التفسير الأثري الجامع - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-03-6
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

[٢ / ٨٩٠] قال الصدوق بشأن جواز الدعاء بالفارسيّة في القنوت : ذكر شيخنا محمّد بن الحسن بن الوليد رضى الله عنه عن سعد بن عبد الله أنّه كان يقول : لا يجوز الدعاء بالفارسيّة. وكان محمّد بن الحسن الصفّار يقول : إنّه يجوز. والّذي أقول به : أنّه يجوز ، لقول أبي جعفر الثاني عليه‌السلام :

«لا بأس أن يتكلّم الرجل في صلاة الفريضة بكلّ شيء يناجي به ربّه ـ عزوجل ـ».

قال الصدوق : ولو لم يرد هذا الخبر أيضا لكنت أجيزه بالخبر الّذي روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي». والنهي عن الدعاء بالفارسيّة في الصلاة غير موجود ، والحمد لله (١).

قال التقيّ المجلسي ـ في الشرح ـ : حكم الصدوق بصحّة هذا الحديث (٢) لأنّه استند إليه في فتواه بالجواز.

سواء الشبهة الحكميّة أم الموضوعيّة

سبق أن نبّهنا أنّ موارد الشبهة ـ أيضا ـ ملحقة بعموم العامّ ، حيث كان المخصّص منفصلا. وهذا من غير فرق بين شبهة حكميّة (كان الشكّ من أجل فقدان النصّ أو إبهامه أو ما شاكل) أو شبهة موضوعيّة (كان الشكّ من أجل اشتباه أمور خارجيّة). ذلك لإطلاق النصوص وربما عمومها.

وقد عرفت استناد الصدوق ـ عليه الرحمة ـ لجواز القنوت بالفارسيّة ، بعموم النصّ الوارد في قول الصادق عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي». وفي سائر روايات الباب شواهد على هذا العموم كما في الحديث الأوّل والثاني من روايات الكافي الشريف. حيث قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» عام وفيه إطلاق يشمل الحكم والموضوع جميعا. وقوله : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو حلال» ناصّ في الشبهات الموضوعيّة. فلا مجال للترديد في الشمول.

وهكذا صرّح الأقطاب من علماء الأصول. أن لا فرق بين شبهة حكميّة أو موضوعيّة في التمسّك بحديث الرفع (٣) وما شاكله من أحاديث الباب.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٣١٦ ـ ٣١٧ / ٩٣٦ و ٩٣٧ ؛ البحار ٢ : ٢٧٤ / ٢٠.

(٢) روضة المتّقين ٢ : ٣٤٩.

(٣) روى الصدوق في الخصال : (٤١٧ / ٩) بالإسناد إلى أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمّتي

٣٠١

قاعدة «قبح العقاب بلا بيان»

وهكذا يتمسّك للحكم بجواز ما لم يعلم التكليف به ـ سواء الوجوب أو التحريم ـ بقاعدة «قبح العقاب بلا بيان». وهي قاعدة عقلانيّة ومتأيّدة بدليل الكتاب والسّنّة ، فمن الكتاب :

قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١). وبعث الرسول كناية عن إبلاغ التكليف.

وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ)(٢). قوله : «ليضلّ» أي ليخذلهم بترك العناية بهم وإذلالهم بالعقاب.

وهذا يدلّ أن لا مؤاخذة على تكليف لم يبلغه ، إذا لم يكن للمكلّف تقصير في ذلك.

ومن السّنّة ، أشهرها حديث الرفع (٣) المأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الفريقان مستفيضا ، قال : «رفع عن أمّتي تسع ... وعدّ منها : ما لا يعلمون». الشامل بعمومه كلّا من الجاهل بالحكم أو الموضوع.

والرفع هنا رفع للمؤاخذة على ترك تكليف كان يجهله ـ لا عن تقصير ـ كما مرّ في دلالة الكتاب.

(ملحوظة) : وممّا يجدر التنبّه له أن لا صلة بين هذه القاعدة (قاعدة قبح العقاب بلا بيان) وأصل الإباحة الذاتيّة المتقدّمة. حيث هذه القاعدة بيان لحكم ظاهري بحت وموضوعه الجهل بالواقع. وهذا نظير الأحكام الثانويّة ، حيث نظرا للموضوعات بعناوين طارئة مثل الحرج والضرر والاضطرار ـ وهنا الجهل ـ. على خلاف أصالة الإباحة الذاتيّة الّتي جعلت الأشياء بعناوينها الذاتيّة موردا للحكم بالإباحة. نعم حيث يسرى هذا الحكم إلى موارد الشبهة ، حسبما نبّهنا ، فعند ذلك تتساوقان. فتدبّر جيّدا.

__________________

ــ تسعة : الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه والحسد والطيرة والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة».

(١) الإسراء ١٧ : ١٥.

(٢) التوبة ٩ : ١١٥.

(٣) الخصال : ٤١٧ / ٩.

٣٠٢

قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ)

[٢ / ٨٩١] أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي العالية في قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) قال : ارتفع (١).

[٢ / ٨٩٢] وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) قال : يعني صعد أمره إلى السماء (٢).

[٢ / ٨٩٣] وقال الحسن في قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) : ثمّ استوى أمره وصنعه إلى السّماء ، لأنّ أوامره وقضاياه تنزل من السّماء إلى الأرض (٣).

[٢ / ٨٩٤] وروى الصدوق بإسناده إلى الإمام العسكري عن آبائه «عن عليّ عليه‌السلام في قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) قال : أخذ في خلقها وإتقانها» (٤).

[٢ / ٨٩٥] وقال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) : فبدأ بخلقهنّ وخلق الأرض (٥).

[٢ / ٨٩٦] وقال ابن كيسان والفرّاء وجماعة من النحويين في قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) : أي : أقبل على خلق السماء (٦).

__________________

(١) الدرّ ١ : ١٠٧ ؛ الطبري ١ : ٢٧٦ / ٤٩١ ، نقلا عن الربيع بن أنس ، قال ابن جرير : وأولى المعاني بقول الله جلّ ثناؤه : ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ علا عليهن وارتفع ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٧٥ / ٣٠٨ ، وزاد : «وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله» ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : ٥٧٢ ؛ القرطبي ١ : ٢٥٥ ؛ البغوي ١ : ١٠١ ، بلفظ : قال ابن عبّاس وأكثر مفسّري السلف : أي ارتفع إلى السماء ؛ البخاري ٨ : ١٧٥ ، كتاب التوحيد ، باب ٢٢.

(٢) الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : ٥٧١ ؛ القرطبي ١ : ٢٥٤ ، بلفظ : «صعد». وزاد : «وأما ما حكي عن ابن عبّاس فإنّما أخذه عن تفسير الكلبيّ ، والكلبيّ ضعيف».

(٣) التبيان ١ : ١٢٥ ؛ أبو الفتوح ١ : ١٩٠ ؛ مجمع البيان ١ : ١٤٣ ، عن ابن عبّاس.

(٤) عيون الأخبار ٢ : ١٥ ـ ١٦ / ٢٩ ، باب ٣٠ (فيما جاء من الرضا عليه‌السلام من الأخبار المنثورة) ، الرواية مطوّلة ؛ البحار ٣ : ٤٠ ـ ٤١ / ١٤ ؛ تفسير الإمام : ٢١٥ / ٩٩.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ٩٦.

(٦) البغوي ١ : ١٠١ ؛ التبيان ١ : ١٢٤ ، بلفظ : ما قاله الفرّاء : من أنّ معناه أقبل عليها ؛ معاني القرآن للفرّاء ١ : ٢٥ ، وفيه : استوى عليّ وإليّ ، على معنى أقبل ؛ القرطبي ١ : ٢٥٥ ، بلفظ : «قال سفيان بن عيينة وابن كيسان في قوله : ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ : قصد إليها ، أي بخلقه واختراعه».

٣٠٣

قوله تعالى : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ)

[٢ / ٨٩٧] أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عبّاس في قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَ) قال : يعني خلق سبع سماوات. قال : أجرى النار على الماء ، فبخّر البحر ، فصعد في الهواء ، فجعل السماوات منه (١).

[٢ / ٨٩٨] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (فَسَوَّاهُنَ) يعني فخلقهنّ (سَبْعَ سَماواتٍ) فهذا أعظم من خلق الإنسان وذلك قوله ـ سبحانه ـ : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ) من الخلق (عَلِيمٌ) بالبعث وغيره (٢).

[٢ / ٨٩٩] وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (فَسَوَّاهُنَ) قال : سوّى خلقهنّ (٣).

[٢ / ٩٠٠] وأخرج عبد الرزّاق وابن جرير عن قتادة في قوله : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) قال : بعضهنّ فوق بعض ، بين كلّ سماءين مسيرة خمسمائة عام (٤).

في خلق السماوات والأرضين

[٢ / ٩٠١] أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق السدّي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عبّاس وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) قال : إنّ الله كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا قبل الماء ، فلمّا أراد أن يخلق الخلق ، أخرج من الماء دخانا ، فارتفع فوق الماء ، فسما عليه فسمّاه سماء ، ثمّ أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثمّ فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين : في الأحد والاثنين ، فخلق الأرض على حوت وهو الّذي ذكره في قوله : (ن ، وَالْقَلَمِ). والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ، وهي الصخرة الّتي ذكرها

__________________

(١) الدرّ ١ : ١٠٧ ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : ٥٧١ ـ ٥٧٢.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ٩٦.

(٣) ابن أبي حاتم ١ : ٧٥ / ٣١٠ ؛ الطبري ١ : ٢٧٧ / ٤٩٢ ؛ الدرّ ١ : ١٠٧.

(٤) الدرّ ١ : ١١٠ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٦٤ / ٣٢ ؛ الطبري ١ : ٢٨١ / ٤٩٦.

٣٠٤

لقمان (١) ، ليست في السماء ولا في الأرض ، فتحرّك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فقرّت ، فالجبال تفخر على الأرض ، فذلك قوله : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ)(٢) وخلق الجبال فيها ، وأقوات أهلها ، وشجرها ، وما ينبغي لها في يومين : في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك قوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ) إلى قوله (وَبارَكَ فِيها)(٣) يقول : أنبت شجرها (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) ، يقول : لأهلها (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) يقول : من سأل ، فهكذا الأمر. (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ)(٤) وكان ذلك الدخان من تنفّس الماء حين تنفّس ، ثمّ جعلها سماء واحدة ، ثمّ فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين : في الخميس والجمعة ، وإنّما سمّي يوم الجمعة ، لأنّه جمع فيه خلق السماوات والأرض (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها)(٥) قال : خلق في كلّ سماء خلقها ، من الملائكة ، والخلق الّذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم. ثمّ زيّن السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظا من الشياطين فلمّا فرغ من خلق ما أحبّ استوى على العرش (٦).

[٢ / ٩٠٢] وأخرج عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الردّ على الجهميّة عن عبد الله بن عمرو قال : لمّا أراد الله أن يخلق الأشياء إذ كان عرشه على الماء ، وإذ لا أرض ولا سماء ، خلق الريح فسلّطها على الماء حتّى اضطربت أمواجه وأثار ركامه ، فأخرج من الماء دخانا وطينا وزبدا ، فأمر الدّخان فعلا وسما ونما ، فخلق منه السماوات ، وخلق من الطين الأرضين ، وخلق من الزبد الجبال (٧).

[٢ / ٩٠٣] وأخرج أحمد والبخاري في التاريخ ومسلم والنسائي وابن المنذر وأبو الشيخ في

__________________

(١) لقمان ٣١ : ١٦.

(٢) النحل ١٦ : ١٥.

(٣) فصّلت ٤١ : ٩ ـ ١٠.

(٤) فصّلت ٤١ : ١١.

(٥) فصّلت ٤١ : ١٢.

(٦) الدرّ ١ : ١٠٦ ـ ١٠٧ ؛ الطبري ١ : ٢٧٩ / ٤٩٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٧٤ ـ ٧٥ / ٣٠٦ ، إلى قوله : «فهكذا الأمر» نقله عن السدّي ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : ٥٣٦ ـ ٥٣٧ ؛ القرطبي ١ : ٢٥٦ ـ ٢٥٧ ، وزاد في آخره : قال : فذلك حين يقول : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)* ويقول : (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ؛) ابن كثير ١ : ٧١.

(٧) الدرّ ١ : ١٠٧ ؛ الردّ على الجهميّة : ١٢ / ٩ (ط ١٩٦٠ ليدن).

٣٠٥

العظمة وابن مردويه والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات ـ واللفظ له ـ عن أبي هريرة قال : أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيدي فقال : «خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبثّ فيها الدوابّ يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل». (١)

[٢ / ٩٠٤] وعن عبد الله بن سلام أنّه قال : إنّ الله بدأ الخلق يوم الأحد فخلق الأرضين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السماوات في الخميس والجمعة وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم على عجل فتلك الساعة الّتي تقوم فيها الساعة (٢).

[٢ / ٩٠٥] وأخرج ابن جرير عن محمّد بن إسحاق قال : كان أوّل ما خلق الله تبارك وتعالى : النور والظلمة ، ثمّ ميّز بينهما فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما ، وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا ، ثمّ سمك السماوات السبع من دخان ـ يقال والله أعلم : من دخان الماء ـ حتّى استقللن ولم يحبكهنّ (٣) ، وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها وأخرج ضحاها ، فجرى فيها الليل والنهار ، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم ، ثمّ دحى الأرض وأرساها بالجبال ، وقدّر فيها الأقوات ، وبثّ فيها ما أراد من الخلق ، ففرغ من الأرض وما قدّر فيها من أقواتها في أربعة أيّام. ثمّ استوى إلى السماء وهي دخان كما قال. فحبكهنّ ، وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها ، وأوحى في كلّ سماء أمرها ، فأكمل خلقهنّ في يومين. ففرغ من خلق السماوات والأرض في ستّة أيام ، ثمّ استوى في اليوم السابع فوق سماواته ، ثمّ قال للسماوات والأرض : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً)(٤) لما أردت بكما ، فاطمئنا عليه طوعا

__________________

(١) الأسماء والصفات ، الجزء الأوّل : ٥٢ ؛ الدرّ ١ : ١٠٧ ؛ مسند أحمد ٢ : ٣٢٧ ؛ التاريخ الكبير ١ : ٤١٣ / ١٣١٧ ، إلى قوله : «يوم السبت» ؛ مسلم ٨ : ١٢٧ ، كتاب صفة القيامة ، باب ابتداء الخلق وخلق آدم عليه‌السلام ؛ النسائي ٦ : ٢٩٣ / ١١٠١٠ ، كتاب التفسير ، سورة البقرة ؛ العظمة ٤ : ١٣٦٠ ـ ١٣٦١ / ٨٧٦ ، باب ٢٨ (صفة ابتداء الخلق) ؛ البيهقي ٩ : ٣ ، كتاب السير ، باب مبتدأ الخلق ؛ كنز العمّال ٦ : ١٢٧ / ١٥١٢٥.

(٢) الطبري ١ : ٢٨١ / ٤٩٨ ؛ ابن كثير ١ : ٧١ ؛ تاريخ الطبري ١ : ٣٢.

(٣) يقال : استقلّ الطائر في طيرانه : ارتفع. والحبك : الشدّ. يقال : حبكه أي شدّه ووثّقه.

(٤) فصّلت ٤١ : ١١.

٣٠٦

أو كرها ، قالتا : أتينا طائعين (١).

[٢ / ٩٠٦] وروى وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عبّاس قال : إنّ اوّل ما خلق الله ـ عزوجل ـ من شيء «القلم» فقال له : اكتب ، فقال : يا ربّ وما أكتب؟ قال : اكتب القدر ، فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة. قال : ثمّ خلق «النون» فدحى الأرض عليها فارتفع بخار الماء ففتق منه السماوات ، واضطرب النون فمادّت الأرض فأثبتت بالجبال فإنّ الجبال تفخر على الأرض إلى يوم القيامة (٢).

[٢ / ٩٠٧] وأخرج ابن جرير عن ابن عبّاس في قوله : حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء ثمّ ذكر السماء قبل الأرض ، وذلك أنّ الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء ، ثمّ استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سماوات ثمّ دحى الأرض بعد ذلك فذلك قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها)(٣).

[٢ / ٩٠٨] وقال القرطبي في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ...) : يظهر من هذه الآية أنّه سبحانه خلق الأرض قبل السّماء ... وهذا قول قتادة : إنّ السّماء خلقت أوّلا. حكاه عنه الطبري (٤).

[٢ / ٩٠٩] وقد روى أبو الضحى ـ وإسمه مسلم ـ عن ابن عبّاس أنّه قال : الله الّذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ. قال : سبع أرضين في كلّ أرض نبيّ كنبيّكم ، وآدم كآدم ، ونوح كنوح ، وإبراهيم كإبراهيم ، وعيسى كعيسى : قال البيهقي : إسناد هذا عن ابن عبّاس صحيح ، وهو شاذّ بمرّة لا أعلم لأبي الضحى عليه دليلا (٥).

[٢ / ٩١٠] وأخرج ابن أبي حاتم عن حبّة العرني قال : سمعت عليّا عليه‌السلام ذات يوم يحلف : «والّذي

__________________

(١) الطبري ١ : ٢٧٩ / ٤٩٣.

(٢) القرطبي ١ : ٢٥٧ ؛ الحاكم ٢ : ٤٩٨ ، باختلاف ، كتاب التفسير ، سورة القلم ؛ البيهقي ٩ : ٣ ، كتاب السير ، باب مبتدأ الخلق.

(٣) الطبري ١ : ٢٨١ / ٤٩٧ ؛ و ١٥ : ٥٧ / ٢٨١٢٢ ، في تفسير سورة النازعات ، الآية ٣٠ ؛ ابن كثير ١ : ٧١ ، بلفظ : وقيل : إنّ الدحى كان بعد خلق السماوات والأرض ـ رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس.

(٤) القرطبي ١ : ٢٥٥ ؛ ابن كثير ١ : ٧٢.

(٥) القرطبي ١ : ٢٦٠ ؛ الحاكم ٢ : ٤٩٣ ، كتاب التفسير ، سورة الطلاق ؛ ابن كثير ٤ : ٤١١ ، سورة الطلاق ، الآية ١٢.

٣٠٧

خلق السماء من دخان وماء!» (١).

[٢ / ٩١١] وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال : كتب ابن عبّاس إلى أبي الجلد يسأله عن السماء من أيّ شيء هي؟ فكتب إليه : إنّ السماء من موج مكفوف (٢).

قلت : وحاشا ابن عبّاس أن يسأل كتابيّا لا علم له ، وقد تكلّمنا عن ذلك في ترجمته من كتابنا التفسير والمفسّرون (٣).

[٢ / ٩١٢] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عبّاس قال : «قال رجل : يا رسول الله ما هذه السماء؟ قال : هذه موج مكفوف» (٤).

[٢ / ٩١٣] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن كعب قال : السماء أشدّ بياضا من اللبن (٥).

[٢ / ٩١٤] وأخرج عبد الرزّاق وابن أبي حاتم عن سفيان الثوري قال : تحت الأرضين صخرة ، بلغنا أنّ خضرة السماء من تلك الصخرة (٦).

[٢ / ٩١٥] وأخرج أحمد وعبد بن حميد وأبو داوود والترمذي وحسّنه وابن ماجة وعثمان بن سعيد الدارمي في الردّ على الجهميّة وابن أبي الدنيا في كتاب المطر وابن أبي عاصم في السنة وأبو يعلى وابن خزيمة في التوحيد وابن أبي حاتم وأبو أحمد الحاكم في الكنى والطبراني في الكبير وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصحّحه واللالكائي في السنة والبيهقي في الأسماء والصفات عن العبّاس بن عبد المطّلب قال : «كنّا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا : الله ورسوله أعلم! قال : بينهما مسيرة خمسمائة عام ، ومن مسيرة سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة عام ، وكثف كلّ سماء خمسمائة سنة ، وفوق السماء السابعة بحر ، بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض ، ثمّ فوق ذلك ثمانية أوعال (٧) ، بين وركهنّ وأظلافهنّ كما بين السماء والأرض ، ثمّ فوق

__________________

(١) الدرّ ١ : ١١٠ ؛ كنز العمّال ٦ : ١٧٠ / ١٥٢٣٥.

(٢) الدرّ ١ : ١١٠. وأبو الجلد هذا هو : جيلان بن فروة الأزدي. كان صاحب كتب وكان جمّاعة لأخبار الملاحم (التصحيف للعسكري : ٤٠٩).

(٣) التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب ١ : ٢٥٢ ـ ٢٥٧.

(٤) الدرّ ١ : ١٠٩ ؛ العظمة ٣ : ١٠٢٣ ـ ١٠٢٤ / ٥٣٩.

(٥) الدرّ ١ : ١١٠ ؛ العظمة ٣ : ١٠٢٧ / ٥٤٣.

(٦) الدرّ ١ : ١١٠ ؛ عبد الرزّاق ٣ : ٢٣ / ٢٢٩١ ، سورة لقمان.

(٧) أوعال جمع وعل : تيس الجبل.

٣٠٨

ذلك العرش ، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ، والله سبحانه وتعالى علمه فوق ذلك ، وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء» (١).

[٢ / ٩١٦] وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده والبزّار وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وغلظ كلّ سماء مسيرة خمسمائة عام ، وما بين السماء إلى التي تليها مسيرة عام ، كذلك إلى السماء السابعة. والأرضون مثل ذلك ، وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك ، ولو حفرتم لصاحبكم ثمّ دلّيتموه لوجد الله ثمّة» يعني علمه (٢).

[٢ / ٩١٧] وأخرج الترمذي وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال : «كنّا جلوسا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمرّت سحابة فقال : أتدرون ما هذه؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. فقال : هذه العبابة (٣) ، هذه روايا الأرض (٤) يسوقها الله إلى بلد لا يعبدونه ولا يشكرونه.

__________________

(١) الدرّ ١ : ١٠٧ ؛ مسند أحمد ١ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧ ؛ أبو داوود ٢ : ٤١٨ / ٤٧٢٣ ، كتاب السنّة ، باب ١٩ (في الجهميّة) ؛ الترمذي ٥ : ٩٦ ـ ٩٧ / ٣٣٧٦ ، سورة الحاقّة ؛ ابن ماجة ١ : ٦٩ / ١٩٣ ، باب ١٣ ؛ الردّ على الجهميّة : ١٩ ؛ كتاب المطر ، لابن أبي الدنيا : ٥٠ / ٢ ؛ أبو يعلى ١٢ : ٧٥ ـ ٧٦ / ٦٧١٣ ؛ التوحيد لابن خزيمة : ١٠٢ ، (دار الشرق للطباعة ـ القاهرة ط : ١٣٨٨ ه‍) ؛ العظمة ٣ : ١٠٥٠ ـ ١٠٥١ / ٥٦٨ ، باب ٢٠ (صفة السماوات) ؛ الحاكم في المستدرك ٢ : ٣٧٨ ، كتاب التفسير ، سورة طه ؛ كتاب السنّة : ٢٥٣ / ٥٧٧ ، باب ١٢٣ ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : ٥٦٠ ؛ ابن كثير ٤ : ٧٨ ، سورة غافر ، الآية ٧ ؛ كنز العمّال ٦ : ١٤٥ / ١٥١٨٥.

(٢) الدرّ ١ : ١٠٨ ؛ مختصر زوائد مسند البزّار ٢ : ٢٦١ / ١٨٣١ ، باب بدء الخلق ، بلفظ : عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «كثف الأرض مسيرة خمسمائة عام ، وبين الأرض العليا والسماء الدنيا خمسمائة عام ، وكثفها مثل ذلك ، وكثف الثانية مثل ذلك وما بين كلّ الأرضين مثل ذلك ـ إلى أن قال ـ ثمّ ما بين السماء السابعة إلى العرش مثل ذلك كلّه» ؛ العظمة ٢ : ٥٥٧ ـ ٥٥٨ / ١٩٩ ، باب ٩ (ذكر عرش الربّ تبارك وتعالى و...) ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : ٥٦٢ ، باب بدء الخلق ، بلفظ : ... عن أبي ذرّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما بين الأرض إلى السماء مسيرة خمسمائة سنة وغلظ السماء الدنيا مسيرة خمسمائة سنة وما بين كلّ سماء إلى السماء الّتي تليها مسيرة خمسمائة سنة ، وكلّ الأرضين مثل ذلك ، وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك ولو حفرتم لصاحبكم ثمّ دلّيتموه لوجدتم الله عزوجل».

(٣) العبابة ـ بعين مهملة ـ : ما يعبّ به الماء. يقال : عبّت الدلو بالماء إذا صوّتت عند غرف الماء.

(٤) الروايا جمع الراوية : الدابّة يستقى عليها.

٣٠٩

هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم! قال : فإنّ فوق ذلك سماء. هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم! قال : فإنّ فوق ذلك موجا مكفوفا (١) وسقفا محفوظا. هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم! قال : فإنّ فوق ذلك سماء. هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم! قال : فإنّ فوق ذلك سماء أخرى. هل تدرون كم ما بينهما؟ قالوا : الله ورسوله أعلم! قال : فإنّ بينهما مسيرة خمسمائة عام ـ حتّى عدّ سبع سماوات ـ بين كلّ سماءين مسيرة خمسمائة عام ، ثمّ قال : هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم! قال : فإنّ فوق ذلك العرش. فهل تدرون كم بينهما؟ قالوا : الله ورسوله أعلم! قال : فإنّ بين ذلك كما بين السماءين ، ثمّ قال : هل تدرون ما هذه؟ هذه أرض. هل تدرون ما تحتها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم! قال : أرض أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة عام ـ حتّى عدّ سبع أرضين ـ بين كلّ أرضين مسيرة خمسمائة عام» (٢).

[٢ / ٩١٨] وأخرج عثمان بن سعيد الدارمي في الردّ على الجهميّة وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه واللالكائي والبيهقي عن ابن مسعود ـ واللفظ للدارمي ـ قال : ما بين السماء الدنيا والّتي تليها مسيرة خمسمائة عام ، وبين كلّ سماءين مسيرة خمسمائة عام ، وبين السماء السابعة وبين الكرسيّ خمسمائة عام ، وبين الكرسي إلى الماء خمسمائة عام. والعرش على الماء ، والله فوق العرش ، وهو يعلم ما أنتم عليه (٣).

[٢ / ٩١٩] وأخرج أبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عبّاس قال : تفكّروا في كلّ شيء ولا تفكّروا في ذات الله ، فإنّ بين السماء السابعة إلى كرسيّه سبعة آلاف نور. وهو فوق ذلك (٤).

__________________

(١) يقال : كفّ الإناء : ملأه ملأ مفرطا.

(٢) الترمذي ٥ : ٧٧ ـ ٧٨ / ٣٣٥٢ ، سورة الحديد ؛ العظمة ٢ : ٥٦٠ ـ ٥٦٢ / ٢٠١ ، باب ٩ (ذكر عرش الربّ تبارك وتعالى وكرسيّه و...) ؛ الدرّ ١ : ١٠٨ ـ ١٠٩ ؛ مجمع الزوائد ١ : ٨٥ ـ ٨٦ ؛ القرطبي ١ : ٢٥٩.

(٣) الردّ على الجهميّة : ١٢ ؛ كتاب التوحيد للدارمي : ١٠٥ ؛ الدرّ ١ : ١٠٩ ؛ الكبير ٩ : ٢٠٢ ، باختلاف ؛ العظمة ٢ : ٥٦٥ ـ ٥٦٦ / ٢٠٣ ، باب ٩ (ذكر عرش الربّ تبارك وتعالى وكرسيّه و...) ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : ٥٦٢ ـ ٥٦٣ ، باب ما جاء في العرش والكرسيّ ؛ مجمع الزوائد ١ : ٨٦ ، وفيه : «رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح» ؛ القرطبي ٣ : ٢٧٦.

(٤) الدرّ ١ : ١١٠ ؛ العظمة ١ : ٢١٢ / ٢ ، باب الأمر بالتفكّر في آيات الله عزوجل وقدرته و... ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثاني : ٤٢٠ ، باب ما ذكر في الذات ، إلى قوله : «في ذات الله» ؛ كنز العمّال ٣ : ١٠٦ / ٥٧٠٤.

٣١٠

في طبقات السماء

[٢ / ٩٢٠] أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّه نظر إلى السماء فقال : تبارك الله ما أشدّ بياضها ، والثانية أشدّ بياضا منها ، ثمّ كذلك حتّى بلغ سبع سماوات ، ثمّ قال : خلق الله سبع سماوات وخلق فوق السابعة الماء ، وجعل فوق الماء العرش ، وجعل فوق السماء الدنيا الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والرجوم (١).

[٢ / ٩٢١] وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس قال : السماء الدنيا موج مكفوف ، والثانية مرمرة بيضاء ، والثالثة حديد ، والرابعة نحاس ، والخامسة فضّة ، والسادسة ذهب ، والسابعة ياقوتة حمراء ، وما فوق ذلك صحارى من نور ، ولا يعلم ما فوق ذلك إلّا الله ، وملك موكّل بالحجب يقال له : ميطاطروش (٢).

[٢ / ٩٢٢] وأخرج أبو الشيخ عن سلمان الفارسي قال : السماء الدنيا من زمردة خضراء واسمها رقيعاء ، والثانية من فضّة بيضاء واسمها أزقلون ، والثالثة من ياقوتة حمراء واسمها قيذوم ، والرابعة من درّة بيضاء واسمها ماعونا ، والخامسة من ذهبة حمراء واسمها ريقا ، والسادسة من ياقوتة صفراء واسمها دقناء ، والسابعة من نور واسمها عريبا (٣).

[٢ / ٩٢٣] وأخرج أبو الشيخ عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام قال : «اسم السماء الدنيا رقيع ، واسم السابعة الضراح» (٤).

[٢ / ٩٢٤] وأخرج عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الردّ على الجهميّة وابن المنذر عن ابن عبّاس قال : سيّد السماوات السماء الّتي فيها العرش ، وسيّد الأرضين الأرض الّتي نحن عليها ، وسيّد

__________________

(١) الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : ٥٦٣ ، باب ما جاء في العرش والكرسيّ ؛ الدرّ ١ : ١٠٩.

(٢) الدرّ ١ : ١٠٩ ؛ الأوسط ٦ : ١٥ ـ ١٦ / ٥٦٦١ ، إلى قوله «ياقوتة» ؛ العظمة ٣ : ١٠٤٤ / ٥٦٢ ، باب ٢٠ (صفة السماوات) ، بلفظ : عن الربيع بن أنس قال : السماء الدنيا موج مكفوف ، والثانية صخرة ، والثالثة حديد ، والرابعة نحاس ، والخامسة فضّة ، والسادسة ذهب ، والسابعة ياقوتة ؛ أبو الفتوح ١ : ١٩٤ ، باختصار ؛ مجمع الزوائد ٨ : ١٣١ ـ ١٣٢ ، إلى قوله «ياقوتة» ؛ الطبري ١٤ : ١٩٦ / ٢٦٦٤٧ ، إلى قوله «ياقوتة» سورة الطلاق ، الآية ١٢.

(٣) الدرّ ١ : ١٠٩ ؛ العظمة ٤ : ١٣٨٧ ـ ١٣٨٩ / ٩٠٦ ، باب ٢٩ (صفة الأرضين وما فيهنّ من خلق الله ...).

(٤) الدرّ ١ : ١٠٩ ؛ العظمة ٣ : ١٠٤٦ / ٥٦٤ ، كنز العمّال ٦ : ١٧٠ / ١٥٢٣٦.

٣١١

الشجر العوسج ، ومنه عصا موسى (١).

[٢ / ٩٢٥] وقال الرمّاني : السماوات غير الأفلاك ، لأنّ الأفلاك تتحرّك وتدور ، وأمّا السماوات فلا تتحرّك ولا تدور ، لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا)(٢).

قوله تعالى : (بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

[٢ / ٩٢٦] أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال : العالم الّذي قد كمل في علمه (٣).

[٢ / ٩٢٧] وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن سعيد بن جبير في قول الله : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) قال : يعني من أعمالكم عليم (٤).

[٢ / ٩٢٨] وأخرج ابن الضريس عن ابن مسعود قال : إنّ أعدل آية في القرآن آخرها اسم من أسماء الله تعالى (٥).

كلام عن السماوات السبع والأرضين السبع

استوفينا الكلام عن السماوات السبع والأرضين السبع في كتابنا «شبهات وردود» (الجزء السابع من التمهيد) ننقله هنا حرفيّا مع بعض التغيير :

سبع سماوات علا

قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) ـ إلى قوله : ـ (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ)(٦).

ظاهر التعبير أنّ السماوات السبع هي أجواء وأفضية متراكبة بعضها فوق بعض ، لتكون الجميع محيطة بالأرض من كلّ الجوانب (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً)(٧). حيث الفوقيّة بالنسبة إلى جسم

__________________

(١) الردّ على الجهمية : ٢٤ وكذا في الدرّ ١ : ١٠٩ ، إلى قوله : وسيّد الأرضين الأرض التي أنتم عليها.

(٢) التبيان ١ : ١٢٥ ، وتنظّر فيه الشيخ وكذا الطبرسي ؛ مجمع البيان ١ : ١٤٤.

(٣) الطبري ١ : ٢٨٢ / ٤٩٩.

(٤) ابن أبي حاتم ١ : ٧٥ / ٣١٢.

(٥) الدرّ ١ : ١١٠.

(٦) الملك ٦٧ : ٣ ـ ٥.

(٧) النبأ ٧٨ : ١٢.

٣١٢

كريّ ـ هي الأرض ـ إنّما تعني الإحاطة بها من كلّ جانب.

وأيضا فإنّ السماء الدنيا ـ وهو الفضاء الفسيح المحيط بالأرض ـ هي الّتي تزيّنت بزينة الكواكب (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها)(١). والظاهر يقتضي التركيز فيها ، وإن كان من المحتمل تجلّلها بما تشعّ عليها الكواكب من أنوار!

ويبدو أنّ هذا الفضاء الواسع الأرجاء ـ بما فيه من أنجم زاهرة وكواكب مضيئة لامعة ـ هي السماء الاولى الدنيا ، ومن ورائها أفضية ستّ في أبعاد مترامية ، هي مليئة بالحياة لا يعلم بها سوى صانعها الحكيم. (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(٢).

والعقل لا يفسح المجال لإنكار ما لم يبلغه العلم ، وهو في بدء مراحله الآخذة إلى الكمال.

نعم ، يزداد العلم يقينا ـ كلّما رصد ظاهرة كونيّة ـ أنّ ما بلغه ضئيل جدّا بالنسبة إلى ما لم يبلغه ، وتزداد ضآلة كلّما تقدّم إلى الأمام. حيث عظمة فسحة الكون تزداد ابّهة وكبرياء كلّما كشف عن سرّ من أسرار الوجود وربما إلى غير نهاية ، لا سيّما والكون في اتّساع مطّرد : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)(٣).

هذا وقد حاول بعضهم ـ في تكلّف ظاهر ـ التطبيق مع ما بلغه العلم قديما وفي الجديد من غير ضرورة تدعو إلى ذلك. ولعلّ الأناة ، حتّى يأتي يوم يساعد التوفيق على حلّ هذا المجهول من غير تكلّف ، كانت أفضل.

يقول سيّد قطب : لا ضرورة لمحاولة تطبيق هذه النصوص على ما يصل إليه علمنا ، لأنّ علمنا لا يحيط بالكون حتّى نقول على وجه التحقيق : هذا ما يريده القرآن. ولن يصحّ أن نقول هكذا إلّا يوم يعلم الإنسان تركيب الكون كلّه علما يقينيّا ، وهيهات ... (٤).

وإليك بعض محاولات القوم : حاول بعض القدامى تطبيق التعبير الوارد في القرآن على فرضيّة بطلميوس لهيئة الأفلاك الّتي هي مدارات الكواكب فيما حسبه حول الأرض (٥). ولكن من غير

__________________

(١) ق ٥٠ : ٦.

(٢) الإسراء ١٧ : ٨٥.

(٣) الذاريات ٥١ : ٤٧.

(٤) في ظلال القرآن ٢٨ : ١٥٢.

(٥) زعموا أنّ الأرض في مركز العالم ، وأنّ القمر وعطارد والزهرة والشمس والمرّيخ والمشتري وزحل سيّارات حولها ، في مدارات هي أفلاك متراكبة بعضها فوق بعض بنفس الترتيب. وكلّ واحد منها في فلك دائر حول الأرض من الغرب إلى

٣١٣

جدوى. لأنّ الأفلاك في فرضيّته تسعة ، ومن ثمّ أضافوا على السماوات السبع ـ الواردة في القرآن ـ العرش والكرسي ليكتمل التسع ويحصل التطابق بين القرآن وفرضيّة أساسها الحدس والتخمين المجرّد.

وأمّا المحدثون فحاولوا التطبيق على النظرة الكوبر نيكيّة الحديثة ، حيث الشمس هي نواة منظومتها والكرات دائرة حولها ومنها الأرض مع قمرها (١).

__________________

ــ الشرق في حركة معاكسة لحركتها اليومية من الشرق إلى الغرب على أثر تحريك الفلك التاسع ، المسمّى عندهم بفلك الأفلاك أو بالفلك الأطلس ، لعدم وجود نجم فيه. وأمّا النجوم الثوابت فهي مركوزة في الفلك الثامن. فهذه تسعة أفلاك محيطة بالأرض بعضها فوق بعض.

وهكذا جاء في إنجيل برنابا من كلام المسيح عليه‌السلام : أنّ السماوات تسع ، فيها السيّارات ، وتبعد إحداها عن الاخرى مسيرة خمسمائة عام.

ولمّا ترجمت فلسفة اليونان إلى العربية ، ودرسها علماء الإسلام وثقوا بأنّ الأفلاك تسعة ، وقال بعضهم : هي سبع سماوات ، والكرسي فلك الثوابت ، والعرش هو الفلك المحيط.

والغريب أنّ مثل محيي الدين ابن عربي اغترّ بهذه الغريبة وحسبها حقيقة وبنى عليها معارفه الإشراقية فيما زعم. (راجع : الفتوحات المكيّة ٣ : ٤١٦ و ٤٣٣ ، الباب ٣٧١ والفصل الثالث منه ، وكذا الفصّ الإدريسي من فصوص الحكم ١ : ٧٥). وهكذا شيخنا العلّامة بهاء الدين العاملي في كتابه تشريح الأفلاك ، وهو عجيب!

ولقد أعجبني كلام أبي الحسن علي بن عيسى الرّمّاني المعتزلي في تفسير الآية ، حيث أنكر إرادة الأفلاك البطلميوسيّة من السماوات السبع في القرآن ، محتجّا بأنّه تفسير يخالف ظاهر النصّ. راجع : التبيان ١ : ١٢٧.

(١) جاءت النظريّة على الأساس التالي :

١ ـ الشمس : نواة المنظومة.

٢ ـ نجمة فلكان : بعدها عن الشمس ١٣ مليون ميلا ، ودورها المحوري ١٨ ساعة ، ودورها حول الشمس ٢٠ يوما.

٣ ـ كوكب عطارد : بعدها ٣٥ مليون ميلا ، دورها المحوري ٢٤ ساعة و ٥ دقائق ، حول الشمس ٨٨ يوما.

٤ ـ الزهرة : بعدها ٦٦ مليون ميلا ، دورها المحوري ٢٣ ساعة و ٢٢ دقيقة ، حول الشمس ٢٢٥ يوما.

٥ ـ الأرض : بعدها ٩٣ مليون ميلا ، دورها المحوري ٢٤ ساعة ، حول الشمس ٣٦٥ يوما.

٦ ـ المرّيخ : بعدها ١٤٠ مليون ميلا ، دورها المحوري ٢٤ ساعة و ٣٨ دقيقة ، حول الشمس ٦٨٧ يوما.

٧ ـ المشتري : بعدها ٤٧٦ مليون ميلا ، دورها المحوري ١٠ ساعات حول الشمس ١٢ سنة.

٨ ـ زحل : بعدها ٨٧٦ مليون ميلا ، دورها المحوري ١٠ ساعات و ١٥ دقيقة ، حول الشمس ٢٩ سنة ونصفا.

٣١٤

زعموا أنّ المراد بالسماوات السبع ، هي الأجرام السماوية ، الكرات الدائرة حول الشمس ، ترى فوق الأرض في أفقها ، فالسماوات ـ في تعبير القرآن على هذا الفرض ـ هي الأجرام العالقة في جوّ السماء. (وكان جديرا أن يقال ـ بدل السماوات ـ السماويّات).

يقول الشيخ الطنطاوي : هذا هو الّذي عرفه الإنسان اليوم من السماوات. فقايس بين ما ذكره علماء الإسكندريّة بالأمس ، وبين ما عرفه الإنسان الآن. إنّ عظمة الله تجلّت في هذا الزمان. إذن فما جاء في إنجيل برنابا مبنيّا على علم الإسكندرون أصبح لا قيمة له بالنسبة للكشف الحديث الّذي يوافق القرآن (١).

ويزداد تبجّحا قائلا : إذن دين الإسلام صار الكشف الحديث موافقا له. وهذه معجزة جديدة جاءت في زماننا.

ثمّ يورد أسئلة وجّهت إليه ، منها : التعبير بالسبع. فيجيب : أنّ العدد غير حاصر ، فسواء قلت سبعا أو ألفا فذلك كلّه صحيح. إذ كلّ ذلك من فعل الله دالّ على جماله وكماله.

وأخيرا يقول : إنّ ما قلناه ليس القصد منه أن يخضع القرآن للمباحث [العلميّة] فإنّه ربما يبطل المذهب الحديث كما بطل المذهب القديم ، فالقرآن فوق الجميع. وإنّما التطبيق كان ليأنس المؤمنون بالعلم ولا ينفروا منه لظاهر مخالفته لألفاظ القرآن في نظرهم (٢).

وللسيّد هبة الدين الشهرستاني ـ علّامة بغداد في عصره ـ محاولة اخرى للتطبيق ، ففرض من كلّ كرة دائرة حول الشمس ومنها الأرض أرضا والجوّ المحيط بها سماء. فهناك أرضون سبع وسماوات سبع. الاولى هي أرضنا وسماؤها الغلاف الهوائي المحيط بها. والأرض الثانية هي الزهرة وسماؤها الغلاف البخاري المحيط بها. والثالثة : عطارد وسماؤها المحيط بها. الرابعة : المرّيخ وسماؤها المحيط بها. الخامسة : المشتري وسماؤها المحيط بها. السادسة : زحل وسماؤها المحيط بها. السابعة : أورانوس وسماؤها المحيط بها.

__________________

ــ ٩ ـ أورانوس : بعدها ١٧٥٣ مليون ميلا ، دورها المحوري ١٠ ساعات ، حول الشمس ٨٤ سنة واسبوعا.

١٠ ـ نبتون : بعدها ٢٧٤٦ مليون ميلا ، دورها المحوري مجهول ، حول الشمس ١٦٤ سنة و ٢٨٥ يوما.

راجع : الهيئة والإسلام للسيّد هبة الدين الشهرستاني : ٦١ ـ ٦٢.

(١) تفسير الجواهر ١ : ٤٩ ، الطبعة الثانية.

(٢) المصدر : ٥٠ ـ ٥١ بتصرّف وتلخيص.

٣١٥

قال : ترتيبنا المختار تنطبق عليه مقالات الشريعة الإسلاميّة ويوافق الهيئة الكوبر نيكيّة. (١)

وأسند ذلك إلى حديث عن الإمام الرضا عليه‌السلام سنوافيك به عند الكلام عن الأرضين السبع.

وذكر الحجّة البلاغي أنّ السماوات السبع لا يمتنع انطباقها على كلّ واحدة من الهيئتين القديمة والجديدة ، فيمكن أن يقال على الهيئة القديمة : إنّ السماوات السبع هي أفلاك السيّارات السبع ، وإنّ فلك الثوابت هو الكرسي في قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)(٢). وإنّ الفلك الأطلس المدير ـ على ما زعموا ـ هو العرش في قوله تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(٣).

ويمكن أن يقال على الهيئة الجديدة : إنّ السماوات السبع هي أفلاك خمس من السيّارات مع فلكي «الأرض» و «فلكان» والعرش والكرسي هما فلكا «نبطون» و «اورانوس». وأمّا الشمس فهي مركز الأفلاك. والقمر تابع للأرض وفلكه جزء من فلكها (٤).

قال : والحاصل أنّ كلّا من وضعي الهيئة القديمة والجديدة يمكن من حيث انطباق الحركات المحسوسة عليه. ولكنّه يمكن أن يتعدّاه التحقيق إلى وضع ثالث ورابع ، فلا يحسن الجزم بشيء ما لم يشاهد بالتفصيل أو بصراحة الوحي. لكنّ الحكمة تقتضي أن لا يتولّى الوحي بصراحته بالتفصيل (٥).

وبعد ، فالطريقة السليمة هي الّتي سلكها سيّدنا العلّامة الطباطبائي ، يقول :

إنّ المستفاد من ظاهر الآيات الكريمة ـ وليست نصّا ـ أنّ السماء الدنيا هي عالم النجوم والكواكب فوقنا. وأنّ السماوات السبع هي أجواء متطابقة أقربها منّا عالم النجوم. ولم يصف لنا القرآن شيئا من الستّ الباقية سوى أنّها طباق. وليس المراد بها الأجرام العلويّة سواء من منظومتنا الشمسيّة أو غيرها.

وما ورد من كون السماوات مأوى الملائكة يهبطون منها ويعرجون إليها ولها أبواب تفتّح لنزول البركات ، كلّ ذلك يكشف عن أنّ لهذه الأمور نوع تعلّق بها لا كتعلّقها بالجسمانيّات. فإنّ للملائكة عوالم ملكوتيّة مترتّبة سمّيت سماوات سبعا ، ونسب ما لها من الآثار إلى ظاهر هذه

__________________

(١) الهيئة والإسلام : ١٧٧ ـ ١٧٩.

(٢) البقرة ٢ : ٢٥٥.

(٣) المؤمنون ٢٣ : ٨٦.

(٤) الهدى إلى دين المصطفى للبلاغي ٢ : ٧.

(٥) المصدر ٢ : ٦.

٣١٦

السماوات بلحاظ ما لها من العلوّ والإحاطة والشمول ، وهو تسامح في التعبير ، تقريبا إلى الأذهان الساذجة (١).

ولبعض العلماء الباحثين في المسائل الروحيّة في إنجلترا ـ (هو : جيمس آرثر فندلاي من مواليد ١٨٨٣ م) ـ تصوير عن السماوات السبع يشبه تصويرنا بعض الشيء : يرى من كرة الأرض واقعة في وسط أبهاء وأفضية تحيط بها من كلّ الجوانب ، في شكل كرات متخلّلة بعضها بعضا ومتراكبة إلى سبعة أطباق ، كلّ طبقة ذات سطحين أعلى وأسفل ملؤما بينهما الحياة النابضة. يسمّى المجموع العالم الأكبر الّذي نعيش فيه ، نحن في الوسط على وجه الأرض. وهذه الأجواء المتراكبة تحيط بنا طباقا بعضها فوق بعض إلى سبع طبقات ، وإن شئت فعبّر بسبع سماوات ، لأنّها مبنيّة في جهة أعلى فوق رؤوسنا. وإليك الصورة حسبما رسمها في كتابه «الكون المنشور» :

شكل الأرض في الوسط تحيط بها سبعة أطباق هي سماوات على :

__________________

(١) الميزان ١٧ : ٣٩٢ ـ ٣٩٣.

٣١٧

في هذا الشكل ـ كما رسمه «جيمس آرثر فندلاي» ـ نجد العالم الأكبر في صورة أبهاء متراكبة بعضها فوق بعض مملوءة بالحياة ، ويرى الحياة في حركتها إلى أعلى وأسفل في شكل خطوط منحنية على السطوح. وتمثّل الصلبان الصغيرة الحياة على الأرض. أمّا النقط فتمثّل الحياة الأثيرية ويلاحظ أنّها ليست مقصورة على السطوح وحدها ، لأنّ الأفضية بين السطوح ملؤها الحياة سابحة فيها! (١).

مسائل ودلائل

هنا عدّة أسئلة تستدعي الوقوف لديها :

١ ـ (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)

قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٢).

وقال : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٣).

هلّا كان التعبير بالفلك متابعة لما حسبه بطلميوس؟

قلت : لا ، لأنّ الفلك لفظة عربيّة قديمة يراد بها الشيء المستدير ، ومن الشيء مستداره. قال ابن فارس : الفاء واللام والكاف أصل صحيح (٤) يدلّ على استدارة في شيء. من ذلك «فلكة المغزل» لاستدارتها. ولذلك قيل : فلك ثدي المرأة ، إذا استدار. ومن هذا القياس : فلك السماء (٥).

إذن ، فكما أنّ السماء مستديرة حتّى في شكلها الظاهري ، فكلّ ما يسبح في فضائها يسير في مسلك مستدير. وبذلك صحّت استعارة هذا اللفظ.

والدليل على أنّها استعارة هو استعمال اللفظة بشأن الليل والنهار أيضا. أي أنّ لكلّ ظاهرة من الظواهر الكونيّة مجراها الخاصّ وفي نظام رتيب لا تجور ولا تحور.

__________________

(١) راجع : ملحق كتابه «على حافّة العالم الأثيري» ترجمة أحمد فهمي أبو الخير (ط ٣) : ١٩٩.

(٢) الأنبياء ٢١ : ٣٣.

(٣) يس ٣٦ : ٤٠.

(٤) مقصوده من الأصل : كونها ذات أصالة عربيّة وليست مستعارة من لغة أجنبيّة.

(٥) معجم مقاييس اللغة ٤ : ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

٣١٨

وقد سبق حديث الرمّاني : أنّ السماوات غير الأفلاك المفروضة عند القدماء (١).

٢ ـ (فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ)

قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ)(٢).

أو هل كانت الطرائق هنا هي مدارات الأفلاك البطلميوسيّة؟

قلت : كلّا ، إنّها الطرائق بمعنى مجاري الامور في التدبير والتقدير والّتي هي محلّها السماوات العلى.

الطرائق : جمع الطريقة بمعنى المذهب والمسلك الفكري والعقائدي وليس بمعنى سبيل الاستطراق على الأقدام. ولم تستعمل في القرآن إلّا بهذا المعنى :

يقول تعالى ـ حكاية عن لسان الجنّ ـ : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً)(٣). أي مذاهب شتّى.

(وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى)(٤). أي بمذهبكم القويم الأفضل.

(إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً)(٥). وذاك يوم الحشر يتخافت المجرمون : كم لبثوا؟ فيقول بعضهم : عشرا. ويقول أعقلهم وأفضلهم بصيرة : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً).

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)(٦). أي الطريقة المثلى والمذهب الحقّ.

فالمقصود بالطرائق ـ في الآية الكريمة ـ هي طرائق التدبير والتقدير ، المتّخذة في السماوات حيث مستقرّ الملائك المدبّرات أمرا والمقسّمات (٧). (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ)(٨)(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ)(٩). أي تقدير أرزاقكم وكلّما قدّر لكم من مجاري الامور. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)(١٠). (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(١١).

__________________

(١) راجع : التبيان ١ : ١٢٥ والرمّاني هو أبو الحسن عليّ بن عيسى المعتزلي النحوي المشهور. توفّي : ٣٨٢.

(٢) المؤمنون ٢٣ : ١٧.

(٣) الجنّ ٧٢ : ١١.

(٤) طه ٢٠ : ٦٣.

(٥) طه ٢٠ : ١٠٤.

(٦) الجنّ ٧٢ : ١٦.

(٧) النازعات ٧٩ : ٥. والذاريات ٥١ : ٤.

(٨) السجدة ٣٢ : ٥.

(٩) الذاريات ٥١ : ٢٢.

(١٠) يونس ١٠ : ٣.

(١١) الحجر ١٥ : ٢١.

٣١٩

فالتدبير في السماء ثمّ التنزيل إلى الأرض (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ)(١). (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)(٢). ومن ثمّ تعقّب الآية بقوله تعالى : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ).

قال العلّامة الطباطبائي : أي لستم بمنقطعين عنّا ولا بمعزل عن مراقبتنا وتدبيرنا لشؤونكم ، فهذه الطرائق السبع إنّما جعلت ليستطرقها رسل ربّكم في التقدير والتدبير والتنزيل (٣).

٣ ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ)

ماذا يعني بذات الحبك؟

الحبك : جمع الحبيكة بمعنى الطريقة المتّخذة. قال الراغب : فمنهم من تصوّر منها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرّات ، ومنهم من اعتبر ذلك بما فيه من الطرائق المعقولة المدركة بالبصيرة.

والحبك : المنعطفات على وجه الماء الصافي تحصل على أثر هبوب الرياح الخفيفة. وهي تكسّرات على وجه الماء كتجعّدات الشعر. ويقال للشعر المجعّد : حبك والواحد حباك وحبيكة. قاله الشيخ أبو جعفر الطوسي في التبيان.

من ذلك قول زهير يصف روضة :

مكلّل باصول النجم تنسجه

ريح خريق لضاحي مائه حبك

مراده بالنجم ، النبات الناعم. وشبّه تربية الرياح له بالنسج ، كأنّه إكليل (تاج مزيّن بالجواهر) نسجته الريح. ووصف الريح بالخريق ، وهو العاصف.

ثمّ وصف ضاحي مائه ـ وهو الصافي الزلال ـ بأنّ على وجهه قسمات وتعاريج على أثر مهبّ الرياح عليه ، وهو منظر بهيج.

فعلى احتمال إرادة التعرّجات المتأرجحة من الآية ، فهي إشارة إلى تلكم التعرّجات النوريّة الّتي تجلّل كبد السماء زينة لها وبهجة للناظرين ، فسبحان الصانع العظيم!

٤ ـ (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً)(٤)

في هذه الآية توجّه الخطاب إلى عامّة الناس ولا سيّما الامم السالفة الجاهلة حيث لا يعرفون

__________________

(١) مريم ١٩ : ٦٤.

(٢) القدر ٩٧ : ٤.

(٣) راجع : الميزان ١٥ : ٢١.

(٤) نوح ٧١ : ١٥.

٣٢٠