التفسير الأثري الجامع - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-94552-4-8
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٤١٦

شرط الأخذ بالسياق

إن كان الأخذ بالسياق ممّا يعود إلى السياق العامّ في جملة آيات القرآن ، فهذا ممّا لا شرط له سوى إحراز وحدة الاتّجاه بين الآيتين : المجملة والمبيّنة. لتصلح إحداهما بيانا للأخرى ، نظرا لوحدة الاتّجاه. وهكذا في الأخذ بسياق السورة ، نظرا للوحدة الموضوعيّة ، السائدة على مجموعة آيات كلّ سورة ، كما نبّهنا.

إنّما الكلام في الأخذ بسياق آية أو مجموعة آيات نزلن معا وفي مقطع واحد ، فهذا يشترط فيه أوّلا : تعاقب نزول جملاتها ـ في آية واحدة ـ وتتابع نزول آيات هي متراصّة في تلك المجموعة فلا بدّ من إحراز ذاك التعاقب وهذا التتابع في النزول.

وثانيا : وحدة موضوعيّة سائدة على تلك الجمل أو الآيات التي هي متراصّة جنبا إلى جنب. وعليه فلو كان هناك تفكّك في ترتيب النزول أو في الموضوع ، فلا موضع للاستناد إلى السياق ، بعد الاختلاف في الاتّجاه ، الأمر الذي تغافله كثير من الباحثين.

مثلا ما ورد بشأن عدد المقاتلين ـ فيما إذا بلغوه وجب عليهم النضال ـ جاء أوّلا : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)(١). واحد تجاه عشرة.

ثمّ نسخ بواحد تجاه اثنين : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)(٢).

أنكر سيدنا الأستاذ الإمام الخوئي ـ طاب ثراه ـ وقوع نسخ بين الآيتين ، بحجّة عدم فصل بينهما نزولا ، ولشهادة السياق بنزولهما دفعة.

قال : إنّ القول بالنسخ يتوقّف على إثبات الفصل بين الآيتين نزولا ، وإثبات أنّ الثانية نزلت بعد العمل بالأولى ، لئلّا يلزم النسخ قبل حضور وقت الحاجة ، وإلّا كان التشريع الأوّل لغوا. قال : أضف إلى ذلك أنّ سياق الآيتين أصدق شاهد على أنّهما نزلتا مرّة واحدة.

ونتيجة على ذلك ، ذهب إلى إحكام الآية الأولى وأنّ الحكم فيها استحبابيّ (٣).

لكنّه ـ طاب ثراه ـ لم يذكر سند استظهاره الأخير ، وكيف أنّ السياق يدلّ على اتصال نزولهما معا من غير فصل زمنيّ؟!

__________________

(١) (١ و ٢) الأنفال ٨ : ٦٥ ـ ٦٦.

(٢) (١ و ٢) الأنفال ٨ : ٦٥ ـ ٦٦.

(٣) راجع : البيان : ٣٧٥ ـ ٣٧٦.

٨١

ومن ثمّ فإنّ العكس هو الظاهر من السياق ، حيث قوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) ، يدلّ بوضوح على تأخّر نزول الثانية عن الأولى بفترة ، ربما غير قصيرة ، مرّت خلالها تجربة عنيفة على المسلمين ، ظهر فيها ضعفهم وتثاقلهم عن التكليف الأوّل. فإنّ لفظة «الآن» تدلّ دلالة واضحة على تلك الفترة ، ولولاها لم يكن موقع لهذه اللفظة أصلا. وهكذا التعبير بالتخفيف يدلّ على تكليف شاقّ سابق ، الأمر الذي يتناسب مع كونه إلزاميّا لا الاستحباب. وأخيرا فإنّ قوله : (عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) أيضا خير شاهد على هذا الفصل. إذ المعنى : ظهر أنّ فيكم ضعفا ، مما يتناسب مع وقوع تجربة ظهر خلالها ضعف المسلمين ووهنهم عن مناضلة أضعافهم بعشرات! (١)

***

وقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٢) هذه الآية ضمنت سلامة القرآن عن تطرّق الحدثان. وهو ضمان إلهي ، والله لا يخلف الميعاد.

لكنّ بعض من يروقه القول بالشذوذ ، احتمل عود الضمير إلى المنزل عليه الذكر وهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي : وإنّا لمحمّد لحافظون (٣). فهي نظير قوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(٤).

لكن لا رابط ـ سياقا ـ بين الآيتين ، بعد أن كانت الأولى في سورة مكّيّة (الحجر) (رقم نزولها : ٥٤). والثانية في سورة مدنيّة (المائدة) ولعلّها من أخريات السور المدنيّة (رقم نزولها : ١١٣).

هذا فضلا عن أنّ آية الحفظ مسبوقة ـ في نفس سورتها ـ بقوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)(٥) ، في ثلاث آيات قبلها وهي تصلح قرينة لتعيين مراده تعالى من الذكر في آية الحفظ ، ولا دليل على إرادة خلاف ظاهر هذا السياق (٦).

وأمّا الشرط الثاني ، فالعناية بوحدة الموضوع في اتّجاه الآيتين أو سياق الآيتين ، لضرورة وجود الترابط بين الاتّجاهين.

مثلا قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)(٧). وقعت هذه الآيات بين آيات تحدّثت عن أحوال القيامة وأهوالها ، سبقا ولحوقا.

__________________

(١) راجع : التمهيد ٢ : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

(٢) الحجر ١٥ : ٩.

(٣) ذكره الفرّاء نقلا عن بعضهم (معاني القرآن ٢ : ٨٥) وانتهزه المحدّث النوري في فصل الخطاب : ٣٦٠.

(٤) المائدة ٥ : ٦٧.

(٥) الحجر ١٥ : ٦.

(٦) راجع : البيان للإمام الخوئي : ٢٢٦.

(٧) القيامة ٧٥ : ١٦ ـ ١٩.

٨٢

ذهب المشهور إلى أنّ هذه الآيات خطاب مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنهيه عن التسرّع بقراءة آية فور نزولها وقد اكتنفتها آيات قبلها وبعدها تحدّثت عن أحوال القيامة وأهوالها. فلا رابط بينهنّ ، حيث اختلاف الاتّجاه.

وقال البلخي (١) : الذي أختاره : أنّه لم يرد القرآن ، وإنّما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة. يدلّ على ذلك ما قبله وما بعده ، وليس فيه شيء يدلّ على أنّه القرآن ولا شيء من أحكام الدنيا. وفي ذلك تقريع للعبد وتوبيخ له حين لا تنفعه العجلة. يقول : لا تحرّك لسانك بما تقرأه من صحيفتك التي فيها أعمالك. يعني : اقرأ كتابك ولا تعجل ، فإنّ هذا الذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيّئاته ضجر واستعجل ، فيقال له توبيخا : لا تعجل وتثبّت ، لتعلم الحجّة عليك ، فإنّا نجمعها لك ، فإذا جمعناه فاتّبع ما جمع عليك ، بالانقياد لحكمه والاستسلام للتبعة فيه ، فإنّه لا يمكنك إنكاره ـ ثمّ إنّ علينا بيانه ـ لو أنكرت.

[م / ٨٠] وقال الحسن : معناه : ثمّ إنّ علينا بيان ما أنبأناك أنّا فاعلون في الآخرة وتحقيقه (٢).

وهكذا ذهب إلى هذا الرأي من المعاصرين الشيخ محمود شلتوت ، قائلا : وهنا ـ يوم القيامة ـ تقدّم له صحف أعماله ونيّاته فينبّأ بما قدّم وأخّر وعندئذ يحاول أن يخلص من صحيفته فيعجل بقرائتها لتطوى ويفرغ من حسابه وموقف خزيه ، فيعلن بأنّ الأمر في ذلك ليس إليه ، وإنّما هو إلى الله (٣).

وأمّا سيّدنا العلّامة الطباطبائي فدافع عن الرأي المشهور وقال ـ ردّا على رأي البلخي ـ : إنّ المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة ممّا قبلها وما بعدها عليه. على أنّ مشاكلة قوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)(٤) في سياقه لهذه الآيات ، تؤيّد مشاكلتها له في المعنى (٥).

قلت : إن أراد رحمه‌الله من المعترضة ، أنّ هذه الآيات الأربع ، من قبيل الجمل المعترضة أثناء الكلام ، فقد صرّح علماء البيان بأن لا بدّ فيها من كمال الارتباط ، إمّا تعليلا لحكم أو تدليلا أو

__________________

(١) هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي ، العالم المشهور ، كان رأس طائفة من المعتزلة ، وهو صاحب مقالات وكان من كبار المتكلّمين. توفّي سنة ٣١٧. (ابن خلكان ٣ : ٤٥ / ٣٣٠).

(٢) مجمع البيان ١٠ : ١٩٧.

(٣) إلى القرآن الكريم : ١٨١.

(٤) طه ٢٠ : ١١٤.

(٥) الميزان ٢٠ : ١٩٧.

٨٣

توضيحا وما شاكل. كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ـ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ـ وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ)(١). فإنّ الجملة المعترضة هنا ، كانت لإيفاد معنى التحسّر في كلامها ، وأنّها لم ترد الإخبار. إذ لا موضع لتحسّرها بعد أن كانت الأنثى التي منحت بها ، هي أفضل من الذكر الذي كان بحسبانها.

إذن فليست الجمل المعترضة اعتباطا في الكلام ، لا رابط بينها وبين مكتنفاتها.

وعليه فلو قلنا بأنّ هذه الآيات الأربع ـ من سورة القيامة ـ سياقها سياق الآية من سورة طه ، في النهي عن العجلة بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه. فلا بدّ أن نلتزم بأنّها أقحمت هنا إقحاما ومن غير ترابط بينها وبين مكتنفاتها. إذ السورة في سياقها بعد هذه الآيات الأربع تعود إلى سياقها الأوّل تماما.

فضلا عن عدم تناسب استعمال لفظة «كلّا» مرّتين بعد هنّ.

ومن غريب الأمر : أنّ الزمخشري ـ على جلالته واعتلاء مقامه الأدبي والعلمي ـ يجعل «كلّا» ـ الأولى ـ ردعا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عادة العجلة وإنكارا لها عليه!

هذا ولا سيّما مع قوله : (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ)(٢) تذييلا لكلّا!

قال : فإن قلت : كيف اتّصل قوله (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) بذكر القيامة؟ قلت : اتّصاله به من جهة هذا ، للتخلّص منه إلى التوبيخ بحبّ العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة (٣). تعليل أغرب!!

ونقل الإمام الرازي عن القفّال (٤) : أنّ قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) ليس خطابا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل خطاب مع الإنسان المذكور في قوله : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ)(٥) ، فكان ذلك للإنسان حال ما ينبّأ بقبائح أفعاله ، وذلك بأن يعرض عليه كتابه فيقال له : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(٦). فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدّة الخوف وسرعة القراءة ، فيقال له : (لا تُحَرِّكْ بِهِ

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٣٦.

(٢) القيامة ٧٥ : ٢٠ ـ ٢١.

(٣) الكشّاف ٤ : ٦٦٢.

(٤) هو : أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله ، المعروف بالقفّال المروزي ، الفقيه الشافعي ، كان وحيد زمانه فقها وحفظا ، له في مذهب الإمام الشافعي من الآثار ما ليس لغيره من أبناء عصره. وتخاريجه كلّها جيّدة وإلزاماته مقبولة. تتلمّذ على يديه جماعة من أكابر العلماء ، منهم الشيخ أبو محمّد الجويني والد إمام الحرمين. توفّي سنة ٤١٧ وقد بلغ التسعين. (ابن خلكان ٣ : ٤٦ / ٣٣١).

(٥) القيامة ٧٥ : ١٣.

(٦) الإسراء ١٧ : ١٤.

٨٤

لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) ، فإنّه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك ، فإذا قرأناه عليك فاتّبع قرآنه ، بالإقرار بأنّك فعلت تلك الأفعال. ثمّ إنّ علينا بيان أمره وشرح مراتب عقوبته.

وحاصل الأمر من تفسير هذه الآية ، أنّ المراد منه : أنّه تعالى يقرأ على الكافر جميع أعماله على سبيل التفصيل ، وفيه أشدّ الوعيد في الدنيا وأشدّ التهويل في الآخرة.

قال القفّال : فهذا وجه حسن ، ليس في العقل ما يدفعه ، وإن كانت الآثار غير واردة به! (١)

قال السيّد محمود الآلوسيّ : فالربط عليه ظاهر جدّا. ومن هنا اختاره البلخي ومن تبعه. لكنّه مخالف للصحيح المأثور الذي عليه الجمهور (٢).

وقال جمال الدين القاسمي : زعم ابن حجر أنّ الحامل على هذا الوجه هو عسر بيان المناسبة بين هذه الآية وقريناتها من السورة. أي ولمّا بيّن الأئمّة وجه المناسبة ، لم يبق وجه للذهاب إلى هذا الوجه.

قال القاسمي : مع أنّ هذا الوجه ـ الذي ذكره القفّال ـ هو فيما يظهر ، فيه غاية القوّة والارتباط بما قبله وما بعده ، ممّا يؤثره على المأثور ، الذي قد يكون مدركه الاجتهاد ، والوقوف مع ظاهر ألفاظ الآية (٣).

والأثر الذي يشير إليه الآلوسيّ هو :

[م / ٨١] ما رواه البخاري بإسناده إلى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعالج من التنزيل شدّة ، وكان ممّا يحرّك به شفتيه. قال ابن عبّاس : فأنا أحرّكهما لكم كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحرّكهما.

وقال سعيد : أنا أحرّكهما كما رأيت ابن عبّاس يحرّكهما ، فحرّك شفتيه.

قال : فأنزل الله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)(٤) فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع ، فإذا انطلق قرأه (٥).

__________________

(١) التفسير الكبير ٣٠ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٢) روح المعاني ٢٩ : ١٤٤.

(٣) تفسير القاسمي ٧ : ٢٢٢.

(٤) القيامة ٧٥ : ١٦.

(٥) البخاري ١ : ٤ ، باب بدء الوحي.

٨٥

في هذا الحديث نكارة من وجوه : إذ لفظ التنزيل : تحرّك اللّسان ، لا تحرّك الشفتين! ثمّ كيف شاهد ابن عبّاس تحرّك شفتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليحاكيه ، ولم يكن ولد بعد ، إذ ولادته قبل الهجرة بثلاث سنين ، وسورة القيامة من أوليات السور التي نزلت بمكّة.

قال ابن حجر : يجوز أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبره بذلك بعد أو بعض الصحابة أخبره أنّه شاهد النبيّ (١).

قلت : إن أخذنا بسياق السورة ، فالترجيح مع رأي البلخي والقفّال ومن تابعهما. ولم يرد على خلافه أثر صحيح معتمد.

والعجب من الآلوسي في قوله : الخطاب في قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والضمير للقرآن ، لدلالة سياق الآية ، نحو (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(٢). فأخذ بسياق الآية ذاتها ، منقطعا عن سياق السورة العامّ.

وقد عرفت من سيّدنا الطباطبائي : أنّه اعتبر الآية مشاكلة لنظيرتها من سورة طه ، الآية رقم ١١٤ ، فهي نظيرتها في المعنى والمراد ، رغم مباينتها مع مكتنفاتها في المعنى والسياق.

__________________

(١) فتح الباري ١ : ٢٨.

(٢) روح المعاني ٢٩ : ١٤٢. والآية رقم ١ من سورة القدر (٩٧).

٨٦

صيانة القرآن من التّحريف

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(١)

قال الشريف المرتضى علم الهدى : إنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة ، فإنّ العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على ضبطه وحراسته ، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه غيره ، لأنّ القرآن معجزة النبوّة ومأخذ العلوم الشرعيّة والأحكام الدينيّة ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيّرا ومنقوصا ، مع العناية الصادقة والضبط الشديد؟!

وذكر : أنّ من خالف في ذلك من الأخباريّة والحشويّة ، لا يعتدّ بخلافهم ، فإنّ الخلاف في ذلك معزوّ إلى قوم من أصحاب الحديث ، نقلوا أخبارا ضعافا ظنّوا صحّتها ، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على سلامته (٢).

نعم هناك شذّت روايات ، أو شئت فقل : حكايات عن السلف ، أو همت حصول تغيير في بعض ألفاظ القرآن ولو يسيرا ، ممّا غرّ أهل الحشو والأخباريّين من أهل الحديث ، فحسبوا تحريفا في

__________________

(١) فصّلت ٤١ : ٤٢.

(٢) مجمع البيان ١ : ٤٢ ـ ٤٣ ، المقدّمة ـ الفنّ الخامس ، بتصرّف يسير وتبيين.

٨٧

كتاب الله الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.)

[م / ٨٢] روى الإمام مالك ـ في الموطّأ ـ بإسناده إلى عمرة بنت عبد الرحمان عن عائشة ، قالت : كانت فيما أنزل من القرآن : «عشر رضعات معلومات يحرّمن» ثمّ نسخن بخمس معلومات. فتوفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهنّ فيما يقرأ من القرآن (١).

وهكذا روى مسلم في صحيحه عن طريق مالك وعن طريق يحيى بن سعيد (٢).

قولها : «فتوفّي رسول الله وهنّ فيما يقرأ من القرآن». تعني : أنّ الآيتين ، الناسخة والمنسوخة ، كلتيهما كانتا مثبتتين في المصحف الشريف ، وكان المسلمون يتلونهما حتّى ما بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو قصيرا لأنّها قالت : لقد كان في صحيفة تحت سريري ، فلمّا مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتشاغلنا بموته ، دخل داجن البيت فأكلها (٣).

وهذا منها وهم أو من الراوي ، لأنّ الآية إذا كانت مثبتة في المصحف ويقرأها المسلمون ، فلا يمكن ذهابها باقتيات سخلة هي في بيت عائشة ، فما شأن سائر الصحف عند المسلمين والمحتفظ في صدورهم يرتّلونه ترتيلا؟!

قال الزيعلي ـ تعليقا على رواية مسلم ـ : لا حجّة في هذا الحديث ، لأنّ عائشة أحالتها على أنّه قرآن. وقد ثبت أنّه ليس من القرآن ، لعدم التواتر ، ولا تحلّ القراءة به ولا إثباته في المصحف ، ولأنّه لو كان قرآنا لكان متلوّا اليوم. إذ لا نسخ بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قلت : ومن ثمّ ترك البخاري روايته ، وكذا أحمد في مسنده ، نظرا لغرابته الشائنة. فمن الغريب ما ذكره ابن حزم بشأن هذه الرواية ورواية رجم الشيخ والشيخة ـ حسبما تأتي ـ قال : وهذان خبران في غاية الصحّة وجلالة الرواة وثقتهم ، ولا يسع أحدا الخروج عنهما. واعتذر بأنّه مما بطل أن يكتب في المصاحف وبقي حكمه كآية الرجم سواء بسواء (٤).

وذكر بعضهم : أنّه من منسوخ التلاوة بالإنساء من الصدور والإمحاء من الصحائف (٥). لكن هل

__________________

(١) الموطّأ ٢ : ٦٠٨ / ١٧ ؛ تنوير الحوالك في شرح الموطّأ ، للسيوطي ٢ : ١١٨ ، آخر كتاب الرضاع.

(٢) مسلم ٤ : ١٦٧ ؛ الدارمي ٢ : ١٥٧ ؛ أبو داوود ١ : ٤٥٨ / ٢٠٦٢ ، باب ١١.

(٣) ذكره الزيعلي بهامش مسلم.

(٤) المحلّى ١٠ : ١٤ و ١٦.

(٥) راجع : نكت الانتصار ـ للقاضي أبي بكر البلاقلاني : ٩٥ ـ ١٠٨. وأصول السرخسي ٢ : ٨٠.

٨٨

من نسخ بعد وفاة الرسول وبعد انقطاع الوحي؟!

[م / ٨٣] ونظير ذلك ما رواه البخاري ومسلم بإسنادهما عن ابن عبّاس ، قال : خطب عمر بعد مرجعه من آخر حجّة حجّها ، قال فيها : إنّ الله بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحقّ ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان ممّا أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها. فأخشى إن طال بالناس الزمان أن يقول قائل : ما نجد آية الرجم في كتاب الله (١) وزاد مالك في الموطّأ : لو لا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب الله لكتبتها : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة». فإنّا قد قرأناها.

قال مالك : قال يحيى بن سعيد : قال سعيد بن المسيّب : فما انسلخ ذو الحجّة حتّى قتل عمر. قال يحيى (٢) : سمعت مالكا يقول : قوله : الشيخ والشيخة ، يعني الثيّب والثيّبة (٣).

ومن طريف الأمر أنّ عمر جاء بآية الرجم عند الجمع الأوّل على عهد أبي بكر ، فلم تقبل منه ، وطلب منه زيد شاهدين ، عجز عن إقامتهما (٤). ولعلّه سمع شريعة الرجم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظنّها آية قرآنيّة. وهكذا فيما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عبائر ذوات السجع النغمي ، كان يظنّها قرآنا.

وهكذا زعم أنّ القرآن يشتمل على (١٠٢٧٠٠٠) ألف ألف حرف وسبعة وعشرين ألف حرف ، قال : من قرأه صابرا محتسبا ، كان له بكلّ حرف زوجة من الحور العين (٥).

لا ندري متى تعلّم الخليفة علم التعداد ، ومن الذي عدّد له حروف القرآن آنذاك؟ في حين أنّ المأثور عن ابن عبّاس ـ المتوافق مع الواقع ـ : أنّ حروف القرآن (٣٢٣٦٧١) ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألف حرف وستمائة وواحد وسبعون حرفا (٦).

قال الذهبي : تفرّد محمّد بن عبيد بهذا الخبر الباطل (٧).

ولعلّ من هكذا تلفيقات موضوعة عن لسان الخليفة نشأت مزعومة ابنه عبد الله ، من ضياع قرآن كثير :

__________________

(١) البخاري ٨ : ٢٥ ـ ٢٦ ، باب رجم الحبلى ؛ مسلم ٤ : ١٦٧ و ٥ : ١١٦ ؛ الموطّأ ٢ : ٨٢٤ / ١٠ ؛ أبو داوود ٢ : ٣٤٣ / ٤٤١٨ ، باب ٢٣ ؛ ابن ماجة ٢ : ٨٥٣ ـ ٨٥٤ / ٢٥٥٣ ، باب ٩ ؛ الترمذي ٢ : ٤٤٢ / ١٤٥٦ ، باب ٦ ؛ الدارمي ٢ : ١٧٩ ؛ مسند أحمد ١ : ٥٥ و ٥ : ١٣٢.

(٢) هو يحيى بن يحيى الليثي راوي الموطّأ عن مالك.

(٣) تنوير الحوالك ٣ : ٤٣ ؛ الموطّأ ٢ : ٨٢٤. وراجع : فتح الباري ١٢ : ١٢٧.

(٤) الإتقان ١ : ١٦٨.

(٥) الإتقان ١ : ١٩٨ ؛ الأوسط ٦ : ٣٦١ / ٦٦١٦.

(٦) الإتقان ١ : ١٩٨.

(٧) ميزان الاعتدال ٣ : ٦٣٩.

٨٩

[م / ٨٤] أخرج أبو عبيد عن عبد الله بن عمر ، قال : لا يقولنّ أحدكم : قد أخذت القرآن كلّه ، ما يدريه ما كلّه؟ قد ذهب منه قرآن كثير. ولكن ليقل : قد أخذت منه ما ظهر (١).

أو لعلّ ذهنيّة ابن عمر كانت متأثّرة بما اشتهر من ذهاب القرآن بذهاب حملته يوم اليمامة.

[م / ٨٥] كما روى ابن أبي داوود عن ابن شهاب ، قال : بلغنا أنّه كان أنزل قرآن كثير ، فقتل علماؤه يوم اليمامة ، الذين كانوا قد وعوه ، ولم يعلم بعدهم ولم يكتب (٢).

أو هل كان القرآن محصورا في صدور أولئك الرجال ، ومن هم؟

[م / ٨٦] وأخرج مسلم بإسناده عن أبي الأسود قال : بعث أبو موسى الأشعري إلى قرّاء أهل البصرة ، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن ، فقال فيما قال : وإنّا كنّا نقرأ سورة كنّا نشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها ، غير أنّي قد حفظت منها : «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب».

وقال : كنّا نقرأ سورة كنّا نشبّهها بإحدى المسبّحات فأنسيتها ، غير أنّي حفظت منها : «يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. فتكتب شهادة في أعناقكم ، فتسألون عنها يوم القيامة» (٣).

كان أبو موسى معروفا بالسفه والشذوذ العقليّ وهكذا أساء الظنّ بالقرآن الكريم فوهم سقطا في القرآن كان بانحصاره ليذهب بنسيانه فحسب ، ومن ثمّ نتساءل : كيف يذهب القرآن بنسيان عجوز مفرّق الوهم؟!

أمّا حديث الواديين فقد روى أحمد بإسناده إلى عطاء بن يسار عن أبي واقد ، أنّه من الحديث القدسي رواه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس من القرآن (٤).

فقد وهم أبو موسى وخلط بين الحديث القدسي والقرآن!

إلى غيرها من روايات تنسب حسبان السقط من القرآن ، إلى بعض السلف ، ولعلّها وهم من الرواة. غير أنّ الفاجعة هي ثبتها في أمّهات المجاميع الحديثيّة الكبرى ، ليغترّ بها أمثال ابن الخطيب (محمّد محمّد عبد اللطيف من كتّاب مصر المعاصرين) فيدبّج كتابه «الفرقان» بأقاصيص هي أشبه

__________________

(١) الإتقان ٣ : ٧٢. عن كتاب فضائل القرآن : ١٩٠ / ١ ، باب ٥١.

(٢) كنز العمّال ٢ : ٥٨٤ / ٤٧٧٨.

(٣) مسلم ٣ : ١٠٠.

(٤) مسند أحمد ٥ : ٢١٩.

٩٠

بأساطير حاكتها عقول هزيلة.

وأصبح نشر هذا الكتاب في زماننا هذا ، وطبعه مكرّرا في مصر ولبنان ، مأساة كبرى أثارت ضجّة في أرجاء العالم الإسلامي ، فصودر الكتاب لأوّل وهلة ، ثمّ أهمل يتراوحه أصحاب المطابع والمطامع.

وممّا جاء فيه من الغرابة : أنّه زعم أنّ الطاغية الحجّاج بن يوسف الثقفي قد غيّر من المصحف الشريف في اثني عشر موضعا ، غيّرها على غير كتبتها الأولى. ليكون الثبت الحاضر هو من صنع الحجّاج ، على خلاف ثبتها الأوّل على عهد عثمان!!

قال : قد غيّر الحجاج اثني عشر موضعا من القرآن :

١ ـ فغيّر «لم يتسنّ» إلى (لَمْ يَتَسَنَّهْ)(١).

٢ ـ وغيّر «شريعة ومنهاجا» إلى (شِرْعَةً وَمِنْهاجاً)(٢).

٣ ـ و «هو الذي ينشركم» إلى (يُسَيِّرُكُمْ)(٣).

٤ ـ «أنا آتيكم بتأويله» إلى (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ)(٤).

٥ و ٦ ـ «سيقولون لله» إلى (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) مرّتين في سورة المؤمنون (٥).

٧ ـ كانت في سورة الشعراء في قصّة نوح : «لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المخرجين» فغيّرها إلى (مِنَ الْمَرْجُومِينَ) كما هو عليه اليوم (٦).

٨ ـ وفي قصّة لوط : «لئن لم تنته يا لوط لتكوننّ من المرجومين» فغيّرها إلى (مِنَ الْمُخْرَجِينَ)(٧).

٩ ـ «نحن قسمنا بينهم معايشهم» إلى : (مَعِيشَتَهُمْ)(٨).

١٠ ـ «من ماء غير ياسن» إلى : (غَيْرِ آسِنٍ)(٩).

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٥٩.

(٢) المائدة ٥ : ٤٨.

(٣) يونس ١٠ : ٢٢.

(٤) يوسف ١٢ : ٤٥.

(٥) الآية رقم ٨٧ و ٨٩.

(٦) الشعراء ٢٦ : ١١٦.

(٧) الشعراء ٢٦ : ١٦٧.

(٨) الزخرف ٤٣ : ٣٢.

(٩) محمّد ٤٧ : ١٥.

٩١

١١ ـ «فالذين آمنوا منكم واتقوا» إلى : (وَأَنْفِقُوا)(١).

١٢ ـ «وما هو على الغيب بظنين» إلى : (بِضَنِينٍ)(٢).

قال : ولم يصنع الحجّاج ما صنع ، إلّا بعد اجتهاده وبحثه مع القرّاء والفقهاء ، وبعد إجماعهم على أنّ جميع ذلك قد حدث من تحريف الكتّاب والناسخين ، لجهلهم أو لخطاء الكاتب في سماع ما يملى عليه ، والتباسه فيما يتلى عليه (٣).

يا لها من قباحة في القول ، يجعل صنيع الحجّاج (الفاسد الرأي والعمل) تصحيحا لما فرط عن السلف فيما زعم!!

والشيء الأغرب اغترار مثل الإمام محيي الدين ابن عربي بأمثال هذه الخرائف ، فزعم سقطا في القرآن لا يستهان به.

ذكر الشيخ عبد الوهّاب الشعراني : أنّ الإمام محيي الدين (توفّي سنة ٦٣٨) يرى من مصحف عثمان ناقصا منه عمّا نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قرآن. حيث قال : وقد زعم بعض أهل الكشف أنّه سقط من مصحف عثمان كثير من المنسوخ. قال : ولو أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان هو الذي تولّى جمع القرآن لوقفنا وقلنا : هذا وحده هو الذي نتلوه ، إلى يوم القيامة. قال : ولو لا ما يسبق للقلوب الضعيفة ووضع الحكمة في غير أهلها ، لبيّنت جميع ما سقط من مصحف عثمان. قال : وأمّا ما استقرّ في مصحف عثمان ، فلم ينازع أحد فيه (٤).

فيا باعد الله الشيطان ، حيث غرّ أمثال هؤلاء الأعلام ، بوساوسه ودسائسه في خبيئات الظلام.

هذا وأمّا علماؤنا الأعلام من أهل النظر والتحقيق ، فقد شطبوا على تلكم المهازل ، والتي حاكتها عقول هزيلة ، لا قيمة لها ولا وزن في عالم الاعتبار ، حديث خرافة يا أمّ عمرو!

وأمّا الشرذمة القليلة من الفئة الأخباريّة ، ممّن واكبوا إخوانهم الحشويّة ، في الأخذ بتلك الأحاديث المهازيل ، فقد خالفوا الأمّة في إجماعهم على سلامة الكتاب عن تناوش أيدي

__________________

(١) الحديد ٥٧ : ٧.

(٢) التكوير ٨١ : ٢٤.

(٣) الفرقان لابن الخطيب : ٥٠ ـ ٥٢.

(٤) نقل ذلك الشيخ الشعراني في كتابه «الكبريت الأحمر» المطبوع على هامش «اليواقيت والجواهر» ١ : ١٣٩. مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر. سنة ١٩٥٩ م ١٣٧٨ ه‍.

٩٢

المبطلين ، وأنّه في كنفه تعالى لم يزل ولا يزال محفوظا لا تمسّه يد سوء أبدا.

قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١). (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(٢). وهو ضمان إلهيّ مؤكّد وكان وعد الله مفعولا.

هذا مع شهادة التاريخ وضرورته على عدم إمكان مسّ القرآن بسوء.

وقد مرّ عليك كلام الشريف المرتضى (توفّي سنة ٤٣٦). وقال الإمام المجاهد الحجّة الشيخ محمّد الجواد البلاغي (توفّي سنة ١٣٥٢ ق) ـ رحمه‌الله ـ : لم يزل القرآن الكريم بحسب حكمة الوحي والتشريع والمصالح والمقتضيات المتجدّدة آنا فآنا يتدرّج في نزوله نجوما ، الآية والآيتان والأكثر والسورة. وكلّما نزل شيء هفت إليه قلوب المسلمين وانشرحت له صدورهم وهبّوا إلى حفظه بأحسن الرغبة والشوق وأكمل الإقبال وأشدّ الارتياح ، فتلقّنوه بالابتهاج وتلقّوه بالاغتنام من تلاوة الرسول العظيم الصادع بأمر الله والمسارع إلى التبليغ والدعوة إلى الله وقرآنه ، وتناوله حفظهم بما امتازت به العرب وعرفوا به من قوّة الحافظة الفطريّة وأثبتوه في قلوبهم كالنقش في الحجر. وكان شعار الإسلام وسمة المسلم حينذاك هو التجمّل والتكمّل بحفظ ما ينزل من القرآن الكريم ، لكي يتبصّر بحججه ويتنوّر بمعارفه وشرائعه ، وأخلاقه الفاضلة وتاريخه المجيد وحكمته الباهرة ، وأدبه العربي الفائق المعجز. فاتّخذ المسلمون تلاوته لهم حجّة الدعوة ، ومعجزة البلاغة ، ولسان العبادة لله ، ولهجة ذكره ، وترجمان مناجاته ، وأنيس الخلوة ، وترويح النفس ، ودرسا للكمال ، وتمرينا في التهذيب ، وسلّما للترقّي ، وتدرّبا في التمدّن ، وآية الموعظة ، وشعار الإسلام ، ووسام الإيمان ، والتقدّم في الفضيلة. واستمرّ المسلمون على ذلك حتّى صاروا في زمان الرسول يعدّون بالألوف وعشراتها ومئاتها. وكلّهم من حملة القرآن وحفّاظه ، وإن تفاوتوا في ذلك بحسب السابقة والفضيلة. هذا ولمّا كان وحيه لا ينقطع في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن كلّه مجموعا في مصحف واحد ، وإن كان ما أوحي منه مجموعا في قلوب المسلمين وكتاباتهم له.

ولمّا اختار الله لرسوله دار الكرامة وانقطع الوحي بذلك فلا يرتجى للقرآن نزول تتمّة ، رأى المسلمون أن يسجّلوه في مصحف جامع ، فجمعوا مادّته ، على حين إشراف الألوف من حفّاظه ،

__________________

(١) الحجر ١٥ : ٩.

(٢) فصّلت ٤١ : ٤٢.

٩٣

ورقابة مكتوباتهم الموجودة عند الرسول وكتّاب الوحي وسائر المسلمين ، جملة وأبعاضا وسورا. فاستمرّ القرآن الكريم على هذا الاحتفال العظيم بين المسلمين جيلا بعد جيل ، ترى له في كلّ آن ألوفا مؤلّفة من المصاحف ، وألوفا من الحفّاظ ، ولا تزال المصاحف ينسخ بعضها على بعض ، والمسلمون يقرأ بعضهم على بعض ، ويسمع بعضهم من بعض. تكون ألوف المصاحف رقيبة على الحفّاظ ، وألوف الحفّاظ رقباء على المصاحف ، وتكون الألوف من كلا القسمين رقيبة على المتجدّد منهما. نقول : الألوف ، ولكنّها مئآت الألوف وألوف الألوف. فلم يتّفق لأمر تاريخي من التواتر وبداهة البقاء مثل ما اتّفق للقرآن الكريم ، كما وعد الله جلّت آلاؤه بقوله في سورة الحجر : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١).

قال : ولئن سمعت في الروايات الشاذّة شيئا في تحريف القرآن وضياع بعضه ، فلا تقم لها وزنا ، وقل ما يشاء العلم في اضطرابها ووهنها وضعف رواتها ومخالفتها لإجماع المسلمين ، وفيما جاءت به في مرويّاتها الواهية من الوهن ، وما ألصقته بكرامة القرآن ممّا ليس له شبه به (٢).

وأمّا ما استند إليه الشرذمة الأخباريّة ـ ويترأّسهم السيّد نعمة الله الجزائري (٣) ، وسار على أثره الشيخ ميرزا حسين النوري (٤) في تهريج عارم ، فهي روايات شاذّة ، أكثرها مراسيل وأخرى مجاهيل أو ضعاف ، ليس لها أصل متين ولا قرار مكين. على ما فصّلنا الكلام فيها في كتابنا «صيانة القرآن من التحريف» (الجزء الثامن من التمهيد).

ومن أهمّ ما استند إليه الجزائري (٥) ، هي رواية مرسلة لا إسناد لها ، ذكرها صاحب كتاب الاحتجاج ـ ولم يعرف لحدّ الآن ـ :

[م / ٨٧] أنّه سئل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام عن التناسب في قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ)(٦)؟ فقال ـ فيما فرضه الراوي ـ : «إنّ

__________________

(١) الحجر ١٥ : ٩.

(٢) راجع : آلاء الرحمان : ١٧ ـ ١٨ ، في المقدّمة ، الفصل الثاني في جمعه.

(٣) توفّي سنة ١١١٢ ق.

(٤) توفّي سنة ١٣٢٥ ق.

(٥) في كتابه منبع الحياة : ٦٨ ـ ٧٠ ، ط بغداد. و ٦٦ ـ ٦٩ من طبعة بيروت.

(٦) النساء ٤ : ٣.

٩٤

المنافقين أسقطوا ممّا بين القول في اليتامى وبين نكاح النساء. من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن» (١).

هذه الرواية ـ على نكارتها ـ لم توجد في أيّ مستند من المستندات الحديثيّة ، سوى هذا الكتاب المقطوع الإسناد. كما لم يعرف مؤلّفه ، من هذا الطبرسي؟ لحدّ الآن.

أمّا من حيث المحتوى فلعلّه أدلّ على غباوة واضعها ، إذ كيف يعقل سقوط أكثر من ألفي آية ، فيها خطاب وقصص وأحكام ، من أثناء آية واحدة؟! فلعلّها كانت لوحدها تعدل السور الطوال بأسرها. فيا للعجب من عقليّة هزيلة تركن إلى أمثال هذه المفتعلات الفاضحة.

ثمّ التناسب بين صدر الآية وذيلها واضح لائح ، لا غبار عليه. إذ كان المسلمون يتحرّجون من اقتراب أموال اليتامى ، فرخّص لهم الازدواج بأرامل الشهداء أو ببناتهم فيستساغ لهم التصرّف في أموالهم ، حيث الرضا بالحال.

وهكذا النوري في كتابه «فصل الخطاب» اعتمد روايات لا قيمة لها ، وكانت المسانيد منها قابلة للتأويل الوجيه حسبما فصّلنا الكلام عنها.

ومن تلك الروايات ـ ولعلّها من أهمّها لدى الشيخ النوري ـ ما ذكره صاحب كتاب «دبستان المذاهب» (٢) ـ من سورة الولاية المفتعلة ، وفيها ركّة ونفارة ، يرفضها الذوق السليم. منها قوله : «إنّ عليّا قانت في الليل ساجد يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربّه ، قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون». كلام لا انسجام فيه ، فضلا عن ركاكة أسلوبه الملفّق. حسبما ذكره الإمام البلاغي.

قال : وإنّ صاحب فصل الخطاب من المحدّثين المكثرين المجدّين في التتبّع للشواذّ ، وإنّه ليعدّ أمثال هذا المنقول من دبستان المذاهب ، ضالّته المنشودة. ومع ذلك قال : إنّه لم يجد له أثرا في كتب أصحابنا الإماميّة (٣).

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٣٧٧.

(٢) هذا الكتاب مجموعة حكايات ملتقطة من هنا وهناك ، في الشوارع والطرق والمقاهي ، على يد الموبد كيخسرو اسفنديار ، أحد دراويش الهند ما بين سنة (١٠٤٠ ـ ١٠٦٥ ه‍). وهو من ولد «آذر كيوان» مؤسّس الفرقة الكيوانيّة الإلحادية ، على عهد الملك أكبر شاه التيموري (٩٦٣ ـ ١٠١٤) بالهند. (صيانة القرآن من التحريف : ١٩١ ـ ١٩٢).

(٣) آلاء الرحمان : ٢٤ ـ ٢٥ ، في المقدّمة.

٩٥

قال النوري : سوى ما يحكى عن كتاب «المثالب» المنسوب إلى ابن شهر آشوب (١).

قلت : هذه الحكاية من أكاذيب السيّد محمود الآلوسي (ت ١٢٧٠ ه‍) صاحب التفسير ، ضمن سائر افتراءاته على الشيعة الأبرياء (٢). فيا للعجب كيف يغترّ مثل الشيخ النوري النجفي بمثل هكذي أكاذيب مفضوحة (٣). ولا غرو فإنّ الغريق يتشبث بكلّ حشيش.

وهكذا دبّج كتابه بروايات هي بالغرائب والشوارد أشبه من المألوف المعروف ، وقد فنّدناها بتفصيل وتبيين ، تبعا لسيدنا الاستاذ الإمام الخوئي ـ طاب ثراه ـ في كتابه القيم : «البيان» فلقد أجاد فيه وأفاد بما فوق المراد ، فرحمة الله عليه.

__________________

(١) فصل الخطاب : ١٨٠.

(٢) راجع : روح المعاني ١ : ٢٣.

(٣) وقد تتبعنا كتاب المثالب (نسختين مخطوطتين منه) فلم نجد فيه ذلك ، بل العكس ، وجدنا فيه الدلائل الوافية بإثبات صيانة القرآن من التحريف.

٩٦

التفسير الأثري في مراحله الاولى

كان موضع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القرآن ، موضع مفسّر خبير بمعاني كلامه تعالى ، وقد أمره الله بالتبيين والتفسير إلى جنب التبليغ ، فقام بالأمر وأخذ بساق الجدّ وأدّى وظيفته بكمال.

ولازم ذلك أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدع موضعا من القرآن فيه إبهام أو يثير سؤالا إلّا وقد أجاب عليه إجابة كافية وشرح وبيّن وأوفى البيان حقّه بتمام. إمّا تبيينا لعامّة الناس أو لأخصّاء أصحابه الكبار. فلم يترك مشكلة إلّا وقد بيّن وجه حلّها ، ولا معضلة إلّا وقد أبان وجه علاجها ، ليكون قد ذهب إلى ربّه وقد أودع أمّته الكتاب مبيّنا معالمه ، مشروحا مقاصده ، واضحا محجّته ، بلا التباس ولا إبهام ، امتثالا لأمره تعالى بلا تهاون ولا قصور ، وليكون لله الحجّة البالغة. هذا بلا ريب.

وقد أسبقنا الكلام عن التفسير على عهد الرسالة وذكرنا : هل تناول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن كلّه بالبيان؟ وكانت الإجابة الصحيحة هي جانب الإثبات وقلنا : الصحيح من الرأي هو : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بيّن لأمّته ـ ولأصحابه بالخصوص ـ جميع معاني القرآن الكريم ، وشرح لهم جلّ مراميه ومقاصده الكريمة ، إمّا بيانا بالنصّ أو ببيان تفاصيل أصول الشريعة وفروعها ، ولا سيّما إذا ضممنا إليه ما ورد عن الأئمّة من عترته في بيان تفاصيل الشريعة ومعاني القرآن ، نقلا عن جدّهم الرسول ـ صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ـ والحمد لله (١).

__________________

(١) راجع مشروح كلامنا في ذلك في كتابنا التمهيد ٩ : ١٥٧ ـ ١٧٧.

٩٧

ولا شكّ أنّ المأثور عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفسيرا وتبيينا وتفصيلا لمجملات القرآن ، حجّة بيّنة ، سواء المأثور على يد عترته الطاهرة ـ وهو الأكثر ـ أم على يد أصحابه وسائر أمّته ، وكانت البذرة الأولى لتلك الشجرة الطيّبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي أكلها كلّ حين.

التفسير في دور الصحابة

وكان كبار الصحابة من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم حملوا هذا العبأ الثمين الفخيم ، فنشروا لواء الإسلام على أرجاء الآفاق ، وأدّوا رسالة الله إلى العالمين عن كلّ جدّ وجهد بالغين.

نعم كانوا على تفاوت من المقدرة على الإيفاء والأداء.

[م / ٨٨] قال مسروق بن الأجدع : جالست أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجدتهم كالإخاذ ـ يعنى الغدير من الماء ـ فالإخاذ يروى الرجل ، والإخاذ يروى الرجلين ، والإخاذ يروى العشرة ، والإخاذ يروى المأة. والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم ـ يعنى به الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام (١).

وقد اشتهر بالتفسير من الصحابة أربعة لا خامس لهم في مثل مقامهم في العلم بمعاني القرآن ، وهم : علي بن أبي طالب عليه‌السلام وكان رأسا وأعلم الأربعة. وعبد الله بن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وعبد الله بن عبّاس ، كان أصغرهم وأكثرهم نشرا في التفسير. وامتاز بتلمذته لدى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يقول : جلّ ما تعلّمت من التفسير من عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (٢).

تفسير الصحابي في مجال الاعتبار

ولتفسير الصحابي قيمته الأغلى في مجال الاعتبار العلمي والعملي ، حيث هم أبواب علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والطرق الموصلة إليه ، وقد ربّاهم وعلّمهم وفقّههم ليكونوا وسائط بينه وبين الناس ، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم. فكانوا لا يصدرون الناس إلّا عن مصدر الوحي الأمين ، ولا ينطقون إلّا عن لسانه الناطق بالحقّ المبين.

نعم كان الشرط في الحجيّة والاعتبار أوّلا : صحّة الإسناد إلهيم ، وثانيا : كونهم من الطراز الأعلى. وإذ قد ثبت الشرطان ، فلا محيص عن جواز الأخذ وصحّة الاعتماد ، وهذا لا شكّ فيه بعد

__________________

(١) راجع : المصدر : ١٨١.

(٢) المصدر : ١٨٧ ؛ المحرّر الوجيز لابن عطيّة ١ : ٤١ ؛ بحار الأنوار ٨٩ : ١٠٥ ، عن ابن طاووس عن تفسير النقاش.

٩٨

تواجد الشروط.

إنّما الكلام في اعتبار ذلك حديثا مسندا ومرفوعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنظر إلى كونه الأصل في تربيتهم وتعليمهم ، أو أنّه استنباط منهم بالذات ، لمكان علمهم وسعة اطّلاعهم ، فربما أخطأوا في الاجتهاد ، وإن كانت إصابتهم في الرأي أرجح في النظر الصحيح.

الأمر الذي فصّل القوم فيه (١) ، بين ما إذا كان للرأي والنظر مدخل فيه ، فهذا موقوف على الصحابي ، لا يصحّ إسناده إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وما إذا لم يكن كذلك ، ممّا لا سبيل إلى العلم به إلّا عن طريق الوحي ، فهو حديث مرفوع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا محالة ؛ وذلك لموضع عدالة الصحابي ووثاقته في الدين ، فلا يخبر عمّا لا طريق للحسّ إليه ، إلّا إذا كان قد أخبره ذو علم عليم صادق أمين.

[م / ٨٩] قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وقد سئل عن منابع علمه الغزير : «وإنّما هو تعلّم من ذي علم ، علم علّمه الله نبيّه فعلّمنيه ، ودعا لي بأن يعيه صدري ، وتضطمّ عليه جوانحي» (٢).

وعلى أيّ حال ، فإنّ التفسير المأثور عن صحابي جليل ـ إذا صحّ الطريق إليه ـ فإنّ له اعتباره الخاصّ. فإمّا أن يكون قد أخذه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الأكثر ، فيما لا يرجع إلى مشاهدات حاضرة أو فهم الأوضاع اللغويّة أو ما يرجع إلى آداب ورسوم كانت رائجة وأشباه ذلك ، فإن كان لا يرجع إلى شيء من ذلك ، فإنّ من المعلوم بالضرورة أنّه مستند إلى علم تعلّمه من ذي علم. هذا ما يقتضيه مقام إيمانه الذي يحجزه عن القول الجزاف.

وإلّا فهو موقوف عليه ومستند إلى فهمه الخاصّ. ولا ريب أنّه أقرب فهما إلى معاني القرآن ، من الذي ابتعد عن لمس أعتاب الوحي والرسالة ، وحتّى عن إمكان معرفة لغة الأوائل ، وعادات كانت جارية حينذاك!

وهكذا صرّح العلّامة الناقد الخبير السيّد رضيّ الدين ابن طاووس بشأن العلماء من صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : هم أقرب علما بنزول القرآن (٣).

قال الإمام بدر الدين الزركشيّ : لطالب التفسير مآخذ كثيرة ، أمّهاتها أربعة : الأوّل : النقل عن

__________________

(١) نبّه على ذلك الحاكم في مستدركه ٢ : ٢٥٨ و ٢٦٣ وفي كتابه الذي وضعه لمعرفة علوم الحديث : ١٩ ـ ٢٠. وراجع : تدريب الراوي ١ : ١٩٣.

(٢) نهج البلاغة ٢ : ١٠ ـ ١١ ، الخطبة ١٢٨.

(٣) في كتابه القيّم «سعد السعود» : ١٧٤ وقد عالج فيه نقد أكثر من سبعين كتابا في تفسير القرآن كانت في متناوله ذلك العهد. (توفّي سنة ٦٦٤ ه‍).

٩٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا هو الطراز الأوّل ، لكن يجب الحذر من الضعيف فيه والموضوع ، فإنّه كثير.

الثاني : الأخذ بقول الصحابي ، فإنّ تفسيره عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قاله الحاكم في تفسيره. وذكر حديث مسروق بن الأجدع عن عبد الله بن مسعود في كيفيّة تعلّم الأصحاب لتفسير القرآن لديه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : وصدر المفسّرين من الصحابة عليّ ثمّ ابن عبّاس ـ وهو تجرّد لهذا الشأن ـ والمحفوظ عنه أكثر من المحفوظ عن عليّ ، إلّا أنّ ابن عبّاس كان أخذ عن عليّ عليه‌السلام ويتلوه عبد الله. وكلّ ما ورد عن غيرهم من الصحابة فحسن مقدّم (١).

هذا ولكنّ الذي جرى عليه مذهب علمائنا الأعلام : أنّ التفسير المأثور من الصحابي ـ مهما كان على جلالة قدر واعتلاء منزلة ـ فإنّه موقوف عليه ، لا يصحّ إسناده إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لم يسنده هو بالذات. وهذا منهم مطلق سواء أكان للرأي مدخل فيه أم لا ، لأنّه إنّما نطق عن علمه ، حتّى ولو كان مصدره التعليم من النبيّ ، ما لم يصرّح به ؛ إذ من الجائز أنّه استنبطه من مواضع تعاليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستخرجه من مبان وأصول تلقّاها من حضرته ، من غير أن يكون من تنصيصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك الفرع بالخصوص. فهو اجتهاد من الصحابي الجليل ومرتبط مع مبلغ فطنته وعمق نظره في فهم مباني الإسلام والقرآن ، على ما علّمه النبيّ وفّقهه في الدين. والمجتهد قد يخطأ وليس الصواب حليفه دائما ما لم يكن معصوما.

ومن ثمّ فإنّ الذي يصدر عن أئمّة الهدى المعصومين عليهم‌السلام نسنده إليهم وإن كنّا على يقين أنّه تعلّم من ذي علم متين وعن منبع ركين. هذا الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام كلّ ما يؤثر عنه في التفسير وفي سائر مجالات الدين ، موقوف عليه ومنسوب إليه ما لم يصرّح بأنّه بالذات قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع علمنا بأنّه مستقى منه بلا ريب. وكذا ما يقوله ابن عبّاس في التفسير ، منسوب إليه ، مع تصريحه بأنّ ما أخذ في التفسير فهو عن عليّ عليه‌السلام. غير أنّ المراد : أنّه مأخوذ من أصول ومباني تعلّمها منه. كما أنّ عليّا عليه‌السلام إنّما نسب علمه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمكان تربيته على يده ، وأنّه علّمه ألف باب من العلم ، يفتح له من كلّ باب ألف باب (٢) ، أى علّمه أصولا يتفرّع عليها فروع متصاعدة لا نهاية لها.

__________________

(١) البرهان ٢ : ١٥٦ ـ ١٥٧. وقد طوينا عن ذكر الأمرين الثالث والرابع فليراجع هناك.

(٢) حديث متواتر مشهور ، وقد أرسله الحذّاق إرسال المسلّمات. قال الإمام الرازي ـ مستدلّا على قوّة ذكاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : قال

١٠٠