التفسير الأثري الجامع - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-03-6
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) فلا تصل إليها حقيقة من الهدى ولا صدى.

(وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) فلا نور يوصوص لها ولا ضياء ، فقد طبع الله على قلوبهم وعلى سمعهم وغشي على أبصارهم ، جزاء وفاقا على استهتارهم بالإنذار ، حتّى تساوى لديهم الإنذار وعدم الإنذار ، بل ومعاكسة طبيعيّة لسوء تدبّرهم وسوء تصرّفهم في هذه الحياة. (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(١).

إنّها صورة صلدة ، مظلمة ، جامدة ، ترتسم من خلال الحركة الثابتة الجازمة ، حركة الختم على القلوب والأسماع ، والتغشية على العيون والأبصار.

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ، وهي النهاية الطبيعيّة للكفر العنيد ، الّذي لا يستجيب للنذير ، والّذي يستوي عنده الإنذار وعدم الإنذار ، كما علم الله من طبعهم المطموس المغمور.

***

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي : نزلت في أبي جهل وفي خمسة من قومه من قادة الأحزاب ، قتلوا يوم بدر (٢) ، في قول الربيع بن أنس. واختاره البلخيّ والمغربيّ. وقال ابن عبّاس : نزلت في قوم بأعيانهم من أحبار اليهود ، ذكرهم بأشخاصهم (٣) من اليهود حول المدينة. وقال قوم نزلت في مشركي العرب. واختار الطبري قول ابن عبّاس (٤).

قال الشيخ : والّذي نقوله : إنّه لا بدّ أن تكون الآية مخصوصة ، لأنّ حملها على العموم غير ممكن ، لأنّا علمنا أنّ في الكفّار من يؤمن ، فلا يمكن العموم. وأمّا القطع على واحد ممّا قالوه فلا دليل عليه ، ويجب تجويز كلّ واحد من هذه الأقوال (٥).

وقال سيّدنا الأستاذ العلّامة الطباطبائي : هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر وقد تمكّن الجحود من قلوبهم. ومن ثمّ جاء وصفهم بمساواة الإنذار وعدمه فيهم. ولا يبعد أن يكون المراد من هؤلاء الّذين

__________________

(١) الصفّ ٦١ : ٥.

(٢) سوى نفرين استسلما فيما بعد : أبو سفيان والحكم بن أبي العاص (الدرّ ١ : ٢٩).

(٣) راجع : الطبري (١ : ١٥٩ / ٢٤٥ و ٢٤٦).

(٤) وهو ما رواه عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : أنّها نزلت في اليهود الّذين كانوا في نواحي المدينة.

(٥) التبيان ١ : ٦٠.

١٢١

كفروا ، هم الكفّار من صناديد قريش وكبراء مكّة الّذين عاندوا ولجّوا في رفض الدين ولم يألوا جهدا في معارضته ولم يؤمنوا حتّى أفناهم الله عن آخرهم في بدر وغيره.

قال : ويؤيّده أنّ هذا التعبير لا يمكن استطراده بشأن جميع الكفّار ، وإلّا لا نسدّ باب الهداية. فالأشبه أن يكون المراد ـ في مثل هذا التعبير في سائر الموارد أيضا ـ كفّار مكّة ممّن جاحدوا الحقّ وقابلوا الدعوة حتّى آخر حياتهم (١).

***

وإليك ما ورد من الروايات بهذا الشأن :

[٢ / ٢٩٧] أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير واللالكائيّ في السنّة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عبّاس في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ونحو هذا من القرآن قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ، ويتابعوه (٢) على الهدى ، فأخبره الله أنّه لا يؤمن إلّا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأوّل ، ولا يضلّ إلّا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأوّل (٣).

[٢ / ٢٩٨] وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال : «قيل يا رسول الله إنّا نقرأ من القرآن فنرجو ، ونقرأ فنكاد نيأس! فقال : ألا أخبركم عن أهل الجنّة وأهل النّار؟ قالوا : بلى يا رسول الله! قال : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) إلى قوله (الْمُفْلِحُونَ) هؤلاء أهل الجنّة قالوا : إنّا نرجو أن نكون هؤلاء. ثمّ قال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) إلى قوله (عَظِيمٌ) هؤلاء أهل النّار. قلنا لسناهم يا رسول الله؟ قال : أجل» (٤).

__________________

(١) الميزان ١ : ٥٠ ـ ٥٢.

(٢) في رواية البيهقي في الأسماء والصفات ١ : ١٣٦ ـ ١٣٧ «ويبايعوه على الهدى».

(٣) الدرّ ١ : ٧٢ ؛ الطبري ١ : ١٥٩ ـ ١٦٠ / ٢٤٧ ، و ٧ : ٢٢٤ / ١٣٨٥٦ ؛ الكبير ١٢ : ١٩٧ / ١٣٠٢٥ ؛ الأسماء والصفات ١ : ١٣٦ ـ ١٣٧ ؛ مجمع الزّوائد ٧ : ٨٤ ـ ٨٥.

(٤) الدرّ ١ : ٧٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٤٠ / ٩١ ، بلفظ : «عن عبد الله بن عمرو عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قيل : يا رسول الله إنّا نقرأ من القرآن

١٢٢

[٢ / ٢٩٩] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بما أنزل إليك ، وإن قالوا : إنّا قد آمنّا بما جاء من قبلك (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي إنّهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك ، فقد كفروا بما جاءك وبما عندهم ممّا جاءهم به غيرك ، فكيف يسمعون منك إنذارا وتخويفا ، وقد كفروا بما عندهم من نعتك (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا بغير ما كذّبوا به من الحقّ الّذي جاءك من ربّك ، حتّى يؤمنوا به ، وإن آمنوا بكلّ ما كان قبلك ، (وَلَهُمْ) بما هم عليه من خلافك (عَذابٌ عَظِيمٌ) فهذا في الأحبار من اليهود (١).

[٢ / ٣٠٠] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب ، وهم الّذين ذكرهم الله في هذه الآية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً)(٢). قال : فهم الّذين قتلوا يوم بدر ، ولم يدخل من القادة أحد في الإسلام إلّا رجلان : أبو سفيان والحكم بن أبي العاص (٣).

[٢ / ٣٠١] وأخرج الثعلبي في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) عن الكلبي قال : يعني اليهود (٤).

[٢ / ٣٠٢] وأخرج عن الضحّاك قال : نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته (٥).

__________________

ــ فنرجو ، ونقرأ فنكاد أن نأيس ، فقال : ألا أخبركم؟ ثمّ قال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) هؤلاء أهل النار. قالوا : لسنا منهم يا رسول الله؟ قال : أجل» ؛ ابن كثير ١ : ٤٨.

(١) الدرّ ١ : ٧٢ ؛ الطبري ١ : ١٥٩ / ٢٤٥ ، إلى قوله : «جاء من قبلك». و ١٦٣ / ٢٤٩ ، إلى قوله : «نعتك» و ١٦٨ / ٢٥٧ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٤٠ و ٤١ / ٩٢ و ٩٤.

(٢) إبراهيم ١٤ : ٢٨.

(٣) الدرّ ١ : ٧٢ ـ ٧٣ ؛ الطبري ١ : ١٦٠ و ١٦٨ / ٢٤٨. عن الربيع بن أنس ، إلى قوله : «يوم بدر» ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٤٠ / ٩٣ ، بلفظ : «عن أبي العالية : قال : آيتان في قادة الأحزاب (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) قال : هم الّذين ذكرهم الله في هذه الآية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) ابن كثير ١ : ٤٨ ، باختصار.

(٤) الثعلبي ١ : ١٤٩.

(٥) المصدر.

١٢٣

[٢ / ٣٠٣] وأخرج ابن المنذر عن السّدّي في قوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) قال : وعظتهم أم لم تعظهم (١).

[٢ / ٣٠٤] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : يعني لا يصدّقون (٢).

قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ)

[٢ / ٣٠٥] روى الصدوق بإسناده إلى إبراهيم بن أبي محمود قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن قول الله ـ عزوجل ـ : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) قال : الختم هو الطبع على قلوب الكفّار ، عقوبة على كفرهم ، كما قال ـ عزوجل ـ : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً)(٣). (٤).

[٢ / ٣٠٦] وأخرج الطستيّ في مسائله عن ابن عبّاس أنّ نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله ـ عزوجل ـ : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ، قال : طبع الله عليها ، قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت الأعشى وهو يقول :

وصهباء طاف يهوديّها

فأبرزها وعليها ختم (٥)

[٢ / ٣٠٧] وقال السدّي في قوله : (خَتَمَ اللهُ) أي : طبع الله (٦).

[٢ / ٣٠٨] وقال مجاهد : نبئت أنّ الذّنوب على القلب تحفّ به من نواحيه حتّى تلتقي عليه ، فالتقاؤها عليه الطبع ، والطبع الختم. قال ابن جريج الختم : ختم على القلب والسمع (٧).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٧٣.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ٨٨.

(٣) النساء ٤ : ١٥٥.

(٤) عيون أخبار الرّضا عليه‌السلام ١ : ١١٣ / ١٦ ، باب ٣٤ ؛ الاحتجاج ٢ : ١٩٧ ؛ البحار ٥ : ١١ و ٢٠١.

(٥) الدرّ ١ : ٧٣. والبيت في ديوانه : ٣٥.

(٦) ابن كثير ١ : ٤٨.

(٧) الطبري ١ : ١٦٤ / ٢٥٢ ؛ ابن كثير ١ : ٤٨ ، بلفظ : «قال مجاهد : الطبع ثبتت الذّنوب على القلب فحفّت به من كلّ نواحيه حتّى تلتقي عليه ، فالتقاؤها عليه الطبع ، والطبع الختم».

١٢٤

[٢ / ٣٠٩] وعن ابن جريج قال : حدّثني عبد الله بن كثير أنّه سمع مجاهدا يقول : الرّان أيسر من الطبع ، والطبع أيسر من الإقفال ، والإقفال أشدّ ذلك كلّه (١).

[٢ / ٣١٠] وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : الختم على القلب والسمع ، والغشاوة على البصر. قال الله تعالى ذكره : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ)(٢) وقال : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً)(٣). (٤).

[٢ / ٣١١] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في الآية قال : الختم على قلوبهم وعلى سمعهم ، والغشاوة على أبصارهم (٥).

[٢ / ٣١٢] وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) قال : أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم ، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون (٦).

[٢ / ٣١٣] وقال الطبرسي : قيل في معنى الختم وجوه ... منها : أنّ المراد بذلك أنّه تعالى ذمّهم بأنّها كالمختوم عليها ، في أنّه لا يدخلها الإيمان ولا يخرج عنها الكفر. عن الأصمّ وأبي مسلم الأصفهاني (٧).

[٢ / ٣١٤] وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) فلا يعقلون ولا يسمعون ، وجعل على أبصارهم ، قال : أعينهم (غِشاوَةٌ) فلا يبصرون (٨).

[٢ / ٣١٥] وقال القرطبي : فالختم على القلوب عدم الوعي عن الحقّ ـ سبحانه ـ مفهوم

__________________

(١) الطبري ١ : ١٦٤ / ٢٥٣ ؛ ابن كثير ١ : ٤٨ ؛ التبيان ١ : ٦٤ ، وفيه : «الرّين» بدل «الرّان».

(٢) الشورى ٤٢ : ٤٢.

(٣) الجاثية ٤٥ : ٢٣.

(٤) الطبري ١ : ١٦٧ / ٢٥٦ ؛ ابن كثير ١ : ٤٩.

(٥) الدرّ ١ : ٧٣ ؛ الطبري ١ : ١٦٦ / ٢٥٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٤١ ـ ٤٢ / ١٠٠ ، بلفظ : «عن ابن عبّاس : في قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) : والغشاوة على أبصارهم».

(٦) الدرّ ١ : ٧٣ ؛ ابن كثير ١ : ٤٨ ، باختلاف يسير.

(٧) مجمع البيان ١ : ٩٦ ـ ٩٧ ؛ التبيان ١ : ٦٣ ، مع عدم ذكر الراوي.

(٨) الدرّ ١ : ٧٣ ؛ الطبري ١ : ١٦٨ / ٢٥٨ ، نقلا عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٢٥

مخاطباته والفكر في آياته. وعلى السمع : عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم أو دعوا إلى وحدانيّته. وعلى الأبصار : عدم هدايتها للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته ؛ هذا معنى قول ابن عبّاس وابن مسعود وقتادة وغيرهم (١).

[٢ / ٣١٦] وعن الأعمش قال : أرانا مجاهد بيده فقال : كانوا يرون أنّ القلب في مثل هذا ، يعني الكفّ ، فإذا أذنب العبد ذنبا ضمّ منه وقال بأصبعه الخنصر هكذا ؛ فإذا أذنب ضمّ. وقال بأصبع أخرى : فاذا أذنب ضمّ وقال بأصبع أخرى ، هكذا حتّى ضمّ أصابعه كلّها. قال : ثمّ يطبع عليه بطابع. قال مجاهد : وكانوا يرون أنّ ذلك الرّين (٢).

[٢ / ٣١٧] وأخرج الطبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، فإن زاد زادت حتّى يغلف قلبه ، فذلك الرّان الّذي قال الله جلّ ثناؤة : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ»)(٣)(٤).

[٢ / ٣١٨] وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن وأبي رجاء ، قرأ أحدهما «غشاوة» والآخر «غشوة» (٥).

[٢ / ٣١٩] وعن ابن عبّاس : ولهم ، بما هم عليه من خلافك ، عذاب عظيم ، قال : فهذا في الأحبار من يهود فيما كذّبوك به من الحقّ الّذي جاءك من ربّك بعد معرفتهم (٦).

__________________

(١) القرطبي ١ : ١٨٦.

(٢) الطبري ١ : ١٦٤ / ٢٥٠ ، و : ١٢٣ / ٢٨٣٨٣ ، سورة المطففين ، الآية ١٤ ؛ القرطبي ١ : ١٨٨ ، بلفظ : «قال مجاهد : القلب كالكفّ يقبض منه بكلّ ذنب أصبع ثمّ يطبع».

(٣) المطّففين ٨٣ : ١٤.

(٤) الطبري ١ : ١٦٥ / ٢٥٤ ؛ القرطبي ١ : ١٨٨ ، نقلا عن الترمذي بلفظ : «روى الترمذي وصحّحه عن أبي هريرة : إنّ الرجل ليصيب الذنب فيسوّد قلبه ، فإن هو تاب صقل قلبه. قال : وهو الرّين الّذي ذكره الله في القرآن في قوله : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ؛ ابن كثير ١ : ٤٩ ، وفيه «واستعتب» بدل «واستغفر» ؛ مسند أحمد ٢ : ٢٩٧ ، «مسند أبي هريرة» باختلاف يسير ؛ ابن ماجة ٢ : ١٤١٨ / ٤٢٤٤ ، ، كتاب الزّهد ، باب ٢٩ (ذكر الذنوب) ؛ الحاكم ١ : ٥ ، كتاب الإيمان.

(٥) الدرّ ١ : ٧٣ ؛ القرطبي ١ : ١٩١ ؛ بلفظ : قرأ الحسن : «غشاوة بضمّ الغين» ؛ التبيان ١ : ٦٣ ؛ بلفظ : وعن الحسن : ضمّ الغين ؛ مجمع البيان ١ : ٩٤ ، بنحو ما رواه الشيخ في التبيان.

(٦) الطبري ١ : ١٦٩ / ٢٦١ ؛ التبيان ١ : ٦٦.

١٢٦

قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)

[٢ / ٣٢٠] أخرج ابن أبي حاتم بإسناده إلى أبي روق عن الضحّاك عن ابن عبّاس ، في قوله : (عَذابٌ) ، يقول : نكال.

[٢ / ٣٢١] وبإسناده إلى محمّد بن مزاحم عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حيّان ، في قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ، يعني : عذاب وافر (١).

[٢ / ٣٢٢] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) يعني طبع الله على قلوبهم فهم لا يعقلون الهدى (وَعَلى سَمْعِهِمْ) يعني آذانهم فلا يسمعون الهدى. (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) يعني غطاء فلا يبصرون الهدى (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) يعني وافر لا انقطاع له. نزلت هاتان الآيتان في مشركي العرب ، منهم شيبة وعتبة ابنا ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام ـ اسمه عمرو ـ ، وعبد الله بن أبي أميّة ، وأميّة بن خلف ، وعمرو بن وهب ، والعاص بن وائل ، والحارث بن عمرو ، والنضر بن الحارث ، وعديّ بن مطعم بن عديّ ، وعامر بن خالد ، أبو البحتري ابن هشام (٢).

وجوه الكفر

عقد أبو جعفر الكليني بابا في الكافي الشريف لبيان وجوه الكفر على ما ورد في أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وهو :

[٢ / ٣٢٣] ما رواه بإسناده عن أبي عمرو الزبيري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله ـ عزوجل ـ قال : «الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه :

فمنها كفر الجحود ، والجحود على وجهين ؛ والكفر بترك ما أمر الله ؛ وكفر البراءة ؛ وكفر النعم.

فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالرّبوبيّة وهو قول من يقول : لا ربّ ولا جنّة ولا نار ، وهو قول صنفين من الزّنادقة يقال لهم : الدّهريّة وهم الّذين يقولون (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان على غير تثبّت منهم ولا تحقيق لشيء ممّا يقولون ، قال الله عزوجل : (وإِنْ

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ٤٢ / ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٢) تفسير مقاتل ١ : ٨٨.

١٢٧

هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)(١) أنّ ذلك كما يقولون وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٢) يعني بتوحيد الله تعالى فهذا أحد وجوه الكفر.

وأمّا الوجه الآخر من الجحود على معرفة فهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده ، وقد قال الله ـ عزوجل ـ : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)(٣) وقال الله ـ عزوجل ـ : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(٤) فهذا تفسير وجهي الجحود.

والوجه الثالث من الكفر كفر النعم ، وذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان عليه‌السلام : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(٥) وقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ)(٦) وقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)(٧).

والوجه الرابع من الكفر ، ترك ما أمر الله ـ عزوجل ـ به وهو قول الله عزوجل : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ)(٨) فكفّرهم بترك ما أمر الله ـ عزوجل ـ به ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٩).

__________________

(١) الجاثية ٤٥ : ٢٣.

(٢) البقرة ٢ : ٦.

(٣) النمل ٢٧ : ١٤.

(٤) البقرة ٢ : ٨٩.

(٥) النمل ٢٧ : ٤٠.

(٦) إبراهيم ١٤ : ٧.

(٧) البقرة ٢ : ١٥٢.

(٨) البقرة ٢ : ٨٤ ـ ٨٥. وقوله : (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) أي بالميثاق. وقوله : (تَظاهَرُونَ) أي تعاونون.

(٩) البقرة ٢ : ٨٥.

١٢٨

والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة ، وذلك قوله ـ عزوجل ـ يحكي قول إبراهيم عليه‌السلام : (كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ)(١). يعني تبرّأنا منكم ، وقال يذكر إبليس وتبرئته من أوليائه من الإنس يوم القيامة : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ)(٢) وقال : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً)(٣) يعني يتبرّأ بعضكم من بعض». (٤)

دعائم الكفر وشعبه

[٢ / ٣٢٤] وروى بإسناده عن أبان بن أبي عيّاش ، عن سليم بن قيس الهلالي ، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال : «بني الكفر على أربع دعائم : الفسق والغلوّ والشكّ والشبهة.

والفسق على أربع شعب : على الجفاء والعمى والغفلة والعتوّ.

فمن جفا احتقر الحقّ (٥) ومقت الفقهاء وأصرّ على الحنث العظيم.

ومن عمي نسي الذكر واتّبع الظنّ وبارز خالقه ، وألحّ عليه الشّيطان ، وطلب المغفرة بلا توبة ولا استكانة.

ومن غفل جنى على نفسه وانقلب على ظهره وحسب غيّه رشدا ؛ وغرّته الأمانيّ ؛ وأخذته الحسرة والنّدامة ، إذا قضي الأمر وانكشف عنه الغطاء وبدا له ما لم يكن يحتسب.

ومن عتا عن أمر الله شكّ ومن شكّ تعالى الله عليه (٦) فأذلّه بسلطانه وصغّره بجلاله كما اغترّ بربّه الكريم وفرّط في أمره (٧).

والغلوّ على أربع شعب : على التعمّق بالرّأي ، والتنازع فيه ، والزّيغ ، والشقاق.

__________________

(١) الممتحنة ٦٠ : ٤.

(٢) إبراهيم ١٤ : ٢٢.

(٣) العنكبوت ٢٩ : ٢٥.

(٤) الكافي ٢ : ٣٨٩ ـ ٣٩١ / ١.

(٥) وفي بعض النسخ «احتقر الخلق».

(٦) تعالى الله عليه : أي استولى الله عليه وأذلّه بتمكّنه وقدرته.

(٧) أي قصّر في طاعته.

١٢٩

فمن تعمّق (١) لم ينب إلى الحقّ ولم يزدد إلّا غرقا في الغمرات (٢). ولم تنحسر عنه فتنة إلّا غشيته أخرى ، وانخرق دينه فهو يهوى في أمر مريج (٣).

ومن نازع في الرّأي وخاصم شهر بالعثل (٤) من طول اللّجاج.

ومن زاغ قبحت عنده الحسنة وحسنت عنده السيّئة.

ومن شاقّ (٥) اعورّت عليه طرقه واعترض عليه أمره ، فضاق عليه مخرجه إذا لم يتّبع سبيل المؤمنين.

والشكّ على أربع شعب : على المرية ، والهوى ، والتردّد ، والاستسلام (٦) وهو قول الله عزوجل : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى)(٧).

وفي رواية أخرى : على المرية ، والهول من الحقّ ، والتردّد ، والاستسلام للجهل وأهله.

فمن هاله ما بين يديه نكص على عقبيه (٨) ، ومن امترى في الدّين تردّد في الرّيب (٩) ، وسبقه

__________________

(١) أي التعمّق في الباطل وطلب أقصى غايته بالرأي والقياس. وقوله : «والتنازع فيه» أي مخاصمة الحقّ بالرأي الباطل والزيغ أي الميل عن الحقّ إلى الباطل. والشقاق : المخالفة الشديدة مع أهل الحقّ. وقوله : «لم ينب» أي لم يرجع. وفي بعض النسخ «لم يتب».

(٢) الغمرة : معظم الماء ، مثل للجهالة الّتي يغمر صاحبها ، والانحسار الانكشاف.

(٣) قال الرّاغب : أصل المرج : الخلط. والمرج الاختلاط ، يقال : أمرهم مريج أي مختلط وقال البيضاوي في قوله تعالى : (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي مضطرب.

(٤) العثل : الحمق. وفي أكثر النسخ «بالفشل» بالفاء والشين وهو الضعف والجبن.

(٥) أي عارض ونازع أهل الدين والإمام المبين. وقوله : «اعورّت» أي صارت أعور ، لا علم لها فلا يهتدي سالكها. وفي بعض النسخ «أوعرت» أي صعبت.

(٦) المرية بالكسر والضم ، الشك والجدل وماراه مماراة ومراء وامترى فيه وتمارى : شك. «والتردّد» أي بين الحقّ والباطل لأنّ الشّاك متردّد بينهما قد يختار هذا وقد يختار ذاك. والاستسلام : الانقياد لأنّ الشّاك واقف على الجهل مستسلم له.

(٧) النجم ٥٣ : ٥٥. والممارات : المجادلة على مذهب الشك وشعبه.

(٨) الهول : الخوف من الحقّ وقوله : (نَكَصَ) أي رجع عمّا كان عليه.

(٩) أي تحيّر فيه لعدم النجاة منه.

١٣٠

الأوّلون من المؤمنين ، وأدركه الآخرون ، ووطأته سنابك الشيطان (١) ، ومن استسلم لهلكة الدّنيا والآخرة هلك فيما بينهما ، ومن نجا من ذلك فمن فضل اليقين ، ولم يخلق الله خلقا أفضل من اليقين.

والشبهة على أربع شعب : إعجاب بالزّينة ، وتسويل النفس ، وتأويل العوج ، ولبس الحقّ بالباطل ، وذلك بأنّ الزّينة تصدف عن البيّنة (٢) وأنّ تسويل النفس تقحم على الشهوة ، وأنّ العوج يميل بصاحبه ميلا عظيما ، وأنّ اللّبس ظلمات بعضها فوق بعض. فذلك الكفر ودعائمه وشعبه» (٣).

__________________

(١) السنبك كقنفذ : ضرب من العدو وطرف الحافر ، وهو كناية عن استيلاء الشيطان وجنوده من الجنّ والإنس عليه.

(٢) أصدفه عنه : صرفه عنه.

(٣) الكافي ٢ : ٣٩١ ـ ٣٩٣.

١٣١

قال تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

نزلت بشأن المنافقين وهم النمط الثالث من الناس ، وقفوا وقفة المذبذبين تجاه الدعوة وحاولوا إخمادها بدساسهم الملتوية ، وهيهات (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(١).

إنّها الصورة الثالثة ، ليست في شفّافية الصورة الأولى وسماحتها ، ولا في عتامة الصورة الثانية وصفاقتها ، ولكنّها تتلوّى في الحسّ ، وتروغ من البصر ، وتخفى وتبين. إنّها صورة المنافقين.

لقد كانت هذه صورة واقعة في المدينة حينذاك (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ)(٢).

__________________

(١) التوبة ٩ : ٣٢.

(٢) التوبة ٩ : ١٠١.

١٣٢

ولكنّنا حين نتجاوز نطاق الزمان والمكان ، نجدها نموذجا مكرورا في أجيال البشريّة جميعا.

نجد هذا النوع من المنافقين من عليّة النّاس (١) الّذين لا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليواجهوا الحقّ بالإيمان الصادق ، أو يجدون في نفوسهم الجرأة ليواجهوا الحقّ بالإنكار الصريح ، وهم في الوقت ذاته يتّخذون لأنفسهم مكان الترفّع على جماهير الناس ، وعلى تصوّرهم للأمور!

وهؤلاء قد اضطرّتهم المقادير على الإخضاع للجوّ الساطي ، ولو ظاهريّا ، فيدّعون الإيمان ، وهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين ، ولكنّهم يحاولون خداع المؤمنين ، ويظنّون في أنفسهم الذّكاء والدّهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء ، ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم ، فهم لا يخدعون المؤمنين ، إنّما ينخدعون هم مغبّة غبائهم في تقدير الأمور.

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) يحاولون خداعهم في سفاهة من الرأي.

(وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) ، إنّهم في غفلة بحيث لا يشعرون أنّهم فضحوا أنفسهم وسقطوا في أيديهم ، ويحسبون أنّهم الظافرون.

وفي هذا النصّ وأمثاله ـ في القرآن ـ تقرير فخيم عن حقيقة كبيرة ، هي أكبر دعامة يستند إليها المؤمنون طول حياتهم الإيمانية وطول مكافحتهم ضدّ الباطل. وهي حقيقة الصلة بين الله وبين المؤمنين حقّا. إنّه يجعل صفّهم صفّه ، وأمرهم أمره ، وشأنهم شأنه. يضمّهم سبحانه إليه ، ويأخذهم في كنفه ، ويجعل عدوّهم عدوّه ، وما يوجّه إليهم من مكر ودسائس ، فهو موجّه إليه تعالى في حقيقته.

وهذا هو التفضّل العلويّ الكريم ، التفضّل الّذي يرفع مقام المؤمنين إلى ذاك المستوى الرفيع ، والّذي يوحي بأنّ حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق ، والّذي يفيض على قلب المؤمن طمأنينة لاحدّ لها ، وهو يرى ربّه الكريم يجعل قضيّته هي قضيّته ، ومعركته هي معركته ، ويأخذه في صفّه ويرفعه إلى جواره الكريم .. فماذا يكون العبيد وكيدهم الحقير!

وهو في ذات الوقت تهديد رعيب للّذين يحاولون المراوغة مع المؤمنين وإيقاع الكيد بهم. تهديد بأنّ معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم ، إنّما هي مع الله المقتدر الجبّار القهّار ذي القوّة المتين. وأنّهم إنّما يحاربون الله ـ علانية ـ حين يحاربون أولياءه ـ مراوغة ـ وإنّما يتصدّون لنقمة الله حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة.

__________________

(١) أي من طبقة الأشراف فيما حسبوا.

١٣٣

قال سيّد قطب : وهذه الحقيقة من جانبها جديرة بأن يتدبّرها المؤمنون ويثبتوا ويمضوا في طريقهم ، لا يبالون كيد الكائدين ، ولا خداع الخادعين ، ويتدبّرها أعداء المؤمنين ، فيفزعوا ويرتاعوا من الّذي يحاربونه ويتصدّون لنقمته حين يتصدّون للمؤمنين (١).

***

[٢ / ٣٢٥] أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) يعني المنافقين من الأوس والخزرج ، ومن كان على أمرهم (٢).

[٢ / ٣٢٦] وقال مقاتل بن سليمان : ثمّ رجع إلى المنافقين فقال ـ عزوجل ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) يعني صدّقنا بالله بأنّه واحد لا شريك له وصدّقنا بالبعث الّذي فيه جزاء الأعمال بأنّه كائن فكذّبهم الله ـ عزوجل ـ فقال : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) يعني بمصدّقين بالتوحيد ولا بالبعث الّذي فيه جزاء الأعمال (٣).

[٢ / ٣٢٧] وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) قال : المراد بهذه الآية : المنافقون (٤).

[٢ / ٣٢٨] وقال عليّ بن إبراهيم : إنّها نزلت في قوم منافقين أظهروا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإسلام ، فكانوا إذا رأوا الكفّار قالوا : إنّا معكم وإذا لقوا المؤمنين قالوا : نحن مؤمنون ، وكانوا يقولون للكفّار : (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) ، فردّ الله عليهم : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(٥).

[٢ / ٣٢٩] وأخرج عبد الرزّاق وابن جرير عن قتادة في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٤٧ ـ ٤٨.

(٢) الدرّ ١ : ١٧٣ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٤٢ / ١٠٤ ؛ الطبري ١ : ١٦٩ / ٢٦٢ ، وقال : «وقد سمّي في حديث ابن عبّاس هذا أسماؤهم عن أبيّ بن كعب غير أنّي تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم» ؛ ابن كثير ١ : ٥٠ ، وزاد : «وكذا فسّرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية والحسن وقتادة والسّدّي» ؛ التبيان ١ : ٦٧.

(٣) تفسير مقاتل ١ : ٨٩.

(٤) الدرّ ١ : ٧٤ ؛ الطبري ١ : ١٧٠ / ٢٦٥. نقلا عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٥) القميّ ١ : ٣٤ ؛ البحار ٩ : ١٧٤ / ٣.

١٣٤

وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) حتّى بلغ (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)(١) قال : هذه في المنافقين (٢).

[٢ / ٣٣٠] وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ـ إلى ـ (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال : هؤلاء أهل النفاق (٣).

[٢ / ٣٣١] وروى أسباط عن السدّي في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ) قال : هم المنافقون (٤).

[٢ / ٣٣٢] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عبّاس. أن صدر سورة البقرة إلى المائة منها ، هي في رجال سمّاهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار اليهود ، ومن المنافقين من الأوس والخزرج (٥).

[٢ / ٣٣٣] وأخرج ابن المنذر عن محمّد بن سيرين قال : لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)(٦).

[٢ / ٣٣٤] وأخرج عبد بن حميد عن يحيى بن عتيق قال : كان محمّد (ابن سيرين) يتلو هذه الآية عند ذكر الحجّاج ويقول : أنا لغير ذلك أخوف (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)(٧).

إلمامة بشأن النفاق والمنافق

[٢ / ٣٣٥] أخرج ابن سعد عن أبي يحيى قال سأل رجل حذيفة وأنا عنده فقال : ما النفاق؟ قال : أن تتكلم باللّسان ولا تعمل به (٨).

[٢ / ٣٣٦] وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ، قال : هذا المنافق ، يخالف قوله فعله ، وسرّه علانيته ، ومدخله مخرجه ، ومشهده مغيبه (٩).

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٦.

(٢) الدرّ ١ : ٧٤ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٥٩ / ١٧ ؛ الطبري ١ : ١٧٠ / ٢٦٣.

(٣) الطبري ١ : ١٧٠ / ٢٦٦.

(٤) القرطبي ١ : ١٩٢.

(٥) الدرّ ١ : ٧٤. الطبري ١ : ١٥٩ / ٢٤٦.

(٦) الدرّ ١ : ٧٤ ؛ صفة المنافق ، لجعفر بن محمّد الفريابي : ٧٣.

(٧) الدرّ ١ : ٧٤.

(٨) المصدر.

(٩) الطبري ١ : ١٧٠ / ٢٦٧.

١٣٥

[٢ / ٣٣٧] وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) الآية. قال : هذا نعت المنافق ، نعت عبدا خائن السريرة ، كثير الأخلاف (١) ، يعرف بلسانه ، وينكر بقلبه ، ويصدّق بلسانه ، ويخالف بعمله ، ويصبح على حال ، ويمسي على غيره ، ويتكفّأ تكفؤ السفينة ، كلّما هبّت ريح هبّ فيها (٢).

[٢ / ٣٣٨] وروى الصدوق بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث طويل : «والنفاق على أربع دعائم : على الهوى ، والهوينا ، والحفيظة ، والطمع.

فالهوى على أربع شعب : على البغي ، والعدوان ، والشهوة ، والطغيان ، فمن بغى كثرت غوائله وعلّاته ، ومن اعتدى لم تؤمن بوائقه ، ولم يسلم قلبه. ومن لم يعزل نفسه عن الشهوات خاض في الخبيثات ، ومن طغى ضلّ على غير يقين ولا حجّة له.

وشعب الهوينا : الهيبة والغرّة والمماطلة والأمل. وذلك لأنّ الهيبة تردّ عن دين الحق وتفرّط المماطلة في العمل حتّى يقدم الأجل ، ولو لا الأمل علم الإنسان حسب ما هو فيه ، ولو علم حسب ما هو فيه مات من الهول والوجل.

وشعب الحفيظة الكبر ، والفخر ، والحميّة ، والعصبيّة. فمن استكبر أدبر ، ومن فخر فجر ، ومن حمي أضرّ ، ومن أخذته العصبيّة جار فبئس الأمر أمر بين الاستكبار والإدبار ، وفجور وجور.

وشعب الطمع أربع : الفرح ، والمرح ، واللّجاجة ، والتكاثر ، فالفرح مكروه عند الله ـ عزوجل ـ والمرح خيلاء ، واللّجاجة بلاء لمن اضطرّته إلى حبائل الآثام ، والتكاثر لهو وشغل ، واستبدال الّذي هو أدنى بالّذي هو خير فذلك النفاق ودعائمه وشعبه» (٣).

[٢ / ٣٣٩] ورواه الكلينى عن طريق عليّ بن إبراهيم بالإسناد إلى عمر بن أذينة عن أبان بن أبي

__________________

(١) لعلّه جمع الخلف ـ بكسر الخاء ـ بمعنى المختلف المتفاوت اللّون. او جمع الخلف ـ بالضمّ ـ بمعنى : عدم التزامه بالوفاء بالعهد. وهو في المستقبل ، كالكذب في الماضى. وفي بعض النسخ : كثير خنع الأخلاق ، والخنع : الفجور والغدر والذلّ.

(٢) الدرّ ١ : ٧٤ ؛ زاد المسير ١ : ٢٣.

(٣) الخصال : ٢٣٤ ـ ٢٣٥ / ٧٤ ، أبواب الأربعة : البحار ٦٩ : ٩١.

١٣٦

عيّاش عن سليم بن قيس الهلالي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «والنفاق على أربع دعائم : على الهوى ، والهوينا ، والحفيظة ، والطمع (١).

فالهوى على أربع شعب : على البغي ، والعدوان ، والشهوة ، والطغيان ، فمن بغى كثرت غوائله وتخلّى منه وقصر عليه ، ومن اعتدى لم يؤمن بوائقه ولم يسلم قلبه ولم يملك نفسه عن الشهوات ومن لم يعدل نفسه في الشهوات خاض في الخبيثات ومن طغى ضلّ على عمد بلا حجّة.

والهوينا على أربع شعب : على الغرّة ، والأمل ، والهيبة ، والمماطلة ، وذلك بأنّ الهيبة تردّ عن الحقّ ، والمماطلة تفرّط في العمل حتّى يقدم عليه الأجل ، ولو لا الأمل علم الإنسان حسب ما هو فيه ، ولو علم حسب ما هو فيه مات خفاتا من الهول والوجل ، والغرّة تقصّر بالمرء عن العمل.

والحفيظة على أربع شعب : على الكبر والفخر والحميّة (٢) والعصبيّة ، فمن استكبر أدبر عن الحقّ ومن فخر فجر ومن حمي أصرّ على الذّنوب ومن أخذته العصبيّة جار ، فبئس الأمر أمر بين إدبار وفجور وإصرار وجور على الصراط.

والطمع على أربع شعب : الفرح ، والمرح ، واللّجاجة ، والتّكاثر ، فالفرح مكروه عند الله ، والمرح خيلاء ، واللّجاجة بلاء لمن اضطرّته إلى حمل الآثام ، والتكاثر لهو ولعب وشغل واستبدال الّذي هو أدنى بالّذي هو خير.

فذلك النفاق ودعائمه وشعبه. والله قاهر فوق عباده تعالى ذكره وجلّ وجهه وأحسن كلّ شيء خلقه وانبسطت يداه ووسعت كلّ شيء رحمته وظهر أمره وأشرق نوره وفاضت بركته واستضاءت حكمته وهيمن كتابه وفلجت حجّته وخلص دينه واستظهر سلطانه وحقّت كلمته وأقسطت موازينه وبلّغت رسله ، فجعل السيّئة ذنبا والذّنب فتنة والفتنة دنسا وجعل الحسنى عتبى والعتبى توبة

__________________

(١) الهوينا تصغير الهونى ، تأنيت الأهون وهو من الهون : الرّفق واللين والتثبّت والمراد هنا : التهاون في أمر الدّين وترك الاهتمام فيه ، والحفيظة : الغضب والحميّة.

(٢) قال الراغب : عبّر عن القوّة الغضبيّة إذا ثارت وكثرت بالحميّة فقيل : حميت على فلان : أي غضبت عليه ، قال تعالى : (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ). الفتح ٤٨ : ٢٦. والعصبة : الأقارب من جهة الأب والعصبيّة حمايتهم والدفع عنهم ، والتعصّب المحاماة والمدافعة وهي والحميّة من توابع الكبر وكان الفرق بينهما بأنّ الحميّة للنفس والعصبيّة للأقارب أو الحميّة للأهل والعصبيّة للأقارب.

١٣٧

والتوبة طهورا ، فمن تاب اهتدى ، ومن افتتن غوى ، ما لم يتب إلى الله ويعترف بذنبه ولا يهلك على الله إلّا هالك.

الله الله فما أوسع ما لديه من التوبة والرّحمة والبشرى والحلم العظيم وما أنكل ما عنده من الأنكال والجحيم والبطش الشديد ، فمن ظفر بطاعته اجتنب كرامته ومن دخل في معصيته ذاق وبال نقمته وعمّا قليل ليصبحنّ نادمين» (١).

[٢ / ٣٤٠] وروى بالإسناد إلى محمّد بن الفضيل قال : كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام أسأله عن مسألة فكتب إليّ : («إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً. مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)(٢) ليسوا من الكافرين وليسوا من المؤمنين وليسوا من المسلمين ، يظهرون الإيمان ويصيرون إلى الكفر والتكذيب لعنهم الله» (٣).

[٢ / ٣٤١] وبالإسناد إلى أبي حمزة ، عن عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما قال : «إنّ المنافق ينهى ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي وإذا قام إلى الصّلاة اعترض ـ قلت : يا ابن رسول الله وما الاعتراض؟ قال : الالتفات ـ وإذا ركع ربض (٤) ، يمسي وهمّه العشاء وهو مفطر ويصبح وهمّه النوم ولم يسهر ، إن حدّثك كذبك وإن ائتمنته خانك وإن غبت اغتابك وإن وعدك أخلفك» (٥).

[٢ / ٣٤٢] وبالإسناد إلى عبد الملك بن بحر ، رفعه مثل ذلك ـ وزاد فيه ـ إذا ركع ربض وإذا سجد نقر وإذا جلس شغر (٦). (٧).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٩٣ ـ ٣٩٥ / ١.

(٢) النساء ٤ : ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٣) المصدر : ٣٩٥ / ٢.

(٤) الربض بفتح الباء مأوى الغنم وكلّ ما يؤوى ويستراح إليه.

(٥) الكافي ٢ : ٣٩٦ / ٣.

(٦) ذكره لبيان الزيادة وقوله : «إذا سجد نقر» أي خفّف السجود. و «إذا جلس شغر» قيل : أي أقعى كإقعاء الكلب. وقيل : أي رفع ساقيه من الأرض وقعد على عقبيه من شغر الكلب كمنع رفع أحد رجليه ، بال أو لم يبل. والأظهر أنّه إشارة إلى ما يستحبه أكثر العامّة في التشهّد فإنّهم يجلسون على الورك الأيسر ويجعلون الرجل اليمنى فوق اليسرى ويقيمون القدم اليمنى بحيث يكون رؤوس الأصابع إلى القبلة وفي بعض النسخ «شفر» بالفاء وقيل : هو من التشفير بمعنى النقص.

(٧) الكافي ٢ : ٣٩٦ / ٤.

١٣٨

[٢ / ٣٤٣] وبالإسناد إلى سعيد بن يسار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مثل المنافق مثل جذع النخل أراد صاحبه أن ينتفع به في بعض بنائه فلم يستقم له في الموضع الّذي أراد ، فحوّله في موضع آخر فلم يستقم له ، فكان آخر ذلك أن أحرقه بالنّار» (١).

[٢ / ٣٤٤] وبالإسناد إلى مسمع بن عبد الملك ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق» (٢).

[٢ / ٣٤٥] وبالإسناد عن السكونيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يجيء كلّ غادر ـ يوم القيامة ـ بإمام مائل شدقه (٣) حتّى يدخل النّار ، ويجيء كلّ ناكث بيعة إمام أجذم ، حتّى يدخل النّار».

[٢ / ٣٤٦] وعنه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، «ليس منّا من ماكر مسلما».

[٢ / ٣٤٧] وعن طلحة بن زيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن فريقين من أهل الحرب لكلّ واحد منهما ملك على حدة اقتتلوا ثمّ اصطلحوا ، ثمّ إنّ أحد الملكين غدر بصاحبه فجاء إلى المسلمين فصالحهم على أن يغزو معهم تلك المدينة؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا ولا يأمروا بالغدر ولا يقاتلوا مع الّذين غدروا ، ولكنّهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم ولا يجوز عليهم ما عاهد عليه الكفّار».

[٢ / ٣٤٨] وعن عبد الله بن الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله عليه‌السلام : «يجيء كل غادر بإمام يوم القيامة مائلا شدقه حتّى يدخل النّار».

[٢ / ٣٤٩] وعن الأصبغ بن نباتة قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ذات يوم وهو يخطب على المنبر بالكوفة : «يا أيّها الناس لو لا كراهيّة الغدر كنت من أدهى النّاس ، ألا إنّ لكلّ غدرة فجرة ولكلّ فجرة كفرة (٤) ، ألا وإنّ الغدر والفجور والخيانة في النّار» (٥).

__________________

(١) المصدر / ٥.

(٢) المصدر / ٦.

(٣) الشدق : زاوية الفم ، أي متدلّ بفمه عن استرخاء في بدنه لشدّه هوله.

(٤) بالفتح فيهما.

(٥) الكافي ٢ : ٣٣٦ ـ ٣٣٨ / ١ ـ ٦.

١٣٩

قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا)

[٢ / ٣٥٠] أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) قال : يظهرون لا إله إلّا الله ، يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم ، وفي أنفسهم غير ذلك (١).

[٢ / ٣٥١] وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال : سألت ابن زيد عن قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا؟) قال : هؤلاء المنافقون ، يخادعون الله ورسوله ، والّذين آمنوا : أنّهم يؤمنون بما أظهروه. وعن قوله : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ؟) قال : ما يشعرون بأنّهم ضرّوا أنفسهم بما أسرّوا من الكفر والنفاق ، ثمّ قرأ : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً)(٢) قال : هم المنافقون. حتّى بلغ قوله : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ)(٣). (٤).

[٢ / ٣٥٢] وقال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ) حين أظهروا الإيمان بمحمّد ، وأسرّوا التكذيب (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) : نزلت في منافقي أهل الكتاب اليهود ، منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول ، وجدّ بن قيس ، والحارث بن عمرو ، ومغيث بن قشير ، وعمرو بن زيد ، فخدعهم الله في الآخرة حين يقول في سورة الحديد : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً)(٥). فقال لهم استهزاء «بهم» كما استهزؤوا في الدنيا بالمؤمنين حين قالوا : آمنّا وليسوا بمؤمنين ، وذلك قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ)(٦) أيضا على الصراط حين يقال لهم : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً)(٧)

[٢ / ٣٥٣] وقيل : في قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ) حذف ، تقديره : يخادعون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. عن الحسن وغيره (٨).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٧٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٤٢ / ١٠٧.

(٢) المجادلة ٥٨ : ٦.

(٣) المجادلة ٥٨ : ١٨.

(٤) الدرّ ١ : ٧٥ ؛ الطبري ١ : ١٧٣ / ٢٦٨ و : ١٧٥ ـ ١٧٦ / ٢٦٩.

(٥) الحديد ٥٧ : ١٣.

(٦) النساء ٤ : ١٤٢.

(٧) تفسير مقاتل ١ : ٨٩.

(٨) القرطبي ١ : ١٩٥ ؛ البغوي ١ : ٨٧ ، بلفظ : قال الحسن : معناه يخادعون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ

١٤٠