال : يعنون به بني آدم.

[٢ / ٩٥٢] وحدّثني يونس بالإسناد إلى ابن زيد ، قال الله للملائكة : إنّي أريد أن أخلق في الأرض خلقا ، وأجعل فيها خليفة ، وليس لله يومئذ خلق إلّا الملائكة والأرض ليس فيها خلق.

وهذا القول يحتمل ما حكي عن الحسن ، ويحتمل أن يكون أراد ابن زيد أنّ الله أخبر الملائكة أنّه جاعل في الأرض خليفة له ، يحكم فيها بين خلقه بحكمه ، نظير ما :

[٢ / ٩٥٣] حدّثني به موسى بن هارون ، بالإسناد إلى ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الله جلّ ثناؤه قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قالوا : ربّنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال : يكون له ذرّيّة يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا.

فكان تأويل الآية على هذه الرواية الّتي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عبّاس : إنّي جاعل في الأرض خليفة منّي يخلفني في الحكم بين خلقي ، وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه.

وأمّا الإفساد وسفك الدماء بغير حقّها فمن غير خلفائه ، ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله ؛ لأنّهما (١) أخبرا أنّ الله ـ جلّ ثناؤه ـ قال لملائكته ـ إذ سألوه : ما ذاك الخليفة ـ : إنّه خليفة يكون

__________________

(١) أي ابن مسعود وابن عبّاس.

٣٥٢

له ذرّيّة يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقّها إلى ذرّيّة خليفته دونه ، وأخرج منه خليفته.

وهذا التأويل وإن كان مخالفا في معنى الخليفة ما حكي عن الحسن من وجه ، فموافق له من وجه. فأمّا موافقته إيّاه فصرف متأوّليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة. وأمّا مخالفته إيّاها فإضافتهم الخلافة إلى آدم بمعنى استخلاف الله إيّاه فيها ، وإضافة الحسن الخلافة إلى ولده بمعنى خلافة بعضهم بعضا ، وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم ، وإضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء إلى الخليفة.

والّذي دعا المتأوّلين قوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) في التأويل الّذي ذكر عن الحسن إلى ما قالوا في ذلك ، أنّهم قالوا : إنّ الملائكة إنّما قالت لربّها إذ قال لهم ربّهم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) إخبارا منها بذلك عن الخليفة الّذي أخبر الله ـ جلّ ثناؤه ـ أنّه جاعله في الأرض لا غيره ؛ لأنّ المحاورة بين الملائكة وبين ربّها عنه جرت. قالوا : فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله قد برّأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء وطهّره من ذلك ، علم أنّ الّذي عني به غيره من ذرّيّته ، فثبت أنّ الخليفة الّذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هو غير آدم ، وأنّهم ولده الّذين فعلوا ذلك ، وأنّ معنى الخلافة الّتي ذكرها الله إنّما هي خلافة قرن منهم قرنا غيرهم لما وصفنا. وأغفل قائلو هذه المقالة ومتأوّلو الآية هذا التأويل سبيل التأويل ، وذلك أنّ الملائكة إذ قال لها ربّها : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) لم تضف الإفساد وسفك الدماء في جوابها لربّها إلى خليفته في أرضه ، بل قالت : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) ، وغير منكر أن يكون ربّها أعلمها أنّه يكون لخليفته ذلك ذرّيّة يكون منهم الإفساد وسفك الدماء ، فقالت : يا ربّنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ كما قال ابن مسعود وابن عبّاس ، ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل (١).

***

وهناك قول بأنّ الله هو أعلمهم بذلك ، كما في الحديث عن قتادة :

[٢ / ٩٥٤] أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) قال : كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فذلك قوله : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها).

__________________

(١) الطبري ١ : ٢٨٧ ـ ٢٩٠.

٣٥٣

وبمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويل ، منهم الحسن البصري (١).

[٢ / ٩٥٥] وعن ابن جريج قال : إنّما تكلّموا بما أعلمهم الله أنّه كائن من خلق آدم ، فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء (٢).

[٢ / ٩٥٦] وعن ابن زيد قال : لمّا خلق الله النار ذعرت منها الملائكة ذعرا شديدا ، وقالوا : ربّنا لم خلقت هذه النار ، ولأيّ شيء خلقتها؟ قال : لمن عصاني من خلقي. قال : ولم يكن لله خلق يومئذ إلّا الملائكة والأرض ليس فيها خلق ، إنّما خلق آدم بعد ذلك. وقرأ قول الله : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً)(٣). ثمّ قال : قالت الملائكة : يا ربّ أو يأتي علينا دهر نعصيك فيه! لا يرون له خلقا غيرهم. قال : لا ، إنّي أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليقة يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض. فقالت الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) وقد اخترتنا؟ فاجعلنا نحن فيها فنحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ونعمل فيها بطاعتك! وأعظمت الملائكة أن يجعل الله في الأرض من يعصيه. فقال : إنّي أعلم ما لا تعلمون ، يا آدم أنبئهم بأسمائهم! فقال : فلان وفلان. قال : فلمّا رأوا ما أعطاه الله من العلم ، أقرّوا لآدم بالفضل عليهم ، وأبى الخبيث إبليس أن يقرّ له ، قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها)(٤).

[٢ / ٩٥٧] وهناك قول بأنّ أبليس أعلمهم بذلك ، فيما أخرجه أبو الشيخ في العظمة عن أبي نضرة قال : لمّا خلق الله آدم ألقى جسده في السماء لا روح فيه ، فلمّا رأته الملائكة راعهم ما رأوه من خلقه ، فأتاه إبليس فلمّا رأى خلقه منتصبا راعه ، فدنا منه فنكته برجله ، فصلّ آدم (٥) فقال : هذا أجوف لا شيء عنده (٦).

__________________

(١) الطبري ١ : ٢٩٦ / ٥١٣ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٦٤ / ٣٣.

(٢) الطبري ١ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ / ٥١٩ ؛ ابن كثير ١ : ٧٥.

(٣) الإنسان ٧٦ : ١.

(٤) الطبري ١ : ٢٩٨ / ٥١٧ ؛ الدرّ ١ : ١١٢ ، باختصار. والآية من سورة الأعراف ٧ : ١٢ ـ ١٣.

(٥) صلّ السلاح : سمع له طنين.

(٦) الدرّ ١ : ١١٩ ؛ العظمة ٥ : ١٥٦٠ ـ ١٥٦١ / ١٥٦٠ ، باب ٤٥ (خلق آدم وحواء عليهم‌السلام).

٣٥٤

[٢ / ٩٥٨] وأخرج الطيالسي وابن سعد وأحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو يعلى وابن حبّان وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات عن أنس : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لمّا صوّر الله تعالى آدم في الجنّة تركه ما شاء أن يتركه ، فجعل إبليس يطيف به (١) ينظر ما هو ، فلمّا رآه أجوف علم أنّه خلق لا يتمالك. ولفظ أبي الشيخ قال : خلق لا يتمالك ظفرت به» (٢).

[٢ / ٩٥٩] وأخرج ابن أبي حاتم عن أبيه عن هشام الرازي عن ابن المبارك عن ابن خربؤ المكّي عمّن سمع أبا جعفر محمّد بن علي عليه‌السلام يقول : «السجلّ ملك ، وكان هاروت وماروت من أعوانه ، وكان له كلّ يوم ثلاث لمحات ينظرهنّ في أمّ الكتاب ، فنظر نظرة لم تكن له ، فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور ، فأسرّ ذلك إلى هاروت وماروت وكانا من أعوانه ، فلمّا قال الله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) قالا ذلك استطالة على الملائكة» (٣).

قلت : في هذا الحديث نكارة لم يصحّ إسناده إلى الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام وكذا الأحاديث قبله. كلّها ممّا ينبو عنه لون كلامهم الرصين ومشارب فهمهم الحكيمة. نعم وضعتها عليهم أياد أثيمة كانت أو كادت تحاول الحطّ من شأنهم الرفيع. وهيهات وقد طهّرهم الله تطهيرا وعصمهم عن وصمات أهل الغيّ والفساد.

***

وبعد فإليك من سائر الروايات :

__________________

(١) طاف يطيف به : أتاه في الطيف ودار في خلده : يعني تغلغل في هواجسه.

(٢) الدرّ ١ : ١١٧ ؛ مسند الطيالسي : ٢٧٠ بتفاوت يسير ؛ الطبقات ١ : ٢٧ ؛ مسند أحمد ٣ : ٢٢٩ ، مسند أنس بن مالك ؛ منتخب مسند عبد بن حميد : ٤٠٧ ـ ٤٠٨ / ١٣٨٦ ؛ مسلم ٨ : ٣١ ، كتاب البرّ والصلة ، باب خلق الإنسان خلقا لا يتمالك ؛ أبو يعلى ٦ : ٦٨ / ٣٣٢١ ؛ ابن حبّان ١٤ : ٣٥ / ٦١٦٣ ، كتاب التاريخ ، باب ١ (بدء الخلق) ؛ العظمة ٥ : ١٥٥٨ / ١٠٢١ ، باب ٤٥ (خلق آدم وحوّاء عليهما‌السلام) ، باختلاف يسير ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : ٥٤٤ ـ ٥٤٥ ، باب بدء الخلق ، وفيه : «... فلمّا رآه أجوف عرف أنّه خلق أجوف لا يتمالك».

(٣) ابن أبي حاتم ١ : ٧٨ / ٣٢٧ ؛ ابن كثير ١ : ٧٤.

٣٥٥

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ)

[٢ / ٩٦٠] أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : ما كان في القرآن (إِذْ) فقد كان (١).

[٢ / ٩٦١] وأخرج ابن جرير عن الضحّاك قال : كلّ شيء في القرآن «جعل» فهو ـ بمعنى ـ خلق (٢).

[٢ / ٩٦٢] وأخرج ابن أبي حاتم بالإسناد إلى الحسن ، قال : قال الله للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قال لهم : إنّي فاعل (٣).

[٢ / ٩٦٣] وأخرج عن ابن إسحاق في قوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) يقول : ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ليس منكم (٤).

[٢ / ٩٦٤] وأيضا أخرج عن السّدّي في قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) قال : فاستشار الملائكة في خلق آدم. وكذا روي عن قتادة (٥).

قال ابن كثير : وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل. وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن (٦).

قوله تعالى : (فِي الْأَرْضِ) [٢ / ٩٦٥]

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن سابط أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «دحيت الأرض من مكة ، وكانت الملائكة تطوف بالبيت ، فهي [الملائكة] أوّل من طاف به ، وهي [مكة] الأرض الّتي قال الله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وكان النبيّ (أي كلّ نبيّ) إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتاها هو ومن معه ، فيعبدون الله بها حتّى يموتوا فيها ، وإنّ قبر نوح وهود

__________________

(١) الدرّ ١ : ١١٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٧٥ / ٣١٣.

(٢) الدرّ ١ : ١١٠ ؛ الطبري ١ : ٢٨٧ / ٥٠١ ، نقلا عن أبي روق.

(٣) ابن ابى حاتم ١ : ٧٦ / ٣١٥.

(٤) المصدر / ٣١٦.

(٥) المصدر / ٣١٤.

(٦) ابن كثير ١ : ٧٣. وتقدّمت عبارة الحسن وقتادة فيما ذكره ابن جرير ١ : ٢٨٧ / ٥٠٠.

٣٥٦

وشعيب وصالح بين زمزم وبين الركن والمقام» (١).

[٢ / ٩٦٦] وأخرج ابن أبي حاتم بالإسناد إلى خالد الحذّاء قال : سألت الحسن فقلت : يا أبا سعيد ، آدم للسماء خلق أم للأرض؟ قال : أما تقرأ القرآن : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً؟) لا ، بل للأرض خلق (٢).

قوله تعالى : (خَلِيفَةً)

[٢ / ٩٦٧] أخرج وكيع وعبد الرزّاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر عن ابن عبّاس قال : إنّ الله أخرج آدم من الجنّة قبل أن يخلّفه ؛ ثمّ قرأ : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(٣).

[٢ / ٩٦٨] وروى أبو جعفر محمّد بن الحسن الصفّار بإسناده إلى الحسن بن موسى عن زرارة قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فسألني : ما عندك من أحاديث الشيعة؟ قلت : إنّ عندي منها شيئا كثيرا قد هممت أن أوقد لها نارا ثمّ أحرقها! قال : ولم؟ هات ما أنكرت منها! فخطر على بالي الآدميّون (٤). فقال لي : ما كان على الملائكة حيث قالت : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ!)(٥).

ورواه العياشيّ وعقّبه بالحديث التالي :

[٢ / ٩٦٩] قال [زرارة] وكان يقول أبو عبد الله عليه‌السلام ـ إذا حدّث بهذا الحديث ـ «هو كسر على

__________________

(١) الدرّ ١ : ١١٣ ؛ الطبري ١ : ٢٨٧ / ٥٠٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٧٦ / ٣١٧ ، بلفظ : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : دحيت الأرض من مكّة وأوّل من طاف بالبيت الملائكة فقال : إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً يعني مكّة.

(٢) ابن أبي حاتم ١ : ٧٦ / ٣١٨.

(٣) الدرّ ١ : ١١٠ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٦٤ / ٣٥ ؛ ابن عساكر ٧ : ٤٥٢ ، (آدم نبيّ الله عليه‌السلام) ، والحديث ـ كما في المصادر ـ «قبل أن يخلقه ...» بالقاف. والظاهر أنّه مصحّف. والصحيح ما أثبتناه : «قبل أن يخلّفه» جريا مع ظاهر تعبير القرآن. فتدبّر!

(٤) هكذا في رواية العيّاشي ١ : ٥٠ / ٩. وكذا في تفسير البرهان ١ : ١٦٧ / ٨. وفي الهامش من الطبعة القديمة ١ : ٧٥ ؛ أي الآجال المنسوبة إلى آدم عليه‌السلام أو إشارة إلى سلسلة الآدميين كما ورد في بعض الأحاديث. (البحار ٥٤ : ٣٢١ و ٣٣١ و ٣٣٦). قال المجلسي ـ في البحار ٢٥ : ٢٨٣ ـ : لعلّها أحاديث كانت في فضائلهم عليهم‌السلام كان زرارة لا يتحمّلها ، فنبّهه الإمام بالتنظير بقصور الملائكة عن فهم فضيلة آدم ، مع علوّ شأنهم وقرب منزلتهم.

(٥) بصائر الدرجات : ٢٥٦ / ٦ ، باب ١٠ ، (الأئمّة يعرفون الإضمار وحديث النفس).

٣٥٧

القدريّة. ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّ آدم كان له في السماء خليل من الملائكة ، فلمّا هبط آدم من السماء إلى الأرض استوحش الملك ، وشكا إلى الله ـ تعالى ـ وسأله أن يأذن له فيهبط عليه ، فأذن له ، فهبط عليه فوجده قاعدا في قفرة من الأرض ، فلمّا رآه آدم وضع يده على رأسه وصاح صيحة ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يروون أنّه أسمع عامّة الخلق. فقال له الملك : يا آدم ما أراك إلّا قد عصيت ربّك وحملت على نفسك ما لا تطيق ، أتدري ما قال الله لنا فيك فرددنا عليه؟ قال : لا ، قال : قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً). قلنا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) فهو خلقك أن تكون في الأرض [أ] يستقيم أن تكون في السماء؟! فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : والله عزّي بها آدم ، ثلاثا» (١).

قوله : «هو كسر على القدريّة» ، لعلّه من جهة أنّ التقادير إنّما كانت تابعة لما يختاره الإنسان في حياته ، فيقدّر له من الآثار ما كان يستتبع فعاله. إذ ليس تقديره تعالى للأمور سوى علمه بما سيقع وما يستتبع من آثار.

[٢ / ٩٧٠] وأخرج ابن جرير عن ابن زيد ، قال الله للملائكة : إنّي أريد أن أخلق في الأرض خلقا ، وأجعل فيها خليفة ، وليس لله يومئذ خلق إلّا الملائكة والأرض ليس فيها خلق (٢).

[٢ / ٩٧١] وأخرج ابن جرير بإسناده إلى الضحّاك ، عن ابن عبّاس ، قال : كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة ، يقال لهم «الحنّ» (٣) خلقوا من نار السموم من بين الملائكة ، قال : وكان اسمه الحارث. قال : وكان خازنا من خزّان الجنّة. قال : وخلقت الملائكة كلّهم من نور غير هذا الحيّ. قال : وخلقت الجنّ الّذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النار الّذي يكون في طرفها إذ ألهبت. قال : وخلق الإنسان من طين ، فأوّل من سكن الأرض الجنّ ، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، وقتل بعضهم بعضا. قال : فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة ، وهم هذا الحيّ الّذين يقال لهم «الحنّ» ، فقتلهم إبليس ومن معه حتّى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. فلمّا فعل إبليس ذلك اغترّ في نفسه وقال : قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد. قال : فاطّلع الله على ذلك من قلبه ولم تطّلع عليه

__________________

(١) العياشي ١ : ٥٠ / ١٠. البحار ١١ : ٢١١ ـ ٢١٢ / ١٨. البرهان ١ : ١٦٧ / ٩.

(٢) الطبري ١ : ٢٨٨ / ٥٠٧ ؛ ابن كثير ١ : ٧٤.

(٣) الحنّ ـ بحاء مهملة وتشديد النون ـ : ضرب من الجنّ. قال ابن المسيّب : الحنّ ، الكلاب السود المعينة. قال ابن الأثير : ومنه حديث ابن عبّاس : «الكلاب من الحنّ ، وهي ضعفة الجنّ» (النهاية لابن الأثير ١ : ٤٥٣ ، مادّة حنن).

٣٥٨

الملائكة الّذين كانوا معه ؛ فقال الله للملائكة الّذين معه : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فقالت الملائكة مجيبين له : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) كما أفسدت الجنّ وسفكت الدماء؟ وإنّما بعثنا عليهم لذلك. فقال : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) يقول : إنّي قد اطّلعت من قلب إبليس على ما لم تطّلعوا عليه من كبره واغتراره ، قال : ثمّ أمر بتربة آدم فرفعت ، فخلق الله آدم من طين لازب ـ واللازب : اللزج الصلب من حمأ مسنون ـ منتن. قال : وإنّما كان حمأ مسنونا بعد التراب. قال : فخلق منه آدم بيده. قال فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى ، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل ـ أي فيصوّت ـ قال : فهو قول الله : (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) يقول : كالشيء المنفوخ الّذي ليس بمصمت ، قال : ثمّ [جعل] يدخل في فيه ويخرج من دبره ، ويدخل من دبره ويخرج من فيه ، ثمّ يقول : لست شيئا! للصلصلة ، ولشيء ما خلقت! لئن سلّطت عليك لأهلكنّك ، ولئن سلّطت عليّ لأعصينّك. قال : فلمّا نفخ الله فيه من روحه ، أتت النفخة من قبل رأسه ، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلّا صار لحما ودما. فلمّا انتهت النفخة إلى سرّته نظر إلى جسده ، فأعجبه ما رأى من حسنه ، فذهب لينهض فلم يقدر ، فهو قول الله : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً)(١) قال : ضجرا لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء. قال : فلمّا تمّت النفخة في جسده ، عطس فقال : الحمد لله ربّ العالمين ، بإلهام من الله تعالى. فقال الله له : يرحمك الله يا آدم. قال : ثمّ قال الله للملائكة الّذين كانوا مع إبليس خاصّة دون الملائكة الّذين في السماوات : اسجدوا لآدم! فسجدوا كلّهم أجمعون إلّا إبليس أبى واستكبر لما كان حدّث به نفسه من كبره واغتراره ، فقال : لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنّا وأقوى خلقا ، خلقتني من نار وخلقته من طين. يقول : إنّ النار أقوى من الطين. قال : فلمّا أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله وآيسه من الخير كلّه وجعله شيطانا رجيما ، عقوبة لمعصيته. ثمّ علّم آدم الأسماء كلّها ، وهي هذه الأسماء الّتي يتعارف بها الناس : إنسان ودابّة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثمّ عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة ، يعني الملائكة الّذين كانوا مع إبليس الّذين خلقوا من نار السموم ، وقال لهم : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) يقول : أخبروني بأسماء هؤلاء (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إن كنتم تعلمون أنّي لم أجعل في الأرض خليفة. قال : فلمّا علمت الملائكة مؤاخذة الله عليهم فيما تكلّموا به من علم الغيب الّذي لا يعلمه غيره الّذي ليس لهم به علم ، قالوا : سبحانك! تنزيها لله من أن

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ١١.

٣٥٩

يكون أحد يعلم الغيب غيره ، تبنا إليك لا علم لنا إلّا ما علّمتنا! تبريّا منهم من علم الغيب ، إلّا ما علّمتنا كما علّمت آدم. فقال : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) يقول : أخبرهم بأسمائهم (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) أيّها الملائكة خاصّة (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولا يعلمه غيري (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) يقول : ما تظهرون (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) يقول : أعلم السرّ كما أعلم العلانية ، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار.

قال ابن جرير : وهذه الرواية عن ابن عبّاس تنبئ عن أنّ قول الله جلّ ثناؤه : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) خطاب من الله جلّ ثناؤه لخاصّ من الملائكة دون الجميع ، وأنّ الّذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصّة ، الّذين قاتلوا معه جنّ الأرض قبل خلق آدم. وأنّ الله إنّما خصّهم بقيل ذلك (١) امتحانا منه لهم وابتلاء ليعرّفهم قصور علمهم وفضل كثير ممّن هو أضعف خلقا منهم من خلقه ، عليهم ، وأنّ كرامته لا تنال بقوى الأبدان وشدّة الأجسام كما ظنّه إبليس عدوّ الله. ويصرّح بأنّ قيلهم لربّهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) كانت هفوة منهم ورجما بالغيب ، وأنّ الله جلّ ثناؤه أطلعهم على مكروه ما نطقوا به من ذلك ، ووقفهم عليه حتّى تابوا وأنابوا إليه ممّا قالوا ونطقوا من رجم الغيب بالظنون ، وتبرّأوا إليه أن يعلم الغيب غيره ، وأظهر لهم من إبليس ما كان منطويا عليه من الكبر الّذي قد كان عنهم مستخفيا (٢).

قال ابن كثير : هذا سياق غريب وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها. قال وهذا الإسناد إلى ابن عبّاس يروى به تفسير مشهور. ثمّ نقل الحديث برواية السّدّي عن أبي صالح عن ابن عبّاس وعن مرّة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعقّبه بقوله : فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدّي وتقع فيه إسرائيليات كثيرة ، فلعلّ بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة أو أنّهم أخذوه من بعض الكتب المتقدّمة. قال : والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه أشياء ويقول على شرط البخاري!! (٣).

[٢ / ٩٧٢] وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج قال : خلق الله آدم في سماء الدنيا ، وإنّما أسجد له

__________________

(١) أي بهذا القول.

(٢) الطبري ١ : ٢٩٢ / ٥٠٩.

(٣) ابن كثير ١ : ٧٨ ـ ٧٩.

٣٦٠