التفسير الأثري الجامع - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-03-6
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

فالتعبير عن نعيم الجنّة بالحور والقصور والأشجار والأنهار ، وكذا التعبير بالجحيم والسجّين والنار والقطران ، وإن كان تنمّ عن حقائق راهنة لا محيص عنها ، لكنّه ليس بنفس المفاهيم المعهودة لدينا ونحن في هذه الحياة. إذ الكائنات في تلك الحياة إنّما تشبه الكائنات المادّيّة اسما فقط ومن غير أن تكون من سنخها ومن جنسها بالوصف المعهود ، وإنّما هي مماثلة اسما ومغايرة سنخا.

وعليه فجميع ما جاء في روايات في هذا السبيل ـ والّتي سلفت ـ فإن صحّت فلا بدّ من تأويلها بضرب من التأويل وحملها على التشبيه والتمثيل ، لا الأخذ بنفس المفاهيم ـ وأكثرها ممّا يمجّ منها الطبع ـ ومن غير نكران لأصل حقيقتها المجهولة لدينا تماما.

قوله تعالى : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ)

[٢ / ٨٠٧] أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) قال : أي خالدون أبدا. يخبرهم أنّ الثواب بالخير والشرّ مقيم على أهله لا انقطاع له (١).

[٢ / ٨٠٨] وأخرج أحمد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) قال : يعني لا يموتون (٢).

[٢ / ٨٠٩] وروى الكليني بإسناده عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن القاسم بن محمّد عن المنقري عن أحمد بن يونس عن أبي هاشم قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبدا ، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا ، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء ، ثمّ تلا قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ)(٣). قال : على نيّته» (٤).

__________________

(١) الدرّ ١ : ١٠٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٥٩ / ٨٣٢ ، في تفسير الآية ٨١ ـ ٨٢ ، من سورة البقرة ؛ الطبري ١ : ٥٤٧ / ١١٩٠ ، في تفسير الآية ٨٢ ، من سورة البقرة.

(٢) الدرّ ١ : ١٠٢ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٤٧ / ٢٩٠٤ ، في تفسير الآية ٢٧٥ من سورة البقرة.

(٣) الإسراء ١٧ : ٨٤.

(٤) الكافي ٢ : ٨٥ / ٥ كتاب الإيمان والكفر ، باب النية ؛ المحاسن ٢ : ٣٣٠ ـ ٣٣١ / ٩٤ ؛ علل الشرائع ٢ : ٥٢٣ / ١ ، باب ٢٩٩ : العلّة الّتي من أجلها يخلد من يخلد في الجنّة و... ؛ البحار ٦٧ : ٢٠١ / ٥ ؛ كنز الدقائق ١ : ٢٨٠ ـ ٢٨١.

٢٦١

وسوف نبحث عن مسألة الخلود ، في كلا شقّي المثوبة والعقوبة ، ذيل الآية ٣٩ الآتية من نفس السورة إن شاء الله.

[٢ / ٨١٠] وروى القميّ في حديث طويل عنه عليه‌السلام عند قوله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً)(١) يذكر فيه أحوال المتقين بعد دخولهم الجنّة وفيه : «ثمّ يرجعون إلى عين أخرى عن يسار الشّجرة فيغتسلون منها فهي عين الحياة فلا يموتون أبدا» (٢).

[٢ / ٨١١] وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عبّاس : أنّ نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله عزوجل : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ؟) قال : ماكثون لا يخرجون منها أبدا. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ؛ أما سمعت قول عديّ بن زيد :

فهل من خالد إما هلكنا

وهل بالموت يا للناس عار (٣)

[٢ / ٨١٢] وأخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وابن مردويه عن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يدخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار. ثمّ يقوم مؤذّن بينهم : يا أهل النار لا موت ، ويا أهل الجنة لا موت ، كلّ خالد فيما هو فيه» (٤).

[٢ / ٨١٣] وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقال لأهل الجنّة : خلود ولا موت ، ولأهل النار : خلود ولا موت» (٥).

[٢ / ٨١٤] وأخرج عبد بن حميد وابن ماجة والحاكم وصحّحه وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يؤتى بالموت في هيئة كبش أملح ، فيوقف على الصراط فيقال : يا أهل الجنّة! فيطّلعون خائفين وجلين ، مخافة أن يخرجوا ممّا هم فيه ، فيقال : تعرفون هذا؟ فيقولون : نعم ، هذا

__________________

(١) مريم ١٩ : ٨٥.

(٢) القميّ ٢ : ٥٤ ، سورة مريم ، الآية ٨٥ ؛ الكافي ٨ : ٩٦ ؛ البحار ٧ : ١٧٢ / ٢ ؛ كنز الدقائق ١ : ٢٨٠.

(٣) الدرّ ١ : ١٠٢.

(٤) الدرّ ١ : ١٠٢ ؛ البخاري ٧ : ١٩٩ ، كتاب الرقاق ، باب ٥٠ ، نقلا عن ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ مسلم ٨ : ١٥٣ ، باختلاف ، كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها ، باب النار يدخلها الجبّارون والجنّة يدخلها الضعفاء بلفظ : أنّ عبد الله قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يدخل الله أهل الجنّة الجنّة ....

(٥) الدرّ ١ : ١٠٢ ؛ البخاري ٧ : ١٩٩ ـ ٢٠٠ ، كتاب الرقاق ، باب ٥٠.

٢٦٢

الموت ، فيقال : يا أهل النار ، فيطّلعون مستبشرين فرحين أن يخرجوا ممّا هم فيه ، فيقال : أتعرفون هذا؟ فيقولون : نعم ، هذا الموت ، فيؤمر به فيذبح على الصراط ، فيقال للفريقين : خلود فيما تجدون لا موت فيها أبدا» (١).

[٢ / ٨١٥] وأخرج الطبراني والحاكم وصحّحه عن معاذ بن جبل ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثه إلى اليمن ، فلمّا قدم عليهم قال : «يا أيّها الناس ، إنّي رسول الله إليكم ، إنّ المردّ إلى الله ، إلى جنّة أو نار ، خلود بلا موت ، وإقامة بلا ظعن ، في أجساد لا تموت» (٢).

[٢ / ٨١٦] وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو قيل لأهل النار إنّكم ماكثون في النار عدد كلّ حصاة في الدنيا لفرحوا بها ، ولو قيل لأهل الجنّة إنّكم ماكثون عدد كلّ حصاة لحزنوا. ولكن جعل لهم الأبد» (٣).

[٢ / ٨١٧] وروي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أهل الجنّة جردمرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم» (٤).

__________________

(١) الدرّ ١ : ١٠٢ ؛ ابن ماجة ٢ : ١٤٤٧ / ٤٣٢٧ ، باب ٣٨ ، كتاب الزهد ، باب صفة النار ، باختلاف ؛ الحاكم ١ : ٨٣ ، كتاب الإيمان ؛ مسند أحمد ٢ : ٢٦١ ؛ ابن حبّان ١٦ : ٤٨٦ ـ ٤٨٧ / ٧٤٥٠ ، كتاب إخباره عن مناقب الصحابة ، باب ٥ ؛ كنز العمّال ١٤ : ٥١٦ / ٣٩٤٥٣.

(٢) الدرّ ١ : ١٠٢ ؛ الكبير ٢٠ : ١٧٥ / ٣٧٥ ، باختلاف ، (المراسيل عن معاذ بن جبل) ؛ الأوسط ٢ : ١٨١ / ١٦٥١ ، بتفاوت ؛ الحاكم ١ : ٨٣ ، بتفاوت ؛ مجمع الزوائد ١٠ : ٣٩٦ ، قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير والأوسط بنحوه وزاد فيه «في أجساد لا تموت» وإسناد الكبير جيّد إلّا أنّ ابن سابط لم يدرك معاذا ؛ كنز العمّال ١٦ : ٥ / ٤٣٦٨١.

(٣) الدرّ ١ : ١٠٢ ؛ الكبير ١٠ : ١٧٩ ـ ١٨٠ / ١٠٣٨٤ ؛ حلية الأولياء ٤ : ١٦٨ ، ترجمة ٢٦٩ (مرّة بن شراحيل) ؛ مجمع الزوائد ١٠ : ٣٩٦ ؛ كنز العمّال ١٤ : ٥٣٢ / ٣٩٥٣٠.

(٤) البغوي ١ : ٩٨ ؛ / ٤٤ ؛ الدارمي ٢ : ٣٣٥ ؛ كنز العمّال ١٤ : ٤٧١ / ٣٩٣٠١.

٢٦٣

قال تعالى :

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))

هنا يأتى دور الحديث عن الأمثال الّتي يضربها الله في القرآن :

هذه الآية تشي بأنّ المنافقين الّذين ضرب الله لهم مثل الّذي استوقد نارا ، ومثل الصيّب الّذي فيه ظلمات ورعد وبرق ـ أضف إليهم اليهود وكذلك المشركين ـ قد اتّخذوا من ورود هذه الأمثال في هذه المناسبة ، وأمثال أخرى جاءت في السور المكّيّة كالّذي ضربه الله مثلا للذين كفروا بربّهم (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١). وكالّذي ضربه الله مثلا لعجز آلهتهم المدّعاة عن خلق الذباب : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)(٢).

فهؤلاء وهؤلاء قد وجدوا في هذه المناسبة منفذا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن ، بحجّة أنّ ضرب الأمثال هكذا بما فيها من تحقير لهم وسخريّة منهم لا تصدر عن الله ، وأنّ الله لا يذكر هذه الأشياء الصغار كالذباب والعنكبوت في كلامه المتعالي الحكيم! وكان هذا طرفا من هجمة التشكيك وإيجاد البلبلة في نفوس العامّة ، والّتي يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة ، ومن قبلهم المشركون في مكّة.

فجاءت هذه الآيات دفعا لهذا الدسّ الخبيث ، وبيانا لحكمة الله في ضرب الأمثال ، وتحذيرا للمعاندين من عاقبة الاستدراج بها ، وتطمينا للمؤمنين أن ستزيدهم إيمانا وتثبيتا :

__________________

(١) العنكبوت ٢٩ : ٤١.

(٢) الحجّ ٢٢ : ٧٣.

٢٦٤

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها).

فالله ربّ الصغير والكبير وخالق البعوضة والفيل ، والمعجزة في خلق البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل. إنّها معجزة الحياة ، معجزة السرّ المغلق الّذي لا يعلمه إلّا الله. على أنّ العبرة في المثل ليست في الحجم والشكل ، إنّما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير ، وليس في ضرب المثل ما يعاب أو يستدعي الاستحياء ، والله ـ جلّت حكمته ـ يريد بها اختبار القلوب وامتحان النفوس :

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ).

ذلك أنّ إيمانهم بالله يجعلهم يتلقّون كلّ ما يصدر عنه بما يليق بجلاله ؛ وبما يعرفون من حكمته ، وقد وهبهم الإيمان نورا في قلوبهم ، وحسّاسيّة في أرواحهم ، وتفتّحا في مداركهم ، واتّصالا بالحكمة الإلهيّة في كلّ أمر وفي كلّ قول يجيئهم من عند الله.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً)؟!

وهذا سؤال المحجوب عن نور الله وحكمته ، المقطوع الصّلة بسنّة الله وتدبيره. ثمّ هو سؤال من لا يرجو لله وقارا ، ولا يتأدّب معه الأدب اللائق بالعبد أمام تصرّفات الربّ. يقولونها في جهل وقصور في صيغة الاعتراض والاستنكار ، أو في صورة التشكيك وإيجاد البلبلة في نفوس الضعفاء!

هنا يجيئهم الجواب في صورة تهديد وتحذير بماوراء المثل من تقدير وتدبير :

(يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ).

والله ـ سبحانه ـ يطلق الابتلاءات والامتحانات تمضي في طريقها ، ويتلقّاها عباده ، كلّ وفق طبيعته واستعداده ، وكلّ حسب طريقه ومنهجه الّذي اتّخذه لنفسه. والابتلاء واحد. ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف المنهج والطريق. فالشدّة تزيد المؤمن الواثق بالله التجاء إليه وتقرّبا لديه ، وأمّا الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعدا وتخرجه من الصفّ إخراجا.

***

وتبيينا لموضع الفاسق الّذي يأخذ به الضلال حيث مهوى الخسران والدمار ، جاء الوصف التالى :

٢٦٥

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

جاء الوصف بصورة إجمال ، حيث المطلوب تشخيص الصورة في عمومها ، لا تسجيل واقعة بعينها. ومن ثمّ فالعهد المنقوض يتمثّل في عهود كثيرة تعود إلى ميثاق الفطرة والاستخلاف وتعليم الأسماء وإيداع ودائع الله والتزويد بإرسال الرسل وإنزال الشرائع وهكذا.

وعلى أثره فيقومون بقطع الأواصر والإفساد في الأرض ، وبالتالي تعود الخسارة إليهم بالذات ، حيث خسرت صفقتهم في الحياة (١).

كلام عن ضرب الأمثال في القرآن

ضرب المثل في القرآن يعدّ من روائع بيانه الحكيم ، حيث تقريبه للمعاني إلى الأذهان وتجسيده للمفاهيم بصورة عيان. وقد قيل قديما : المثال يقرّب المقال.

قال نظام الدين النيسابوري القمي : ونحن نرى أنّ الإنسان قد يذكر معنى فلا يلوح كما ينبغي ، فإذا ذكر المثال اتّضح وانكشف ، وذلك أنّ من طبع الخيال حبّ المحاكاة ، فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال ، وإذا ذكر التشبيه معه أدركه العقل مع معاونة الخيال ، ولا شكّ أنّ الثاني يكون أكمل. وإذا كان التمثيل يفيد زيادة البيان والإيضاح ، وجب ذكره في الكتاب الّذي أنزل تبيانا لكلّ شيء (٢).

وقال الشيخ عبد القاهر الجرجاني : اتّفق العقلاء على أنّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه ، ونقلت عن صورها الأصليّة إلى صورة التمثيل ، كساها ابّهة ، وكسبها منقبة ، ورفع من أقدارها ، وشبّ من نارها ، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها ، ودعا القلوب إليها ، واستنار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفا ، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفا.

__________________

(١) راجع : في ظلال القرآن ١ : ٥٨ ـ ٦١.

(٢) تفسير غرائب القرآن للنيشابوري بهامش الطبري ١ : ١٩٩ ـ ٢٠٠.

٢٦٦

ثمّ جعل يعدّد فوائده في أنواع الكلام ، مدحا أو ذمّا ، حجاجا أو فخارا أو اعتذارا ، أو وعظا وإرشادا ، ونحو ذلك. قال :

فإن كان مدحا كان أبهى وأفخم ، وأنبل في النفوس وأعظم ، وأهزّ للعطف ، وأسرع للالف ، وأجلب للفرح ، وأغلب على الممتدح ، وأوجب شفاعة للمادح ، وأقضى له بغرّ المواهب والمنائح ، وأسير على الألسن وأذكر ، وأولى بأن تعلّقه القلوب وأجدر.

ومثاله في القرآن قوله تعالى ـ في وصف المؤمنين الّذين ثبتوا على الإيمان والجهاد في سبيله صفّا كأنّهم بنيان مرصوص ـ : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)(١).

فقد شبّه صلابة الإيمان بزرع نمى فقوي ، فخرج فرخه من قوّته وخصوبته ، فاشتدّ واستغلظ الزرع ، وضخمت ساقه وامتلأت ، فاستوى وازدهر. الأمر الّذي يبعث على الابتهاج والإعجاب من جهة ، وإغاظة الكفّار من جهة اخرى.

وقوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(٢).

قال الزمخشري : يجوز أن يكون تمثيلا ، لاستظهاره به ووثوقه بحمايته ، بامتساك المتدلّي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه (٣).

فقد شبّهت عرى الدين بوشائج وثيقة تربط الأمّة بعضها ببعض ، فكأنّ الشريعة المقدّسة حبل ممدود على طرف مهواة سحيقة ، والأمّة المتماسكة مستوثقون بعراها استيثاقا يأمن جانبهم من أخطار السقوط وينجيهم من مهاوي الضلال.

وقوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)(٤) شبّه الهدى بالنور ، والضلال بالظلمات ، والاهتداء بحالة الخروج من الظلمات إلى النور.

__________________

(١) الفتح ٤٨ : ٢٩.

(٢) آل عمران ٣ : ١٠٣.

(٣) الكشّاف ١ : ٣٩٤.

(٤) البقرة ٢ : ٢٥٧.

٢٦٧

وقوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)(١) شبّه الأولاد بأفراخ الطير تستذلّ لدى والديها تستطعمهما وتسترحمهما ، ودليلا على ذلك تبسط أجنحتها على الأرض خفضا وذلّا ، وهي من المبالغة في التشبيه وتصوير حالة الذلّ في موضع ينبغي الذلّ فيه بمكان.

وقوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)(٢) لو اعتبرنا التشبيه في جملة «فاصدع» فقد شبّهت شوكة المشركين وهيبتهم بصرح زجاجي ، وشبّهت الدعوة بمصادمة هذا الصرح ، وشبّه التأثير البليغ بالصدع ، وهو الأثر البيّن في الزجاجة المصدومة.

وهذا من تشبيه عدّة أشياء بأشياء مع إفاضة الحركة والفعل والانفعال. فقد شبّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إبلاغ دعوته للمشركين بمن يرمي بقذائفه إلى قلاع مبنيّة من زجاجات سريعة التكسّر والانهيار.

***

قال : وإن كان ذمّا كان مسّه أوجع وميسه ألذع ، ووقعه أشدّ وحدّه أحدّ ، كما جاء في قوله تعالى ـ في تصوير حالة من أوتي الهداية فرفضها لغيّه وانسلخ منها ـ : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)(٣) إنّه من التمثيل الرائع وفي نفس الوقت لاذع ، إنّه يمثّل مشهد إنسان يؤتيه الله آياته ويخلع عليه من فضله ويعطيه الفرصة للاكتمال والارتفاع ... ولكن ، ها هو ذا ينسلخ من هذا كلّه انسلاخا ، كمن ينسلخ عن أديم جلده بجهد ومشقّة ، ويتجرّد من الغطاء الواقي والدرع الحامي ، ويهبط من الافق العالي إلى سافل الأرض ، فيصبح غرضا للشيطان ، لا وقاية ولا حمى ، وإذا هو العوبة أو كرة قدم تتقاذفه الأقدار ، لا إرادة له ولا اختيار ، فمثله كمثل كلب هراش لا صاحب له ، ويلهث (٤) من غير هدف. ويتضرّع من غير أن يجد من يشفق عليه.

وهكذا جاء تصويره لمن حمّل ثقل الحقّ ولا يهتدي به بالحمار يحمل أسفارا ، هي أفضل ودائع الإنسان ، يئنّ بثقلها ولا يعي شرف محتواها : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)(٥).

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٢٤.

(٢) الحجر ١٥ : ٩٤.

(٣) الأعراف ٧ : ١٧٦.

(٤) اللهث : دلع اللسان عطشا أو تعبا.

(٥) الجمعة ٦٢ : ٥.

٢٦٨

فقد كلّفوا حمل أمانة الله في الأرض ، لكن القلوب الحيّة الواعية هي الّتي تطيق عبء هذه الأمانة ، وقد افتقدها هؤلاء فلم يصلحوا لحملها ومرافقتها.

***

وإن كان حجاجا كان برهانه أنور ، وسلطانه أقهر ، وبيانه أبهر. قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ)(١).

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٢).

قال ابن معصوم ـ في قوله تعالى : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)(٣) ـ : إنّه من التمثيل اللطيف ، مثّل الاغتياب بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله ، ثمّ لم يقتصر عليه حتّى جعله لحم الأخ وجعله ميّتا ، وجعل ما هو في غاية الكراهة موصولا بأخيه. ففيه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له مطابقة المعنى الّذي وردت لأجله : أمّا تمثيل الاغتياب بأكل لحم المغتاب فشديد المناسبة جدّا ، لأنّه ذكر مثالب الناس وتمزيق أعراضهم.

وأمّا قوله : (لَحْمَ أَخِيهِ) فلما في الاغتياب من الكراهة ، وقد اتّفق العقل والشرع على استكراهه.

وأمّا قوله (مَيْتاً) فلأجل أنّ المغتاب لا يشعر بغيبته ولا يحسّ بها (٤).

***

قال الشيخ عبد القاهر : وإن كان افتخارا كان شأوه أبعد ، وشرفه أجدّ ، ولسانه ألذّ ، قال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى

__________________

(١) العنكبوت ٢٩ : ٤١.

(٢) البقرة ٢ : ٢٦٤.

(٣) الحجرات ٤٩ : ١٢.

(٤) أنوار الربيع ٣ : ١٧٩.

٢٦٩

عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١).

وإن كان اعتذارا كان إلى القبول أقرب ، وللقلوب أخلب ، وللسخائم أسلّ ، ولغرب الغضب أفلّ ، وفي عقد العقود أنفث ، وعلى حسن الرجوع أبعث (٢).

وإن كان وعظا كان أشفى للصدر ، وأدعى إلى الفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر ، وأجدر بأن يجلي الغياية (٣) ويبصر الغاية ، ويبرئ العليل ويشفي الغليل.

قال تعالى ـ في وصف نعيم الدنيا وزوالها ـ : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً)(٤).

وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ. يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ)(٥).

وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ)(٦).

قال الجرجاني : وهكذا في سائر فنون الكلام وضروبه ومختلف أبوابه وشعوبه (٧).

***

وقال الزمخشري ـ عند تفسير قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ

__________________

(١) الزمر ٣٩ : ٦٧.

(٢) يقال : خلبه أي أصاب خلبه أي قلبه وسلبه إيّاه وفتنه. والسخائم : الضغائن. وسلّها : نزعها. وغرب السيف : حدّه. وفلّه : ثلمه. والنفث : النفخ مع التفل.

(٣) الغياية ـ بيائين ـ : كلّ ما يغطي الإنسان من فوق رأسه.

(٤) الحديد ٥٧ : ٢٠.

(٥) إبراهيم ١٤ : ٢٤ ـ ٢٧.

(٦) الزمر ٣٩ : ٢١.

(٧) أسرار البلاغة : ٩٢ ـ ٩٦.

٢٧٠

الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١) ـ : والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه ، تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير ، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز. وكذلك حكم ما يروى أنّ حبرا (٢) جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا أبا القاسم ، إنّ الله يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين والجبال على إصبع والشجر على إصبع وسائر الخلق على إصبع ، ثمّ يهزّهنّ فيقول : أنا الملك! فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعجّبا ممّا قال ...

قال : وإنّما ضحك أفصح العرب وتعجّب ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفهم منه إلّا ما يفهمه علماء البيان ، من غير تصوّر إمساك ولا إصبع ولا هزّ ولا شيء من ذلك ، ولكن فهمه وقع أوّل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة ، الّتي هي الدلالة على القدرة الباهرة ، وأنّ الأفعال العظام الّتي تتحيّر فيها الأفهام والأذهان ولا تكتنهها الأوهام ، هيّنة عليه هوانا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه ، إلّا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل. ولا ترى بابا في علم البيان أدقّ ولا أرقّ ولا ألطف من هذا الباب ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماويّة وكلام الأنبياء ، فإنّ أكثره وعليّته تخييلات قد زلّت فيها الأقدام قديما وما أتى الزالّون إلّا من قلّة عنايتهم بالبحث والتنقير حتّى يعلموا أنّ في عداد العلوم الدقيقة علما لو قدّروه حقّ قدره ، لما خفي عليهم أنّ العلوم كلّها مفتقرة إليه وعيال عليه ، إذ لا يحلّ عقدها المورّبة ولا يفكّ قيودها المكربة إلّا هو.

قال : وكم من آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول ، قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثّة والوجوه الرثّة ، لأنّ من تأوّل ليس من هذا العلم في عير ولا نفير ، ولا يعرف قبيلا منه من دبير (٣).

وعليه فالتمثيل في الكلام ضرب من الخيال جاء لبيان واقع الحال ، ترسيما وتجسيدا له في

__________________

(١) الزمر ٣٩ : ٦٧.

(٢) في الكشّاف : «جبرائيل» وهو تصحيف. والصحيح ما أثبتناه وفق ما في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث والتفسير. راجع : ابن كثير ٤ : ٦٢.

(٣) الكشّاف ٤ : ١٤٢ ـ ١٤٣.

٢٧١

مظهر العيان وحكاية عن أمر واقع ، وليس مجرّد تخييل صوّرته الأوهام. وهو أسلوب من أساليب البلاغة في البيان ، دفعت إليه حاجة العقل البشري عند ما حاول دعم البرهان بشاهد العيان.

انظر إلى قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ).

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١).

إنّه سبحانه وتعالى يريد أن يبيّن للناس أنّ الصدقة الّتي تبذل رياء والّتي يتبعها المنّ والأذى لا تثمر شيئا ولا تتبقّى ، فينقل هذا المعنى المجرّد في صورة حسّيّة متخيّلة على النهج الّذي جاء في الآية :

فمثله كمثل صفوان (صخرة صمّاء ملساء) غطّته طبقة خفيفة من التراب الناعم ، قد يزعم الزاعم إمكان الخصوبة عليه ، فإذا بوابل (مطر غزير ذو قطرات ثقيلة) أصابه بشدّة وأزال كلّ ما عليه من ضعيف الرجاء في الخصوبة. فبدلا من أن يعدّه للخصب والنماء ـ كما هو شيمة الأرض تجودها السماء ـ وكما هو منظور ، فإذا هو يتركه صلدا وتذهب تلك الطبقة الخفيفة الّتي كانت تستره وتخيّل فيه الخير والخصوبة.

ثمّ يمضي في التصوير لإبراز المعنى المقابل للرياء :

... كمثل جنّة بربوة (هضبة : أرض مرتفعة ذات خصوبة وبركة) أصابها مطر غزير فآتت أكلها (ثمرها) ضعفين.

فالصدقات الّتي تنفق ابتغاء مرضاة الله هي في هذه المرّة كجنّة ، لا كحفنة من تراب ، وإذا كانت حفنة التراب هناك على وجه صفوان ، فالجنّة هنا فوق ربوة.

وهكذا الوابل كان مشتركا بين الحالتين ، ولكنّه في الحالة الأولى يمحو ويمحق ، وفي الحالة الثانية يربي ويخصب.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

٢٧٢

وحتّى لو أنّ الوابل لم يصبها فإنّ فيها من الخصب والاستعداد للإنبات ما يجعل القليل من المطر يهزّها ويحييها : (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) (مطر ناعم خفيف).

وبعد فإنّ الآية ترسم مشهدا كاملا مؤلّفا من منظرين متقابلين شكلا ووضعا وثمرة. وفي كلّ منظر جزئيّات يتّسق بعضها مع بعض من ناحية فنّ الرسم وفنّ العرض ، ويتّسق كذلك مع ما يمثّله من المشاعر والمعاني الّتي رسم المنظر كلّه لتمثيلها وتشخيصها وإحيائها.

نحن في المنظر الأوّل أمام قلب صلد (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). فهو لا يستشعر نداوة الإيمان وبشاشته. ولكن يغطّي هذه الصلادة بغشاء من الرياء.

هذا القلب الصلد المغشيّ بالرياء يمثّله (صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ) صخر لا خصب فيه ولا ليونة ، يغطّيه تراب خفيف يحجب صلادته عن الأعين ، كالرياء يحجب صلادة القلب العاري عن الإيمان.

(فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً). فقد ذهب المطر الغزير بالتراب اليسير. فانكشف الصخر بجدبه وقساوته ، ومن غير أن يثمر شيئا.

أمّا المنظر الثاني ، فقلب عامر بالإيمان ، نديّ ببشاشته ، ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله. ينفقه عن ثقة ثابتة في الخير ، نابعة من الإيمان ، عميقة الجذور في الضمير. وهكذا قلب تمثّله جنّة خصبة عميقة التربة ذات البركة.

فإذ كان الوابل هناك في المنظر الأوّل قد ذهب بغشاء التراب ، فإنّه هنا جاء ليخصب وينمي ويثمر وينتشل ببركات الأرض.

(أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ) أحياها كما يحيي الصدقة ـ في سبيل رضا الله ـ قلب المؤمن فيزكو ويزداد صلة بالله ، كما يزكو ماله ويضاعف له الحسنات.

وحقّا إنّه المشهد الكامل ، المتقابل المناظر ، المنسّق الجزئيّات ، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء ، الممثّل بمناظره الشاخصة لكلّ خالجة في القلب وكلّ خاطرة في النفس ، المصوّر للمشاعر والوجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات ، الموحي للقلب باختبار الطريق في يسر عجيب!

ولمّا كان المنظر مجالا للبصر والبصيرة من جانب ، ومردّ الأمر كلّه إلى كونه بعين الله وعلمه

٢٧٣

بذات الصدور ، جاء التعقيب بقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١).

هذا والمجال واسع للكلام عن التمثيل في القرآن ، استوفينا الكلام فيه في حقول ثلاثة من مباحث إعجاز القرآن البياني الفائق ، فراجع (٢).

***

وبعد فإليك ما ورد بشأن التمثيل في القرآن من روايات :

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً)

[٢ / ٨١٨] أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا : لمّا ضرب الله هذين المثلين للمنافقين قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) وقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) قال المنافقون : الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) إلى قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٣).

[٢ / ٨١٩] وأخرج عبد الغني الثقفي في تفسيره والواحدي عن ابن عبّاس قال : إنّ الله ذكر آلهة المشركين فقال : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً) وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت فقالوا : أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمّد. أيّ شيء كان يصنع بهذا؟ فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) الآية (٤).

[٢ / ٨٢٠] وقال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) وذلك أنّ الله ـ عزوجل ـ ذكر العنكبوت والذباب في القرآن فضحكت اليهود وقالت : ما يشبه هذا من الأمثال. فقال ـ سبحانه ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) يعني أنّ الله ـ عزوجل ـ لا يمنعه الحياء أن يصف للخلق مثلا (ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها)(٥).

__________________

(١) راجع : التمهيد ٥ : ٢٨٠. وفي ظلال القرآن ١ : ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

(٢) التمهيد ٥ : ٢٦١ ـ ٣٠٤ فصل «حسن تشبيهه وجمال تصويره» ، و ٣٠٥ ـ ٣٣٠ فصل «جودة استعارته وروعة تخييله» ، و ٣٣١ ـ ٣٤٢ فصل «لطيف كنايته وظريف تعريضه».

(٣) الطبري ١ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ / ٤٦١ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٦٨ / ٢٧٣ ، نقلا عن السدّي ؛ الدرّ ١ : ١٠٣ ؛ ابن كثير ١ : ٦٧.

(٤) الدرّ ١ : ١٠٣ ؛ أسباب النزول : ١٤ ؛ القرطبي ١ : ٢٤١ ـ ٢٤٢.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ٩٤ ـ ٩٥.

٢٧٤

[٢ / ٨٢١] وأخرج عبد الرزّاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : لمّا ذكر الله العنكبوت والذباب قال المشركون : ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها)(١).

[٢ / ٨٢٢] وروى ابن كثير بإسناده إلى سعيد عن قتادة قال : أي : إنّ الله لا يستحيي من الحقّ أن يذكر شيئا ممّا قلّ أو كثر وإنّ الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت ، قال أهل الضلالة : ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها)(٢).

[٢ / ٨٢٣] وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : لمّا أنزلت (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) قال المشركون : ما هذا من الأمثال فيضرب أو ما يشبه هذا الأمثال! فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) لم يرد البعوضة إنّما أراد المثل (٣).

[٢ / ٨٢٤] وروي عن الإمام أبي محمّد العسكري عليه‌السلام ، قال : قال الباقر عليه‌السلام : «فلمّا قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) وذكر الذباب في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) الآية ، ولمّا قال : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، وضرب المثل في هذه السورة (البقرة) بالّذي استوقد نارا ، وبالصيّب من السماء ، قالت الكفّار والنواصب : ما هذا من الأمثال فيضرب ، يريدون به الطعن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال الله : يا محمّد (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) ، لا يترك حياء (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) للحقّ يوضّحه به عند عباده المؤمنين (ما بَعُوضَةً) أي ما هو بعوضة (فَما فَوْقَها) فوق البعوضة ، وهو الذباب ، يضرب به المثل إذا علم أنّ فيه صلاح عباده المؤمنين ونفعهم» (٤).

__________________

(١) الدرّ ١ : ١٠٣ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٦٢ / ٢٧ ؛ الطبري ١ : ٢٥٦ ـ ٢٥٧ / ٤٦٤ وفيه : «قال أهل الضلالة» بدل قوله : «قال المشركون». وهو أقرب للصواب ، نظرا لأنّ الآية مدنيّة ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٦٩ / ٢٧٣ ، وزاد : وروي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدّي وقتادة : القرطبي ١ : ٢٤٢ ، بلفظ : قال الحسن وقتادة : لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله. فأنزل الله الآية ؛ ابن كثير ١ : ٦٧ ، قال ابن كثير : قلت : العبارة الأولى (قال المشركون) عن قتادة ، فيها إشعار بأنّ هذه الآية مكيّة وليس كذلك وعبارة رواية سعيد عن قتادة أقرب والله أعلم ؛ أبو الفتوح ١ : ١٧٥.

(٢) ابن كثير ١ : ٦٧ ؛ التبيان ١ : ١١١.

(٣) الدرّ ١ : ١٠٣ ؛ ابن كثير ١ : ٦٧ ، بلفظ : قال ابن أبي حاتم : روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدّي وقتادة.

(٤) تفسير الإمام : ٢٠٥ / ٩٥ ؛ البحار ٢٤ : ٣٨٨ / ١١٢.

٢٧٥

[٢ / ٨٢٥] وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس ، في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) قال : هذا مثل ضربه الله للدنيا ، إنّ البعوضة تحيا ما جاعت ، فإذا سمنت ماتت ، وكذلك مثل هؤلاء القوم الّذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن ، إذا امتلأوا من الدنيا ريّا أخذهم الله عند ذلك. قال : ثمّ تلا (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ)(١) الآية.

[٢ / ٨٢٦] وعنه أيضا بطريق آخر بنحوه ، إلّا أنّه قال : فإذا خلت آجالهم ، وانقطعت مدّتهم ، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت وتموت إذا رويت ؛ فكذلك هؤلاء الّذين ضرب الله لهم هذا المثل إذا امتلأوا من الدنيا ريّا أخذهم الله فأهلكهم ، فذلك قوله : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ)(٢). (٣).

قوله تعالى : (مَثَلاً ما بَعُوضَةً)

[٢ / ٨٢٧] أخرج ابن جرير عن قتادة قال : البعوضة أضعف ما خلق الله (٤).

[٢ / ٨٢٨] وروى الطبرسيّ مرسلا عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «إنّما ضرب الله المثل بالبعوضة لأنّ البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين فأراد الله سبحانه أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطف خلقه وعجيب صنعه» (٥).

[٢ / ٨٢٩] وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : (مَثَلاً ما بَعُوضَةً) قال : يعني الأمثال صغيرها وكبيرها. ويؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنّها الحقّ من ربّهم ويهديهم الله بها ، ويضلّ بها الفاسقين. يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به (٦).

[٢ / ٨٣٠] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والديلمي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أيّها الناس لا تغترّوا بالله ، فانّ الله لو كان مغفلا شيئا لأغفل البعوضة ، والذرّة

__________________

(١) الأنعام ٦ : ٤٤.

(٢) الأنعام ٦ : ٤٤.

(٣) الطبري ١ : ٢٥٦ / ٤٦٢ ـ ٤٦٣ ؛ ابن كثير ١ : ٦٧ ؛ التبيان ١ : ١١١ ، باختلاف ؛ مجمع البيان ١ : ١٣٥ ، باختلاف ؛ أبو الفتوح ١ : ١٧٨ ، باختصار.

(٤) الدرّ ١ : ١٠٣ ؛ الطبري ١ : ٢٥٨ / ٤٦٦ ، و ٤٦٧ نقلا عن ابن جريج بنحوه.

(٥) مجمع البيان ١ : ١٣٥ ؛ التبيان ١ : ١١١ ؛ البحار ٩ : ٦٤.

(٦) الطبري ١ : ٢٥٧ / ٤٦٥.

٢٧٦

والخردلة» (١).

قوله تعالى : (فَما فَوْقَها)

[٢ / ٨٣١] قال قتادة وابن جريج في قوله تعالى : (فَما فَوْقَها) المعنى في الكبر (٢).

***

ملحوظة : وهناك حديث غريب جاء في التفسير المنسوب إلى عليّ بن ابراهيم القميّ وحاشاه فإنّه مكذوب عليه قطعيّا. جاء فيه :

[٢ / ٨٣٢] قال : وحدّثني أبي عن النضر بن سويد عن القاسم بن سليمان عن المعلّى بن خنيس عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ هذا المثل ضربه الله لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فالبعوضة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وما فوقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والدليل على ذلك قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام كما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الميثاق عليهم له (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) فردّ الله عليهم فقال : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ. الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) في عليّ (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) يعني من صلة أمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)» (٣).

والدليل على وهن هذا الحديث ، أنّ جماعة من الشيعة سألوا الإمام الباقر عليه‌السلام عن هذه الأكذوبة الشائعة بين لفيف من المنتحلين لولاء آل البيت ، ولكن مع جهل وغباء ، ولعلّه من وضع بعض المعاندين تشويها لسمعة الشيعة الأبرياء. فجاء تكذيبه من الإمام عليه‌السلام صريحا كالتالي :

[٢ / ٨٣٣] قيل للباقر عليه‌السلام : «فإنّ بعض من ينتحل موالاتكم يزعم أنّ البعوضة علي عليه‌السلام وأنّ ما

__________________

(١) الدرّ ١ : ١٠٤ ؛ العظمة ٢ : ٥٣٣ ـ ٥٣٤ / ١٨٧ ؛ فردوس الأخبار للديلمي ٥ : ٣٧٢ / ٨٢٠٢ ؛ كنز العمّال ١٦ : ١٧ / ٤٣٧٤٦.

(٢) القرطبي ١ : ٢٤٣ ؛ ابن كثير ١ : ٦٨ ، بلفظ : والثاني من الأقوال في معنى فَما فَوْقَها : فما فوقها لما هو أكبر منها ، لأنّه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة ، وهذا قول قتادة واختيار ابن جرير ؛ مجمع البيان ١ : ١٣٥ ، بلفظ : أي ما هو أعظم منها ـ عن قتادة وابن جريج.

(٣) القمي ١ : ٣٤ ـ ٣٥ ؛ البحار ٢٤ : ٣٩٣ ؛ البرهان ١ : ١٥٧ ـ ١٥٨ / ١.

٢٧٧

فوقها ، وهو الذباب ، محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! فقال الباقر عليه‌السلام : سمع هؤلاء شيئا لم يضعوه على وجهه ، إنّما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاعدا ذات يوم هو وعليّ عليه‌السلام إذ سمع قائلا يقول : ما شاء الله وشاء محمّد ، وسمع آخر يقول : ما شاء الله وشاء عليّ! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تقرنوا محمّدا وعليّا بالله عزوجل ، ولكن قولوا : ما شاء الله ثمّ شاء محمّد ما شاء الله ثمّ شاء عليّ. إنّ مشيئة الله هي القاهرة الّتي لا تساوى ولا تكافى ولا تدانى ، وما محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الله وفي قدرته إلّا كذبابة تطير في هذه المسالك الواسعة ، وما عليّ عليه‌السلام في الله وفي قدرته إلّا كبعوضة في جملة هذه المسالك ، مع أنّ فضل الله تعالى على محمّد وعلي هو الفضل الّذي لا يفي به فضله على جميع خلقه من أوّل الدهر إلى آخره. هذا ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذكر الذباب والبعوضة في هذا المكان ، فلا يدخل في قوله (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً)» (١).

قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)

[٢ / ٨٣٤] أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) قال : أي أنّ هذا المثل الحقّ من رّبّهم وأنّه كلام الله ومن عنده. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله (٢).

[٢ / ٨٣٥] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُ) قال : يؤمن به المؤمنون ، ويعلمون أنّه الحقّ من ربّهم ، ويهديهم الله به ، وفي قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ويعرفه الفاسقون فيكفرون به (٣).

__________________

(١) البرهان ١ : ١٥٨ ـ ١٦٠ / ٢ ؛ تفسير الإمام : ٢٠٥ ـ ٢١٠ / ٩٥ و ٩٦ ؛ كنز الدقائق ١ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ؛ البحار ٢٤ : ٣٨٨ ـ ٣٩٢ / ١١٢ ، باب ٦٧.

(٢) الدرّ ١ : ١٠٤ ؛ الطبري ١ : ٢٦١ / ٤٦٨ ، عن الربيع بن أنس ، و ٤٦٩ ، عن قتادة بلفظ : أي يعلمون أنّه كلام الرحمان وأنّه الحقّ من الله ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٦٩ / ٦٩ ، بلفظ : عن أبي العالية (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني هذا المثل ؛ ابن كثير ١ : ٦٨.

(٣) الدرّ ١ : ١٠٤ ؛ الطبري ١ : ٢٦١ / ٤٧٠ ؛ التبيان ١ : ١١١.

٢٧٨

قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ)

[٢ / ٨٣٦] أخرج ابن أبي حاتم عن مصعب بن سعد عن سعد في قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) قال : يعني الخوارج (١).

[٢ / ٨٣٧] وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) يعني المنافقين (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) يعني المؤمنين (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) قال : هم المنافقون. وفي قوله : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) فأقرّوا به ثمّ كفروا فنقضوه (٢).

[٢ / ٨٣٨] وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) قال : هم المنافقون (٣).

[٢ / ٨٣٩] وعن الربيع عن أبي العالية قال : هم أهل النفاق (٤).

[٢ / ٨٤٠] وعن مجاهد عن ابن عبّاس في قوله : (إِلَّا الْفاسِقِينَ) قال : يعني الكافرين (٥).

[٢ / ٨٤١] وقال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) : يعني يصدّقون بالقرآن (فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي هذا المثل هو (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقرآن يعني اليهود (فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا) الّذي ذكر (مَثَلاً) إنّما يقوله محمّد من تلقاء نفسه وليس من الله فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (يُضِلُّ بِهِ) أي يضلّ الله بهذا المثل (كَثِيراً) من الناس يعني اليهود (وَيَهْدِي بِهِ) أي بهذا المثل (كَثِيراً) من الناس يعني المؤمنين (وَما يُضِلُّ بِهِ) أي بهذا المثل (إِلَّا الْفاسِقِينَ) يعني اليهود (٦).

[٢ / ٨٤٢] وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) قال : فسقوا فأضلّهم الله بفسقهم (٧).

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ٧٠ / ٢٨١.

(٢) الدرّ ١ : ١٠٤ ؛ الطبري ١ : ٢٦١ / ٤٧١ و ٤٧٢ ؛ ابن كثير ١ : ٦٨ ، إلى قوله «هم المنافقون» نقلا عن السدّي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عبّاس وعن مرّة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة. وفي ص ٦٩ ـ ٧٠ تفسير قوله تعالى : الَّذِينَ يَنْقُضُونَ ... عن السدّي بلفظ : قال هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثمّ كفروا فنقضوه.

(٣) ابن أبي حاتم ١ : ٧٠ / ٢٨٤.

(٤) ابن أبي حاتم ١ : / ٧٠ / ٢٨٢ ؛ الطبري ١ : ٢٦٢ / ٤٧٤.

(٥) ابن أبي حاتم ١ : ٧٠ / ٢٨٦.

(٦) تفسير مقاتل ١ : ٩٥.

(٧) الدرّ ١ : ١٠٤ ؛ الطبري ١ : ٢٦٢ / ٤٧٣. ابن أبي حاتم ١ : ٧٠ / ٢٨٥.

٢٧٩

كلام عن الهداية والإضلال منه تعالى

جاء التعبير بالهداية والإضلال ناسبا إليه تعالى في القرآن في مواضع (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١). ما تلك الهداية يمنحها من يشاء ويمنعها عمّن يشاء من عباده ، وهو العزيز الغالب على أمره ، الحكيم في حسن فعاله ، لا يرتكب شططا (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)(٢)؟!

نعم كان الإضلال منه تعالى بمعنى الخذلان ، أثرا مباشرا يلحق أولئك المعاندين ممّن تمادوا في الغيّ والضلال ، الّذين عرفوا الحقّ ولمسوا حقيقته بواقع فطرتهم الأولى ، لكنّهم أنكروه مكابرة وطغيانا ولجّوا في العتوّ والعناد ، فأصمّهم الله وأعمى أبصارهم.

(فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٣). (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ. تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ)(٤).

إذن كان ذلك الحرمان على اثر هذا الطغيان. أثرا مباشرا استدعاه لجاجهم في غياهب التيه والفساد.

أمّا الّذين اهتدوا فزادهم الله هدى وآتاهم تقواهم (٥). (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً)(٦). وهي عناية ربّانيّة تشمل أولئك الّذين اتّخذوا سبيل الرشد وجاهدوا في الله حقّ جهاده (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(٧).

وقد استوفينا البحث حول الهداية والإضلال نسبتهما إلى الله سبحانه بما يتوافق مع عدله وحكمته تعالى ، في مباحثنا عن متشابهات القرآن من التمهيد فراجع (٨).

__________________

(١) إبراهيم ١٤ : ٤.

(٢) الكهف ١٨ : ٤٩.

(٣) الصفّ ٦١ : ٥.

(٤) المائدة ٥ : ٧٨ ـ ٨٠.

(٥) وفق الآية ١٧ من سورة محمّد ٤٧.

(٦) مريم ١٩ : ٧٦.

(٧) العنكبوت ٢٩ : ٦٩.

(٨) التمهيد ٣ : ١٧٥ ـ ٢٨٠.

٢٨٠