التفسير الأثري الجامع - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-03-6
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

من أطباق السماء شيئا ، فكيف يعرض عليهم دليلا على إتقان صنعه تعالى؟ (الآية في سورة نوح والخطاب عن لسانه موجّه إلى قومه).

وهكذا قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ)(١).

وقوله : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ)(٢).

قلت : هذا بناء على تفسير الطباق بذات الطبقات.

هكذا فسّره المشهور : طباقا ، واحدة فوق اخرى كالقباب بعضها فوق بعض (٣).

لكنّ الطباق هو بمعنى الوفاق والتماثل في الصنع والإتقان ، بدليل تفسيره بقوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ). أي كلّها في الصنع والاستحكام متشاكل. وقد أشرب هنا معنى الالتحام والتلاصق التامّ بين أجزائها مرادا به الانسجام في الخلق. بدليل قوله تعالى : (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) أي انشقاق وخلل وعدم انسجام. وكذا قوله : (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي منفرجات وخلآت توجب فصل بعضها عن بعض بحيث تضادّ النظم القائم. الأمر الّذي يستطيع كلّ إنسان ـ مهما كان مبلغه من العلم ـ من الوقوف عليه إذا تأمّل في النظم الساطي على السماوات والأرض.

٥ ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ)(٤)

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ)(٥). (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً)(٦). أو هل تعني البروج هذه ما تصوّره الفلكيّون بشأن البروج الاثني عشر في أشكال رسموها لرصد النجوم؟

قلت : المعنيّ بالبروج هذه هي نفس النجوم ، تشبيها لها بالقصور الزاهية والحصون المنيعة الرفيعة ، بدليل عطف السراج ـ وهي الشمس الوهّاجة ـ والقمر المنير عليها. ولا صلة لها بالأشكال

__________________

(١) ق ٥٠ : ٦.

(٢) الملك ٦٧ : ٣.

(٣) راجع : مجمع البيان ١٠ : ٣٢٢ و ٣٦٣ ، ذيل الآية من سورة الملك والآية من سورة نوح ؛ وروح المعاني للآلوسي ، ٢٩ : ٦ و ٧٥ ؛ وتفسير المراغي ٢٩ : ٦ و ٨٥ ... وغيرها.

(٤) البروج ٨٥ : ١.

(٥) الحجر ١٥ : ١٦.

(٦) الفرقان ٢٥ : ٦١.

٣٢١

الفلكيّة الاثني عشر.

البرج ـ في اللغة ـ بمعنى الحصن والقصر وكلّ بناء رفيع على شكل مستدير. فالنجوم باعتبار إنارتها تبدو مستديرة ، وباعتبار تلألؤها تبدو كعبابات تعوم على وجه السماء زينة لها ، وباعتبارها مراصد لحراسة السماء (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ)(١) هي حصون منيعة. فصحّ إطلاق البروج عليها من هذه الجوانب لا غيرها.

هذا ، وقد خلط على لفيف من المفسّرين فحسبوها منازل الشمس والقمر حسب ترسيم الفلكيّين (٢).

وسيّدنا العلّامة الطباطبائي وإن كان في تفسيره لسورتي الحجر والفرقان قد ذهب مذهب المشهور ، لكنّه قدس‌سره عدل عنه عند تفسيره لسورة البروج. قال : البروج ، جمع برج وهو الأمر الظاهر ، ويغلب استعماله في القصر العالي والبناء المرتفع على سور البلد ، وهو المراد في الآية. فالمراد بالبروج مواضع الكواكب من السماء. قال : وبذلك يظهر أنّ تفسير البروج [في الآيات الثلاث] بالبروج الاثني عشر المصطلح عليها في علم النجوم غير سديد (٣).

وقال الشيخ محمّد عبده : وفسّرت البروج بالنجوم وبالبروج الفلكيّة وبالقصور على التشبيه ، ولا ريب في أنّ النجوم أبنية فخيمة عظيمة ، فيصحّ إطلاق البروج عليها تشبيها لها بما يبنى من الحصون والقصور في الأرض (٤).

٦ ـ (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ)

يبدو من ظاهر تعبير آيات قرآنيّة أنّ النجوم جعلت شهبا يرمى بها الشياطين. قال تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ)(٥).

وقال : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ

__________________

(١) الحجر ١٥ : ١٧.

(٢) القمي ١ : ٣٧٣ ؛ الميزان ١٢ : ١٤٣ و ١٥٤ ؛ ابن كثير ٢ : ٥٦٨ ؛ روح المعاني ١٤ : ٢٠.

(٣) تفسير الميزان ٢٠ : ٢٤٩.

(٤) تفسير جزء عمّ لمحمّد عبده : ٥٧.

(٥) الملك ٦٧ : ٥.

٣٢٢

الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ)(١).

وقال سبحانه : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً)(٢).

وقال عزّ من قائل : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ)(٣).

غير خفيّ أنّ الشهب والنيازك إنّما تحدث في الغلاف الغازي (الهواء) المحيط بالأرض وقاية لها ، وقدّر سمكه بأكثر من ثلاثمائة كيلومتر. وذلك على أثر سقوط أحجار هي أشلاء متناثرة في الفضاء المتبقّية من كواكب اندثرت تعوم عبر الفضاء ، فإذا ما اقتربت من الأرض انجذبت إليها بسرعة هائلة ما بين ٥٠ و ٦٠ كيلومترا في الثانية ، تخترق الهواء المحيط بالأرض ، ولاحتكاكها الشديد بالهواء من جهة ولتأثير الغازات الهوائيّة من جهة اخرى تحترق وتلتهب شعلة نار لتتحوّل إلى ذرّات عالقة في الهواء مكوّنا منها الغبار الكوني. وهي في حال انقضاضها ـ وهي تشتعل نارا ـ ترى بصورة نجمة وهّاجة ذات ذنب مستطيل تدعى الشهب والنيازك.

فليست الشهب سوى أحجار ملتهبة في الهواء المحيط بالأرض ، قريبة منها! فما وجه فرضها نجوما في السماء يرجم بها الشياطين الصاعدة إلى الملأ الأعلى؟!

لكن يجب أن نعلم قبل كلّ شيء أنّ التعابير القرآنيّة ـ وهي آخذة في الحديث عن كائنات ماوراء الطبيعة ـ ليس ينبغي الأخذ بظاهرها اللفظي ، حيث الأفهام تقصر عن إدراك ما يفوق مستواها المادّي المحدود ، والألفاظ أيضا تضيق عن الإدلاء بتلك المفاهيم الرقيقة البعيدة عن متناول الحسّ.

وبتعبير اصطلاحي : إنّ الأفهام وكذا الألفاظ محدودة في إطار المادّة الكثيفة ، فلا تنال المجرّدات الرقيقة.

وعليه ، فكلّ تعبير جاء بهذا الشأن إنّما هو مجاز واستعارة وتمثيل بلا ريب.

فلا تحسب من الملأ الأعلى عالما يشبه عالمنا الأسفل ، سوى أنّه واقع في مكان فوق أجواء

__________________

(١) الصافّات ٣٧ : ٧ ـ ١٠.

(٢) الجنّ ٧٢ : ٨ و ٩.

(٣) الحجر ١٥ : ١٦ ـ ١٨.

٣٢٣

الفضاء ، لأنّه تصوّر مادّي عن أمر هو يفوق المادّة ومتجرّد عنه. وعليه ، فقس كلّ ما جاء في أمثال هذه التعابير.

فلا تتصوّر من الشياطين أجساما على مثال الأناسي والطيور ، ولا رجمها بمثل رمي النشّاب إليها ، ولا مرودها بمثل نفور الوحش ، ولا اسّماعها في محاولة الصعود إلى الملأ الأعلى بالسارق المتسلّق على الحيطان ، ولا قذفها بمثل قذف القنابل والبندقيّات ، ولا الحرس الّذين ملأوا السماء بالجنود المتصاكّة في القلاع. ولا رصدها بالكمين لها على غرار ميادين القتال. إذ كلّ ذلك تشبيه وتمثيل وتقريب في التعبير لأمر غير محسوس إلى الحسّ لغرض التفهيم ، فهو تقريب ذهني ، أمّا الحقيقة فالبون شاسع والشقّة واسعة والمسافة بينهما بعيدة غاية البعد.

قال العلّامة الطباطبائي : إنّ هذه التعابير في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة ، ليتصوّر بها الأمور الخارجة عن محدودة الحسّ في صور المحسوسات للتقريب إلى الأذهان. وهو القائل عزوجل : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ)(١) أي لا يتعقّلها ولا يعرف مغزاها إلّا من عرف أنّها أمثال ظاهريّة ضربت للتقريب محضا.

قال : وأمثال هذه التعابير كثير في القرآن كالحديث عن العرش والكرسي واللوح والكتاب وغيرها.

قال : وعلى هذا ، فيكون المراد من السماء الّتي ملأتها الملائكة : عالما ملكوتيّا هو أعلا مرتبة من العالم المشهود ، على مثال اعتلاء السماء الدنيا من الأرض. والمراد من اقتراب الشياطين إليها واستراق السمع والقذف بالشهب : اقترابهم من عالم الملائكة لغرض الاطّلاع على أسرار الملكوت ، وثمّ طردهم بما لا يطيقون تحمّله من قذائف النور. أو محاولتهم لتلبيس الحقّ الظاهر ، وثمّ دحرهم ليعودوا خائبين (٢). (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ)(٣).

والآيات من سورة الجنّ لعلّها إشارة إلى هذا المعنى ، حيث هي ناظرة إلى بعثة نبيّ الإسلام ، وقد أيس الشيطان من أن يعبد وعلا نفيره.

[٢ / ٩٢٩] قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) العنكبوت ٢٩ : ٤٣.

(٢) الميزان ١٧ : ١٢٤ نقلا مع تصرّف يسير.

(٣) الأنبياء ٢١ : ١٨.

٣٢٤

فقلت : يا رسول الله ، ما هذه الرنّة؟ فقال : هذا الشيطان قد أيس من عبادته» (١).

يقول تعالى في سورة الجنّ : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) ـ إلى قوله : ـ (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً)(٢). فهي حكاية عن حال حاضرة وجدتها الجنّ حينما بعث نبيّ الإسلام.

وبهذا يشير قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٣). وقوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)(٤).

نعم ، كانت تلك بغية إبليس أن يتلاعب بوحي السماء ولكن في خيبة آيسة : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) (ظهور شريعته) (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٥). أي حاول إبليس الحؤول دون بلوغ أمنيّة الأنبياء ، فكان يندحر ويغلب الحقّ الباطل وتفشل دسائسه في نهاية المطاف.

أمّا عند ظهور الإسلام فقد خاب هو وجنوده نهائيّا وخسر هنالك المبطلون.

[٢ / ٩٣٠] قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «فلمّا ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجب (إبليس) عن السبع السماوات ورميت الشياطين بالنجوم ...» (٦).

[٢ / ٩٣١] وفي حديث الرضا عن أبيه الكاظم عن أبيه الصادق عليهم‌السلام في جواب مساءلة اليهود : «أنّ الجنّ كانوا يسترقون السمع قبل مبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمنعت من أوان رسالته بالرجوم وانقضاض النجوم وبطلان [عمل] الكهنة والسحرة» (٧).

وهكذا حاول الشيخ الطنطاوي تأويل ظواهر التعابير الواردة في هذه الآيات إلى إرادة التمثيل ، قال ـ ما ملخّصه ـ : إنّ العلوم الّتي عرفها الناس تراد لأمرين : إمّا لمعرفة الحقائق لإكمال

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، الخطبة ١٩٢ (الخطبة القاصعة).

(٢) الجنّ ٧٢ : ١ ـ ٩.

(٣) الحجر ١٥ : ٩.

(٤) الفتح ٤٨ : ٢٨.

(٥) الحجّ ٢٢ : ٥٢.

(٦) الأمالي للصدوق : ٣٦٠ / ٤٤٤ ـ ١ ، المجلس ٤٨ ؛ البحار ١٥ : ٢٥٧ / ٩.

(٧) البحار ١٧ : ٢٢٦ / ١ ، عن قرب الإسناد للحميري : ٣١٨.

٣٢٥

العقول ، أو لنظام المعايش والصناعات لتربية الجسم. وإلى الأوّل أشار بقوله تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً)(١). وإلى الثاني قوله : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ)(٢). وكلّ من خالف هاتين الطريقتين فهو على أحد حالين : إمّا أن يريد ابتزاز أموال الناس بالاستعلاء بلا فائدة ، وإمّا أن يريد الصيت والشهرة وكسب الجاه. وكلاهما لا نفع في علمه ولا فضل له. فمن طلب العلم أو أكثر في الذكر ليكون عالة على الامّة فهو داخل في نوع الشيطان الرجيم ، مرجوم مبعد عن إدراك الحقائق ومعذّب بالذّل والهوان ، وهذا مثال قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) (فلا يعرفون حقائق الأشياء) (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً) بما ركّب فيهم من الشهوات وما ابتلوا من العاهات (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أي في أمل متواصل ملازم لهم مدى الحياة. فلو حاول أن يخطف خطفة من الحقائق حالت دون بلوغه لها الأميال الباطلة (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ)(٣).

نعم (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ)(٤). ولا شكّ أنّها كناية عن حرمانهم العناية الربّانيّة المفاضة من ملكوت أعلى. الأمر الّذي أنعم به الرّبانيّون في هذه الحياة : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ)(٥). فملائكة الرحمة تهبط إليهم وهم في مواضعهم آمنون مستقرّون سائرون في طريقهم صعدا إلى قمّة الكمال.

وكذلك قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ)(٦). أي آخذ في الصعود إلى سماء العزّ والشرف والكرامة. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)(٧). فما هذا الصعود وهذا الرفع إلّا ترفيعا في مدارج الكمال.

وهكذا جاء التعبير بفتح أبواب السماء كناية عن هطول المطر (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ

__________________

(١) الحجر ١٥ : ١٦.

(٢) الأعراف ٧ : ١٠ ، الحجر ١٥ : ٢٠.

(٣) الصافّات ٣٧ : ٦ ـ ١٠. راجع : تفسير الجواهر ٨ : ١٣ ، و ١٨ : ١٠.

(٤) الأعراف ٧ : ٤٠.

(٥) فصّلت ٤١ : ٣٠.

(٦) إبراهيم ١٤ : ٢٤.

(٧) فاطر ٣٥ : ١٠.

٣٢٦

مُنْهَمِرٍ)(١). وأمثال هذا التعبير في القرآن كثير (٢). والجميع مجاز وليس على الحقيقة ، سواء في المعنويّات أم الماديّات. فلو كان عيبا لعابه العرب أصحاب اللغة العرباء في الجزيرة ، لا أرباب اللغة العجماء من وراء البحار. وأمّا النجوم الّتي يرجم بها الشياطين (أبالسة الجنّ والإنس) فهم العلماء الربّانيّون المتلألئون في افق السماء ، يقومون في وجه أهل الزيغ والباطل فيرجمونهم بقذائف الحجج الدامغة ودلائل البيّنات الباهرة ، ويرمونهم من كلّ جانب دحورا.

فسماء المعرفة ملئت حرسا شديدا وشهبا.

[٢ / ٩٣٢] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين ...» (٣).

وقد اطلق النجوم على أئمة الهدى ومصابيح الدجى من آل بيت الرسول عليهم‌السلام.

[٢ / ٩٣٣] فقد روى عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)(٤) قال : النجوم آل محمّد عليهم‌السلام (٥).

[٢ / ٩٣٤] وفي حديث سلمان الفارسي ـ رضوان الله عليه ـ قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :

«معاشر الناس ، إنّي راحل عنكم عن قريب ومنطلق إلى المغيب. اوصيكم في عترتي خيرا وإيّاكم والبدع ، فإنّ كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة وأهلها في النار. معاشر الناس! من افتقد الشمس فليتمسّك بالقمر ، ومن افتقد القمر فليتمسّك بالفرقدين ، ومن افتقد الفرقدين فليتمسّك بالنجوم الزاهرة بعدي. أقول قولي واستغفر الله لي ولكم.

قال سلمان : فتبعته وقد دخل بيت عائشة وسألته عن تفسير كلامه فقال ـ ما ملخّصه ـ : أنا الشمس وعليّ القمر. والفرقدان الحسن والحسين. وأمّا النجوم الزاهرة فالأئمّة من ولد الحسين واحدا بعد واحد ...» (٦).

__________________

(١) القمر ٥٤ : ١١.

(٢) الأنعام ٦ : ٤٤ ، الأعراف ٧ : ٩٦ ، الحجر ١٥ : ١٤ ، النبأ ٧٨ : ١٩.

(٣) البحار ٢ : ٩٣ / ٢٢ ، من كتاب العلم.

(٤) الأنعام ٦ : ٩٧.

(٥) القميّ ١ : ٢١١.

(٦) البحار ٣٦ : ٢٨٩ عن كتاب كفاية الأثر للخزّاز الرازي ، باب ما جاء عن سلمان في النصّ على الأئمّة الاثني عشر : ٢٩٣.

٣٢٧

[٢ / ٩٣٥] «... كلّما غاب نجم طلع نجم إلى يوم القيامة ...» كما في حديث سعيد بن جبير عن ابن عبّاس رحمة الله عليهما قاله في شأن أهل البيت عليهم‌السلام (١).

[٢ / ٩٣٦] وفي حديث أبي ذرّ ـ رضوان الله عليه ـ التعبير عنهم بالنجوم الهادية (٢) وأمثال ذلك كثير.

٧ ـ (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ)

قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ)(٣).

«يزجي» : يسوق. «يؤلّف بينه» : يؤلّف بين متفرّقه. «يجعله ركاما» : متكاثفا. «فترى الودق» : قطرات المطر الآخذة في الهطول.

(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ)

السؤال هنا : ماذا يعني بالجبال هذه؟ وماذا يكون المقصود من البرد وهو الماء المتجمّد على أثر ضغط البرد؟ وكيف يكون هناك في السماء جبال من برد؟

وقد مرّ عليها أكثر المفسّرين القدامى مرور الكرام ، وبعضهم أخذها على ظاهرها وقال : إنّ في السّماء جبالا من برد (من ثلج) ينزل منها المطر ، كما تنحدر المياه من جبال الأرض على أثر تراكم الثلوج عليها.

[٢ / ٩٣٧] عن الحسن والجبّائي (٤) وعن مجاهد والكلبي وأكثر المفسّرين : أنّ المراد بالسّماء هي المطلّة وبالجبال حقيقتها. قالوا : إنّ الله خلق في السّماء جبالا من برد كما خلق في الأرض جبالا من صخر. قال الآلوسي : وليس في العقل ما ينفيه من قاطع. فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل (٥).

__________________

(١) البحار ٤٠ : ٢٠٣ / ٩ ، عن جامع الأخبار للصدوق : ١٥.

(٢) راجع : البحار ٢٨ : ٢٧٥.

(٣) النور ٢٤ : ٤٣.

(٤) مجمع البيان ٧ : ٢٦٠.

(٥) روح المعاني ١٨ : ١٧٢. وراجع : التفسير الكبير ٢٤ : ١٤.

٣٢٨

قال السيّد المرتضى : وجدت جميع المفسّرين على اختلاف عباراتهم يذهبون إلى أنّه تعالى أراد : أنّ في السّماء جبالا من برد. وفيهم من قال : ما قدره قدر جبال. يعني مقدار جبال من كثرته.

قال : وأبو مسلم بن بحر الأصبهانيّ خاصّة انفرد في هذا الموضع بتأويل طريف ، وهو أن قال : الجبال ، ما جبل الله من برد ، وكلّ جسم شديد مستحجر فهو من الجبال ، ألم تر إلى قوله تعالى في خلق الأمم : (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ)(١). والناس يقولون : فلان مجبول على كذا.

وأورد عليه السيّد بأنّه يلزمه أن جعل الجبال اسما للبرد نفسه ، من حيث كان مجبولا مستحجرا! وهذا غلط ، لأنّ الجبال وإن كانت في الأصل مشتقّة من الجبل والجمع ، فقد صارت اسما لذي هيئة مخصوصة. ولهذا لا يسمّي أحد من أهل اللغة كلّ جسم ضمّ بعضه إلى بعض ـ مع استحجار أو غير استحجار ـ بأنّه جبل ، ولا يخصّون بهذا اللفظ إلّا أجساما مخصوصة ... كما أنّ اسم الدابّة وإن كان مشتقّا في الأصل من الدبيب فقد صار اسما لبعض ما دبّ ، ولا يعمّ كلّ ما وقع منه الدبيب.

قال : والأولى أن يريد بلفظة السماء ـ هنا ـ ما علا من الغيم وارتفع فصار سماء لنا ، لأنّ سماء البيت وسماواته ما ارتفع منه. وأراد بالجبال التشبيه ، لأنّ السحاب المتراكب المتراكم تشبّهه العرب بالجبال والجمال ، وهذا شائع في كلامها ، كأنّه تعالى قال : وينزّل من السحاب الّذي يشبه الجبال في تراكمه بردا.

قال : وعلى هذا التفسير تكون «من» الاولى والثانية لابتداء الغاية ، والثالثة زائدة لا حكم لها ، ويكون تقدير الكلام : وينزّل من جبال في السماء بردا. فزادت «من» كما تزاد في قولهم : ما في الدار من أحد. وكم أعطيته من درهم ، ومالك عندي من حقّ ، وما أشبه ذلك.

وأضاف : إنّه قد ظهر مفعول صحيح ل «ننزّل» ، ولا مفعول لهذا الفعل على سائر التأويلات (٢).

قلت : وهو تأويل وجيه لو لا جانب زيادة «من» في الإيجاب.

قال ابن هشام : شرط زيادتها تقدّم نفي أو نهي أو استفهام ولم يشترطه الكوفيّون واستدلّوا بقول العرب : قد كان من مطر. وبقول عمر بن أبي ربيعة :

__________________

(١) الشعراء ٢٦ : ١٨٤.

(٢) الأمالي للسيّد المرتضى علم الهدى ٢ : ٣٠٤ ـ ٣٠٦.

٣٢٩

وينمي لها حبّها عندنا

فما قال من كاشح لم يضرّ

أي فما قاله كاشح ـ وهو الّذي يضمر العداوة ـ لم يضرّ.

قال : وقال الفارسي في قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) : يجوز كون «من» الثانية والثالثة زائدتين. فجوّز الزيادة في الإيجاب (١).

وقال الزمخشري : «من» الاولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض ، والثالثة للبيان. أو الاوليان للابتداء والآخرة للتبعيض (٢). فالمعنى على الأوّل : وننزّل من السماء شيئا من الجبال الكائنة من البرد. وعلى الثاني : وننزّل من السماء من جبال فيها شيئا من البرد. فقدّر المفعول به ولم يجعل «من» زائدة.

والّذي ذكره الزمخشري أصحّ ، لأنّ التقدير شائع في كلام العرب ولا سيّما مع معلوميّته كما هنا. قال ابن مالك : «وحذف ما يعلم جائز». أمّا زيادة «من» في الإيجاب ، فعلى فرض ثبوته فهو أمر شاذ ، ولا يجوز حمل القرآن عليه.

ومعنى الآية على ذلك : أنّه تعالى ينزّل من السّماء ماءا من جبال فيها ـ هي السحب الركاميّة ، وهي النوع الأهمّ من السحب ، لأنّها قد تمتدّ عموديّا عبر ١٥ أو ٢٠ كيلومترا ، فتصل إلى طبقات من الجوّ باردة جدّا تنخفض فيها درجة الحرارة إلى ٦٠ أو ٧٠ درجة مئوية تحت الصفر. وبذلك يتكوّن البرد (خيوط ثلجيّة) في أعالي تلك السحب ـ.

وقوله : «من برد» بيان لتكوّن تلك السحب الجباليّة (الركاميّة) ولو باعتبار قممها المتكوّن فيها الخيوط الثلجيّة (البرد).

والمعروف علميّا أنّ نموّ البرد في أعالي السحب الركاميّة يعطي انفصال شحنات أو طاقات كهربائيّة سالبة ، وأنّه عند ما يتساقط داخل السحابة ويصل في قاعدتها إلى طبقات مرتفعة الحرارة فوق الصفر يذوب ذلك البرد أو يتميّع ويعطي انفصال شحنات كهربائيّة موجبة. وعند ما لا يقوى الهواء على عزل الشحنة السالبة العليا عن الشحنة الموجبة في أسفل يحدث التفريغ الكهربائي على هيئة برق. وينجم عن التسخين الشديد المفاجئ الّذي يحدثه البرق أن يتمدّد الهواء فجأة ويتمزّق محدثا الرعد. وما جلجلة الرعد إلّا عمليّة طبيعيّة بسبب سلسلة الانعكاسات الّتي تحدث

__________________

(١) مغني اللبيب لابن هشام ١ : ٣٢٥ ، حرف الميم.

(٢) الكشّاف ٣ : ٢٤٦.

٣٣٠

من قواعد السحب لصوت الرعد الأصلي (١).

وبذلك يبدو وجه مناسبة التعقيب بقوله تعالى : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) وكذا عند الحديث عن السحاب الثقال (٢). فإنّ البرق وليد هكذا سحب ركاميّة ثقيلة (جبليّة).

قال سيّد قطب : إنّ يد الله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان. ثمّ تؤلّف بينه وتجمعه ، فإذا هو ركام بعضه فوق بعض. فإذا ثقل خرج منه الماء والوبل الهاطل ، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة ، فيها قطع البرد الثلجيّة الصغيرة ... ومشهد السحب كالجبال لا يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها ، فإذا المشهد مشهد الجبال حقّا بضخامتها ومساقطها وارتفاعاتها وانخفاظاتها. وإنّه لتعبير مصوّر للحقيقة الّتي لم يرها الناس إلّا بعد ما ركبوا الطائرات (٣). بل ويمكن مشاهدتها في الصحاري الواسعة عن بعد.

٨ ـ (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ)

قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ)(٤).

ما تعني المثليّة؟ هل هي في الصنع والإتقان؟ أم في العدد؟ وما هنّ على هذا الفرض؟

ولم تذكر الأرض في القرآن إلّا مفردة سوى في هذا الموضع ، حيث شبهة إرادة التعدّد إلى سبع أرضين ، كما جاء في الحديث ودار على الألسن!

وفسّر التعدّد من وجوه :

١ ـ سبع قطاع من الأرض على وجهها من أقاليم أو قارّات.

٢ ـ سبع أطباق من الأرض في قشرتها المتركّبة من طبقات (٥).

٣ ـ الكواكب السبع السيّارة ، كلّ كوكبة ـ ومنها أرضنا ـ أرض ، والغلاف الهوائي المحيط بها سماء (٦).

__________________

(١) راجع ما سجّلناه بهذا الصدد في حقل الإعجاز العلمي للقرآن في التمهيد ، المجلّد ٦.

(٢) الرعد ١٣ : ١٢. والجمع في «ثقال» باعتبار كون «السحاب» اسم جنس يفيد الجمع ، واحدتها سحابة.

(٣) في ظلال القرآن ١٨ : ١٠٩ ـ ١١٠ ، المجلّد ٦.

(٤) الطلاق ٦٥ : ١٢.

(٥) راجع : الميزان ١٩ : ٣٢٦ ؛ تفسير نمونه ٢٤ : ٢٦١.

(٦) راجع : تفسير الجواهر ١ : ٤٩.

٣٣١

٤ ـ فوق كلّ سماء بعد أرضنا أرض وفوقها سماء. فهناك سبع أرضين بعضها فوق بعض لسبع سماوات (١).

تقاسيم الأرض

قسّم الأقدمون البلاد الآهلة من الربع المعمور في القطاع الشمالي إلى سبع مناطق جغرافيّة طولا. وجاء المتأخّرون ليقسّموها تارة على حسب المناخ الطبيعي إلى سبعة أقاليم : واحدة استوائية ، واثنتان حارّتان حتّى درجة ٥ / ٢٣ عرضا في جانبي خطّ الاستواء شمالا وجنوبا ، واثنتان اعتداليتان ما بعد خطّ الميل الأعظم فإلى مداري الخطّ القطبي ، والأخيرتان منطقتا القطبين الشمالي والجنوبي.

واخرى إلى قارات مألوفة ، خمسة منها ظاهرة : آسيا ، اروبا ، أفريقيا ، أستراليا ، أمريكا. واثنتان هما قطبا الشمال والجنوب في غطاء من الثلوج.

محتملات ثلاثة

قال الحجّة البلاغي : يحتمل في قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) وجوه ثلاثة :

الأوّل : أن يراد مثلهنّ في الطبقات ، باعتبار اختلاف طبقات الأرض في البدائع والآثار.

الثاني : أن يراد مثلهنّ في عدد القطع والمواضع المعتدّ بها كآسيا واروبا وأفريقيا وأمريكا الشماليّة وأمريكا الجنوبيّة وأستراليا ، وأرض لم تكشف بعد أو لا شتها الحوادث البحريّة وفتّتتها بالكلّيّة أو بقي منها بصورة جزر متفرّقة صغيرة. أو هي تحت القطب الجنوبي على ما يظنّ البعض.

الثالث : أن يراد بالمماثل للسماوات هو غير أرضنا بل ما هو من نوعها ، فيراد منه ذات السيّارات على الهيئة الجديدة ، أو ما هو مسكون من الكواكب ولم يظهر للاكتشاف (٢).

__________________

(١) راجع : الهيئة والإسلام : ١٧٩ ؛ الميزان ١٩ : ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

(٢) الهدى إلى دين المصطفى ٢ : ٧ ـ ٨.

٣٣٢

أرضون لا تحصى

قال الشيخ الطنطاوي في تفسير الآية : أي وخلق مثلهنّ في العدد من الأرض. وهذا العدد ليس يقتضي الحصر ، فإذا قلت : عندي جوادان تركب عليهما أنت وأخوك ، فليس يمنع أن يكون عندك ألف جواد وجواد. هكذا هنا ، فقد قال علماء الفلك : إنّ أقلّ عدد ممكن من الأرضين الدائرة حول الشموس العظيمة الّتي نسمّيها نجوما لا يقلّ عن ثلاثمائة مليون أرض ... هذا فيما يعرفه الناس. وهذا القول من هؤلاء ظنّيّ ، فلم يدّع أحد أنّه رأى وقطع بشيء من ذلك ، اللهمّ إلّا علماء الأرواح ، فإنّهم لمّا سألوها قالت : عندنا كواكب آهلة بالسكّان لا يحصى عددها ، وفيها سكّان أنتم بالنسبة إليهم كالنمل بالنسبة للإنسان. وأيّد ذلك بما نقل عن «غاليلو» عند ما احضرت روحه بعد الممات (١).

وهكذا ذكر الشيخ المراغي وعقّبه بما روي عن ابن مسعود :

[٢ / ٩٣٨] أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما السماوات السبع وما فيهنّ وما بينهنّ والأرضون السبع وما فيهنّ وما بينهنّ في الكرسي إلّا كحلقة ملقاة بأرض فلاة» (٢).

وروى ابن كثير أحاديث تنمّ عن أرضين سبع آهلة بالسكّان ، وقد بعث إليهم أنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد عليهم‌السلام. زعموا صحّة أسانيدها (٣).

وهكذا رووا روايات هي أشبه بروايات إسرائيلية ، وفيها الغثّ والسمين (٤).

[٢ / ٩٣٩] وفي حديث زينب العطّارة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ هذه الأرضين واقعة تحت الأرض الّتي نعيش عليها واحدة تحت اخرى كلّ واحدة بالنسبة إلى الاخرى الّتي تحتها كحلقة ملقاة في فلاة قفر ، حتّى تنتهي إلى السابعة ، والجميع على ظهر ديك ، له جناحان إلى المشرق والمغرب ورجلاه في التخوم! والديك على صخرة ، والصخرة على ظهر حوت ، والحوت على بحر مظلم ، والبحر على الهواء ، والهواء على الثرى ...» (٥).

[٢ / ٩٤٠] وفي حديث الحسين بن خالد عن الرضا عليه‌السلام : «هذه أرض الدنيا ، والسماء الدنيا فوقها

__________________

(١) تفسير الجواهر ٢٤ : ١٩٥.

(٢) تفسير المراغي ٢٨ : ١٥١.

(٣) ابن كثير ٤ : ٤١١.

(٤) راجع : الدرّ ٨ : ٢١٠ ـ ٢١٢ ؛ الطبري ١٤ : ١٩٥.

(٥) نور الثقلين ٥ : ٣٦٤ ـ ٣٦٥.

٣٣٣

قبّة ، والأرض الثانية فوق السماء الدنيا ، والسماء الثانية فوقها قبّة ، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية ، والسماء الثالثة فوقها قبّة ... والأرض السابعة فوق السماء السادسة ، والسماء السابعة فوقها قبّة ، وعرش الرحمان فوق السماء السابعة ... فالّتي تحتنا هي أرض واحدة هي الدنيا ، وأنّ الستّ لهنّ فوقنا» (١).

[٢ / ٩٤١] ورووا عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أنّ لهذه النجوم الّتي في السماء مدنا مثل المدائن الّتي في الأرض ، مربوطة كلّ واحدة بالاخرى بعمود من نور طوله مسيرة مائتين وخمسين سنة. كما أنّ ما بين سماء واخرى مسيرة خمسمائة عام. وأنّ هناك بين النجوم وبين السماء الدنيا بحارا تضرب الريح أمواجها ، ولذلك تستبين النجوم صغارا وكبارا ، في حين أنّ جميعها في حجم واحد سواء» (٢).

[٢ / ٩٤٢] وذكر أبو نعيم حديثا عن كعب الأحبار أنّ إبليس تغلغل إلى الحوت الّذي على ظهره الأرض كلّها ، فألقى في قلبه ، فقال : هل تدري ما على ظهرك يالوثيا ، من الأمم والشجر والدوابّ والناس والجبال؟! لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع! قال : فهمّ لوثيا بفعل ذلك فبعث الله دابّة فدخلت في منخره ، فعجّ إلى الله منها فخرجت. قال كعب : والّذي نفسي بيده إنّه لينظر إليها بين يديه وتنظر إليه إن همّ بشيء من ذلك عادت حيث كانت (٣).

قلت : يا له من عجوز كذوب عجّت من أكاذيبه أقطار السماوات!

وغالب الظنّ أنّها ـ أو جلّها ـ أساطير إسرائيلية تسرّبت إلى التفسير والحديث مضافا إليها وضع الأسانيد!

المختار في تفسير «مثلهنّ»

ليس في القرآن تصريح بالأرضين السبع ، ولا إشارة سوى ما هنا من احتمال إرادة العدد في المثليّة! لكن تكرّر ذكر الأرض في القرآن مفردة إلى جنب السماوات جمعا ممّا يوهن جانب هذا

__________________

(١) البرهان ٨ : ٤٦ ؛ القمي ٢ : ٣٢٩.

(٢) البحار ٥٥ : ٩٠ ـ ٩١.

(٣) القرطبي ١ : ٢٥٧ و ٣ ؛ أبو الفتوح ١ : ١٥٦.

٣٣٤

الاحتمال.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(١).

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا)(٢).

(لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٣).

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)(٤).

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ)(٥).

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)(٦).

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٧).

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ)(٨).

(سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ)(٩).

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ)(١٠).

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها)(١١).

إلى ما يقرب من مائتي موضع في القرآن ، جاء اقتران الأرض واحدة بالسماوات سبعا!

فيا ترى كيف يصحّ اقتران الفرد بالجمع ـ في هذا الحجم من التكرار ـ لو كانت الأرض مثل

__________________

(١) فاطر ٣٥ : ١.

(٢) فاطر ٣٥ : ٤١.

(٣) النمل ٢٧ : ٢٥.

(٤) لقمان ٣١ : ٢٠.

(٥) الروم ٣٠ : ٢٦.

(٦) النمل ٢٧ : ٨٧.

(٧) الزمر ٣٩ : ٦٣.

(٨) الشورى ٤٢ : ٢٩.

(٩) الزخرف ٤٣ : ٨٢.

(١٠) الإسراء ١٧ : ٤٤.

(١١) فصّلت ٤١ : ٩ ـ ١٢.

٣٣٥

السماء في العدد السبع؟! ولا سيّما في آيات التكوين ، ما المبرّر لذكر الأرض واحدة لو كانت سبعا؟!

على أنّ اللام في (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) للعهد ، أي الأرض المعهودة لدى المخاطبين وهم العرب يومذاك ، ولا يعرفون سوى هذه الأرض الّتي نعيش عليها! (١).

فلا بدّ أنّ هذه الأرض خلقت مثل السماوات السبع ، مثلا في الإبداع والتكوين.

هذا ، بالإضافة إلى أنّ التعبير ب (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) ـ لو اريد العدد ـ ليستدعي أن يكون من هذه الأرض (نفس كرة الأرض الّتي نعيش عليها) جعلت سبعا ، الأمر الّذي يعني سبع قطاع منها وهي المناطق الكبرى المعمورة منها. وهذا هو المراد بالأرضين السبع الواردة في الأدعية المأثورة وفي الأحاديث ، ودارت على ألسن العارفين.

وإطلاق الأرض على المعمورة منها شائع في اللغة ، وجاء في القرآن أيضا حيث قوله تعالى ـ بشأن المفسدين ـ : (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ)(٢) أي من البلاد العامرة حسبما فسّره الفقهاء.

وكذا إطلاقها على مطلق البقاع ، كقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها)(٣). والمراد البقعة الميتة منها.

وبعد ، فإنّ قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) ظاهر كلّ الظهور في إرادة سماوات سبع ، وجاءت بلفظ تنكير. وأرض واحدة جاءت بلفظ تعريف. وأنّ المثليّة تعني جانب الإبداع والتكوين ، وعلى فرض إرادة العدد فهي البقاع والمناطق المعمورة منها ومن ثمّ جاء بلفظ (مِنَ الْأَرْضِ) أي وجعل من هذه الأرض أيضا سبعا حسب المناطق. وإلّا فلو كان أراد سبع كرات من مثل كرة الأرض ، لكان الأولى أن يعبّر بسبع سماوات وسبع أرضين ، وكان أخصر وأوفى بالمعنى.

__________________

(١) وحتّى البشريّة اليوم لا تعرف أرضا بهذا الاسم سوى الّتي نعيش عليها. على أنّ الأرض اسم علم شخصي لهذه الكوكبة نظير أسامي سائر الكواكب ، وليست كالسماء اسم جنس عامّ. ومن ثمّ قالوا : كلّ ما علاك سماء وما تطأه قدمك أرض! قال تعالى : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) ، الرّحمان ٥٥ : ١٠.

(٢) المائدة ٥ : ٣٣.

(٣) يس ٣٦ : ٣٣.

٣٣٦

قال تعالى :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

هذه هي قصّة البشريّة الأولى تمثّل بدء وجود الإنسان والسبب في تكوينه ؛ خلق ليكون خليفة الله في الأرض ، وليكون مظهرا تامّا لصفاته الجمال والكمال ، ومثلا كاملا برزت فيه سماته تعالى وجلائل أسمائه.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).

نعم هي المشيئة العليا تريد أن تسلّم لهذا الكائن الجديد ـ في عالم الوجود ـ زمام هذه الأرض ، وتطلق فيها يده ، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين والتطوير والتبديل والتحليل والتركيب ؛ وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات وكنوز وخامات ، وتسخير هذا كلّه ـ بإذن الله ـ في المهمّة الضخمة الّتي وكلّها الله إليه.

٣٣٧

إذن فقد وهب لهذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات وكنوز وخامات ، ووهب من القوى الخفيّة ما يحقّق المشيئة الإلهيّة. (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها)(١).

***

أمّا الحكمة في إعلام الملائكة بذلك فترجع إلى أدب سلطاني رفيع ، يجعل من أعضاد النظام مواضع سرّه في مهامّ الأمور تعزيزا بجانبهم ، ليجعلهم على إشراف من الأمر ، دون أن يباغتوا فيحسّوا باحتقار.

وبمثل هذا الأدب الرفيع جاء في كتاب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى أمراء جيشه :

[٢ / ٩٤٣] «فإنّ حقّا على الوالي أن لا يغيّره على رعيّته فضل ناله ، ولا طول خصّ به ـ إلى أن يقول ـ : ألا وإنّ لكم عندي أن لا أحتجز دونكم سرّا ... ولا أطوي دونكم أمرا» (٢).

وإذ لم يكن ذاك الإعلام سوى إكرام وتعزيز بجانبهم لا لغرض المشاورة معهم ، فلم يكن هناك مجال لقولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).

ومن ثمّ جاءهم الردع اللاذع : (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

أمّا لماذا بدت منهم تلك البادرة ، وكيف علموا أنّ الإنسان سوف يقوم بالإفساد في الأرض إلى جنب الإصلاح فيها؟!

فلعلّه كان لديهم من شواهد الحال أو من إلهام البصيرة ما كشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق ومن مقتضيات حياته على الأرض حياة اجتماعيّة تزدحم بمناوشات ومصادمات سوف تنتهي إلى مناورات ومنافرات وبالتالي إلى مخاصمة وإفساد في الأرض.

ثمّ هم ـ بفطرة الملائكة البريئة الّتي لا تتصوّر إلّا الخير المطلق وإلّا السّلام الشامل ـ يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له ، هو وحده الغاية القصوى للوجود ، وهو العلّة الأولى للخلق. وهو متحقّق بوجودهم هم ، لا يعصون الله ما أمرهم ويعبدون الله لا يفترون.

نعم خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا في بناء هذه الأرض وعمارتها ، وفي ترقية الحياة

__________________

(١) هود ١١ : ٦١. وراجع : في ظلال القرآن ١ : ٦٦ ـ ٦٨.

(٢) نهج البلاغة ٣ : ٧٩ ، الكتاب ٥٠.

٣٣٨

وتنويعها ، وفي تحقيق إرادة الله وناموس الوجود في تطويرها وتنميتها وتعديلها على يد خليفة الله في أرضه. هذا الّذي قد يفسد أحيانا وقد يسفك الدماء ، ليتمّ من وراء هذا الشرّ الجزئي المحدود خير أكبر وأشمل ، خير النموّ والرقيّ والاكتمال ، خير الحركة الهادمة البانية ، خير المحاولة الدائبة الّتي لا تكفّ ، والتطّلع الّذي لا يقف ، والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير والجوّ الفسيح.

عندئذ جاءهم القرار من العليم الخبير بكوامن الأمور : (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

***

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ...)

وتبيينا لموضع آدم ـ هذا الكائن الجديد ـ من تحقيق تلك الخلافة المسجّلة باسمه والّتي فضّلته على كثير من الخلق وجعلته في درجة أعلى من التبجيل والإكرام ، جاء دور تركيز فطرته على العلم والمعرفة بحقائق الأشياء ، علما ذاتيّا ناشئا من جبلّته الّتي خلقه الله عليها ، وبذلك فاق على الآفاق.

والأسماء ـ كما تقدّم في تفسير البسملة ـ جمع اسم بمعنى السمة ، ليكون العلم بالأسماء علما بسماتها وخصائصها ومعرفة شاملة لحقائق الأشياء والأسرار الكامنة في طبيعة الوجود. فيستخرجها ويسخرها ويستخدمها في مآربه في الحياة. وبذلك تعمر الأرض وتزدهر معالمها مع الآباد.

وها نحن أولاء نشهد طرفا من ذلك السرّ الإلهي العظيم الّذي أودعه الله هذا الكائن البشري ، وهو يسلّمه مقاليد الخلافة ويسخّر له أفاق الأرض وأجواء السماء.

الأمر الّذي يقصر عن نيله الملائكة ذات الحياة الرتيبة والوظيفة الجارية على منوال ، إذ لم يعد لهم حاجة بتلك الخاصيّة ولا كانت هناك ضرورة تدعو إليه.

ومن ثمّ لمّا عرضت الأسماء على الملائكة لم يعرفوها ولم يهتدوا إلى كنه معرفتها ، وهنا جاء هذا الكائن الجديد ليقوم بدور التعليم وإبداء مقدرته الذاتيّة على سائر الخلق ، فلم يكن من الملائكة سوى إبداء العجز والاعتذار عمّا فرط منهم في ذلك المجال.

٣٣٩

قال الزمخشري : وإنّما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء ، على سبيل التبكيت (١).

والتبكيت : غلبة ، بحجّة دامغة. ومنه تبكيت الضمير أي تعنيفه بقرع الحجّة ، يوجب تراجعه عن الغلواء العارمة.

ملحوظة

هنا نلحظ من سيّد قطب ـ هذا المفسّر الخبير ـ غريبة في تفسير الأسماء ، فرضها القدرة على التسمية ، حيث ضرورة الحياة الاجتماعية للإنسان تجعله جانحا إلى الرمز بالأسماء للمسمّيات ، وذلك لغرض إمكان التفاهم مع بني نوعه ولا يمكن إلّا بالتسمية وعن طريق التعبير بالألفاظ. وهي حاجة حياتيّة دعت إلى اصطناع الألفاظ والتفاوض على الرمز للأشياء بذكر أسماء لها.

الأمر الذي لا ضرورة فيه في الحياة الملائكيّة ، حيث تبادل المقاصد بينها ـ إن كان ـ كان عن طريق الإيحاء ، إيحاء المعاني دون الألفاظ.

قال : «ها نحن أولاء نشهد طرفا من ذلك السرّ الإلهي العظيم الّذي أودعه الله هذا الكائن البشري ـ وهو يسلّمه مقاليد الخلافة ـ سرّ القدرة على الرمز بالأسماء للمسمّيات ، سرّ القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها ـ وهي ألفاظ منطوقة ـ رموزا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة. وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض ، ندرك قيمتها حين نتصوّر الصعوبة الكبرى لو لم يوهب الإنسان القدرة على الرمز بالأسماء للمسمّيات والمشقّة في التفاهم والتعامل ، حين يحتاج كلّ فرد لكي يتفاهم مع الآخرين على شيء ، أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه ... إنّها مشقّة هائلة لا تتصوّر معها حياة!

فأمّا الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصيّة ، لأنّها لا ضرورة لها في وظيفتهم. ومن ثمّ لم توهب لهم. فلمّا علّم الله آدم هذا السرّ ، وعرض على الملائكة ما عرض لم يعرفوا الأسماء ، لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظيّة للأشياء والشخوص. وجهروا أمام هذا العجز بتسبيح ربّهم ، والاعتراف بعجزهم ، والإقرار بحدود علمهم وهو ما علّمهم» (٢).

والغرابة في هذا التفسير تبدو بوضوح إذا ما لا حظنا أنّ الجنوح إلى تسمية الأشياء

__________________

(١) الكشّاف ١ : ١٢٦.

(٢) في ظلال القرآن ١ : ٦٩ ـ ٧٠.

٣٤٠