التفسير الأثري الجامع - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-03-6
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

ما ورد في ذمّ الرياء والخداع في الدين

[٢ / ٣٥٤] أخرج البيهقي في الشعب عن قيس بن سعد قال : لولا أنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المكر والخديعة في النار» ، لكنت أمكر هذه الأمّة (١).

[٢ / ٣٥٥] وروى الصدوق بإسناده إلى مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليه‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل فيما النّجاة غدا؟ قال : «إنّما النّجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم ، فإنّه من يخادع الله يخدعه ويخلع منه الإيمان (٢) ونفسه يخدع لو يشعر.

قيل له : وكيف يخادع الله؟ قال : يعمل ما أمر الله عزوجل ، ثمّ يريد به غيره ، فاتّقو الله والرياء فإنّه الشرك بالله. إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء : يا كافر ، يا فاجر ، يا غادر ، يا خاسر ، حبط عملك وبطل أجرك ، فلا خلاص لك اليوم ، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له» (٣).

[٢ / ٣٥٦] وروى عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «واعلم أنّك لا تقدر على إخفاء شيء من باطنك عليه تعالى وتصيّره مخدوعا بنفسك ، قال الله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)» (٤).

[٢ / ٣٥٧] وأخرج أحمد بن منيع في مسنده عن رجل من الصحابة : أنّ قائلا من المسلمين قال : «يا رسول الله ما النّجاة غدا؟ قال : لا تخادع الله! قال : وكيف نخادع الله؟ قال : أن تعمل بما أمرك به تريد به غيره. فاتّقوا الرياء فإنّه الشرك بالله ، فإنّ المرائي ينادى به يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء : يا كافر ، يا فاجر ، يا خاسر ، يا غادر. ضلّ عملك ، وبطل أجرك ، فلا خلاق لك اليوم عند الله ، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له يا مخادع ، وقرأ آيات من القرآن : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ

__________________

ــ يُؤْذُونَ اللهَ) ؛ التبيان ١ : ٦٩ ، بلفظ : «وحكي عن الحسن أنّ معنى يخادعون الله أنّهم يخدعون نبيّه لأنّ طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله» ؛ مجمع البيان ١ : ١٠٠ ، بنحو ما رواه الشيخ رحمه‌الله في التبيان مع عدم ذكر الرّاوي.

(١) الدرّ ١ : ٧٥ ؛ الشعب ٤ : ٣٢٤ / ٥٢٦٨ ؛ الكامل ، لعبد الله بن عديّ ٢ : ١٦٢ ، وفيه : لكنت من أمكر النّاس ؛ ابن عساكر ٤٩ : ٤٢٣.

(٢) في ثواب الأعمال : «وينزع منه الإيمان».

(٣) ثواب الأعمال : ٢٥٥ ، باب عقاب المرائي ؛ الأمالي للصدوق : ٦٧٧ / ٩٢١ ـ ٢٣ ؛ معاني الأخبار : ٣٤٠ ـ ٣٤١ / ١ ، باب معنى مخادعة الله ؛ البحار ٦٩ : ٢٩٥ / ١٩.

(٤) مصباح الشريعة : ٣٢ ، باب ١٤ (في الرياء) ؛ البحار ٦٩ : ٣٠٠ / ٣٧.

١٤١

رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً)(١) الآية و (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ)(٢) الآية» (٣).

والحديث كما رواه الصدوق أيضا عن الإمام الصادق عليه‌السلام بالإسناد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤).

لباب ما ورد عن أئمّة أهل البيت بشأن الرياء

وبعد فإليك ما ورد بشأن الرياء في العمل ، برواية الصّادقين من آل محمّد ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ حسبما رواه ثقة الإسلام أبو جعفر الكليني ـ طاب ثراه :

[٢ / ٣٥٨] روى بإسناده إلى جعفر بن محمّد الأشعري ، عن ابن القدّاح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال لعبّاد بن كثير البصري (٥) في المسجد : «ويلك يا عبّاد إيّاك والريّاء فإنّه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له».

[٢ / ٣٥٩] وعن عليّ بن عقبة ، عن أبيه قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «اجعلوا أمركم هذا لله ، ولا تجعلوه للناس ، فإنّه ما كان لله فهو لله ، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله».

[٢ / ٣٦٠] وعن يزيد بن خليفة قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «كلّ رياء شرك ، إنّه من عمل للناس كان ثوابه على الناس ، ومن عمل لله كان ثوابه على الله».

[٢ / ٣٦١] وعن جرّاح المدائني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في قول الله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(٦) قال : الرّجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه الله ، إنّما يطلب تزكية الناس ، يشتهي أن يسمع به النّاس ، فهذا الّذي أشرك بعبادة ربّه ، ثمّ قال :

__________________

(١) الكهف ١٨ : ١١٠.

(٢) النساء ٤ : ١٤٢.

(٣) الدرّ ١ : ٧٤ ـ ٧٥ ؛ القرطبي ١ : ١٩٦ ، بلفظ : ... قوله عليه‌السلام إنّه قال : «لا تخادع الله فإنّه من يخادع الله يخدعه الله ونفسه يخدع لو يشعر ، قالوا : يا رسول الله وكيف يخادع الله؟ قال : تعمل بما أمرك الله به وتطلب به غيره».

(٤) الأمالي للصدوق : ٦٧٧ ـ ٦٧٨ / ٩٢١ ـ ٢٣ ؛ ثواب الأعمال : ٢٥٥.

(٥) هو عبّاد بن كثير الثقفي البصري العابد بمكّة ، كان من المشايخ القدماء ، لقي الإمام السجّاد والإمام الباقر عليهما‌السلام وله صحبة للإمام الصادق عليه‌السلام ، ومواقف معه وأحيانا كان الإمام يؤنّبه ويوبّخه حيث ضعفه بمعرفة مواضع الدين ، ومن ثمّ ضعّفه الأساطين. راجع : تهذيب التهذيب لابن حجر (٥ : ١٠٠ ـ ١٠٢ / ١٦٩). وقاموس الرجال للتستري (٥ : ٦٥٣ ـ ٦٥٧ / ٣٨٦٧).

(٦) الكهف ١٨ : ١١٠.

١٤٢

ما من عبد أسرّ خيرا فذهبت الأيّام أبدا حتّى يظهر الله له خيرا ، وما من عبد يسرّ شرّا فذهبت الأيّام أبدا حتّى يظهر الله له شرّا».

[٢ / ٣٦٢] وعن محمّد بن عرفة قال : قال لي الرّضا عليه‌السلام : «ويحك يا ابن عرفة! اعملوا لغير رياء ولا سمعة ، فإنّه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل ، ويحك! ما عمل أحد عملا إلّا ردّاه الله به (١) ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ».

[٢ / ٣٦٣] وعن عمر بن يزيد قال : إني لأتعشّى مع أبي عبد الله عليه‌السلام إذ تلا هذه الآية : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ)(٢) [فقال :] «يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يتقرّب إلى الله ـ عزوجل ـ بخلاف ما يعلم الله تعالى ؛ (٣) إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول : من أسرّ سريرة ردّاه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ».

[٢ / ٣٦٤] وعن السكونيّ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به ، فإذا صعد بحسناته يقول الله ـ عزوجل ـ : اجعلوها في سجّين (٤) ، إنّه ليس إيّاي أراد بها».

[٢ / ٣٦٥] وبإسناده قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ثلاث علامات للمرائي : ينشط إذا رأى الناس ، ويكسل إذا كان وحده ، ويحبّ أن يحمد في جميع أموره».

[٢ / ٣٦٦] وعن عليّ بن سالم قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «قال الله ـ عزوجل ـ : أنا خير شريك ، من أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلّا ما كان لي خالصا».

[٢ / ٣٦٧] وعن داوود ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من أظهر للناس ما يحبّ الله ، وبارز الله بما كرهه لقي الله وهو ماقت له».

[٢ / ٣٦٨] وعن فضل أبي العباس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا ويسرّ سيّئا أليس يرجع إلى نفسه فيعلم أنّ ذلك ليس كذلك ، والله ـ عزوجل ـ يقول : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) إنّ السّريرة إذا صحّت قويت العلانية».

[٢ / ٣٦٩] وعن عليّ بن أبي حمزة ، عن أبي بصير قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ما من عبد يسرّ خيرا

__________________

(١) يقال : ردّى الرجل أي ألبسه.

(٢) القيامة ٧٥ : ١٤ ـ ١٥.

(٣) وفي رواية أخرى : «ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه» الكافي ٢ : ٢٩٦ / ١٥.

(٤) قال تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) (المطفّفين ٨٣ : ٧).

١٤٣

إلّا لم تذهب الأيّام حتّى يظهر الله له خيرا ، وما من عبد يسرّ شرّا إلّا لم تذهب الأيّام حتّى يظهر الله له شرّا».

[٢ / ٣٧٠] وعن يحيى بن بشير ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من أراد الله ـ عزوجل ـ بالقليل من عمله أظهر الله له أكثر ممّا أراد ، ومن أراد الناس بالكثير من عمله في تعب من بدنه وسهر من ليله أبى الله ـ عزوجل ـ إلّا أن يقلّله في عين من سمعه».

[٢ / ٣٧١] وعن السكونيّ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سيأتي على النّاس زمان تخبث فيه سرائرهم وتحسن فيه علانيتهم ، طمعا في الدّنيا ، لا يريدون به ما عند ربّهم ، يكون دينهم رياء لا يخالطهم خوف ، يعمّهم الله بعقاب ، فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم».

[٢ / ٣٧٢] وعن عليّ بن أسباط ، عن بعض أصحابه ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : «الإبقاء على العمل أشدّ من العمل ، سئل : وما الإبقاء على العمل؟ قال : يصل الرّجل بصلة وينفق نقة لله وحده لا شريك له فكتب له سرّا ، ثمّ يذكّرها فتمحى فتكتب له علانية ، ثمّ يذكّرها فتمحى وتكتب له رياء».

[٢ / ٣٧٣] وعن ابن القدّاح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : «اخشوا الله خشية ليست بتعذير ، واعملوا لله في غير رياء ولا سمعة ، فإنّه من عمل لغير الله وكله الله إلى عمله».

[٢ / ٣٧٤] وعن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن الرّجل يعمل الشيء من الخير فيراه إنسان فيسرّه ذلك؟ فقال : لا بأس ، ما من أحد إلّا وهو يحبّ أن يظهر له في الناس الخير ، إذا لم يكن صنع ذلك لذلك» (١).

ملحوظة

في هذا الخبر إشارة إلى نكتة دقيقة ، وهي : أنّ أمر الرياء قد يشتبه على الإنسان فيحسب من عمله ـ أحيانا ـ رياء في حين أنّه ليس من حقيقة الرياء. وذلك حينما يعجبه عمله إذا أتاه تامّا بأكمل ما يستحبّه الشرع الحنيف ، كالصلاة في المسجد أوّل الوقت جماعة ـ مثلا ـ فإنّ الإنسان يبتهج حينما يرى من نفسه أنّه فعل ما يستحبّه الشرع كملا.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٩٣ ـ ٢٩٧.

١٤٤

ويرى أنّه بفضل الله عليه أن وفّقه لهذه الحسنة. فهذا وإن كان نوعا من الإعجاب بالنفس لكنّه إعجاب ناشئ من حسن ظنّه بالله تعالى ... فإنّ الأعجاب الموجب للهلكة هو الّذي ينشأ عن كبر ونخوة ، فيستعظم من عمل نفسه ويستصغر عمل الآخرين ، إعجابا بالنفس غرورا واستكبارا.

قال المحقّق الهمداني : العجب أن يرى الإنسان من عمل نفسه عظيما ويستحقر عمل الآخرين. واستشهد بكلام بعض العارفين ، حيث قال : العجب نبات ، حبّه الكفر وأرضه النفاق وماؤه البغي وأغصانه الجهل وورقه الضلالة وثمره اللعنة والخلود في النار.

قال المحقّق الهمداني : ويزيد في الطين بلّة ما لو أضاف إلى الإعجاب بالعمل المنّة على الله تعالى ، كما قال تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١). قال : ومع ذلك فليس مطلق العجب بالعمل حابطا إذا لم يكن عن كبر وغرور وعن استكبار على الله. بل كان عن ابتهاج غمره من حسن ظنّه بالله أن وفّقه لعمل صالح وسدّد خطاه في الإتيان به كملا كما أراده الله ، ويرجو مثوبته من فضله ورحمته بالمؤمنين (٢).

وذكر قبله حديث زرارة الآنف وقال : إنّ مجرّد المحبّة والسرور الموجب لازدياد الشوق ، من دون أن يكون لذلك تأثير في البعث على العمل والإخلاص في إتيانه ، فهذا لا يضرّ بصحّة العمل ، مادام كونه تبعيّا بلا تأثير (٣).

وقال بعض أهل المعرفة : إذا عقد العبد العبادة على الإخلاص ، ثمّ وردت واردة الرياء ، سواء في الأثناء أو بعد الفراغ ، فهذا لا يضرّ بصحّة العمل ومقبوليّته ، إذا لم يكن لهذه الواردة تأثير لا في العمل ولا في كيفيّة امتثاله. ولا سيّما الطارئ بعد العمل ، حيث لا يؤثّر المتأخّر وجودا فيما تمّ على الصحة والكمال.

[٢ / ٣٧٥] وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ رجلا سأله عمّن أسرّ بعمله ، وهو لا يحبّ أن يطّلع عليه أحد ، فيطّلع عليه ، فيسرّه.؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لك أجران : أجر السرّ وأجر العلانية» (٤).

وذكر المجلسي عن بعضهم : أنّه إن كان سروره باعتبار أنّه تعالى أظهر جميله أو باعتبار أنّه

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ١٧.

(٢) راجع مباحثه في باب الوضوء : الكلام عن النيّة وعن العجب في العمل. كتاب الطهارة : ١٢٠ ـ ١٢١.

(٣) المصدر : ١١٩.

(٤) راجع : مرآة العقول ، المجلسي ١٠ : ٩٦.

١٤٥

استدلّ بإظهار جميله في الدنيا على إظهار جميله في الآخرة على رؤوس الأشهاد ونحو ذلك من الاعتبارات ـ الّتي لا تمسّ غرور النفس ـ فليس ذلك السرور رياء أو سمعة. وإن كان سروره باعتبار رفع منزلته في أعين الناس وتعظيمه وتوقيره ونحو ذلك من تسويلات النفس وتلبيسات الشيطان ، فهو رياء وخارج بالعمل من كفّة الحسنات إلى كفّة السيّئات.

قال المجلسي ـ تعقيبا على ذلك ـ : ويمكن أن يكون ذلك نظرا لاختلاف درجات الناس ومراتبهم في الكمال النفسي ، فإنّ تكليفا مثل ذلك قد يشقّ على من لا ترويض له في الخلوص والاجتهاد في الإخلاص لله تعالى محضا. إنّما التكاليف حسب استعدادات الناس وتفاوتهم في الكمال العقلاني (١).

قلت : ويؤيّد ذلك :

[٢ / ٣٧٦] ما رواه الكليني بإسناده عن يونس عن بعض أصحابه عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال الله ـ عزوجل ـ لداوود عليه‌السلام : يا داوود ، بشّر المذنبين وأنذر الصدّيقين. قال : كيف أبشّر المذنبين وأنذر الصدّيقين؟ قال : يا داوود ، بشّر المذنبين أنّي أقبل التوبة وأعفو عن الذنب. وأنذر الصدّيقين أن لا يعجبوا بأعمالهم ، فإنّه ليس عبد أنصبه للحساب إلّا هلك» (٢) أي المداقّة هناك مع المقرّبين شديدة.

[٢ / ٣٧٧] وروى بالإسناد إلى عليّ بن سويد عن الإمام أبي الحسن الكاظم عليه‌السلام قال : سألته عن العجب الّذي يفسد العمل؟ فقال : «العجب درجات ، منها : أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه ويحسب أنّه يحسن صنعا. ومنها : أن يؤمن العبد بربّه فيمنّ على الله ـ عزوجل ـ ولله عليه فيه المنّ» (٣).

[٢ / ٣٧٨] وروى بالإسناد إلى عبد الرحمان بن الحجّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه ، ويعمل العمل فيسّره ذلك ، فيتراخى عن حاله تلك ، فلأن يكون على حاله تلك خير له ممّا دخل فيه» (٤).

[٢ / ٣٧٩] وروى عن محمّد بن يحيى بالإسناد إلى إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أتى

__________________

(١) المصدر : ١١٧.

(٢) الكافي ٢ : ٣١٤ / ٨.

(٣) المصدر : ٣١٣ / ٣.

(٤) المصدر / ٤.

١٤٦

عالم عابدا ، فقال له : كيف صلاتك؟ فقال : مثلي يسأل عن صلاته؟! وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا. قال : كيف بكاؤك؟ قال : أبكي حتّى تجري دموعي. فقال له العالم : فإنّ ضحكك وأنت خائف ، أفضل من بكائك وأنت مدلّ ، إنّ المدلّ لا يصعد من عمله شيء» (١).

الإدلال : التدلّل وهو الافتخار والإعجاب بالنفس. وتدلّلت المرأة لزوجها تغنّجت وتلوّت في غنج ودلال ، كأنّها تريد الفخار عليه.

[٢ / ٣٨٠] وروى عنه بالإسناد إلى أحمد بن أبي داوود عن بعض أصحابنا عن أحدهما (الباقر والصادق عليهما‌السلام) قال : «دخل رجلان المسجد ، أحدهما عابد والآخر فاسق ، فخرجا من المسجد ، والفاسق صدّيق والعابد فاسق ، وذلك أنّه يدخل العابد المسجد مدلّا بعبادته يدلّ بها فتكون فكرته في ذلك ، وتكون فكرة الفاسق في التندّم على فسقه ويستغفر الله ـ عزوجل ـ ممّا صنع من الذنوب» (٢).

[٢ / ٣٨١] وروى عن عليّ بن إبراهيم بالإسناد إلى عبد الرحمان بن الحجّاج قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق ، ثمّ يعمل شيئا من البرّ فيدخله شبه العجب به؟ فقال : هو في حاله الأولى وهو خائف أحسن حالا منه في حال عجبه» (٣).

[٢ / ٣٨٢] وروى عنه بالإسناد إلى يونس عن بعض أصحابه عن الصادق عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ موسى عليه‌السلام سأل إبليس ، قال : أخبرني بالذنب الّذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه؟ قال : إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبه» (٤).

نعوذ بالله من تسويلات النفس ومن شرور الشياطين!

***

[٢ / ٣٨٣] وروى في باب الإخلاص في العمل ـ عن شيخه عليّ بن إبراهيم بالإسناد إلى سفيان بن عيينة عن الإمام الصادق عليه‌السلام «في قول الله ـ عزوجل ـ : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)(٥) ، قال : ليس يعني أكثر عملا ، ولكن أصوبكم عملا. وإنّما الإصابة خشية الله والنيّة الصادقة الحسنة.

__________________

(١) المصدر / ٥.

(٢) المصدر : ٣١٣ ـ ٣١٤ / ٦.

(٣) المصدر : ٣١٤ / ٧.

(٤) المصدر / ٨.

(٥) الملك ٦٧ : ٢.

١٤٧

ثمّ قال : الإبقاء على العمل حتّى يخلص أشدّ من العمل ، والعمل الخالص ، الّذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا الله ـ عزوجل ـ والنيّة أفضل من العمل. ألا وإنّ النيّة هي العمل. ثمّ تلا قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ)(١) يعني على نيّته» (٢).

[٢ / ٣٨٤] وبهذا الإسناد قال : سألته عن قول الله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(٣) قال : «القلب السليم ، الّذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه. قال : وكلّ قلب فيه شرك أو شكّ فهو ساقط. وإنّما أرادوا الزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة» (٤).

[٢ / ٣٨٥] وأيضا بهذا الإسناد إلى سفيان عن السندي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «ما أخلص العبد الإيمان بالله ـ عزوجل ـ أربعين يوما ، أو قال : ما أجمل عبد ذكر الله ـ عزوجل ـ اربعين يوما ، إلّا زهّده الله ـ عزوجل ـ في الدنيا وبصّره داءها ودواءها ، فأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه. ثمّ تلا : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)(٥). فلا ترى صاحب بدعة إلّا ذليلا ومفتريا على الله ورسوله» (٦).

[٢ / ٣٨٦] وبالإسناد إلى عليّ بن أسباط عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : إنّ أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ كان يقول : «طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ، ولم يشغل قلبه بما تراه عينه ، ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه ، ولم يحزن صدره بما أعطي غيره» (٧).

قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)

[٢ / ٣٨٧] أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال : النفاق. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال : نكال موجع. (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) قال : يبدّلون ويحرّفون (٨).

[٢ / ٣٨٨] وأخرج الطسيّ عن ابن عبّاس أنّ نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله تعالى :

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٨٤.

(٢) الكافي ٢ : ١٦ / ٤.

(٣) الشعراء ٢٦ : ٨٩.

(٤) الكافي ٢ : ١٦ / ٥.

(٥) الأعراف ٧ : ١٥١.

(٦) الكافي ٢ : ١٦ / ٦.

(٧) المصدر / ٣.

(٨) الدرّ ١ : ٧٥ ؛ الطبري ١ : ١٧٧ / ٢٧١ ، بلفظ : «المرض : النفاق» ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٤٣ و ٤٤ / ١١١ و ١٢٠ ؛ التبيان ١ : ٧٣.

١٤٨

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال : النفاق. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم. أما سمعت قول الشاعر :

أجامل أقواما حياء وقد أرى

صدورهم تغلي عليّ مراضها (١)

قال : فأخبرني عن قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال : الأليم الموجع. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟

قال : نعم. أما سمعت قول الشاعر :

نام من كان خليّا من ألم

وبقيت اللّيل طولا لم أنم (٢)

[٢ / ٣٨٩] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (مَرَضٌ) قال : شكّ.

وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثله (٣).

[٢ / ٣٩٠] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (مَرَضٌ) قال : ريبة وشكّ في أمر الله. (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) قال : ريبة وشكّا. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) قال : إيّاكم والكذب ، فإنّه باب النفاق ، وإنّا والله ما رأينا عملا قطّ أسرع في فساد قلب عبد من كبر أو كذب (٤).

[٢ / ٣٩١] وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال : هذا مرض في الدّين ، وليس مرضا في الأجساد ، وهم المنافقون والمرض ، الشكّ الّذي دخلهم في الإسلام (٥).

[٢ / ٣٩٢] وأخرج عن الربيع في قوله (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال : هؤلاء أهل النفاق. والمرض الّذي في قلوبهم الشكّ في أمر الله عزوجل (٦).

[٢ / ٣٩٣] وقال عكرمة وطاوس في قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : يعني الرياء (٧).

__________________

(١) مراض : جمع مرض ، من به مرض.

(٢) الدرّ ١ : ٧٥ ـ ٧٦.

(٣) الدرّ ١ : ٧٥ ؛ الطبري ١ : ١٧٧ / ٢٧٠ ، و ١٧٨ / ٢٧٧ و ٢٧٨ ، نقلا عن ابن مسعود ورجل من أصحاب النّبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلفظ : «فزادهم الله ريبة وشكّا» ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٤٣ و ٤٤ / ١١٢ و ١١٤ ؛ ابن كثير ١ : ٥١ ، نقلا عن السّدّي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عبّاس وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وأيضا عن ابن عبّاس ومجاهد وعكرمة والحسن البصري وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة.

(٤) الدرّ ١ : ٧٦ ؛ الطبري ١ : ١٧٧ و ١٧٩ / ٢٧٤ و ٢٧٩ ، إلى قوله وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ....

(٥) الدرّ ١ : ٧٦ ؛ الطبري ١ : ١٧٧ / ٢٧٣ و ٢٧٦ ؛ ابن كثير ١ : ٥١.

(٦) الدرّ ١ : ٧٦ : الطبري ١ : ١٧٧ / ٢٧٥.

(٧) ابن كثير ١ : ٥١.

١٤٩

قال الطبرسيّ : المراد بالمرض في الآية : الشكّ والنفاق ، بلاخلاف. وإنّما سمّي الشّكّ في الدين مرضا ، لأنّ المرض هو الخروج عن حدّ الاعتدال ، فالبدن ما لم تصبه آفة يكون صحيحا سويّا ، وكذلك القلب ما لم تصبه آفة من الشكّ يكون صحيحا. وقيل : أصل المرض : الفتور ، فهو في القلب فتوره عن الحقّ ، كما أنّه في البدن فتور الأعضاء وتقدير الآية : في اعتقاد قلوبهم ، الّذي يعتقدونه في الله ورسوله ، مرض أي شكّ. حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه (١).

قوله تعالى : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً)

قال الطبرسي : قيل فيه وجوه :

أحدها : أنّ معناه : ازدادوا شكّا عند ما زاد الله من البيان بالآيات والحجج ، إلّا أنّه لمّا حصل ذلك عند فعله ، نسب إليه ، كقوله تعالى في قصّة نوح عليه‌السلام : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً)(٢) لمّا ازدادوا فرارا عند دعاء نوح عليه‌السلام ، نسب إليه. وكذلك قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ)(٣) والآيات لم تزدهم رجسا ، وإنّما ازدادوا رجسا عندها.

وثانيها : ما قاله أبو علي الجبّائي : إنّه أراد : في قلوبهم غمّ بنزول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ، وبتمكّنه فيها ، وظهور المسملين وقوّتهم ، فزادهم الله غمّا بما زاده من التمكين والقوّة وأمدّه به من التأييد والنصرة.

وثالثها : ما قاله السّدّي : معناه : زادتهم عداوة الله مرضا. وهذا من حذف المضاف ، مثل قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ)(٤) أي من ترك ذكر الله.

رابعها أنّ المراد به : في قلوبهم حزن بنزول القرآن بفضائحهم ومخازيهم ، فزادهم الله مرضا بأن زاد في إظهار مقابحهم ومساويهم ، والإخبار عن خبث سرائرهم وسوء ضمائرهم. وسمّي الغمّ مرضا ، لأنّه يضيق الصدر كما يضيقه المرض.

وخامسها ما قاله أبو مسلم الأصفهاني : إنّ ذلك على سبيل الدعاء عليهم ، كقوله تعالى : (ثُمَ

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ١٠٢.

(٢) نوح ٧١ : ٦.

(٣) التوبة ٩ : ١٢٥.

(٤) الزمر ٣٩ : ٢٢.

١٥٠

انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ)(١) فكأنّه دعاء عليهم بأن يخلّيهم الله وما اختاروه ، ولا يعطيهم من زيادة التوفيق والألطاف ، ما يعطي المؤمنين. فيكون خذلانا لهم. وهو في الحقيقة إخبار عن خذلان الله إيّاهم ، وإن خرج في اللّفظ مخرج الدعاء عليهم.

ثمّ قال : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وهو عذاب النّار (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي بتكذيبهم الله ورسوله ، فيما جاء به من الدين ، أو بكذبهم في قولهم : (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)(٢). (٣).

[٢ / ٣٩٤] قال ابن زيد ـ في قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) ـ : زادهم رجسا. وقرأ قول الله عزوجل : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ)(٤) قال : شرّا إلى شرّهم وضلالة إلى ضلالتهم (٥).

[٢ / ٣٩٥] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) قال : ريبة وشكّا (٦).

[٢ / ٣٩٦] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) قال : شكّا (٧).

[٢ / ٣٩٧] وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) قال : زادهم الله شكّا (٨).

قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

[٢ / ٣٩٨] أخرج ابن جرير عن الربيع ، قال : (أَلِيمٌ) : الموجع (٩).

[٢ / ٣٩٩] وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده إلى الربيع بن أنس عن أبي العالية ، في قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال : الأليم : الموجع في القرآن كلّه. قال : وكذلك فسّره سعيد بن جعفر ، والضحّاك بن

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٢٧.

(٢) البقرة ٢ : ٨.

(٣) مجمع البيان ١ : ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٤) التوبة ٩ : ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٥) الطبري ١ : ١٧٩ / ٢٨٠ ؛ ابن كثير ١ : ٥١ ، وقال : «هذا الّذي قاله عبد الرحمان حسن وهو الجزاء من جنس العمل».

(٦) الدرّ ١ : ٧٦ ؛ الطبري ١ : ١٧٩ / ٢٧٩. وكذا نسبه إلى ابن مسعود وناس من أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٧) الطبري ١ : ١٧٨ / ٢٧٧ ؛ الدرّ ١ : ٧٥.

(٨) الدرّ ١ : ٧٦ ؛ الطبري ١ : ١٧٩ / ٢٨١.

(٩) الطبري ١ : ١٧٩ / ٢٨٢. وبنحوه عن الضحّاك / ٢٨٣.

١٥١

مزاحم ، وقتادة ، وأبو مالك ، وأبو عمران الجوني ، ومقاتل بن حيّان (١).

[٢ / ٤٠٠] وأخرج ابن جرير عن الضحّاك قال : العذاب الأليم : هو الموجع. وكلّ شيء في القرآن من «الأليم» فهو الموجع (٢).

قوله تعالى : (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)

[٢ / ٤٠١] أخرج ابن أبي حاتم بإسناده إلى أبي روق عن الضحّاك عن ابن عبّاس ، في قوله : (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) يقول : يبدّلون ويحرّفون (٣).

[٢ / ٤٠٢] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يعني الشكّ بالله وبمحمّد ، نظيرها في سورة محمّد : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)(٤) يعني الشكّ.

(فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) يعني شكّا في قلوبهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يعني وجيع في الآخرة (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) لقولهم : آمنّا بالله وباليوم الآخر. وذلك أنّ عبد الله بن أبيّ المنافق قال لأصحابه : انظروا إليّ وإلى ما أصنع فتعلّموا منّي وانظروا دفعي في هؤلاء القوم كيف أدفعهم عن نفسي وعنكم. فقال أصحابه : أنت سيّدنا ومعلّمنا ، ولو لا أنت لم نستطع أن نجتمع مع هؤلاء. فقال عبد الله بن أبيّ لأبي بكر وأخذ بيده : مرحبا بسيّد بني تيم بن مرّة. ثمّ أخذ بيد عمر فقال : مرحبا بسيّد بني عديّ بن كعب ، ثمّ أخذ بيد عليّ بن أبي طالب فقال : مرحبا بسيّد بني هاشم ، غير رجل واحد اختصه الله بالنبوّة ، لما علم من صدق نيّته ويقينه. فقال عمر : ويحك يا ابن أبي ، اتّق الله ولا تنافق وأصلح ولا تفسد ، فإنّ المنافق شرّ خليقة الله ، وأخبثهم خبثا ، وأكثرهم غشّا. فقال ابن أبيّ : يا عمر ، مهلا فوالله لقد آمنت كإيمانكم وشهدت كشهادتكم فافترقوا على ذلك. فانطلق هؤلاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبروه بالذي قاله عبد الله فأنزل الله ـ عزوجل ـ على نبيّه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)(٥).

[٢ / ٤٠٣] وأخرج الثعلبي هذا الخبر ذيل الآية ١٤ الآتية بوجه آخر من طريق الكلبي عن أبي

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ٤٤ / ١١٩.

(٢) الدرّ ١ : ٧٦ ؛ الطبري ١ : ١٨٠ / ٢٨٤.

(٣) ابن أبي حاتم ١ : ٤٤ / ١٢٠.

(٤) سورة محمّد ٤٧ : ٢٩.

(٥) تفسير مقاتل ١ : ٨٩ ـ ٩٠.

١٥٢

صالح عن ابن عبّاس ، قال : نزلت هذه الآية : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا ...) في عبد الله بن أبيّ محتجّا به. وذلك أنّهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عبد الله لأصحابه : انظر كيف أدرأ هؤلاء السفهاء عنكم. فذهب وأخذ بيد أبي بكر فقال : مرحبا بسيّد بني تيم وثاني رسول الله في الغار. ثمّ أخذ بيد عمر فقال : مرحبا بسيّد بني عديّ. ثمّ أخذ بيد عليّ فقال : مرحبا بابن عمّ رسول الله وختنه وسيّد بني هاشم ما خلا رسول الله. فقال عليّ : «كفّ لله واتّق الله ولا تنافق ، فإنّ المنافقين شرّ خليقة الله!»

فقال عبد الله : مهلا أبا الحسن ، إليّ تقول هذا! والله إنّ إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم ، ثمّ افترقوا.

فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت! فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت. فأثنوا عليه خيرا وقالوا : لا نزال معك ما عشت.

فرجع المسلمون إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبروه بذلك ، فأنزل الله الآية (١).

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)

هذه هي سمة المنافق ، يحسب أنّه يحسن صنعا ، وقد ضلّ سعيه في الحياة. (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)(٢).

نعم أولئك هم : (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً)(٣).

هذا شأن المنافق ، في فكرته الكاسدة ، إنّه لا يقف عند حدّ الكذب والخداع ، بل يضيف إليهما السّفه والادّعاء. (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) ، لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد ، بل تجاوزوه إلى التبجّح والتبرير : (قالُوا) ـ متأكّدين ـ : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ).

__________________

(١) الثعلبي ١ : ١٥٥.

(٢) الكهف ١٨ : ١٠٣ ـ ١٠٥.

(٣) الكهف ١٨ : ١٠١.

١٥٣

قال سيّد قطب : والّذين يفسدون أشنع الفساد ، ويقولون : إنّهم مصلحون ، كثيرون جدّا في كلّ زمان. يقولونها ، لأنّ الموازين مختلّة في أيديهم ، ومتى اختلّ ميزان الإخلاص والتجرّد في النفس ، اختلّت سائر الموازين والقيم. والّذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذّر أن يشعروا بفساد أعمالهم ، لأنّ ميزان الخير والشرّ والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتيّة ، ولا يثوب إلى قاعدة ربّانيّة.

ومن ثمّ يجيء التعقيب الحاسم والتقرير الصادق : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)(١).

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا)

[٢ / ٤٠٤] أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) قال : إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم : لا تفعلوا كذا وكذا ، قالوا : إنّما نحن على الهدى مصلحون (٢).

[٢ / ٤٠٥] وأخرج عن الربيع بن أنس في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) ، قال : لا تعصوا في الأرض. قال : فكان فسادهم على أنفسهم ذلك معصية الله ـ جلّ ثناؤه ـ لأنّ من عصى الله في الأرض ، أو أمر بمعصيته ، فقد أفسد في الأرض ، لأنّ إصلاح الأرض والسماء بالطاعة (٣).

[٢ / ٤٠٦] وقال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) يعني لا تعملوا في الأرض بالمعاصي (٤).

[٢ / ٤٠٧] وقال الطبرسي في قوله : (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) : بعمل المعاصي وصدّ الناس عن الإيمان ـ على ما روي عن ابن عبّاس (٥).

[٢ / ٤٠٨] وقال : وفي وجه آخر (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بممالأة الكفّار ، فإنّ فيه توهين الإسلام ـ على ما قاله أبو عليّ (٦).

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٤٩.

(٢) الدرّ ١ : ٧٧ ؛ الطبري ١ : ١٨٤ / ٢٨٩.

(٣) الطبري ١ : ١٨٢ / ٢٨٧ ؛ ابن كثير ١ : ٥٢ ، نقلا عن الرّبيع بن أنس وعن أبي العالية وقتادة وفيه «صلاح» بدل «إصلاح».

(٤) تفسير مقاتل ١ : ٩٠.

(٥) مجمع البيان ١ : ١٠٤.

(٦) المصدر.

١٥٤

[٢ / ٤٠٩] وفي وجه ثالث : (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بتغيير الملّة وتحريف الكتاب ، على ما قاله الضحّاك (١).

[٢ / ٤١٠] وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) قال : الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية (٢).

قوله تعالى : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)

[٢ / ٤١١] أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي إنّما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب (٣).

[٢ / ٤١٢] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي مطيعون (٤).

[٢ / ٤١٣] وأخرج وكيع وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبّاد بن عبد الله الأسدي قال : قرأ سلمان هذه الآية : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) قال : لم يجيء أهل هذه الآية بعد (٥).

قلت : يعني بهم : القاسطين والمارقين والناكثين.

[٢ / ٤١٤] وقال مقاتل بن سليمان : يقول الله ـ سبحانه ـ : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) أي العاصون (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) بأنّهم مفسدون (٦).

__________________

(١) المصدر : ١٠٥ ، الثعلبي ١ : ١٥٤ ، بلفظ : «تبديل الملّة وتغيير السنّة وتحريف كتاب الله».

(٢) الدرّ ١ : ٧٦ ؛ الطبري ١ : ١٨٢ / ٢٨٦ ، نقلا عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ابن كثير ١ : ٥٢ ، نقلا عن السدّي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن مسعود وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٣) الدرّ ١ : ٧٧ ؛ الطبري ١ : ١٨٤ / ٢٨٨ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٤٥ / ١٢٤ ؛ القرطبي ١ : ٢٠٤ ، بلفظ : «وإنّما قالوا ذلك على ظنّهم ، لأنّ إفسادهم عندهم إصلاح ، أي إنّ ممالئتنا للكفّار ، إنّما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين ، قاله ابن عبّاس وغيره» ؛ ابن كثير ١ : ٥٣ ؛ التبيان ١ : ٧٦.

(٤) تفسير مقاتل ١ : ٩٠.

(٥) الدرّ ١ : ٧٧ ؛ الطبري ١ : ١٨٢ / ٢٨٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٤٥ / ١٢٣ ؛ ابن كثير ١ : ٥٢ ؛ التبيان ١ : ٧٤ ؛ مجمع البيان ١ : ١٠٤.

(٦) تفسير مقاتل ١ : ٩٠.

١٥٥

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ)

ومن صفتهم كذلك التطاول والتعالي على سائر الناس ، ليكسبوا لأنفسهم جاها زائفا في أعين الآخرين.

فقد كانت الدعوة الموجّهة إليهم هي الإيمان الخالص المتجرّد عن الأهواء. إيمان المخلصين الّذين دخلوا في السلم كافّة وأسلموا وجوههم لله ، وهؤلاء هم الناس الّذين كان المنافقون يدعون ليؤمنوا مثلهم. ولكنّهم كانوا يأنفون من هذا الاستسلام لله ولرسوله ، ويرونه لائقا بضعاف الناس الّذين هم سوقة ، دون العليّة ذوي الجاه.

ومن ثمّ قالوا : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ). أي المبتذلة من غوغاء العوامّ ، لا رشد لهم ولا هدى!

ولذلك جاءهم الردّ الحاسم القامع : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ ...) ـ حقيقة ـ (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ). هم في غفوة عن الفكر الصحيح وفي عمه العتوّ والاستكبار. ولكن أنّى يشعر السفيه بسفهه ، وهو ـ عن حمقه ـ يسفّه ذوي العقول الراجحة. فياله من ابتذال الفكرة الحمقانيّة!!

[٢ / ٤١٥] أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) قال : صدّقوا كما صدّق أصحاب محمّد أنّه نبيّ ورسول ، وأنّ ما أنزل عليه حقّ. (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) يعنون أصحاب محمّد (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) يقول : الجهّال (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) يقول : لا يعقلون (١).

[٢ / ٤١٦] وقال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) : نزلت في منذر بن معاذ ، وأبي لبابة ، ومعاذ بن جبل ، وأسيد ، قالوا لليهود : صدّقوا بمحمّد إنّه نبيّ ، كما صدّق به عبد الله بن سلام وأصحابه ، فقالت اليهود : (أَنُؤْمِنُ) يعني نصدّق (كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) يعني الجهّال ، يعنون عبد الله بن سلام وأصحابه. يقول الله ـ عزوجل ـ ردّا عليهم : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) بأنّهم السفهاء (٢).

[٢ / ٤١٧] وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس إنّها نزلت في شأن اليهود.

__________________

(١) الدرّ ١ : ٧٧ ؛ الطبري ١ : ١٨٥ و ١٨٦ و ١٨٧ / ٢٩٠ و ٢٩٤ و ٢٩٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٤٦ / ١٢٧ و ١٢٩ و ١٣١ و ١٣٢.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ٩٠ ـ ٩١.

١٥٦

قال القرطبي : أي وإذا قيل لهم ـ يعني اليهود ـ آمنوا كما آمن الناس : (عبد الله بن سلام وأصحابه) قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء يعنى الجهّال والخرقاء (١).

[٢ / ٤١٨] وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : (كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) قال : يعنون أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأخرج عن الربيع وابن زيد مثله (٢).

قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)

هذه هي السمة الأخير الّتي تكشف عن مدى الصلة بين المنافقين في المدينة واليهود الحانقين. إنّهم لا يقفون عند حدّ الكذب والخداع ، والسفه والادّعاء ، إنّما يضيفون إليها الضعف واللؤم والتآمر في الظلام.

قال سيّد قطب : وبعض الناس يحسب اللؤم قوّة ، والمكر السّيء براعة ، وهو في حقيقته ضعف وخسّة. فالقويّ ليس لئيما ولا خبيثا ، ولا خادعا ولا متآمرا ، ولا غمّازا في الخفاء لمّازا.

وهؤلاء المنافقون ـ ولا يزالون ـ كانوا يجبنون عن المواجهة ، ويتظاهرون بالإيمان عند لقاء المؤمنين ، ليتّقوا الأذى ، وليتّخذوا هذا الستار وسيلة للأذى.

ولكنّهم كانوا إذا خلوا إلى شياطينهم وهم ـ غالبا ـ اليهود الّذين كانوا يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لتمزيق الصفّ الإسلامي وتفتيته ، كما أنّ هؤلاء كانوا يجدون في اليهود سندا وملاذا. كانوا (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا) في نهاية الخسّة والرذالة : (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بالمؤمنين ، بإظهار الإيمان لهم جهرا ومكايدتهم سرّا.

__________________

(١) القرطبي ١ : ٢٠٥.

(٢) الدرّ ١ : ٧٧ ؛ الطبري ١ : ١٨٦ / ٢٩١ ، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي. و ٢٩٢ عن الربيع و ٢٩٣ عن ابن زيد ؛ ابن كثير ١ : ٥٣ ، نقلا عن أبي العالية والسدّي في تفسيره بسنده عن ابن عبّاس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة وبه يقول : الربيع بن أنس وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم وغيرهم.

١٥٧

وما يكاد القرآن يحكي فعلتهم هذه وقولتهم ، حتّى يصبّ عليهم من التهديد ما يهدّ الرواسي : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ـ ذلك بأن ـ (يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

وما أبأس من يستهزئ به جبّار السماء والأرض ، وما أشقاه.

قال سيّد قطب : وإنّ الخيال ليمتدّ إلى مشهد مفزع رعيب ، وإلى مصير تقشعرّ من هوله القلوب ، وهو يقرأ : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ). فيدعهم يخبطون على غير هدى ، في طريق لا يعرفون غايته. واليد الجبّارة تتلقّفهم في النهاية ، كالفئران الضئيلة تتواثب في الفخّ ، غافلة عن المقبض المكين.

وهذا هو الاستهزاء الرعيب ، لا كالاستهزاء الهزيل الحقير.

وهنا كذلك تبدو تلك الحقيقة الّتي أشرنا من قبل إليه ، حقيقة تولّي الله ـ سبحانه ـ للمعركة الّتي يراد بها المؤمنون. وما وراء هذا التولّي من طمأنينة كاملة لأولياء الله. ومصير رعيب بشع لأعداء الله الغافلين المتروكين في عماهم يخبطون ، المخدوعون بمدّ الله لهم في طغيانهم ، وإمهالهم بعض الوقت في عدوانهم. والمصير الرهيب ينتظرهم هنالك ، وهم غافلون يعمهون.

والكلمة الأخيرة الّتي تصوّر حقيقة حالهم ، ومدى خسرانهم :

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) فلقد كانوا يملكون الهدى ـ المتاح لهم بفضل الإسلام ـ لو أرادوا ، كان مبذولا لهم ، وكان في متناولهم ، ولكنّهم (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) كأغفل ما يكون المتّجرون (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) إلى سبيل الاسترباح الأفضل.

قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا ...)

[٢ / ٤١٩] أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية.

قال : كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعضهم قالوا : إنّا على دينكم. (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) وهم إخوانهم (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي على مثل ما أنتم عليه (١).

[٢ / ٤٢٠] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (وَإِذا لَقُوا

__________________

(١) الدرّ ١ : ٧٨ ؛ الطبري ١ : ١٨٨ ـ ١٩٠ / ٢٩٦ ، ٣٠٤ ، ٣٠٧ ، ٣١٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٤٦ ـ ٤٩.

١٥٨

الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) أي صاحبكم رسول الله ، ولكنّه إليكم خاصّة (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) ، من اليهود الّذين يأمرونهم بالتكذيب (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي إنّا على مثل ما أنتم عليه (١).

[٢ / ٤٢١] وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عبّاس في قوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) وهم منافقوا أهل الكتاب ، فذكرهم وذكر استهزاءهم ، وأنّهم (إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) على دينكم (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بأصحاب محمّد. يقول الله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) في الآخرة ، يفتح لهم باب في جهنّم من الجنّة ثمّ يقال لهم : تعالوا ، فيقبلون فيسحبون في النّار ، والمؤمنون على الأرائك وهي السّرر في الحجال ينظرون إليهم ، فإذا انتهوا إلى الباب سدّ عنهم ، فضحك المؤمنون منهم فذلك قول الله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) في الآخرة ، ويضحك المؤمنون منهم حين غلّقت دونهم الأبواب. فذلك قوله : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ)(٢). (٣).

[٢ / ٤٢٢] وقال مقاتل بن سليمان : ثمّ أخبر عنهم فقال ـ سبحانه ـ : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني صدّقوا من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قالُوا) لهم : (آمَنَّا) صدّقنا بمحمّد. (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) يعني رؤساء اليهود ، كعب بن الأشرف وأصحابه (قالُوا) لهم : (إِنَّا مَعَكُمْ) على دينكم (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بمحمّد وأصحابه (٤).

[٢ / ٤٢٣] وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في قوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) قال : إذا أصاب المؤمنين رخاء ، قالوا : إنّا نحن معكم إنّما نحن إخوانكم ، وإذا خلوا إلى شياطينهم استهزأوا بالمؤمنين (٥).

[٢ / ٤٢٤] وأخرج الثعلبي عن الضحّاك عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) قال : كان عبد الله بن أبيّ بن سلول الخزرجي عظيم المنافقين من رهط سعد بن عبادة ، وكان إذا لقي سعدا قال : نعم الدين دين محمّد. وكان إذا رجع إلى رؤساء قومه ، قالوا : هل نكفر؟ قال : سدّوا

__________________

(١) الدرّ ١ : ٧٩ ؛ الطبري ١ : ١٨٨ و ١٩٠ بعد رقم ٢٩٦ و ٣٠٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٤٧ و ٤٨.

(٢) المطفّفين ٨٣ : ٣٤.

(٣) الدرّ ١ : ٧٨ ؛ الأسماء والصفات ٣ : ٦٥٧ ؛ القرطبي ١ : ٢٠٨ ؛ الثعلبي ١ : ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٤) تفسير مقاتل ١ : ٩١.

(٥) الطبري ١ : ١٨٩ / ٣٠٢.

١٥٩

أيديكم بدين آبائكم. فأنزل الله هذه الآية (١).

وللثعلبي رواية أخرى ذكرناها ذيل الآية ١٠ وفيها بيان أوفى فراجع (٢).

[٢ / ٤٢٥] وقال ابن عبّاس : هم خمسة نفر من اليهود : كعب بن الأشرف بالمدينة ، وأبو بردة في بني أسلم ، وعبد الدار في جهنية ، وعوف بن عامر في بني أسد ، وعبد الله بن السوداء بالشام (٣). والشيطان كلّ متمرّد عات من الجنّ والإنس ومن كلّ شيء حتّى الحيوان الخبيث. ومنه قيل للحيّة النضناض : شيطان (٤).

قوله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ)

[٢ / ٤٢٦] أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله (وَإِذا خَلَوْا) قال : مضوا (٥).

[٢ / ٤٢٧] وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) قال : رؤوسهم في الكفر (٦).

[٢ / ٤٢٨] وقال القرطبي : واختلف المفسّرون في المراد بالشياطين هنا : فقال ابن عبّاس والسّدّي : هم رؤساء الكفر. وقال الكلبي : هم شياطين الجنّ. وقال جمع من المفسّرين : هم الكهّان (٧).

[٢ / ٤٢٩] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) قال : أصحابهم من المنافقين والمشركين (٨).

[٢ / ٤٣٠] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) قال : إلى إخوانهم من المشركين ورؤوسهم وقادتهم في الشرّ (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) يقولون :

__________________

(١) الثعلبي ١ : ١٥٥.

(٢) المصدر.

(٣) الثعلبي ١ : ١٥٦ ؛ البغوي ١ : ٨٥ ؛ أبو الفتوح ١ : ١٢٦.

(٤) المصدر. والنضناض من الحيّات : الّتي أخرجت لسانها تحرّكه. أو الّتي لا تستقرّ في مكان ، أو الّتي إذا نهشت قتلت من ساعتها.

(٥) الدرّ ١ : ٧٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٤٧ / ١٣٥.

(٦) الدرّ ١ : ٧٩ ؛ الطبري ١ : ١٨٨ / ٢٩٧.

(٧) القرطبي ١ : ٢٠٧.

(٨) الدرّ ١ : ٧٩ ؛ الطبري ١ : ١٨٨ بعد رقم ٣٠٠ ؛ البخاري ٥ : ١٤٧ ، كتاب التفسير ، سورة البقرة.

١٦٠