التفسير الأثري الجامع - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-03-6
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنّه شعر. والله إنّه لصادق ، وإنّ خصومه لكاذبون (١).

وقال الأستاذ محمّد عبد الله درّاز : أسلوب القرآن لا يعكس نعومة أهل المدن ولا خشونة أهل البادية. وزن المقاطع في القرآن أكثر ممّا في النثر وأقلّ ممّا في الشعر. وإنّ نثره ينفرد ببعض الخصائص والميزات ، فالكلمات فيه مختارة ، غير مبتذلة ولا مستهجنة ، ولكنّها رفيعة رائعة معبّرة ، الجمل فيها ركّبت بشكل رائع ، حتّى أنّ أقلّ عدد من الكلمات يعبّر عن أوسع المعاني وأغزرها ، إنّ تعابيره موجزة ، ولكنّها مدهشة في وضوحها ، حتّى أنّ أقلّ الناس حظّا من التعلّم يستطيع فهم القرآن دونما صعوبة ، وهناك عمق ومرونة في القرآن ممّا يصلح أن يكون أساسا لمبادئ وقوانين العلوم والآداب الإسلاميّة ومذاهب الفقه وفلسفة الإلهيّات (٢).

وبذلك نجد القرآن قد أبطل سجع الكهّان وطوابع الوثنيّة ، وأضعف فنون الفخر والاستعلاء والهجاء ، وطبع الحوار بطابع السماحة وإقامة الحجّة والبحث عن الدليل ، وأحلّ الإيجاز محلّ الإسهاب ، والحكمة مكان الإطالة ، وترك في الأسلوب العربي الإسلامي طابعه الوسيط السمح ، وأعطاه جزالة وسلاسة وعذوبة وروائا. ذلك أنّ القرآن رقّق القلوب ، وأفسح مجال الفكر والنظر للعقول ، وحرّر الإنسان من غياهب الجهل والعمى ، وأطلق سراحه في ميادين الهدى والرشاد. وهكذا عمل القرآن في تثقيف الأجيال مدى الأعصار.

نعم كان لأنواع الكلام ـ عند العرب ـ من نثر وشعر وسجع ، محاسن ومساوئ ، فجاء القرآن ليجمع بين هذه الأنواع ، في صياغة جديدة وسبك طريف. واستطاع مع ذلك ، مجانبة المساوئ كلّها في أسلوب فذّ فريد.

وكان سرّ إعجازه الخارق ، قد كمن وراء ذاك الجمع وهذا النبذ العجيبين. بعد أن لم يكن باستطاعة أحد أن يجمع بين مزايا أنواع الكلام في صياغة واحدة ، ولا أن يتجانب المساوئ كلّها على الإطلاق ، الأمر الّذي تغلّب عليه القرآن في براعة فائقة بهرت العقول وأذهلت النفوس.

نعم ، من أهمّ محاسن النثر طلاقته ، فلا يتقيّد صاحب الكلام بمراعاة وزن أو قافية ، لتضطرّه إلى اقتراب ألفاظ قد لا تمسّ صميم المعنى ذاتيّا ، وإنّما هي ضرورة شعريّة ألجأته إلى ذلك. وهذا من

__________________

(١) التمهيد ٥ : ١١٩ و ١٢٠.

(٢) المصدر : ١٢١ و ١٢٢.

٢٠١

معايب الشعر أحيانا. غير أنّ للشعر جذبة ونغما يوجبان رواء الكلام وجمال البيان. ممّا يخصّ النظم المنسجم ، دون النثر المبعثر المنتثر.

أمّا السجع فحدّث عن وفرة التكلّفات فيه ولا حرج. وإلّا فهو كلام جزل رصين.

جاء القرآن ووضع صياغته على النثر أوّلا ، ولكن غير المبعثر ، بل أضفى عليه بعض أقراء النظوم الشعريّة (١) ، لكن لا بشكل مستوعب ومتزمّت فيه بحيث يسلب طلاقة الكلام. فجمع بين الطلاقة والنغم في صياغة واحدة ، الأمر الصعب الّذي استسهله القرآن.

هذا ولم يتغافل ما في مزايا السجع الرصين ليقتنيها ، متجانبا عن التكلّفات الهجينة ، وفي القرآن من أنواع السجع البديع الشيء الكثير (٢).

هذا هو سرّ إعجاز القرآن ، في جانب سبكه وأسلوبه الكلامي الجديد ، جامعا بين مزايا النثر والشعر والسجع ، في صياغة فذّة فريدة ، بعيدا عن معايب أنواع الكلام بأسرها جميعا. والعظمة لله.

***

الوجه الثالث : نظامه الصوتي العجيب!

وهو جانب خطير من إعجاز القرآن البياني ، لمسته العرب من أوّل يومها ، فبهرتهم روعته ودهشتهم رنّته ، فأخضعهم للاعتراف في نهاية المطاف بأنّه كلام يفوق طوع البشر وأنّه كلام الله!

إنّه جانب «اتّساق نظمه وتناسب نغمه» وإيقاعاته الموسيقيّة الساطية على الأحاسيس ، والآخذة بمجامع القلوب. وهذا الجمال التوقيعي للقرآن يبدو جليّا لكلّ من يستمع إلى آياته تتلى عليه ، حتّى ولو كان من غير العرب ، فكيف بالعرب أنفسهم.

وأوّل شيء تحسّه الآذان عند سماع القرآن هو ذا نظامه الصوتيّ البديع ، الّذي قسّمت فيه الحركات والسكونات تقسيما متنوّعا ومتوزّعا على الألحان الموسيقيّة الرقيقة ، فينوّع ويجدّد نشاط السامع عند سماعه ، ووزّعت في تضاعيفه حروف المدّ والغنّة توزيعا بالقسط ، يساعد على ترجيع الصوت به ، وتهاوي النفس فيه آنا بعد آن ، إلى أن يصل قمّتها في الفاصلة ، فيجد عندها راحته الكبرى ، على ما فصّله أساتذة الترتيل!

قال الأستاذ درّاز : ويجد الإنسان لذّة ، بل وتعتريه نشوة إذا ما طرق سمعه جواهر حروف

__________________

(١) راجع : التمهيد ٥ : ١٢٤.

(٢) المصدر : ١٢٧ و ٢١٨.

٢٠٢

القرآن ، خارجة من مخارجها الشحيحة ، من نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها : هذا ينقر ، وذاك يصفر ، وثالث يهمس ، ورابع يجهر ، وآخر ينزلق عليه النفس ، وآخر يحتبس عنده النفس. فترى الجمال النغمي ماثلا بين يديك في مجموعة مختلفة ولكنّها مؤتلفة ، لا كركرة ولا ثرثرة ، ولا رخاوة ولا معاظلة ، ولا تناكر ولا تنافر ، وهكذا ترى كلاما ليس بالبدويّ الجافي ولا بالحضريّ الفاتر ، بل هو ممزوج مؤلّف من جزالة ذاك ورقّة هذا ، مزيجا كأنّه عصارة اللغتين وسلالة اللهجتين.

نعم من هذا الثوب القشيب يتألّف جمال القرآن اللفظي ، وليس الشأن في هذا الغلاف إلّا كشأن الأصداف ، تتضمّن لآلي نفيسة ، وتحتضن جواهر ثمينة. فإن لم يلهك جمال الغطاء عمّا تحته من الكنز الدفين ، ولم تحجبك بهجة الستار عمّا وراءه من السرّ المصون ، ففليت القشرة عن لبّها ، وكشفت الصدفة عن درّها ، فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى تلك الفخامة المعنويّة ، تجلّى لك ما هو أبهى وأبهر ، ولقيت منه ما هو أبدع وأروع. تلك روح القرآن وحقيقته ، وجذوة موسى الّتي جذبته إلى نار الشجرة في شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة ، فهناك نسمة الروح القدسيّة : (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(١).

وقال الأستاذ الرافعي : كان العرب يتساجلون الكلام ويتقارضون الشعر ، وكان أسلوب الكلام عندهم واحدا : حرّا في المنطق وجزلا في الخطاب ، في فصاحة كانت تؤاتيهم الفطرة وتمدّهم الطبيعة ، فلمّا ورد عليهم أسلوب القرآن رأوا ألفاظهم بأعيانها متساوقة ، ليس فيها إعنات ولا معاياة. ووجوه تركيبه ونسق حروفه ونظم جمله وعبائره ، ما أذهلهم هيبة وروعة ، حتّى أحسّوا بضعف الفطرة وتخلّف الملكة. ورأى بلغاؤهم جنسا من الكلام غير ما هم فيه ، رأوا حروفه في كلماته ، وكلماته في جمله ، ألحانا نغميّة رائعة ، كأنّها لائتلافها وتناسقها قطعة واحدة ، قراءتها هي توقيعها ، فلم يفتهم هذا المعنى وكان أبين لعجزهم.

وكلّ الّذين يدركون أسرار الموسيقى وفلسفتها النفسيّة يرون أن ليس في الفنّ العربيّ بجملته شيء يعدل هذا التناسب الطبيعي في ألفاظ القرآن وأصوات حروفه. وما أحد يستطيع أن يغتمز في ذلك حرفا واحدا. والقرآن يعلو على الموسيقى ؛ إنّه مع هذه الخاصيّة العجيبة ليس من الموسيقى.

__________________

(١) القصص ٢٨ : ٣٠. راجع : النبأ العظيم للأستاذ درّاز : ٩٤ ـ ٩٩.

٢٠٣

إنّ مادّة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي في الأنغام الموسيقيّة ، بسبب تنويع الصوت مدّا وغنّة ولينا وشدّة وما يتهيّأ له من حركات مختلفة ، وبمقدار ما يكسبه من الحدرة والارتفاع والاهتزاز ممّا هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقى.

فلو اعتبرنا ذلك في تلاوة القرآن ، لرأيناه أبلغ ما تبلغ إليه اللغات كلّها ، في هزّ الشعور واستثارة الوجد النفسي. ومن هذه الجهة تراه يغلب على طبع كلّ عربيّ أو عجميّ. وبذلك يؤوّل ما ورد من الحث على تحسين الصوت عند قراءة القرآن.

وما هذه الفواصل الّتي تنتهي بها آيات القرآن إلّا صورا تامّة للأبعاد الّتي تنتهي بها جمل الموسيقى ، وهي متّفقة مع آياتها في قرارات الصوت اتفاقا عجيبا يلائم نوع الصوت ، والوجه الّذي يساق عليه ، بما ليس وراءه من العجب مذهب. وتراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم ، وهما الحرفان الطبيعيّان في الموسيقى نفسها. أو المدّ ، وهو كذلك طبيعيّ في القرآن (١).

قال ابن الأعرابي (٢) : كانت العرب تتغنّى بالركبانيّ (٣) إذا ركبت وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها. فلمّا نزل القرآن أحبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تكون هجّيراهم (٤) بالقرآن مكان التغنّي بالركباني (٥).

قال الزمخشري : كانت هجّيرى العرب التغنّي بالركباني ـ وهو نشيد بالمدّ والتمطيط ـ إذا ركبوا الإبل ، وإذا انبطحوا على الأرض ، وإذا قعدوا في أفنيتهم ، وفي عامّة أحوالهم. فأحبّ الرسول أن تكون قراءة القرآن هجّيراهم. فقال ذلك. يعني قوله : ليس منّا من لم يضع القرآن موضع الركباني في اللهج به والطرب عليه (٦).

قال الفيروز آبادي : غنّاه الشعر وغنّى به تغنية : تغنّى به.

__________________

(١) إعجاز القرآن للرافعي : ١٨٨ و ٢١٦. وراجع : التمهيد ٥ : ١٤٦ و ١٤٧.

(٢) هو أبو عبد الله محمّد بن زياد الكوفي مولى بني هاشم أحد العلماء باللغة المشهورين بمعرفتها ؛ كان يحضر مجلسه خلق كثير ، وكان رأسا في الكلام الغريب ، وربما كان متقدّما على أبي عبيدة والأصمعي في ذلك. كان ولادته في رجب سنة ١٥٠. توفّي في شعبان سنة ٢٣١.

(٣) هو نشيد بالمدّ والتمطيط.

(٤) هي زمزمة الغناء ورنّته.

(٥) النهاية لابن الأثير ٣ : ٣٩١.

(٦) الفائق للزمخشري ٢ : ٣٦ مادة : رثث.

٢٠٤

قال الشاعر :

تغنّ بالشعر إمّا كنت قائله

إنّ الغناء بهذا الشّعر مضمار (١)

قال الزبيدي : وعليه حمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أذن الله لشيء كإذنه للنبيّ يتغنّى بالقرآن يجهر به».

قال الأزهري : أخبرني البغويّ عن الربيع عن الشافعيّ : أنّ معناه : «تحزين القراءة وترقيقها» (٢). ويشهد له الحديث الآخر : «زيّنوا القرآن بأصواتكم». قال : وبه قال أبو عبيد (٣).

وروى ثقة الإسلام الكليني بهذا الشأن أحاديث مرفوعة إلى النبي وعترته الطيّبين.

[٢ / ٥٦٧] فعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لكلّ شيء حلية ، وحلية القرآن الصوت الحسن» (٤).

[٢ / ٥٦٨] وقال : «إنّ من أجمل الجمال الشّعر الحسن ، ونغمة الصوت الحسن».

[٢ / ٥٦٩] وقال : «اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإيّاكم ولحون أهل الفسوق والكبائر» (٥).

[٢ / ٥٧٠] وقال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)(٦) ـ : «هو أن تتمكّث فيه ، وتحسّن به صوتك» (٧).

[٢ / ٥٧١] وقال الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «ورجّع بالقرآن صوتك ، فإنّ الله ـ عزوجل ـ يحبّ الصوت الحسن يرجّع فيه ترجيعا» (٨).

قال السيد محمّد بن إبراهيم الحسيني المعروف بماجد ـ في رسالة وضعها لبيان الموسيقى ذاتيّا وذكر أحكامها شرعيّا ـ : «إنّ حسن الصوت إنّما يتحقّق بمناسبات عدديّة فيه ، وهي موقوفة على تحقّق التراجيع. فإنّ الصوت المستقيم من غير ترجيع لا يتّصف بشيء من الحسن والقبح» (٩).

__________________

(١) قال ابن منظور : أراد إنّ التغنّي. فوضع الإسم موضع المصدر.

(٢) وفي اللسان ١٥ : ١٣٦ : «تحسين القراءة وترقيقها».

(٣) تاج العروس ١٠ : ٢٧٢.

(٤) الكافي ٢ : ٦١٤ / ٩.

(٥) الكافي ٢ : ٦١٤ ـ ٦١٦ / ٨ و ٣.

(٦) المزّمّل ٧٣ : ٤.

(٧) البحار ٨٩ : ١٩٠ ـ ١٩٥ / ٢١ ، كتاب القرآن.

(٨) الكافي ٢ : ٦١٦ / ١٣ ؛ التمهيد ٥ : ١٥٧ و ١٥٨.

(٩) راجع : التمهيد ٥ : ٥٠٣.

٢٠٥

الوجه الرابع : جانب اشتماله على معارف سامية وتعاليم راقية ، أتحف بها البشريّة جمعاء ، وكانت تجهلها أو كانت معرفتها عن ذلك ناقصة ومبعثرة ، فجاءت في تعاليم القرآن وافية شافية ، وكاملة جامعة. الأمر الّذي أبهر وأعجب ، وهكذا أذعنت البشريّة برفعتها وسمّوها عمّا كانت تعرفها من ذي قبل ، وكانت تتطلّبها حسبما جاءت في القرآن ، وكانت شفاء لما في الصدور.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(١).

كان الإنسان لم يزل يحاول التعرّف على أمور تمسّ بحياته على الأرض ، ليعرف عن نفسه أوّلا من هو؟ وما هو؟. ثمّ هو من أين؟ وإلى أين؟ وأيضا ما هو سرّ الوجود والسبب الباعث على الخليقة؟. وإلى أمثالها من أسئلة تجوش في نفسه يحاول العثور على إجابة صحيحة عليها تقنعه فيستريح إليها.

هذا والقرآن ـ في برامجه عن الحياة ـ قد أتى بالأجوبة الكاملة الكافلة لبيان سرّ الوجود. ولا سيّما الحكمة في خلق الإنسان ، الّذي هو بدوره الغاية القصوى للوجود كلّه. كما جاء في الحديث القدسى : «يا ابن آدم ، خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي» (٢).

وفي القرآن وصف كامل عن الإنسان ، في أصل وجوده والسرّ المستسرّ وراء خلقه ، وأنّه الغاية من الخلق والمهيمن على سائر الخليقة ، وكونه المثل الأعلى للصانع الحكيم.

قال تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(٣). والخلافة هنا هي المظهريّة الأجلى لذاته تعالى في صفاته الجمال والجلال. ليكون هذه الإنسان خلّاقا مبدعا تتجلّى على يديه أسرار الكون وخبايا الوجود. وأوكله عمارة الأرض وإحياء معالمها : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها)(٤).

وقد أودعه تعالى أمانته (العقل والقدرة على التفكير والانتاج) الّتي أشفق من تحمّلها سائر الخلق : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا

__________________

(١) يونس ١٠ : ٥٧ ـ ٥٨.

(٢) علم اليقين ـ للفيض الكاشاني ١ : ٣٨١ ؛ مشارق أنوار اليقين ـ للبرسي : ٦٧.

(٣) بقرة ٢ : ٣٠.

(٤) هود ١١ : ٦١.

٢٠٦

الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(١). كناية عن صلاحيّة هذا الإنسان لحمل هذا العبء الثقيل ، ممّا يعجز عن حمله سائر الموجودات. أي لا تصلح لهذا الشأن الخطير. نعم كان الإنسان من ذي قبل ظلوما لنفسه حيث موضع جهله بقدره ومنزلته في عالم الوجود.

هذا الإنسان بهذه المقدرة الجبّارة ، كان موضع مباهاة لله في خليقته ، حيث بارك نفسه في خلقه. إذ خلقه بيديه (٢) ونفخ فيه من روحه ليجعله مثله الأعلى في السمات والصفات.

(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ)(٣). (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)(٤). فكان الإنسان ذا خلقة أخرى غير سائر الخلق ، وخلقته الأخرى هي نفخ روحه تعالى فيه ، ليكون من جنسه وسنخه ، متناسبا مع الملكوت الأعلى. ومن ثمّ هذا التبجيل والتكريم وتفضيله على كثير ممّن خلقهم الله :

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)(٥).

نعم أودعه تعالى العقل وقدرة التدبير ، وأردفه بالقدرة على النطق والبيان : (خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(٦). وهي فضيلة لا يوازيها فضيلة.

كما علّمه الأسماء كلّها وأودع فيه القدرة على معرفة حقائق الأشياء والوقوف على سماتها واستنباط آثارها ، ليستخدمها في مآربه ولازدهار معالم الحياة على الأرض.

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)(٧) أي ركّز في فطرته القدرة على معرفتها حيثما حاول وشاء.

ومن ثمّ سخّر له ما في الكون من أعلى طبقات السماء فإلى أسفل الأرضين.

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ)(٨). أي جعلكم بحيث تستطيعون تسخيرها في معالم الحياة.

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٧٢.

(٢) (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ...) سورة ص ٣٨ : ٧٥.

(٣) السجدة ٣٢ : ٩.

(٤) المؤمنون ٢٣ : ١٤.

(٥) الإسراء ١٧ : ٧٠.

(٦) الرحمان ٥٥ : ٣ ـ ٤.

(٧) البقرة ٢ : ٣١.

(٨) الجاثية ٤٥ : ١٣.

٢٠٧

وهذا معنى إسجاد الملائكة له ، وهم القوى العاملة تعمل في صالح الحياة : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ...). كناية عن خضوع كافّة القوى العاملة ، في صالح الإنسان. تجاه القوى المعارضة المضادّة لمصالحه (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ). فقد كانت جنود إبليس تعمل في مضادّة مصالح الإنسان وإفساد الحياة عليه. فكان عليه أن يكافحهم مبلغ جهده في الحياة.

ومن ثمّ فالإنسان في هذه الحياة يمتلك قدرة جبّارة على التسخير والمكافحة معا ، فلا يتهاون في هذا ولا يتكاسل عن ذاك. وليكن على نشاط دائم في عمارة الأرض وازدهار الحياة ، وفي كفاح ونضال مع المرديات.

هذا جانب من وصف الإنسان حسبما عرضه القرآن ، ولعلّه أجمل وصف وأكمله بشأن الإنسان وحياته هذه الحاضرة ، وهي تمهيد للحياة الأخرى الباقية. ولم تشهد البشريّة وصفا أدقّ ممّا وصفه القرآن ، ولم يسجّل التاريخ وصفا جامعا ووافيا بشأن هذه الحياة ممّا ذكره القرآن. كما لم يأت من بعد وصف ولا ذكر كهكذا وصف جميل دقيق. هذا بشأن الإنسان وهذه الحياة قبل الحياة الأخرى.

وهكذا أوصاف جاءت في القرآن بشأن المبدأ والمعاد ، والحديث عن سرّ الوجود وحكمة الحياة ، وغير ذلك من معارف كان يتطلّبها الإنسان منذ أن وضع قدمه على عرصة الوجود. فوجدها في تعاليم القرآن ومحكمات آياته الكريمة. وإذ لم يتأتّ لاي متفكّر جاء بعد ، أن يأتي بمثل هذا الجمال في الوصف عن الحياة. اللهمّ سوى اقتباسات من نصوص الوحي الرشيدة. فكان أكبر دليل على إعجاز هذا الكتاب الخالد مع الأبد.

وفيما سطّرناه في باب الإعجاز التشريعى للقرآن من «التمهيد» ، تبيين أكثر. مهما كان ضئيلا في جنب عظمة القرآن المجيد.

***

الوجه الخامس : إشارات علميّة ، جاءت عابرة ، تكشف عن أسرار مودعة في كمون الطبيعة ، لم تكن تعرفها البشرية لحدّ ذاك اليوم ، وإنّما كشف عنها العلوم في ظلّ تجارب عنيفة كابدها الإنسان في آماد وأحقاب ولا يزال.

فالإشارة إليها في لسان الوحي المبين ، تنمّ عن إحاطة واسعة حظي بها صاحب الكلام ، وهو

٢٠٨

الله العالم بخبايا الوجود : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(١).

نعم إنّها رشحات فاضت من عرض بيانه ، جاءت عظيمة وفخيمة كلّما تقدّمت ركب الحضارة وتألّق نجم العلم على آفاق الوجود. فإنّ القرآن يسبق الإنسان بخطوات واسعة الأرجاء ، ولا يكاد الإنسان يلحق أذياله ، مهما جدّ في المسير.

وهذا يعني أنّها شذرات بدرت من طيّ كلامه تعالى ، شأن كلّ متكلّم كان قد أحاط بكلّ شيء علما وإن لم تكن مقصودة ذاتا وفي صميم المعنى والمرام.

وقد شرحنا هذا المعنى في مباحثنا عن الإعجاز العلمي للقرآن في الجزء السادس من التمهيد.

***

الوجه السادس : أنباء غيبيّة جاءت في القرآن صريحة وقويمة ، لم تكن باستطاعة البشر أن يعلمها كما نطق به القرآن جازما جادّا في الإفادة والبيان.

وأنباء الغيب في القرآن ـ المتحدّى بها ـ قد تكون عن ماض غابر. كان مشوّها غامضا علته هالة من الإبهام والإجمال. فقصّة القرآن نقيّا زاهيا ، رافعا كلّ إبهام ومبيّنا موارد الإجمال. الأمر الّذي لم يكن يعرفه أحد لحدّ الآن. (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا)(٢).

وأخرى عن حاضر خاتل دبّرته دسائس أهل النفاق والخديعة في حوالك الظلام ، فكشفته آية الوحي وفضحت مواضعهم الخبيثة في وضح الصباح.

والآيات بشأن فضح دسائس المنافقين ومكائدهم ضدّ المسلمين كثير في القرآن ، وفي سورة براءة منه الشيء الكثير :

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) ـ إلى قوله ـ : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ)(٣).

__________________

(١) الفرقان ٢٥ : ٦.

(٢) هود ١١ : ٤٩.

(٣) التوبة ٩ : ٩٩ ـ ١٠١.

٢٠٩

وثالثة عن مستقبل واقع ، وليكون شاهدا على صدق النبوّة عبر الأيّام. منها القريبة ومنها البعيدة كما في آية التحدّي بوجه عامّ : (... وَلَنْ تَفْعَلُوا ...)(١). (... لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ...)(٢).

وعن القريبة ما توعّده الله بشأن أناس عارضوا الإسلام ، فجاء النبأ بخزيهم في نهاية المطاف. هذا أبو لهب طالما كايد الإسلام ، فنزل القرآن بأن سوف يموت ذلّا وتمسّه النار : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)(٣). كان ذا ثروة طائلة. لكنّه مات كافرا في ذلّ وهوان ولفظته نار جحيم. وفي ذلك دليل على صدق الرسالة.

وهكذا ورد بشأن الوليد بن المغيرة : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ)(٤). وبشأن أبي جهل وغيرهما. ما ينبؤك عن صراحة القرآن وصرامته في إخباره عن الغيب الآتي.

وكذلك آيات العصمة وأنّ الدعوة سوف تنتصر وتزدهر وتظهر على الدين كلّه ولو كره المشركون المنافسون. (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)(٥).

كما وعده الله بالنصر والغلبة ، وأنّه حين خرج من مكّة مهاجرا ، وعده الله بالعودة ظافرا : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)(٦).

وآية غلبة الروم. حيث كانت المعارك دامية بين الروم والفرس أيّام الملك «خسرو پرويز» وكانت الحروب مستمرّة من سنة ٦٠٣ م إلى سنة ٦٢٧. وكانت الكفّة راجحة مع الفرس حتّى عام ٦٢٢ وهو عام الهجرة. وبعده انقلب الأمر ودارت الدائرة على الفرس فجاءتهم الهزيمة عام ٦٢٨. أي بعد الهجرة بخمس سنوات (٧).

***

الوجه السابع : القول بالصرفة. ارتآه بعض السلف ومشى على أثرهم بعض الخلف.

ويتلخّص هذا المذهب في القول بأنّ الآية والمعجزة في القرآن إنّما هي لجهة صرف الناس

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٤.

(٢) الإسراء ١٧ : ٨٨.

(٣) سورة المسد.

(٤) المدّثر ٧٤ : ٢٦.

(٥) القمر ٥٤ : ٤٥.

(٦) القصص ٢٨ : ٨٥.

(٧) راجع : تاريخ إيران لحسن پيرنيا : ٢٢٢ ـ ٢٢٧ ؛ والتمهيد ٦ : ١٨٥ ـ ٢١٠.

٢١٠

عن معارضته ، صرفهم الله عن ذلك صرفا بأن ثبّط عزيمتهم على المقابلة ، كما قال تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ)(١). قالوا : أي أصرفهم عن إبطال دلائلي. وأنسخ عزيمتهم على القدح في حججي.

وبما أنّ هذا الوجه يسلب القرآن ميزاته الفائقة ، ويجعل الإعجاز لأمر خارجيّ بعيد عن جوهر القرآن وعن ذاته ، حاول بعضهم توجيهه إلى ما يتلائم ومذهب المشهور. قالوا : لعلّهم أرادوا بالصرفة : أنّه تعالى سلبهم العلوم الّتي تمكنهم الإتيان بما يشاكل القرآن ، ومعنى السلب : عدم المنح ذاتيّا ... أي لم يمنح الله تعالى أحدا من العلم مبلغا يمكنه الإتيان بمثل القرآن : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(٢).

والكلام في ذلك كثير ومذيّل. استوفيناه في مباحثنا عن وجوه الإعجاز في الجزء الرابع من التمهيد.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ)

[٢ / ٥٧٢] قال ابن عبّاس : قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب أهل مكة ، و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب أهل المدينة ، وهو هاهنا عام (٣).

[٢ / ٥٧٣] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) قال : فهي للفريقين جميعا من الكفّار والمؤمنين. (اعْبُدُوا) قال : وحّدوا (٤).

[٢ / ٥٧٤] وقال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) يعني المنافقين واليهود وحّدوا ربّكم (٥).

[٢ / ٥٧٥] وأخرج ابن أبي شيبة في المصنّف وعبد بن حميد والطبراني في الأوسط والحاكم

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٤٦.

(٢) الإسراء ١٧ : ٨٥.

(٣) الثعلبي ١ : ١٦٦ ؛ البغوي ١ : ٩٣ ؛ أبو الفتوح ١ : ١٥١.

(٤) الدرّ ١ : ٨٥ ؛ الطبري ١ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣ / ٣٩٦ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٥٩ ـ ٦٠ / ٢١٥ و ٢١٦ ؛ ابن كثير ١ : ٦٠.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ٩٣.

٢١١

وصحّحه عن ابن مسعود قال : قرأنا المفصّل ونحن بمكّة حججا ، ليس فيها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا*)(١).

[٢ / ٥٧٦] وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن عروة قال : ما كان من حجّ ، أو فريضة ، فإنّه نزل بالمدينة ، أو حدّ ، أو جهاد ، فإنّه نزل بالمدينة. وما كان من ذكر الأمم ، والقرون ، وضرب الأمثال ، فإنّه نزل بمكّة (٢).

[٢ / ٥٧٧] وأخرج أبو عبيد عن ميمون بن مهران قال : ما كان في القرآن (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أو (يا بَنِي آدَمَ)(٣) فإنّه مكيّ. وما كان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فإنّه مدنيّ (٤).

[٢ / ٥٧٨] وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن الضريس وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حبّان في التفسير عن علقمة قال : كلّ شيء في القرآن (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهو مكيّ ، وكلّ شيء في القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهو مدنيّ (٥).

[٢ / ٥٧٩] وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه وعبد بن حميد وابن المنذر عن الضحّاك ، قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في المدينة (٦).

[٢ / ٥٨٠] وأخرج البزّار والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال : ما كان

__________________

(١) الدرّ ١ : ٨٤ ؛ المصنّف ٧ : ١٨٥ / ٥ ، كتاب فضائل القرآن ، باب ٣٨ (ما نزل من القرآن بمكّة والمدينة) ؛ الأوسط ٦ : ٢٥٨ / ٦٣٤٤ ، بلفظ : «عن ابن مسعود قال : نزل المفصّل بمكّة فمكثنا حججا نقرأه لا ينزل غيره» ؛ الحاكم ٢ : ٢٢٤ ، و ٣ : ١٨ ـ ١٩ ؛ الكامل ١ : ٤٢٣.

(٢) الدرّ ١ : ٨٤ ؛ المصنّف ٧ : ١٨٥ / ٢ ؛ القرطبي ١ : ٢٢٥ ، بلفظ : قال عروة بن الزبير : ما كان من حدّ أو فريضة فإنّه نزل بالمدينة ، وما كان من ذكر الأمم والعذاب فإنّه نزل بمكة.

(٣) جاء خطاب يا بَنِي آدَمَ* أربع مرّات في سورة الأعراف المكيّة ، الآيات : (٢٦ و ٢٧ و ٣١ و ٣٥).

(٤) الدرّ ١ : ٨٤ ؛ فضائل القرآن لأبي عبيد : ٢٢٢.

(٥) الدرّ ١ : ٨٤ ؛ فضائل القرآن لأبي عبيد : ٢٢٢ / ١٣ ، باب ٥٦ : المصنّف ٧ : ١٨٥ ؛ القرطبي ١ : ٢٢٥ ، بلفظ : «قال علقمة ومجاهد : كلّ آية أوّلها (يا أَيُّهَا النَّاسُ)* فإنّما نزلت بمكّة ، وكلّ آية أوّلها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)* فإنّما نزلت بالمدينة. قال القرطبي : قلت : وهذا يردّه أنّ هذه السورة والنساء مدنيّتان وفيهما : يا أَيُّهَا النَّاسُ.* وأمّا قولهما في يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* فصحيح ؛ التبيان ١ : ٩٨ ، نقلا عن علقمة والحسن ؛ مجمع البيان ١ : ١٢٢ ، نقلا عن ابن عبّاس والحسن.

(٦) المصنّف ٧ : ١٨٥ ، كتاب فضائل القرآن ، باب ٣٨ (ما نزل من القرآن بمكّة والمدينة).

٢١٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أنزل بالمدينة ، وما كان (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فبمكّة (١).

قلت : ولعلّه أراد خطابا لأهل مكّة وإن كان نزولها بالمدينة ، كما مرّ في حديث ابن عبّاس.

[٢ / ٥٨١] وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة قال : كلّ سورة فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهي مدنيّة (٢).

[٢ / ٥٨٢] وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن عروة قال : ما كان (يا أَيُّهَا النَّاسُ) بمكّة ، وما كان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالمدينة (٣).

المكّي والمدني

ذكرنا في كتابنا «التمهيد» المعيار لتمييز المكّي والمدني من الآيات والسور. وكانت ثلاثة :

المعيار الزّمني : ما نزل قبل الهجرة إلى المدينة فهو مكّي وما نزل بعدها فهو مدني وهذا هو الأرجح الأوفق حسبما نبّهنا.

المعيار المحلّي : ما نزل بمكّة فهو مكّي ولو كان بعد الهجرة. وما نزل بالمدينة فهو مدني. وعليه فالآيات الّتي نزلت في الغزوات وفي الأسفار ، لا مكيّة ولا مدنيّة.

المعيار الخطابي : ما كان خطابا لأهل مكّة فهو مكّي وما كان خطابا لأهل المدينة فهو مدني.

وعلى هذا المعيار الأخير وردت بعض الروايات بأنّ كلّ سورة أو آية جاء فيها الخطاب ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهو مكّي. وما جاء فيه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهو مدني.

وهذا المعيار قد رفضه أهل التحقيق ، لمخالفته للواقع قطعيّا.

ففي سورة البقرة المدنيّة كلّها بإجماع ، جاء قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) في موضعين : (الآية : ٢١ والآية : ١٦٨).

وفي سورة النساء المدنيّة أيضا جاء قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) في ثلاثة مواضع : (الآيات : ١ و ١٧٠ و ١٧٤).

وفي سورة الحجّ المدنيّة (٤) موضعان : (الآية : ١ والآية : ٧٣).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٨٤ ؛ الحاكم ٣ : ١٨ ؛ الدلائل ٧ : ١٤٤.

(٢) الدرّ ١ : ٨٤ ؛ المصنّف ٧ : ١٨٥ / ٦.

(٣) الدرّ ١ : ٨٤ ؛ المصنّف ٧ : ١٨٥ / ٩.

(٤) ذكرنا الخلاف في مدنيّتها ـ التمهيد ١ : ١٧٢.

٢١٣

وفي سورة الحجرات المدنيّة بلا ريب (١) ، جاء قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (١٣).

وقد زيّفنا احتمال كون الآية بالذات مكيّة أقحمت في سورة مدنيّة ، وأن لا دليل عليه سوى الاحتمال والحدس ، فقد استدلّوا بلحن الخطاب وهو استدلال دوريّ كما نبّهنا (٢).

وعليه فقد صحّ ما أخرجه ابن أبي شبية عن عكرمة ـ حسبما تقدّم (٣) كما لم نجد في سورة مكّية خطاب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) حسبما جاء في حديث ابن مسعود الآنف (٤).

وما روي خلاف ذلك فلا بدّ من ضرب من التأويل فيه.

قوله تعالى : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)

[٢ / ٥٨٣] قال ابن عبّاس : كلّ ما ورد في القرآن من العبادة فمعناه التوحيد (٥).

[٢ / ٥٨٤] وفي تفسير العسكري : قال علي بن الحسين عليه‌السلام «في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يعني سائر المكلّفين من ولد آدم (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أطيعوا ربّكم من حيث أمركم أن تعتقدوا أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ولا شبيه له ولا مثل. عدل لا يجوز ، جواد لا يبخل ، حليم لا يعجل ، حكيم لا يخطل (٦) ، ثمّ قال عزوجل : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) اعبدوا الّذي خلقكم من نطفة من ماء مهين ، فجعله في قرار مكين ، إلى قدر معلوم ، فقدّره فنعم القادر ربّ العالمين. (الَّذِي خَلَقَكُمْ) نسما وسوّاكم من بعد ذلك وصوّركم أحسن صورة ، ثمّ قال عزوجل : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، قال : وخلق الله الّذين من قبلكم من سائر أصناف الناس (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، قال : لها وجهان أحدهما : وخلق الّذين من قبلكم لعلّكم كلّكم تتّقون ، أي لتتّقوا ، كما قال الله عزوجل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(٧) ، والوجه الآخر : اعبدوا الّذي خلقكم والّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون ، أي اعبدوه لعلّكم تتّقون النار» (٨).

__________________

(١) هي مدنيّة قولا واحدا بإجماع ـ التمهيد ١ : ١٧٣.

(٢) راجع : التمهيد ١ : ٢٤٥.

(٣) برقم ٥٨٣ / ١.

(٤) برقم ٥٧٥ / ١.

(٥) البغوي ١ : ٩٣.

(٦) خطل في كلامه : أتى بكلام كثير فاسد لا طائل تحته.

(٧) الذاريات ٥١ : ٥٦.

(٨) تفسير الإمام : ١٣٥ ـ ١٤٢.

٢١٤

[٢ / ٥٨٥] وروى الصدوق بإسناده عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام : «لا عبادة إلّا بتفقّه» (١).

[٢ / ٥٨٦] وروى الكليني بإسناده عن معمّر بن خلّاد قال : سمعت أبا الحسن الرّضا عليه‌السلام يقول : «ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم ، إنّما العبادة التفكّر في أمر الله عزوجل» (٢).

[٢ / ٥٨٧] وروى الصدوق بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما عبد الله بشيء أفضل من الصمت والمشي إلى بيته» (٣).

[٢ / ٥٨٨] وروى الكليني بالإسناد إلى أحمد بن محمّد بن خالد عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أفضل العبادة إدمان التفكّر في الله وفي قدرته» (٤).

[٢ / ٥٨٩] وبإسناده إلى الفضيل بن يسار قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «إنّ أشدّ العبادة الورع» (٥).

[٢ / ٥٩٠] وبإسناده إلى عليّ بن الحسين عليه‌السلام قال : «من عمل بما افترض الله عليه فهو من أعبد الناس» (٦).

[٢ / ٥٩١] وروى الصدوق فيما أوصى به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام : «يا عليّ من أتى بما افترض الله عليه فهو من أعبد الناس» (٧).

[٢ / ٥٩٢] وبإسناده إلى إسماعيل بن مسلم عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «العبادة سبعون جزءا وأفضلها جزءا ، طلب الحلال» (٨).

[٢ / ٥٩٣] وروى الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن محبوب عن جميل عن هارون بن خارجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ العبّاد ثلاثة ، قوم عبدوا الله خوفا فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء ، وقوم عبدوا الله حبّا له فتلك عبادة الأحرار ، وهي

__________________

(١) الخصال : ١٨ ؛ البحار ١ : ٢٠٧ / ٤ ؛ الكافي ٨ : ٢٣٤ / ٣١٢.

(٢) الكافي ٢ : ٥٥ / ٤ ؛ البحار ٦٨ : ٣٢٢ / ٤.

(٣) نور الثقلين ١ : ٤٠ ؛ الخصال : ٣٥ / ٨ ؛ ثواب الأعمال : ١٧٨ ؛ البحار ٦٨ : ٢٧٨ / ١٥.

(٤) الكافي ٢ : ٥٥ / ٣ ؛ البحار ٦٨ : ٣٢١ / ٣.

(٥) الكافي ٢ : ٧٧ / ٥ ؛ البحار ٦٧ : ٢٩٧ ـ ٢٩٨ / ٥.

(٦) الكافي ٢ : ٨٤ / ٧ ؛ البحار ٦٧ : ٢٥٧ / ١٤.

(٧) الخصال : ١٢٥ / ١٢٢ ؛ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٥٨ / ٥٧٦٢ ؛ البحار ٧٤ : ٤٥ / ٢.

(٨) معاني الأخبار : ٣٦٦ ـ ٣٦٧ / ١ ؛ الكافي ٥ : ٧٨ / ٦ ؛ ثواب الأعمال : ١٨٠ ؛ البحار ١٠٠ : ٧ / ٢٥.

٢١٥

أفضل العبادة» (١).

[٢ / ٥٩٤] وروى الصدوق فيما ذكره الفضل بن شاذان من العلل عن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «فإن قال : فلم يعبدوه؟ قيل : لئلّا يكونوا ناسين لذكره ولا تاركين لأدبه ، ولا لاهين عن أمره ونهيه ، إذ كان فيه صلاحهم وقوامهم ، فلو تركوا بغير تعبّد لطال عليهم الأمد فقست قلوبهم» (٢).

[٢ / ٥٩٥] وروى الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن العبّاس بن معروف عن عبد الرحمان بن أبي نجران قال : «كتبت إلى أبي جعفر عليه‌السلام ـ أو قلت له ـ : جعلني الله فداك ، نعبد الرحمان الرحيم الواحد الأحد الصمد؟ فقال : إنّ من عبد الإسم دون المسمّى بالأسماء فقد أشرك وكفر وجحد ولم يعبد شيئا ، بل اعبد الله الواحد الأحد الصمد المسمّى بهذه الأسماء دون الأسماء ، إنّ الأسماء صفات وصف بها نفسه تعالى» (٣).

[٢ / ٥٩٦] وروى الصدوق خطبة للرضا عليه‌السلام يقول فيها : «أوّل عبادة الله معرفته ، وأصل معرفة الله توحيده ، ونظام توحيد الله نفي الصفات عنه ، لشهادة العقول أنّ كلّ صفة وموصوف مخلوق ، وشهادة كلّ مخلوق أنّ له خالقا ليس بصفة ولا موصوف ، وشهادة كلّ صفة وموصوف بالاقتران وشهادة الاقتران بالحدوث ، وشهادة الحدوث بالامتناع من الأزل الممتنع من الحدوث» (٤).

[٢ / ٥٩٧] وروى بإسناده إلى الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «النظر إلى ذرّيّتنا عبادة. فقيل له : يا ابن رسول الله ، النظر إلى الأئمّة منكم عبادة أو النظر إلى جميع ذرّيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : بل النظر إلى جميع ذريّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبادة ما لم يفارقوا منهاجه ، ولم يتلوّثوا بالمعاصي» (٥).

قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)

[٢ / ٥٩٨] أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يقول :

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٠ ؛ الكافي ٢ : ٨٤ / ٥ ؛ البحار ٦٧ : ٢٥٥ / ١٢.

(٢) عيون الأخبار ٢ : ١١٠ / ١ ؛ علل الشرائع ١ : ٢٥٦ ؛ البحار ٦ : ٦٣.

(٣) الكافي ١ : ٨٧ ـ ٨٨ / ٣.

(٤) عيون الأخبار ١ : ١٣٥ ـ ١٣٦ / ٥١ ؛ التوحيد : ٣٤ ـ ٣٥ ؛ البحار ٤ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ / ٣.

(٥) عيون الأخبار ٢ : ٥٥ / ١٩٦ ؛ الأمالى للصدوق : ٣٦٩ ـ ٣٧٠ / ٤٦١ ـ ٢ ، المجلس ٤٩ ؛ البحار ٩٣ : ٢١٨ / ٢.

٢١٦

خلقكم وخلق الّذين من قبلكم (١).

[٢ / ٥٩٩] وأخرج ابن جرير بالإسناد إلى أبي صالح ، عن ابن عبّاس وعن مرّة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يقول : خلقكم وخلق الّذين من قبلكم (٢).

قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

[٢ / ٦٠٠] أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قوله : (لَعَلَّكُمْ) يعني كي ، غير آية في الشعراء (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ)(٣) يعني كأنّكم تخلدون (٤).

[٢ / ٦٠١] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) ولم تكونوا شيئا (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأمم الخالية (لَعَلَّكُمْ) يعني لكي (تَتَّقُونَ) الشرك وتوحّدوا الله عزوجل إذا تفكّرتم في خلقكم وخلق الّذين من قبلكم (٥).

وقال الشيخ الطوسي : قال بعضهم : معنى قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) : لكي تتّقوا النار في ظنّكم ورجائكم ، لأنّهم لا يعلمون أنّهم يوقون النار في الآخرة ، لأنّ ذلك من علم الغيب الّذي لا يعلمه إلّا الله. قال : لعلّكم تتّقون ذلك في ظنّكم ورجائكم (٦).

[٢ / ٦٠٢] وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحّاك في قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) قال : تتّقون النار (٧).

[٢ / ٦٠٣] وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) قال : تطيعون (٨).

قلت : وأوفق التفاسير هو تفسير مجاهد : «لعلّكم تطيعون». وذلك لأنّ التقوى ـ كما نبّهنا سابقا

__________________

(١) الدرّ ١ : ٨٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٦٠ / ٢١٧ ، وزاد : وروي عن مجاهد نحو ذلك.

(٢) الطبري ١ : ٢٣٣ / ٣٩٧.

(٣) الشعراء ٢٦ : ١٢٩.

(٤) الدرّ ١ : ٨٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٦٠ / ٢١٨ ؛ البخاري ٦ : ١٦ ، بلفظ : قال ابن عبّاس : لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ : كأنّكم.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ٩٣.

(٦) التبيان ١ : ٩٩.

(٧) الدرّ ١ : ٨٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٦٠ / ٢١٩ ، بلفظ : قال : يقول : لعلّكم تتّقون النار بالصلوات الخمس.

(٨) الدرّ ١ : ٨٥ ؛ الطبري ١ : ٢٣٣ / ٣٩٨ ؛ التبيان ١ : ٩٨.

٢١٧

ـ هي حالة نفسيّة تجعل الإنسان على وعي تامّ في الالتزام بتعهّداته الإنسانيّة الكريمة ، إمّا تجاه خالقه الّذي أنعم عليه بالحياة ومتعها ، أو تجاه من أسدى إليه حسنة ، وكذا تجاه أهله وذويه وأمثالهم ممّن يشعر بأنّ لهم حقّا عليه ، فيجب الخروج منه.

ولذا فسّرنا التقوى بالتعهد الإنساني النبيل. وهي صفة قدسيّة تصعد بالإنسان على مدارج الكرامة العليا.

وهذه الحالة لا تحصل إلّا بالمراوضة على التذلّل والخضوع لديه سبحانه والاجتهاد في عبادته عن وعي وإخلاص.

وأمّا التعبير بلعلّ فلسرّ فيها سننبّه عليه.

[٢ / ٦٠٤] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عون بن عبد الله بن غنية قال : (لَعَلَّ) من الله واجب (١).

[٢ / ٦٠٥] وهكذا جاء في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : «(لَعَلَّ) من الله واجب لأنّه أكرم من أن يعني (٢) عبده بلا منفعة ويطمعه في فضله ثمّ يخيّبه ، ألا ترى كيف قبح من عبد من عباده إذا قال لرجل : اخدمني لعلّك تنتفع بي ولعلّي أنفعك بها ، فيخدمه ثمّ يخيّبه ولا ينفعه ، فالله ـ عزوجل ـ أكرم في أفعاله وأبعد من القبيح في أعماله من عباده» (٣).

«لعلّ» في كلامه تعالى

ذكروا في معنى «لعلّ» أنّها للتوقّع ، وهو : ترجّي المحبوب والإشفاق من المكروه. نحو : لعلّ الحبيب قادم ، ولعلّ الرقيب حاصل (٤).

وبما أنّ توقّع أمر يستدعي كون المتوقّع على شكّ من وقوعه ، فيترجّاه أو يخاف عقباه ، حيث لا يقطع بتحقّقه حتميّا ، الأمر الّذي يتنافى وعلمه تعالى الأزلي بما يكون.

لكنّ حروف الترجّي كلّها إنّما تحاكي مفاهيمها في ذات معانيها حسب الوضع ، من غير دلالتها على مختلجات الصدور ، إلّا عرضا وبدلالة الاقتضاء فيما ناسب من مظانّها ، الأمر الّذي لا موضع له

__________________

(١) الدرّ ١ : ٨٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ١٠٨ / ٥١٦.

(٢) الإعناء : الإتعاب بالتكاليف الشاقّة.

(٣) تفسير الإمام : ١٤٢.

(٤) مغني اللبيب لابن هشام ١ : ٢٨٧.

٢١٨

بالنسبة إليه تعالى.

توضيحه : أنّ حروف الترجّي ـ والّتي منها «لعلّ» ـ إنّما وضعت للدلالة على أنّ ما قبلها لا يبلغ مبلغ العلّة التامّة لما بعدها. وإنّما هو في مرحلة الاقتضاء فحسب ، كما في قولك : تعلّم لعلّك تصبح عالما يستفيد منك الناس. إذا التعلّم ، غايته حصول العلم النافع للناس ، وهذا من الاقتضاء ـ عادة وعرفا ـ وليس كلّ من تعلّم بلغ هذه المرتبة حتميّا.

وهذا المعنى لا ينبئ عن شكّ وترديد في نفس المتكلّم بهذا الكلام ، وإنّما هو بيان منه لهذا الاقتضاء الطبيعي حسب العادة المعهودة ، فقد يبلغه الساعي وقد لا يبلغه ولا يساعده التوفيق.

على المرء أن يسعى بمقدار جهده

وليس عليه أن يكون الموفّقا

وكلّ ما جاء في كلامه تعالى ـ من حروف الترجّي ـ جارية هذا المجرى ، حيث الخطاب عامّ ، وليس كلّ من عبد الله حصلت له حالة التقوى ، إلّا العارفين المخلصين وهم على خطر عظيم.

انظر إلى قوله تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١). فكان العفو مظنّة الشكر ممّن وعى وتدبّر ، لا الّذي غوى وتبطّر.

وقوله تعالى : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(٢) حيث الغاية من بعثة نبيّ الله موسى عليه‌السلام هو اهتداء قومه ، لو اعتبروا.

وهكذا آيات أخرى كان التوقّع فيها بمعنى وجود المقتضي لو لا الموانع ، لا أنّ نفسيّة صاحب الكلام كانت على وجل أو رجاء.

فقوله عليه‌السلام : «لعلّ في كلامه تعالى واجب» يريد : أنّ الأثر المتوقّع قد تمّت أسبابه من قبله تعالى ، وإن كان تحقّقه منوطا بشروط يقوم بها العباد ، لو لا تقاعسهم المستوجب للحرمان.

قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً)

[٢ / ٦٠٦] أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) قال : هي فراش يمشى عليها ، وهي المهاد والقرار ، (وَالسَّماءَ بِناءً) قال : بنى

__________________

(١) البقرة ٢ : ٥٢.

(٢) البقرة ٢ : ٥٣.

٢١٩

السماء على الأرض كهيئة القبّة ، وهي سقف على الأرض (١).

[٢ / ٦٠٧] وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) قال : مهادا لكم (٢).

[٢ / ٦٠٨] وقال مقاتل بن سليمان : ثمّ دلّ على نفسه بصنعه ليوحّدوه وذكّرهم النعم فقال ـ سبحانه ـ : اعبدوا ربّكم (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) يعني بساطا (وَالسَّماءَ بِناءً) يعني سقفا (٣).

[٢ / ٦٠٩] وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : (وَالسَّماءَ بِناءً) قال : جعل السماء سقفا لك (٤).

[٢ / ٦١٠] وأخرج أبو داوود وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن جبير بن مطعم قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله جهدت الأنفس ، وضاعت العيال ، ونهكت الأموال ، وهلكت المواشي. استسق لنا ربّك ، فإنّا نستشفع بالله عليك ، وبك على الله. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «سبحان الله! فما زال يسبّح حتّى عرف ذلك في وجوه أصحابه فقال : ويحك أتدري ما الله؟ إنّ شأنه أعظم من ذلك ، وإنّه لا يستشفع به على أحد ، إنّه لفوق سماواته على عرشه ، وعرشه على سماواته ، وسماواته على أرضيه هكذا ـ وقال بأصابعه مثل القبّة ـ وإنّه ليئطّ به أطيط الرحل بالراكب» (٥).

[٢ / ٦١١] وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ في العظمة عن أياس بن معاوية قال : السماء مقبّبة على الأرض مثل القبّة (٦).

[٢ / ٦١٢] وأخرج أبو الشيخ عن وهب بن منبّه قال : شيء من أطراف السماء محدق بالأرضين ،

__________________

(١) الدرّ ١ : ٨٥ ؛ الطبري ١ : ٢٣٤ و ٢٣٥ / ٣٩٩ و ٤٠٢.

(٢) الطبري ١ : ٢٣٤ / ٤٠٠ وفي ٤٠١ عن الربيع بن أنس ؛ البخاري ٤ : ٧٥ ، نقلا عن مجاهد ، كتاب الجزية والموادعة ، باب ٣.

(٣) تفسير مقاتل ١ : ٩٣.

(٤) الطبري ١ : ٢٣٥ / ٤٠٣.

(٥) الدرّ ١ : ٨٥ ـ ٨٦ ؛ أبو داوود ٢ : ٤١٨ ـ ٤١٩ / ٤٧٢٦ ، كتاب السنّة ، باب ١٩ (في الجهميّة) ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٦١ / ٢٢٣ ، بلفظ : ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحك! أتدري ما الله؟ إنّ الله على عرشه وعرشه على سماواته وسماواته على أرضه هكذا ـ وقال بإصبعه مثل القبّة ؛ الأسماء والصفات ٣ : ٥٧٦ ـ ٥٧٧.

(٦) الدرّ ١ : ٨٦ ؛ العظمة ٣ : ١٠٢٤ / ٥٤٠ ، باب ٢٠ (صفة السماوات).

٢٢٠