التفسير الأثري الجامع - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-03-6
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

[٢ / ٥٤٥] وأخرج عن الربيع بن أنس في قوله : (فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) قال : مثلهم كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة ولها مطر ورعد وبرق على جادّة (١) ، فلما أبرقت أبصروا الجادّة فمضوا فيها ، وإذا ذهب البرق تحيّروا. وكذلك المنافق كلّما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاء له ، فإذا شكّ تحيّر ووقع في الظلمة ، فكذلك قوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) ثمّ قال : في أسماعهم وأبصارهم الّتي عاشوا بها في الناس : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ)(٢).

[٢ / ٥٤٦] وقال مقاتل بن سليمان : ثمّ قال ـ سبحانه ـ : (يَكادُ الْبَرْقُ) الّذي في المطر (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) يعني يذهب بأبصارهم من شدّة نوره. يقول ـ سبحانه : مثل الإيمان إذا تكلّم به المنافق مثل نور البرق الّذي يكاد أن يذهب بأبصارهم (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) البرق (مَشَوْا فِيهِ) يقول كلّما تكلّموا بالإيمان مضوا فيه يقول : ويضيء لهم نورا يهتدون به (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) البرق أي ذهب ضوءه (قامُوا) في ظلمة لا يبصرون الهدى (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) فلا يسمعون (وَأَبْصارِهِمْ) فلا يرون أبدا ، عقوبة لهم (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من ذلك وغيره (٣).

[٢ / ٥٤٧] وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : إضاءة البرق وإظلامه على نحو ذلك المثل (٤).

[٢ / ٥٤٨] وأخرج عن سعيد ، عن قتادة في قوله : (فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) إلى قوله : (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) قال : فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاء أو طمأنينة أو سلوة من عيش ، قال : أنا معكم وأنا منكم ؛ وإذا أصابته شدّة حقحق (٥) والله عندها فانقطع به (٦) فلم يصبر على بلائها ، ولم يحتسب أجرها ، ولم يرج عاقبتها (٧).

[٢ / ٥٤٩] وأخرج عن معمر ، عن قتادة في قوله : (فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) يقول : أخبر عن قوم لا يسمعون شيئا إلّا ظنّوا أنّهم هالكون فيه حذرا من الموت ، والله محيط بالكافرين. ثمّ ضرب لهم مثلا آخر فقال : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) يقول : هذا المنافق ، إذا كثر ماله

__________________

(١) الجادّة : الطريق اللائح.

(٢) الطبري ١ : ٢٢٥ / ٣٨٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٥٩ / ٢١٠ و ٢١٢.

(٣) تفسير مقاتل ١ : ٩٢ ـ ٩٣.

(٤) الطبري ١ : ٢٢٤ / ٣٨٢.

(٥) الحقحقة : الوقفة في السير لشدّة التعب.

(٦) يقال : انقطع به السير أي وقف فلم يطق الحراك.

(٧) الطبري ١ : ٢٢٤ / ٣٨٣.

١٨١

وكثرت ماشيته وأصابته عافية قال : لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلّا خير ، (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) يقول : إذا ذهبت أموالهم وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء قاموا متحيّرين (١).

[٢ / ٥٥٠] وأخرج الثعلبي عن الوالبي عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) قال : هم اليهود لمّا نصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببدر طمعوا وقالوا : هذا والله النبيّ الّذي بشّرنا به موسى لا تردّ له راية ، فلمّا نكب باحد ارتدّوا وسكتوا (٢).

[٢ / ٥٥١] وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمان بن زيد في قوله : (فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) فقرأ حتّى بلغ : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال : هذا أيضا مثل ضربه الله للمنافقين ، كانوا قد استناروا بالإسلام كما استنار هذا بنور هذا البرق (٣).

[٢ / ٥٥٢] وأخرج أحمد بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر ، وقلب أغلف مربوط على غلافه ، وقلب منكوس ، وقلب مصفح ، فأمّا القلب الأجرد فقلب المؤمن ، فسراجه فيه نوره ، وأمّا القلب الأغلف فقلب الكافر ، وأمّا القلب المنكوس فقلب المنافق ، عرف ثمّ أنكر ، وأمّا القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدّها الماء الطيّب ، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدّها القيح والدم ، فأيّ المادّتين غلبت على الأخرى غلبت عليه» (٤). قال ابن كثير : وهذا إسناد جيّد حسن.

[٢ / ٥٥٣] وروي عن ابن عبّاس في قوله : (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) قال : أي ثبتوا على نفاقهم (٥).

[٢ / ٥٥٤] وقيل : المعنى كلّما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت النعم قالوا : دين محمّد دين مبارك ، وإذا نزلت بهم مصيبة وأصابتهم شدّة سخطوا وثبتوا في نفاقهم ، عن ابن مسعود وقتادة (٦).

__________________

(١) الطبري ١ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥ / ٣٨٤ ؛ الثعلبي ١ : ١٦٥ ـ ١٦٦ بمعناه.

(٢) الثعلبي ١ : ١٦٦ ؛ القرطبي ١ : ٢٢٤.

(٣) الطبري ١ : ٢٢٥ / ٣٨٧.

(٤) مسند أحمد ٣ : ١٧ ؛ الدرّ ١ : ٢١٥ ؛ مجمع الزوائد ١ : ٦٣ ، وقال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني في الصغير ؛ ابن كثير ١ : ٥٩. والمصفح : المتقلّب. يقال : أصفح الشيء أي قلبه.

(٥) القرطبي ١ : ٢٢٣.

(٦) المصدر.

١٨٢

[٢ / ٥٥٥] وأخرج ابن جرير عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) قال : لما تركوا من الحقّ بعد معرفته (١).

[٢ / ٥٥٦] وعن الربيع بن أنس ، قال : ثمّ قال ، يعني قال الله : في أسماعهم ، يعني أسماع المنافقين وأبصارهم الّتي عاثوا بها في الناس : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ)(٢).

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

[٢ / ٥٥٧] قال ابن عبّاس : أي إنّ الله على كلّ ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير (٣).

[٢ / ٥٥٨] وروى الصدوق بإسناده إلى أبي هاشم الجعفري عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام في حديث طويل جاء فيه : «قولك : إنّ الله قدير ، خبّرت أنّه لا يعجزه شيء ، فنفيت بالكلمة العجز ، وجعلت العجز سواه» (٤).

[٢ / ٥٥٩] وبإسناده إلى أبي بصير وقال : سمعت أبا عبد الله يقول : «لم يزل الله ـ عزوجل ـ ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور ، فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم ، والسمع على المسموع ، والبصر على المبصر ، والقدرة على المقدور» (٥).

[٢ / ٥٦٠] وبإسناده إلى عمرو بن أذينة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قيل لأمير المؤمنين : هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا أو تكبر البيضة؟ قال : إنّ الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز ، والّذي سألتني لا يكون» (٦).

__________________

(١) ابن كثير ١ : ٥٩ ؛ الطبري ١ : ٢٣٠ / ٣٩٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٥٩ / ٢١٣.

(٢) الطبري ١ : ٢٣١ / ٣٩٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٥٩ / ٢١٢ ، عن أبي العاليه.

(٣) ابن كثير ١ : ٥٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٥٩ / ٢١٤. عن محمّد بن إسحاق.

(٤) التوحيد : ١٩٣ / ٧ ، باب ٢٩ (اسماء الله تعالى و...) ؛ الكافي ١ : ١١٦ ـ ١١٧ / ٧ ، كتاب التوحيد باب : معاني الأسماء واشتقاقها ؛ البحار ٤ : ١٥٣ ـ ١٥٤ / ١.

(٥) التوحيد : ١٣٩ / ١ ؛ الكافي ١ : ١٠٧ / ١ ؛ البحار ٤ : ٧١ ـ ٧٢ / ١٨.

(٦) التوحيد ١٣٠ / ٩ ، باب ٩ (القدرة) ؛ البحار ٤ : ١٤٣ / ١٠. والمعنى : أنّ العجز في القابل لا في الفاعل.

١٨٣

[٢ / ٥٦١] وبإسناده إلى ابن أبي عمير عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ إبليس قال لعيسى بن مريم عليه‌السلام : أيقدر ربّك على أن يدخل الأرض بيضة لا تصغر الأرض ولا تكبر البيضة؟ فقال عيسى عليه‌السلام. ويلك إنّ الله تعالى لا يوصف بعجز ، ومن أقدر ممّن يلطّف الأرض ويعظّم البيضة!؟» (١)

[٢ / ٥٦٢] وبإسناده إلى أبان بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : أيقدر الله أن يدخل الأرض في بيضة ولا تصغر الأرض ولا تكبر البيضة؟ فقال له : ويلك إنّ الله لا يوصف بالعجز ، ومن أقدر ممّن يلطّف الأرض ويعظّم البيضة» (٢).

[٢ / ٥٦٣] وبإسناده إلى محمّد بن أبي إسحاق الخفاف قال : حدّثني عدّة من أصحابنا أنّ عبد الله الديصاني أتى هشام بن الحكم فقال له : ألك ربّ؟ فقال : بلى. قال : قادر؟ قال : نعم ، قادر قاهر. قال : يقدر أن يدخل الدنيا كلّها في البيضة ، لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ فقال هشام : النظرة ، فقال له : قد أنظرتك حولا ، ثمّ خرج عنه ، فركب هشام إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فاستأذن عليه فأذن له ، فقال له : يا ابن رسول الله! أتاني عبد الله الديصاني بمسألة ليس المعول فيها إلّا على الله وعليك ؛ فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : عمّا ذا سألك؟ فقال : قال لي كيت وكيت ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا هشام! كم حواسّك؟ قال : خمس ، قال : أيّها أصغر؟ قال : الناظر ، قال : وكم قدر الناظر؟ قال : مثل العدسة أو أقلّ منها ، فقال له : يا هشام! فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى ، فقال : أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وترابا وجبالا وأنهارا ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّ الّذي قدر أن يدخل الّذي تراه ، العدسة أو أقلّ منها ، قادر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة». فانكبّ هشام عليه وقبّل يديه ورأسه ورجليه وقال : حسبي يا ابن رسول الله (٣).

[٢ / ٥٦٤] وبإسناده إلى أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : «جاء رجل إلى الرضا عليه‌السلام فقال له : هل يقدر ربّك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟ قال : نعم ، وفي أصغر من البيضة قد

__________________

(١) التوحيد : ١٢٧ / ٥ ، باب ٩ (القدرة) ؛ البحار ٤ : ١٤٢ / ٩.

(٢) التوحيد : ١٣٠ / ١٠ ؛ البحار ٤ : ١٤٣ / ١١.

(٣) التوحيد : ١٢٢ ـ ١٢٣ / ١ ، باب ٩ (القدرة) ؛ الكافي ١ : ٧٩ / ٤ ، كتاب التوحيد باب حدوث العالم وإثبات المحدث ؛ البحار ٤ : ١٤٠ / ٧.

١٨٤

جعلها في عينك وهو أقلّ من البيضة ، لأنّك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما ، فلو شاء لأعماك عنها» (١).

إلمامة في شمول قدرته تعالى

كانت صفة القدرة من صفاته تعالى القديمة الذاتيّة ، وكان وصف شمولها متناسبا مع عموم ربوبيّته ، فإذ كان هو تعالى ربّا لكلّ شيء ، فاستدعى ذلك أن يكون قادرا على كلّ شيء.

إذ لا ربوبيّة في غير مقدور. فلولا شمول قدرته تعالى لما كان خالقا لكلّ شيء وربّا لكلّ شيء في عالم الوجود.

هذا هو مقتضى ألوهيته تعالى الشاملة : ألوهيّة شاملة ، فقدرة شاملة أيضا ، فخلق وتدبير شاملان.

غير أنّ شمول قدرته تعالى ، إنّما يعني كلّ أمر ممكن في ذاته ، مقدور في تحقّقه. حيث القدرة لا تتعلّق بالممتنع ذاتا المستحيل ، الأمر الّذي لا يعني عجزا في الفاعل ، وإنّما هو عدم الصلاح في القابل محضا.

فالممكنات بأسرها واقعة تحت قدرته تعالى ، لا يعجزه شيء ، (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً)(٢).

وإلى ذلك ينظر ما ورد من أحاديث البيضة ، وأنّ النقص والعجز إنّما هو في القابل وليس في الفاعل ، القادر المتعالي.

__________________

(١) التوحيد : ١٣٠ / ١١ ؛ البحار ٤ : ١٤٣ / ١٢.

(٢) فاطر ٣٥ : ٤٤.

١٨٥

قال تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))

هذا أوان الشروع في مقصود السورة الأصل وكانت دعوة الناس عامّتهم إلى عبادة الله خالصة ونبذ مداعي الشرك إطلاقا ، للحصول على الغاية المنشودة هي : صفة التقوى في النفس ، وهي حالة يشعر بها الإنسان أنّه ليس مسترسلا في منهوماته ومنشغلات نفسه ، بل هو بفضل إنسانيّته يشعر بتعهّد في ذاته ، ليجعله متقيّدا في سلوكه في ذات نفسه ومع بني جلدته ، ومن ثمّ فهو يتحرّى التقيّد بالحدود المضروبة دون تصرّفاته المطلقة في حياته العامّة.

[٢ / ٥٦٥] قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ في خطاب كتبه إلى عثمان بن حنيف عامله بالبصرة ـ : «فما خلقت ليشغلني أكل الطيّبات ، كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها ، تكترش من أعلافها وتلهو عمّا يراد بها ، أو أترك سدى ، أو أهمل عابثا ، أو أجرّ حبل الضلالة ، أو أعتسف طريق المتاهة» (١).

وبعد فعند ما يتمّ استعراض الصور الثلاث ـ من متعهّد وجاحد ومراوغ ـ يعود السياق إلى نداء الناس كافّة يدعوهم إلى اختيار الصورة الكريمة والمهتدية المفلحة : صورة المتّقين :

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ : ٧٢ ، الكتاب ٤٤.

١٨٦

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

إنّه نداء عامّ إلى كافّة البشريّة جمعاء ، يدعوهم جميعا لعبادة ربّهم الّذي تفرّد بالخلق والإيجاد.

ومن ثمّ فوجب أن يتفرّد بالعبادة الخالصة. ولقد كان للعبادة هدف لعلّهم ينتهون إليه ليحققّوه ، وهو حصول التقوى في النفس والالتزام والتعهّد في العمل في كافّة أنحاء الحياة.

***

وهنا يذكّرهم بمنسيّ نعمته ـ وهي ظاهرة في مرأى منهم ومسمع ، فكيف بالخفيّ المحتاج إلى إمعان نظر ـ يذكّرهم ببركات الأرض تحتهم فراشا ، وبركات السماء فوقهم بناء : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ...) وهو تعبير يشي باليسير في حياة البشر على هذه الأرض ، وفي إعدادها لتكون لهم سكنا مريحا وملجأ واقيا كالفراش. والناس يتناسون هذا الفراش الممهّد لهم ، لطول ما ألفوه.

(وَالسَّماءَ بِناءً) فيها متانة البناء وتنسيق البناء. والسماء ذات علاقة وثيقة بحياة الإنسان في الأرض وبسهولة هذه الحياة. هي بحرارتها وضوئها وجاذبيّة أجرامها وتناسقها وسائر النسب بين الأرض وأكناف السماء ، كلّ ذلك تمهيد لقيام الحياة على الأرض ومساعدة عليها مساعدة بانتظام.

والّتي من بركاتها إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به :

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ).

قد تكرّر ذكر إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به ، في مواضع شتّى من القرآن ، في معرض التذكير بنعم الله الجسام ولا شكّ أنّ الماء النازل من السماء هو مادّة الحياة الرئيسيّة للأحياء في الأرض جميعا ؛ فمنه تنشأ الحياة بكلّ أشكالها ودرجاتها (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ)(١).

وقصّة الماء في الأرض ودوره في حياة الناس ، وتوقّف الحياة عليه في كلّ صورها وأشكالها. كلّ هذا ممّا لا يقبل المماحكة ، وإنّما تكفي الإشارة إليه والتذكير به في مقام الدعوة إلى عبادة الخالق الرازق الوهّاب.

وفي ذلك النداء تبرز كليّتان من كليّات التصوّر الإسلامي :

١ ـ وحدة الخالق لكلّ الخلائق (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

٢ ـ ووحدة الكون وتناسق وحداته وصداقته للحياة وللإنسان : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً

__________________

(١) الأنبياء ٢٢ : ٣٠.

١٨٧

وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ)(١).

فهذا الكون أرضه مفروشة لهذا الإنسان ، وسماؤه مبنيّة بنظام ، معينة بالماء الّذي تخرج به الثمرات رزقا للإنسان. وهذا الانسجام والتوائم لممّا يدلّ بوضوح على وحدة الخالق المتعالي ، وبالأحرى أن يكون متفرّدا في العبوديّة واللجوء إليه في جميع الحوائج.

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

وأنتم تعلمون أنّه لا ندّ له ، لا نظير له يعارضه ، ولا شريك له يساعده ، فالشرك به بعد هذا العلم تصرّف لا يليق ، بل هو ظلم عظيم.

والندّ : المثل ، إمّا نظير معارض ، أو شريك مساعد.

[٢ / ٥٦٦] وفي الحديث : «قال رجل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما شاء الله وشئت! فقال له النبيّ : جعلتني لله ندّا؟ ما شاء الله وحده!» (٢)

***

ولقد كان اليهود يشكّكون في صحّة رسالة نبيّ الإسلام ، وكان المنافقون يساندونهم ويثيرون الريب فيها ، كما ارتاب المشركون وشكّكوا من قبل. فهنا يأتي القرآن ليتحدّى الجميع ؛ إذ جاء الخطاب عامّا إلى الناس جميعا. يتحدّاهم بتجربة واقعيّة تفصل في الأمر وتفصم مادّة النزاع.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

وهذا التحدّي ظلّ قائما في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعدها ، وما يزال قائما مرّ الأجيال. وهو حجّة قائمة في كلّ وقت ، لا سبيل إلى المماحكة فيها. وما يزال القرآن متميّزا من كلّ كلام يقوله البشر تمييزا واضحا قاطعا. وسيظلّ كذلك مع الأبد. سيظلّ كذلك معجزة خالدة ، وتصديقا لقوله تعالى المعجز بنفس التعبير :

__________________

(١) الأنبياء ٢٢ : ٣٠. راجع مباحثنا عن دور الماء في الحياة ، عند الكلام عن الإعجاز العلمي للقرآن ، في الجزء السادس من التمهيد : ٣٥ ـ ٤٦.

(٢) أخرجه السيوطي في الدرّ المنثور ١ : ٨٨ عن عدّة مصادر بألفاظ مختلفة ومتقاربة كما يأتي واللفظ هنا لأبي نعيم في الحلية ٤ : ٩٩ في ترجمة يزيد بن الأصمّ (٢٥٢).

١٨٨

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).

والتحدّي هنا عجيب ، والجزم بعدم إمكانه أعجب! ولو كان في الطاقة تكذيبه ما توانوا عنه لحظة. وما من شكّ أنّ تقرير القرآن الكريم أنّهم لن يفعلوه ، وتحقّق هذا العجز على صفحة التاريخ كما قرّره القرآن ، هو بذاته معجزة باهرة لا موضع للمماراة فيها. وهذه هي كلمة الفصل التاريخيّة الخالدة.

ومن ثمّ كان المراء فيها بعد هذا الوضوح ، لا ينشأ إلّا عن جهالة مقيتة أو غرض خبيث ، فكان موضعا لمثل هذا التهديد المخيف : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).

يعني : فإذ قد أمكنتكم الجهالات والأحقاد ، الجحود والمماراة ، فلتسعكم التحرّز عن العقوبات الّتي تنتظركم ، وهي من أشدّ العقوبات. وهي النار الّتي تلتهم الحجر الصلد ، فكيف بذوي الأجسام النحاف!!

وفي الجمع بين الحجارة والناس هنا دقيقة ظريفة : إذ الّذي يجحد البرهان اللائح ، إنّما هو في صورة إنسان ، ولكنّه في واقعه حجارة خشناء. فليكن إلى جنبها في الابتعاد عن إدراك الفضائل والمكرمات.

وكذا في التعبير بقوله : (مِنْ مِثْلِهِ) إشارة إلى أنّ النبيّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو فصل عن مقام رسالته وجحدت نبوّته ، لأصبح عربيّا متجرّدا عائشا في أحضان الجاهليّة الجرداء. على غرار سائر العرب لا شأن لهم في ميادين الحضارة الراقية ، ولا عهد بالعلوم والمعارف السامية. فشأنه ـ والحال هذه ـ شأن أمثاله العرب العرباء.

إذن فكان يمكنهم أن يأتوا برجل منهم يكافئ محمّدا في مثل حديثه.

وإذ لم يأتوا ـ ولن يأتوا ـ فليعلموا أنّما أنزل بعلم الله (١) ، لا يد لأيّ إنسان عائش على الأرض في نظم مثل هذا التأليف الأنيق الفخيم ، والمعجز الخارق القويم.

***

وفي مقابل ذلك المشهد المفزع ، يعرض المشهد المشرّف ، مشهد النعيم الّذي ينتظر أصحاب الإيمان.

__________________

(١) من الآية ١٣ من سورة هود.

١٨٩

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ).

هي ألوان من النعيم من ثمار نكهة وازواج مطهّرة وجنّات زاهرة وعيون جارية. جاءت متشابهة. هي بظاهرها تشبه نعيم الدنيا في زهرتها. ولكنّها تشابهت عليهم. فهناك الفارق كبير. واللذائذ هناك تفترق عن لذائذ الدنيا بكثير. إذ لا تنقصها عيب ولا تنغض الالتذاذ بها خوف الفساد والزوال. وهم فيها خالدون. ينالها من لذّة دائمة وعيش هنيء ينعم بها أولو النهى وأصحاب العقول الراجحة. ويحرم عنها المتشاكسون.

وبعد فينبغي بنا ونحن على أهبة عرض أحاديث الباب ، أن نقدّم بحثا موجزا عن مسألة التحديّ مع إلمامة بوجوه إعجاز القرآن ، ونوكل التفصيل إلى مباحثنا عن الإعجاز في التمهيد.

حديث التحدّي

حديث التحدّي حديث طريف مذيّل كثر الكلام فيه من نواحي شتّى ، وقد بحثنا عنها في مجال مسبق (١). وبقي أن نتحدّث هنا عن ترتيبها حسب النزول ، ممّا أجملنا الكلام فيه هناك.

لا شكّ أنّ التحدّي نحو مقارعة مع الخصم العنود ، إظهارا لعجزه وربما امتهانا بشأنه. فكان من الطبيعى أن يقع التحدّي من الأشدّ إلى الأخفّ ، فقد تحدّاهم القرآن أوّلا لو أن يأتوا بحديث مثله (٢) ، في مثل الحجم النازل منه (٣) وعلى كيفيّته الخاصّة البارعة.

ثمّ تنازل إلى عشر سور مثله مفتريات ـ كما زعموا ـ (٤). وأخيرا تحدّاهم بما لو يأتون بسورة مثله (٥) ومن مثله (٦).

هذا ما يقتضيه طبع القضيّة. غير أنّ هنا سؤالا ، نظرا إلى أن سورة يونس الّتي وقع التحدّي فيها بسورة مثله ، كان رقم نزولها : ٥١. قبل سورة هود الّتي وقع التحدّي فيها بعشر سور مثله ، حيث رقم

__________________

(١) في الجزء الرابع من التمهيد. وسوف نلخّصها في نهاية الفصل.

(٢) في سورة الطور ٥٢ : ٣٤. ورقم نزولها بمكة : ٤٥.

(٣) في حجم ٤٥ سورة كانت نازلة لحدّ ذاك الوقت.

(٤) في سورة هود ١١ : ١٣. ورقم نزولها بمكة : ٥٢.

(٥) في سورة يونس ١٠ : ٣٨. ورقم نزولها بمكة : ٥١.

(٦) البقرة ٢ : ٢٣.

١٩٠

نزولها : ٥٢! وهل وقع التحدّي من الأخفّ إلى الأشدّ؟!

قلت : لا ثقة بهذا الترتيب ـ وفق المأثور ـ ليكون حتما لا نقاش فيه ، فلعلّ هناك بعض التقديم والتأخير أو تساهلا في تسلسل الترقيم. لا سيّما والاختلاف في كثير من مواضع الترتيب معروف.

على أنّ هناك من الآيات ما نزلت في وقت ، ولكن تأخّر تسجيلها في سورة نزلت بعدها بزمان. أو العكس : كان من الآيات ما نزلت في وقت متأخّر عن وقت نزول سورتها.

فمن النوع الأوّل آية الصدع (١) وآية إنذار الأقربين (٢) نزلتا في إبّان الدعوة عند ما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإظهار الدعوة وليبدأ بعشيرته الأقربين.

قال أبو جعفر الطبري : ثمّ إنّ الله ـ عزوجل ـ أمر نبيّه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد مبعثه بثلاث سنين أن يصدع بما جاءه منه ، وأن يبادي الناس بأمره ويدعو إليه ، فقال له : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ). وكان قبل ذلك ـ في السنين الثلاث من مبعثه ـ مستسرّا مخفيا أمره.

قال : وأنزل عليه : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ...). قال : وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا صلّوا ذهبوا إلى الشّعاب ، فاستخفوا من قومهم (٣).

هذا وآية الصدع مسجّلة في سورة الحجر ، رقم نزولها : ٥٤. وآية الإنذار مثبتة في سورة الشعراء ، رقم نزولها : ٤٧. الأمر الّذي يقتضي نزولها في فترة متأخرة عام الست أو السبع من البعثة. بعد ملاحظة أنّ مجموعة السور النازلة بمكة : ٨٦ سورة. وقد بدئت بعد العام الثالث من البعثة.

فكان ثبت آية الصدع في سورة الحجر ، المتأخرة نزولا عن سورة الشعراء المثبت فيها آية الإنذار. كان ذلك دليلا على أنّ ترتيب نزول الآيات غير مرعيّ في ثبتها في السور.

ومن النوع الثاني ما قيل بشأن آخر آية نزلت من القرآن ، وهي قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٤) ، فيما رواه ابن الأنباري بإسناده إلى ابن عبّاس قال : آخر آية أنزلت : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ...). قال : وكان بين نزولها ووفاة

__________________

(١) قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) الحجر ١٥ : ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) الشعراء ٢٦ : ٢١٤.

(٣) تاريخ الطبري ٢ : ٣١٨ ؛ سيرة ابن هشام ١ : ٢٨٠.

(٤) البقرة ٢ : ٢٨١.

١٩١

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد وثمانون يوما (١).

هذا مع العلم بأنّ سورة البقرة هي أوّل سورة نزلت بالمدينة ، وكمل نزولها خلال خمس سنين. فالآية تأخّر نزولها بعد إكمال السورة بخمس سنين ، لأنّها نزلت سنة العشر من الهجرة ، قبيل وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأقل من ثلاثة أشهر.

وأمثال ذلك كثير ، من آيات سجّلت في مواضعها من السور ، من غير ما مراعاة للترتيب ، لا بالنسبة إلى الآيات بعضها مع بعض ، ولا بالنسبة إلى السور المدرج فيها.

***

خذ لذلك مثلا قاطعا ، سورة الممتحنة :

تبتدئ السورة بآيات نزلن بشأن حاطب بن أبي بلتعة سنة ثمان من الهجرة ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شهر رمضان سنة ثمان ، أجمع على المسير إلى مكّة ، محاولا إخفاء مسيره إليها ، وقال : «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتّى نبغتها» (٢).

ولكنّ حاطب بن بلتعة كتب كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأرسله مع امرأة ، يقال : إنّها سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب ، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا فجعلته في رأسها ثمّ فتلت عليه قرونها ثمّ خرجت تريد مكّة.

لكنّ الله فضحها وأخبر رسوله بذلك ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا والزبير إليها فأدركاها بذي الحليفة فاستنزلاها ففتّشا رحلها. فاضطرّت إلى استخراج الكتاب وفضح أمرها.

قال ابن هشام : وفي ذلك أنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ...)(٣).

فصدر السورة نزلت في العام الثامن للهجرة.

أمّا الآيتان : العاشرة والحادية عشره. فقد نزلتا بعد صلح الحديبيّة عام الستّ من الهجرة. بشأن سبيعة بنت الحارث الأسلميّة ، جاءت مسلمة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فور ختم كتاب الصلح.

وكان من موادّ الصلح : أنّ من أتاه من مكّة ردّه إليهم.

__________________

(١) الزركشي في البرهان ١ : ٢٠٩ ، النوع العاشر.

(٢) من البغتة بمعنى المفاجئة أي نفاجئها.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ : ٤٠ ـ ٤١. وراجع : مجمع البيان ٩ : ٢٦٩.

١٩٢

فجاء زوجها مسافر المخزومي في طلبها وكان مشركا ، فقال : يا محمّد ، اردد عليّ امرأتي بنصّ كتاب الصلح وعلى ما شرطت لنا. وهذه طينة الكتاب لم تجفّ!!

فاحتار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمره. فنزلت الآيتان :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ...) إلى قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ).

فامتنع النبي من ردّها. وحكم بإبانتها عن زوجها الكافر. فتزوّجها رجل من المسلمين. وبذلك اختص شرط الردّ بالرجال دون النساء المهاجرات (١).

وبذلك تبيّن أنّ ثبت آية في موضعها من أيّ سورة كانت ، لا ينمّ عن موضعها حسب النزول ، لا بالنسبة إلى السورة ذاتها ، ولا بالنسبة إلى مكتنفاتها من آيات.

إذن فلا موضع للجدل بشأن آيات التحدّي حسب ترتيب بعضها مع بعض ، نظرا إلى مواضعها من السور ، وهي لا تنمّ عن شيء.

فالمرجع هو الدليل القائل بأنّ التحدّي بالعشر يجب أن يكون واقعا قبل التحدّي بسورة واحدة. إيذانا بموضع ضعف المناوئين وامتهانا بمقدرتهم على المعارضة.

***

وأخيرا فلا يذهب عليك فتتوهّم أنّ يدا عابثة لعبت بهكذا آيات فغيّرت من مواضعها الأصل. كلّا بل الّذي نقوله : إنّ لفيفا من الآيات سجّلت على غير ترتيب نزولها بإرشاد من الوحي ، لحكمة قد تخفى علينا. ومن ثمّ فإنّ ترتيب ثبت الآيات جميعا في مواضعها من السور ، توقيفى لا غير. حسبما فصّلنا الكلام فيه.

وبعد فإليك إجمالا من مباحث حول قضيّة التحدّي مرّت عليك في مباحثنا عن مسألة الإعجاز :

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٢٧٣. وراجع : ابن هشام ـ السيرة ٣ : ٣٤١ ، والبحار ٨٩ : ٦٧.

١٩٣

التحدّي في خطوات

لقد تحدّى القرآن ـ في وقته ـ عامّة العرب ، وهم أهل فصاحة وبيان. وذلاقة لسان. وقد لمسوه بأناملهم فوجدوه صعبا على سهولته ، وممتنعا على مرونته. فحاولوا معارضته. ولكن لا بالكلام ، لعجزهم عنه وضحالة مقدرتهم تجاه شوكته. فعمدوا إلى مقارعته بالسيوف وبذل الأموال والنفوس ، فلم يستطيعوا مقابلته في هذا الميدان أيضا. فباؤوا بالفشل والفضيحة مع الأبد.

وربما كانوا بادئ ذي بدء استهانوا من شأنه حيث قولهم : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(١).

وقالوا : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ)(٢). وقالوا : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)(٣). وقالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)(٤). إلى أمثالها من تعابير تنمّ عن سخف أوهامهم.

ولكن سرعان ما تراجعوا عن مقابلته وانقلبوا صاغرين ، وقد ملكتهم روعة هذا الكلام الخارق المعجز ، وتحدّاهم في مراحل :

أوّلا : فليأتوا بحديث مثله كملا : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ)(٥).

ثانيا : حدّد لهم لو يأتون بعشر سور مثله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ)(٦).

ثالثا : امتهانا بشأنهم تنازل أن لو استطاعوا أن يأتوا بسورة واحدة : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(٧).

وأخيرا حكم عليهم حكمه الباتّ : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا)(٨) : أن ليس باستطاعتهم ذلك مهما حاولوه وأعدّوا له واستعدّوا ، لأنّه يفوق كلام البشر كافّة!!

__________________

(١) الأنفال ٨ : ٣١.

(٢) المدثّر ٧٤ : ٢٥.

(٣) النحل ١٦ : ١٠٣.

(٤) الأنعام ٦ : ٩١.

(٥) الطور ٥٢ : ٣٣ ـ ٣٤.

(٦) هود ١١ : ١٣ ـ ١٤.

(٧) يونس ١٠ : ٣٨ ـ ٣٩.

(٨) البقرة ٢ : ٢٤.

١٩٤

والآن وقد حان أوان إعلان التحدّي بوجه عامّ ، متوجّها إلى البشريّة جمعاء ، تحدّيا مستمرّا مع الأبد : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)(١).

هل وقع التحدّي بجميع وجوه الإعجاز؟

وحيث وقع التحدّي مع العرب الأوائل ، فلا بدّ أن يخصّ جانب فصاحته الرائعة وبلاغته الرائقة ، في أسلوب بديع وترصيف عجيب ، ونظم وتأليف غريب ، لا سابقة له ولا مثيل ، ولا أمكن أن يخلفه بديل. فهو فذّ فرد منذ أن بدا ، وهكذا إلى الأبد ، بلا ندّ ولا نظير.

لكنّه حيث وجّه خطابه مع الناس جميعا ، على تنوّع مهنهم وحرفهم ، وتوسّعهم في العلوم والمعارف والآداب. فلعلّ هناك وقع التحدّي بمجموع ما في الكلام الخارق من بدائع وفرائد أبكار. ظلّت مع الأبديّة موضع إعجاب العالمين واستغراب الملأ في الخافقين.

هل التحدّي قائم مع الأبد؟

لحن التعبير عامّ ، والخطاب موجّه إلى كافّة الناس ، في جميع طبقاتها وفي جميع أجيالها.

لكن هناك من حسب اختصاص التحدّي بالعهد الأوّل ، مع بقاء جانب إعجازه مع الأبد. زعما بأنّ عجز أولئك الناس يكفي دليلا على إعجازه أبدا.

هكذا زعمت الكاتبة بنت الشاطي ، قالت : مناط التحدّي هو عجز بلغاء العرب ذلك العهد ، وأمّا حجّة إعجازه فلا تخصّ عصرا دون عصر. وكان عجز البلغاء من العصر الأوّل ـ وهم أصل الفصاحة ـ برهانا فاصلا في قضيّة التحدّي (٢).

ولعلّها خشيت أن لو قلنا بأنّ التحدّي قائم حتّى اليوم ، أن سوف ينبري أصحاب الإلحاد من الناطقين بالضاد ، فيأتي بحديث مثله ، وبذلك ينتقض أكبر دعامة من دعائم الإسلام.

لكنّها فلتطمئنّ أنّ هذا لن يقع ولن يكون ، بعد أن وضع القرآن على أسلوب لا يدانيه كلام بشر البتّة ، ولن يستطيع أحد أن يجاريه لا في التعبير والأداء ، ولا في التحبير والوفاء ، مادام الإعجاز

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٨٨.

(٢) الإعجاز البياني : ٦٥ ـ ٦٨ ؛ التمهيد ٤ : ٣٢.

١٩٥

قائما بمجموع اللفظ والمحتوى : في إناقة لفظ وفخامة معنى ، في جمال وبهاء.

وفي التاريخ عبر تؤثر عن أناس حاولوا معارضة القرآن ، لكنّهم أتوا بكلام لا يشبه القرآن ولا يشبه كلام أنفسهم ، بل نزلوا إلى ضرب من السخف والتفاهة وفضحوا أنفسهم من غير دراية. فمن حدّثته نفسه أن يعيد هذه التجربة فلينظر في تلك العبر ، ومن لم يرعو فليصنع ما شاء. ومن جرّب المجرّب حلّت به الندامة.

ومن كانت عنده شبهة ، زاعما أنّ في الناس من يستطيع الإتيان بمثله ، فليراجع أدباء عصره وليسألهم : هل يقدر أحد منهم على ذلك؟ فإن قالوا : نعم ، لو نشاء لقلنا مثل هذا! فليقل لهم : هاتوا برهانكم وجرّبوا أنفسكم! وإن قالوا : لا طاقة لنا به ، فليقل لهم : أيّ شيء أكبر شهادة على الإعجاز من الشهادة على العجز. وإنّ بضعة النفر الّذين انغضّوا إليه رؤوسهم ، باؤوا بالخزي والهوان وسحب التاريخ على آثارهم ذيل النسيان (١).

بماذا وقع التحدّي؟

إنّما وقع التحدّي بفضيلة الكلام ، ولها مقاييس بها يعرف ارتفاع شأن الكلام وانحطاطه ، ممّا فصّله علماء البيان. وبها تتفاوت درجات الكلام ويقع بها التفاضل بين أنحائه من رفيع أو وضيع.

وقد أشار السكّاكي إلى طرف من تلكم المقاييس الّتي هي المعيار لارتفاع شأن الكلام وضعته ، قال ـ بعد أن ذكر أنّ مقامات الكلام متفاوتة ، ولكلّ كلمة مع صاحبتها مقام ، ولكلّ حدّ ينتهي إليه الكلام مقام ـ : وارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول ، إنّما هو بمصادفته لما يليق به من هذه المقامات.

قال : فحسن الكلام تحلّيه بشيء من هذه المناسبات والاعتبارات ، بحسب المقتضيات ، الّتي يفصّلها فنّ المعاني والبيان. قال : والبلاغة تتزايد حتّى تبلغ قمّتها وهو حدّ الإعجاز ، الّذي لا يستطيع إنسان أن يبلغه ، مادام قيد الذهول والنسيان.

إذن فالتفاضل بين كلامين إنّما هو بهذه الاعتبارات وهي لا تحصى ، ولا يمكن ملاحظتها أجمع لمن لم يحط علما بجوامع الأمور (٢).

__________________

(١) الجزء الرابع من التمهيد : ٣٢ و ٣٣.

(٢) التمهيد ٤ : ٣٤.

١٩٦

إلمامة بوجوه إعجاز القرآن

وبعد فينبغي هنا بالمناسبة ، أن نلمّ بمسألة الإعجاز إلمامة قصيرة ، لغرض الوقوف على جوانب عابرة من وجوه هذا الإعجاز الخارق. فنقول :

تفاوتت أنظار العلماء في وجه إعجاز القرآن ولا يزال البحث مستمرّا عن هذا السرّ الّذي هو آية الإسلام :

١ ـ ذهب أرباب الأدب والبيان إلى أنّها الفصاحة البالغة والبلاغة الفائقة ، إن في بديع نظمه أو في عجيب رصفه ، الّذي لم يسبقه مثيل ولا يمكن أن يخلفه بديل.

قد نضّدت عباراته نضدا مؤتلفا ، ونظّمت فرائده نظما متناسقا ، وضعت كلّ لفظة منه في موضعها اللائق بها ، ورصفت كلّ كلمة منه إلى كلمات تناسبها وتوائمها ، وضعا دقيقا ورصفا رقيقا تامّا ، يجمع بين أناقة التعبير وسلاسة البيان ، وجزالة اللفظ وفخامة الكلام ، حلوا رشيقا وعذبا سائغا ، يستلذّه الذوق ويستطيبه الطبع. ممّا يستشفّ عن إحاطة واسعة ومعرفة كاملة بأوضاع اللغة ومزايا الكلام ، ويقصر دونه طوق البشر المحدود.

قالوا في دقّة هذا النظم وروعة هذا النضد : لو انتزعت منه لفظة ، ثمّ أدير بها لغة العرب كلّها على أن يوجد لها نظير في مثل موضعها الخاصّ ، لم يوجد البتّة!!

قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني : أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه ، وخصائص صادفوها في سياق لفظه ، وبدائع راعتهم في مبادي آيه ومقاطعها ، ومجاري ألفاظها ومواقعها ، وفي مضرب كلّ مثل ، ومساق كلّ خبر ، وصورة كلّ عظة وتنبيه وإعلام ، وتذكير وترغيب وترهيب ، ومع كلّ حجّة وبرهان ، وصفة وتبيان ... وبهرهم أنّهم تأمّلوه سورة سورة وعشرا عشرا وآية آية ، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ، ولفظة ينكر شأنها أو يرى أنّ غيرها أصلح هناك أو أشبه أو أحرى أو أخلق ، بل وجدوا اتّساقا بهر العقول ، وأعجز الجمهور ، ونظاما والتئاما ، وإتقانا وإحكاما ، لم يدع في نفس بليغ منهم موضع طمع ، حتّى خرست الألسن عن أن تدّعي وتقول ، وخلدت القروم (١) فلم تملك أن تجول وتصول (٢).

__________________

(١) القرم : العظيم الشأن. يقال : خلد بالمكان أي استكن وغمّه الخمول.

(٢) دلائل الإعجاز : ٢٨. وراجع : التمهيد ٥ : ٢٠.

١٩٧

وأجمل من استوفى الكلام في هذا الجانب من ميزة القرآن ، هو أبو سليمان حمد بن محمّد الخطّابي البستي (ت : ٣٨٨ ه‍) قال في بيان السبب الأوفى لدقيق تعبيره ورحيق تحبيره :

إنّ الّذي يوجد لهذا الكلام من العذوبة في حسّ السامع ، والهشاشة في نفسه (١) ، وما يتحلّى به من الرونق والبهجة ، الّتي يباين بها سائر الكلام ، حتّى يكون له هذا الصنيع في القلوب ، والتأثير في النفوس ، فتصطلح من أجله الألسن على أنّه كلام لا يشبهه كلام. وتحصر الأقوال عن معارضته (٢). وتنقطع به الأطماع عنها. أمر لا بدّ له من سبب ، بوجوده يجب له هذا الحكم ، وبحصوله يستحقّ هذا الوصف.

قال : وقد استقرينا أوصافه الخارجة عنه ، وأسبابه النابتة منه ، فلم نجد شيئا منها يثبت على النظر أو يستقيم في القياس ويطّرد على المعايير. فوجب أن يكون ذلك المعنى مطلوبا من ذاته ومستقصى من جهة نفسه. فدلّ النظر وشاهد العبر على أنّ السبب له والعلّة فيه : أنّ أجناس الكلام مختلفة ، ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة ، ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية ، فمنها البليغ الرصين الجزل ، ومنها الفصيح القريب السهل ، ومنها الجائز المطلق الرسل. وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود ، دون الهجين المذموم ، الّذي لا يوجد في القرآن شيء منه البتّة.

فالقسم الأوّل أعلى طبقات الكلام وأرفعه. والقسم الثاني أوسطه وأقصده. والقسم الثالث أدناه وأقربه. فحازت بلاغات القرآن من كلّ قسم حصّة ، وأخذت من كلّ نوع شعبة. فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع بين صفتي الفخامة والعذوبة.

قال : وهما (الفخامة والعذوبة) على الانفراد في نعوتهما كالمتضادّين ؛ لأنّ العذوبة نتاج السهولة ، والجزالة والمتانة (عمودا فقرة الفخامة) في الكلام إنّما تعالجان نوعا من الوعورة ، فكان اجتماع الأمرين في نظمه ـ مع نبوّ كلّ واحد منهما على الآخر ـ فضيلة خصّ بها القرآن!!

قال : وإنّما تعذّر على البشر الإتيان بمثله ، لأمور :

منها : أنّ علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة وبألفاظها الّتي هي ظروف المعانى والحوامل لها ، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم الّتي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض ، فيتوصّلوا باختيار الأفضل عن

__________________

(١) هشّ هشاشة : خفّ وارتاح ونشط.

(٢) حصر حصرا : عيي في النطق والكلام.

١٩٨

الأحسن من وجوهها ، إلى أن يأتوا بكلام مثله!

وإنّما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة : لفظ حامل ، ومعنى قائم به ، ورباط لهما ناظم. وإذا تأمّلت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة ، حتّى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ، ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشدّ تلاؤما وتشاكلا من نظمه!

وأمّا المعاني فلا خفاء ـ على ذي عقل ـ أنّها هي التي تشهد لها العقول بالتقدّم في أبوابها ، والترقّي إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها.

وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرّق في أنواع الكلام (١) ، فأمّا أن توجد مجموعة في نوع منه ، فلم توجد إلّا في كلام العليم القدير ، الّذي أحاط بكلّ شيء علما وأحصى كلّ شيء عددا.

قال : فالقرآن إنّما صار معجزا ، لأنّه جاء بأفصح الألفاظ ، في أحسن نظوم التأليف ، مضمّنا أصحّ المعانى. قال : وعمود هذه البلاغة الّتي تجمع لها هذه الصفات ، هو وضع كلّ نوع من الألفاظ الّتي تشتمل عليها فصول الكلام ، موضعه الأخصّ الأشكل به ، الّذي إذا أبدل مكانه غيره ، جاء منه إمّا تبدّل المعنى ، الّذي يكون منه فساد الكلام ، وإمّا ذهاب الرونق ، الّذي يكون معه سقوط البلاغة (٢).

وتابعه على ذلك ابن عطيّة ، قال : وجه إعجازه أنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علما ، وأحاط بالكلام كلّه علما. فإذا ترتّبت اللفظة من القرآن ، علم بإحاطته أيّ لفظة تصلح أن تلي الأولى ، ويتبيّن المعنى دون المعنى ، ثمّ كذلك من أوّل القرآن إلى آخره.

والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول ، ومعلوم بالضرورة أنّ أحدا من البشر لا يحيط بذلك. وبهذا جاء النظم القرآني في الغاية القصوى من الفصاحة.

قال : وكتاب الله ـ سبحانه ـ لو نزعت منه لفظة ، ثمّ أدير لسان العرب على لفظة في أن يوجد أحسن منها لم توجد (٣).

__________________

(١) يعني بها : النثر والنظم والسجع.

(٢) بيان الإعجاز ـ ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن : ٢١ ـ ٣٧ ؛ التمهيد ٥ : ٢٣ ـ ٢٦.

(٣) مقدمة تفسيره (المحرّر الوجيز ١ : ٥٢). راجع : الجزء الخامس من التمهيد.

١٩٩

ويتلخّص هذا الوجه في صياغة القرآن البارعة ، جمعا بين فخامة المعنى وإناقة اللفظ ، وهما كالمتنافرين ـ كما نبّه عليه البستي ـ وقد استسهله القرآن في روعة باهرة.

***

الوجه الثاني ـ من وجوه إعجاز القرآن ـ جانب أسلوبه البديع وسبكه الجديد على العرب. فيه مزايا أنواع الكلام ما يجمع بين طلاقة النثر وأناقة الشعر وجزالة السجع الرصين. فلا هو نثر كنثرهم المبعثر ، ولا هو شعر كشعرهم المتحصّر ، ولا فيه تكلّف السجع الهجين. وإنّما هو نوع صياغة للكلام لم تعرفها العرب من قبل ، ولا استطاعت أن تحيك على منوالها أبدا. وهو في نفس الوقت وقع موضع إعجابهم وبهرتهم براعتها وروعتها إلى حدّ بعيد.

قال الإمام كاشف الغطاء : تلك صورة نظمه العجيب وأسلوبه الغريب ، المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها ، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير ، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه. بل حارت فيه عقولهم ، وتدلّهت دونه أحلامهم ، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر. هكذا اعترف له أفذاذ العرب وفصحاؤهم الأوّلون (١).

قال عظيم العرب وفريدها الوليد بن المغيرة : يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة! فو الله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذي جنون ، وإنّ قوله لمن كلام الله!

وقال ـ ردّا على من زعم أنّه من الشعر ـ : فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّي ، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة منّي ، ولا بأشعار الجنّ! والله ما يشبه الّذي يقول شيئا من هذا.

ثمّ قال : وو الله إنّ لقوله الّذي يقول حلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنّه ليعلو وما يعلى. وفي رواية الإصابة : وما هذا بقول بشر.

ولمّا سمع عتبة بن ربيعة ـ وكان سيّدا في العرب ـ آيا من مفتتح سورة فصّلت ، قرأها عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو منصت له ، أتى معشر قريش ، فسألوه عمّا وراءه؟ قال : ورائي أنّي قد سمعت قولا ، والله ما سمعت مثله قطّ ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة.

وهكذا أنيس بن جنادة ـ وكان من أشعر العرب ـ بعثه أخوه جندب بن جناده ليستخبر من أحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرجع وأخبره : إنّه صادق في قوله. قال : لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم.

__________________

(١) الدين والإسلام ٢ : ١٠٧.

٢٠٠