التفسير الأثري الجامع - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-94552-4-8
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٤١٦

على أنّ الآية من سورة الشعراء (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ) ... (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(١) ناصّة على أنّ النازل من عند الله وعلى يد أمينه جبرائيل ، هو هذا القرآن بنصّه ولفظه العربيّ المبين. فالآية على عكس مطلوب المستدلّ أدلّ.

وقد نسب هذا القول إلى «معمّر بن عبّاد السّلمي» (٢) (ت ٢١٥) من رؤساء المعتزلة ، ولكن نسبة مأخوذة من قياس المساواة ، إذ لا تصريح له بذلك وإنّما هو لازم كلامه ومذهبه في كلامه تعالى ، فيما زعموا. لأنّه قائل بأنّ الكلام في ذاته عرض ، والعرض عند المعتزلة حركة ، وهو قائم بجسم ، فيستحيل أن يقوم به تعالى ، إذ لا يكون محلّا للأعراض. فليس كلامه تعالى سوى ما يبدو من المحلّ الصادر منه ، إن شجرة أو إنسانا. فالكلام الصادر من الشجرة فعل لها ، والصادر من إنسان فعل له. وإن كان بإرادة الله وخلقه وإيجاده (٣).

فكما أنّ الكلام منّا صادر عن إرادتنا ، غير أنّ المحلّ الصادر منه هو جسمنا (بسبب اللسان) ، كذلك الكلام الصادر منه تعالى صادر عن إرادته ، ولكن المحلّ الصادر منه هو شجر أو إنسان ، من غير أن يكون عن إرادتهما.

وعليه فلم يكن الصادر من الشجر أو الإنسان صدورا عن إنشائهما وعن إرادتهما بالذات ، ومن ثمّ فمن العبث قول بعضهم : أنّ معنى ذلك : أنّ كلامه تعالى الصادر عن محلّ ، عبارة عن استعداد وقابليّة يخلقها الله في شجرة أو يمنحها لإنسان ، فيقوم هو بإنشاء كلام يتجلّى فيه إرادته تعالى. ولازمه : أن تكون الشجرة هي التي تكلّمت مع موسى عليه‌السلام ولكن بإذنه تعالى. وهذا غريب لم يقل به أحد قطّ.

وهكذا استندوا إلى ما نسبه إليه الراوندي قائلا : «وكان (أي معمّر) يزعم أنّ القرآن ليس من فعل الله ولا هو صفة له في ذاته كما تقول العوامّ ، ولكنّه من أفعال الطبيعة».

لكنّ أبا الحسين الخيّاط المعتزلي رفض هذه النسبة رفضا باتّا ، قال : اعلم ـ أرشدك الله إلى

__________________

(١) الشعراء ٢٦ : ١٩٣ ـ ١٩٥.

(٢) هو : أبو المعتمر معمّر بن عمرو ، وقيل : ابن عبّاد البصري السّلمي المعتزلي. كان بينه وبين النظّام مناظرات ومنازعات. (سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٤٦ / ١٧٦).

(٣) جاء في مقالات الإسلاميّين للأشعرى (١ : ٢٦٨): «والفرقة الخامسة منهم أصحاب معمّر ، يزعمون أنّ القرآن عرض ، ومحال أن يكون الله فعله في الحقيقة ، لأنّهم يحيلون أن تكون الأعراض فعلا لله. وزعموا أنّ القرآن فعل للمكان الذي يسمع منه ، إن سمع من شجرة فهو فعل لها ، وحيثما سمع فهو فعل للمحلّ الذي حلّ فيه».

٦١

الخير ـ أنّ معمّرا كان يزعم أنّ الله هو المكلّم بالقرآن ، وأنّ القرآن قول الله كلامه ووحيه وتنزيله ، لا مكلّم له سواه ولا قائل له غيره ، وأنّ القرآن محدث لم يكن ، ثمّ كان (١).

لكن رغم ذلك نجد أنّ بعض المستشرقين الأجانب (٢) ، وتبعه بعض الكتّاب الإسلاميّين متابعة من غير تحقيق ، ذهب إلى أنّ معمّرا كان يقول بأنّ القرآن ليس من كلامه تعالى ، وأنّ الله سبحانه أعطى نبيّه قابليّة أن يصوغ كلاما يفرغ فيه إرادة الله التي كان يتلقّاها بالوحي على نفسه.

وهو استنتاج باطل بعد كونه قياسا محضا وليس من صريح كلامه ؛ هذا وقوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً)(٣) يؤكّد على أنّ الله تعالى كان يكلّمه بنفس هذا الكلام المعهود. وأنّه على حقيقته وليس عن مجاز أو استعارة. وإلّا لم يصحّ هذا التأكيد (بالمفعول المطلق).

ويحمل قول معمّر على أنّ الكلام المسموع من أيّ شيء إنّما خلقه الله فيه ليسمع منه ، لا أنّه صنيع ذلك الشيء ، فإن سمع من الهواء فهو فعل الهواء بمعنى أنّه المحلّ الصادر منه ، وإن كان بخلقه تعالى فيه. وهكذا إذا سمع من شجرة. أمّا الصادر من إنسان مثل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو إلقاء في روعه كملا لفظا ومعنا ، فهو أيضا صنيعه تعالى وليس من صنع النبيّ نفسه.

***

كما نسبوا إلى ابن كلّاب (٤) أيضا اعتقاد : أنّ صياغة القرآن ، هي من فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليست صنعه تعالى (٥).

لكنّها نسبة خاطئة ، حيث إنّه ذهب ـ في معتقده ـ إلى أنّ كلامه تعالى صفة ذات وهي قديمة قائمة بذاته تعالى. قال : إنّ كلامه قائم به ، كما أنّ العلم قائم به ، والقدرة قائمة به. وهو قديم بعلمه وقدرته. وإنّ الكلام ليس بحروف ولا صوت. ولا ينقسم ولا يتجزّأ ولا يتبعّض ولا يتغاير ، وإنّه معنى واحد قائم بالله عزوجل.

__________________

(١) راجع : كتابه الانتصار : ١٠٤.

(٢) هو : «هري أو سترين ولفسين» في كتابه «فلسفة علم الكلام» ترجمة أحمد آرام : ٢٩٨ و ٣٠٢.

(٣) النساء ٤ : ١٦٤.

(٤) هو : عبد الله بن كلّاب رأس الفرقة الكلّابيّة من الحشويّة ، قالوا بقدم القرآن باعتباره كلام الله ، وأنّ هذا المقروء يغاير كلامه تعالى القديم ويحاكيه ، وليس نفسه.

(٥) راجع : مقالات الإسلاميّين ٢ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨. والمغني للقاضي عبد الجبّار : ٩٥ ـ ١١٦ ، باب خلق القرآن. والأصول الخمسة أيضا للقاضي : ٥٢٧.

٦٢

قال : وإنّ الرسم هو الحروف المتغايرة ، وهو : قراءة القرآن. وإنّه خطأ أن يقال : كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره. وإنّ العبارات عن كلامه تعالى تختلف وتتغاير. وكلام الله ليس بمختلف ولا متغاير. كما أنّ ذكرنا لله يختلف ويتغاير ، والمذكور (هو الله تعالى) لا يختلف ولا يتغاير.

قال أبو الحسن الأشعري : فقد زعم ابن كلّاب أنّ ما نسمع التالين يتلونه ، هو عبارة عن كلام الله ـ أي تعبير عنه وليس نفسه ـ وأنّ موسى عليه‌السلام سمع متكلّما بكلامه. وأنّ معنى قوله : (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ)(١) معناه : حتّى يفهم كلام الله ، ويحتمل ـ على مذهبه ـ أن يكون معناه : حتّى يسمع التالين يتلونه (٢).

قلت : مآل كلامه إلى أنّ ما كان يقرع مسامع الأنبياء ونبيّ الله موسى عليه‌السلام بالخصوص إنّما هو كلام حادث خلقه الله ـ في الهواء أو الشجرة أو غيرها ـ ليكون معبّرا عن كلامه تعالى القديم. أي مظهرا له ومحلّا لتجلّي ذلك الوصف القديم. وليس نفسه ، كما في الإرادة القديمة والحادثة ، والعلم القديم والحادث ، شأن سائر صفات الذات ، التي لها تجلّيات هي حادثة تنبؤك عن ذلك الوصف القديم.

وقال القاضي عبد الجبّار : وذهبت الكلّابيّة إلى أنّ كلام الله تعالى هو معنى أزلي قائم بذاته تعالى ، مع أنّه شيء واحد : توراة وإنجيل وفرقان. وأنّ هذا الذي نسمعه ونتلوه حكاية كلام الله تعالى. وفرّقوا بين الشاهد والغائب.

قال : وما دروا أنّ ذلك يوجب عليهم قدم الحكاية أو حدوث المحكيّ ، فإنّ الحكاية والمحكيّ يجب أن يكونا من جنس واحد ، ولا يجوز افتراقهما في قدم ولا حدوث (٣).

وقد فصّل الكلام في إبطال قولهم : إنّه تعالى متكلّم لم يزل بكلام مخالف لكلامنا (٤).

وعلى أيّة حال فإنّ مذهب القول بقدم القرآن ، إنّما يعنى : أزليّة صفة كونه تعالى متكلّما ، نظير صفة القدرة والعلم والحياة ، وأنّ ما يبرز إلى الوجود عبر الزمان من مظاهر قدرته تعالى وعلمه وحكمته ، فإنّما هي تجلّيات لذلك الأصل القديم.

وأين هذا من القول بأنّ صياغة القرآن ـ في نظم جمله وتراكيبه ـ هي من صنع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

__________________

(١) التوبة ٩ : ٦.

(٢) مقالات الإسلاميّين ٢ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٣) الأصول الخمسة : ٥٢٧.

(٤) راجع : المغني : ٩٥ ـ ١١٦ ، فصل خلق القرآن.

٦٣

أسلوب القرآن

أسلوب القرآن أسلوب خطاب لا أسلوب كتاب! هناك الفارق كبير بين أسلوب الخطابة وأسلوب الكتابة.

فأسلوب الكتابة يستدعي انسجاما والتئاما بين التعابير والجمل والتراكيب ، واتّساقا ظاهرا في نمط البيان. وليكون مركّزا على صلب موضوع البحث ، من غير خروج ولا التفات في صياغة الكلام ، ولا يعتمد سوى القرائن الحافّة المتّصلة ، ليدلّ عليها مساق الكلام. والعمدة : اتّجاه سياقة التعبير نحو عامّة القارئين ، الموجودين والغائبين ومن يأتي على مرّ العصور ، ليكون الغالب على صياغة الجمل والتراكيب الكلاميّة ، أن تكون على نحو القضايا الحقيقيّة ، الجارية مع الأبد ، والشاملة لكلّ من تلبّس بوصف الموضوع على العموم.

اللهم إلّا أن تكون الكتابة شخصيّة في نحو الرسائل المتبادلة بين الناس.

أمّا أسلوب الخطابة فيختلف عن ذلك تماما ، حيث المراعى فيه هي حالة المخاطبين المشافهين ممّن شهد المحضر فحسب ، ويجوز الاعتماد على قرائن منفصلة عن الكلام ، تكون حاضرة ومشهودة لدى المشافهين.

كما ويكثر في أسلوب الخطابة ، الالتفات والتنقّل والمداورة في لحن البيان ، الأمر الذي لا ينبغي في كتابة العلوم والمعارف على أيّ حال.

ففي قوله تعالى ـ حكاية عن العزيز ـ : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ)(١). مداورة في لحن الخطاب ، تبدو عجيبة ، فهو في كلام واحد ، يوجّه خطابه أوّلا إلى يوسف يستمليه ويسترعي جانبه ، ثمّ إلى زليخا يعاتبها ويوبّخها ، اعتمادا على قرينة المشافهة والخطاب.

كما وقد يفاجأ بالكلام عن شخص أو أشخاص لا سابقة لذكرهم في المقال.

قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى. وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) إلى قوله : (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)(٢).

ففي هذه الآيات ملامة وعتاب ، ملامة لمن عبس بوجهه ولوى بجانبه ، عند ما جاءه ضرير

__________________

(١) يوسف ١٢ : ٢٩.

(٢) عبس ٨٠ : ١ ـ ١٠.

٦٤

فقير. وعتاب لمن تلهّى أي تغافل عن التوجّه إلى مؤمن مستهد هو جدير بالاهتمام. إذن لمن تلك الملامة ، ولمن هذا العتاب؟

لا دلالة في ظاهر التعبير على شيء من ذلك وإنّما هو شيء كان يعرفه شهود القضيّة لا غير.

غير أنّ لحن الآية يدلّنا على أنّهما شخصان وأنّ الملوم غير المعاتب. ذلك أنّ الملامة وقعت على أمر كان صدر عن اختيار وعن قصد غير جميل. ذلك أنّ العبوس والتولّي ، كلاهما عمل اختياري صادر عن سوء طويّة ، الأمر الذي تأباه ساحة قدسيّة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أمّا التلهّي فهو التغافل ، أي عدم توجّه النفس ، بسبب انشغالها بأمر أهمّ ، الأمر الذي يجوز صدوره من نبيّ كريم ، جادّ في تبليغ رسالته.

[م / ٦٤] روي : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاءه نفر من أشراف قريش ، منهم : عتبة بن ربيعة وأبيّ وأميّة ابنا خلف وفيهم أبو جهل وجماعة. وكان عثمان بن عفّان قد رافقهم وقد أسلم من قبل.

فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يناجيهم ، يدعوهم إلى الإسلام ، ويرجو إخضاعهم وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملتهيا بهم منشغلا عمّن سواهم.

وفي هذا الأثناء أتاه عبد الله بن أمّ مكتوم ـ وكان ضريرا من بيت وضيع ـ وجعل يكرّر القول : أقرئني يا رسول الله! علّمني ممّا علّمك الله! ويناديه بصوت عال ملحّا عليه ، وهو لا يدري أنّ النبيّ منشغل عنه.

غير أنّ الرجل الأموي ـ وكان حاضر المجلس ـ امتعص من إلحاحه وانزعج انزعاجا بالغا ، في هذه المزاحمة المفاجئة ، ولعلّ الصناديد الأشراف تزعجهم غوغاء النداء فيغادرون المحضر. ولذلك تقذّر منه وعبس وتولّى بوجهه عنه انزجارا من سوء المشهد.

أمّا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظلّ عاكفا بكلّ وجوده على نصح القوم وإرشادهم إلى الإسلام ، منذهلا عمّا يجري هناك. ومن ثمّ عوتب على مثل هذا التغافل ، والذي أدّى إلى هتك مؤمن غيور ، بسبب ذلك الامتعاص والتولّي الذي أبداه ذلك الرجل الأموي بمنظر ومشهد الحضور من مسلمين وغيرهم.

إذن فكانت الملامة موجّهة إلى ذلك الرجل الأمويّ الذي كاد يهين بموضع رجل الإيمان في تلك الصورة البذيئة.

أمّا العتاب محضا فموجّه إلى النبيّ نفسه بتغافله عمّا يجري حوله ـ ولو على حين ـ ومهما كانت الغاية ـ التي شغلته ـ خطيرة. فإنّ حرمة المؤمن فوق كلّ شيء.

٦٥

[م / ٦٥] ومن ثمّ كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّما التقى بابن أمّ مكتوم ، يقول له : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي» (١).

[م / ٦٦] وفي حديث الإمام الصادق عليه‌السلام : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رآه قال : مرحبا مرحبا ، لا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا» (٢).

ففي مثل مداورة في الحديث كهذه ، عن ملامة ، فإلى عتاب ، وبصورة إبهام في ذات المقال ، اعتمادا على مشاهد الحضور ، هي من اختصاص فنّ الخطاب ، ولا تحسن في الكتاب.

كما أنّ التنقّل المفاجئ أثناء الكلام ، من موضوع إلى آخر ، من غير مناسبة ظاهرة ، أو لمناسبات بعيدة جدّا ، هو من ميزات أسلوب الخطاب ، ويأباه أسلوب الكتاب ، ولا سيّما أثناء عقد واحد من فصول الكلام.

والتنقّل المفاجئ ، في القرآن كثير.

ففي سورة القيامة ، يبتدئ الكلام عن الساعة ويوم الحساب ، وينتهي إلى قوله : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ ...) (الآيات : ١ ـ ١٥). وينتقل فجأة إلى الكلام عن نزول القرآن حيث كان النبيّ يتعجّل في قراءته على كتّاب الوحي ، فمنع من ذلك : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (الآيات : ١٦ ـ ١٩).

وبعد ذلك ينتقل الكلام إلى لذائذ الحياة في الدنيا والآخرة ، وعن شدائد ذلك اليوم العصيب (الآيات : ٢٠ ـ ٣٠).

وإذا هو ـ في نهاية السورة ـ يتكلّم عن كافر عنود : أبي جهل الذي طالما قام في وجه الدعوة وكافحها أشدّ كفاح : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) (الآيات : ٣١ ـ ٤٠).

فمثل هذا الكرّ والفرّ والمداورة في الكلام ، إنّما يتناسب مع أسلوب الخطاب والمشافهة ، ولا يلتئم مع أسلوب الكتابة وترقيم الكتاب ، الأمر الذي تجده في القرآن الكريم بكثرة وافرة.

وجهة أخرى هو الحديث عن حادث أو عادة سيّئة أو حسنة ، كانت رائجة معروفة ، تحدّث عنها القرآن من غير تبيين سابق ، إيكالا على المعهود المعلوم لدى المشافهين ، الأمر الذي لا يجوز

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٢٦٦.

(٢) المصدر.

٦٦

في الكتابة إذا كانت للعموم.

قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(١).

قد أحاطت بهذه الآية ـ على تفاصيلها ـ هالة من الإبهام ، لمن لم يكن له عهد بتلك العادة السيّئة التي كان يرتكبها طغاة العرب في التحوير بالأشهر الحرم.

فجاءت الآية تشنّعها للحدّ من تلك المظلمة الفضيعة ، الأمر الذي يعرف بمراجعة تاريخ العرب المعاصر لنزول القرآن وما كانت عليه من عادات سوء.

ومن ثمّ كان لمعرفة أسباب النزول القدح المعلّى في الوصول إلى مفاهيم القرآن الحكيمة ، الأمر الذي تأباه طبيعة الكتاب.

وقوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ)(٢).

على هذه الآية غطاء من إبهام : كيف نفى الإثم عن السعي بين الصفا والمروة ، الدالّ على الرخصة في الفعل محضا ، مع ضرورة التكليف به إلزاما؟!

هذا والحال أنّ الآية وقعت غريبة عن آيات سابقة ولاحقة لها ، فلا قرينة على رفع الإبهام ، مصحوبة مع الكلام!!

فلا محالة من الرجوع إلى سبب النزول : حيث تحرّج المسلمون من السعي ـ في عمرة القضاء ـ بعد أن أعاد المشركون أصنامهم على الجبلين ، فنزلت الآية رفعا للحرج ودفعا لتوهّم الحظر (٣).

الأمر الذي لا يجوز في الكتاب ، ممّا يجوز في الخطاب ، اعتمادا على مشاهد معلوم الحال.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(٤).

__________________

(١) التوبة ٩ : ٣٧.

(٢) البقرة ٢ : ١٥٨.

(٣) راجع : مجمع البيان ١ : ٤٤٥.

(٤) آل عمران ٣ : ١٧٣.

٦٧

هذا وصف للمؤمنين بعد مرجعهم من غزوة أحد ، وقد أضنّتهم الحرب ، فاستنهضهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سمع عزيمة أبي سفيان على الرجوع لقتال المسلمين لغرض الاستئصال.

[م / ٦٧] وقيل في غزوة بدر الصغرى ، كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعد أبا سفيان أن يعاوده القتال بعد أحد بعام ، فخرج أبو سفيان في أهل مكّة حتّى بلغ عسفان ، فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع ، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا ، فقال له أبو سفيان : إنّي واعدت محمّدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر ، وهذا عام جدب ولا يصلحنا إلّا عام نرعي فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وقد بدا لي أن أرجع ، وأكره أن يخرج محمّد ولا أخرج أنا ، فيزيدهم ذلك جرأة. فالحق بالمدينة فثبّطهم ولك عندي عشرة من الإبل. فأتى نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهّزون لميعاد أبي سفيان. فقال لهم : ما هذا بالرأي ، أتوكم في دياركم وقراركم ، فلم يفلت منكم أحد!

فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي». فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، فخرجوا حتّى وافوا سوق بدر ـ وكان أبو سفيان ومعه ألفا رجل قد ولّى دبره ـ وكانت معهم نفقات وتجارات ، فباعوا واشتروا أدما وزبيبا وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين.

فعلى هذه الرواية يكون المراد من «الناس» الذين حاولوا الفشل بالمسلمين ، هم نعيم بن مسعود وركب من عبد قيس دسّهم أبو سفيان لتجبين المسلمين.

وأمّا «الناس» الذين قد جمعوا الجموع ، فهم أبو سفيان وأعوانه (١).

هكذا سرد حوادث يهمل فيها أسماء أبطالها ، إنّما يحسن إذا كانوا معروفين عند مشافهة الخطاب ، لا فيما إذا أريد تسجيلها ضمن كتاب.

وأمثال ذلك في القرآن كثير في كثير ، الأمر الذي يؤكّد على أنّ اسلوبه أسلوب خطاب لا أسلوب كتاب.

وجانب أهمّ نلمسه في القرآن بكثرة ، هو جانب حديثه عن قضايا تبدو ـ في ظاهرها حسب التنزيل ـ شخصيّة ، ترجع إلى أناس معهودين عند الخطاب ، وليست من القضايا الحقيقيّة العامّة ذوات الشمول.

__________________

(١) راجع : المنار ٤ : ٢٣٨ ـ ٢٤٠. ومجمع البيان ٢ : ٤٤٩.

٦٨

مثلا عند ما يخاطب كفّار قريش العتاة ، يقاطعهم بصراحة : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ)(١).

فكما أنّ عبادته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأصنام ممتنعة ، في جميع الأحوال ، كذلك يقاطعهم أنّ عبادتهم لله تعالى ـ وهم على تلك الحالة من العتوّ والضلال ـ ممتنعة أبدا.

ومن المعلوم : أن ليس المقصود من الخطاب كلّ كافر على الإطلاق ، وعلى مرّ الأيّام ، بل كفرة عتاة وجحدة طغاة ، كانوا يجابهون الدعوة بكلّ لجاج وعناد.

فهي قضيّة شخصيّة خاصّة بالمشافهين حال الخطاب ، وليست حقيقيّة عامّة ذات الشمول.

قال سيدنا العلامة الطباطبائي ـ في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٢) ـ : هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر وتمكّن الجحود من قلوبهم ، ممّن عاندوا ولجّوا في مجابهة الدين ، حتّى أفنتهم الحرب في بدر. إذ لا يمكن اطّراد مثل هذا التعبير بشأن جميع الكفّار ، وإلّا لانسدّ باب الهداية ، والقرآن ينادي بخلافه. وهكذا وقع مثل هذا التعبير في سورة يس المكّيّة. كما أنّ المراد من (الَّذِينَ آمَنُوا) فيما أطلق في القرآن ـ من غير قرينة ـ هم السابقون الأوّلون من المسلمين ، خصّوا بهذا الخطاب تشريفا (٣).

والخطاب ، اختصاصا بأناس ، ليس من دأب الكتاب.

وغير ذلك من خصائص وميزات تجعل القرآن ذا أسلوب خطابي ، بعيدا عن أسلوب ترقيم الكتاب.

هنا سؤال لا بدّ من التنبّه له ، وهو : أنّ القرآن ، إذا كانت أكثر قضاياه شخصيّة ، هي قيد التاريخ ، فما هي الفائدة تعود إلى كافّة الناس ، والقرآن كتاب هداية عامّ؟!

وفي الإجابة على ذلك ، نلفت أنظار القارئين إلى جانب المفاهيم العامّة ، المستخرجة من بطون تلكم الآيات التي تبدو في ظاهرها خاصّة حسب التنزيل.

وقد نبّهنا فيما سبق : أنّ للقرآن ظهرا وبطنا ، ظهرا حسب التنزيل ، خاصّا بمن نزل في شأنهم بالذات قيد التاريخ ، وبطنا حسب التأويل ، هي مفاهيم عامّة ، سارية وجارية مع الأبد ، مستنبطة

__________________

(١) الكافرون ١٠٩ : ١ ـ ٣.

(٢) البقرة ٢ : ٦.

(٣) الميزان ١ : ٥٠.

٦٩

من فحوى الآية وخابئة تحت ظاهر التعبير. وهذه المفاهيم العامّة الباطنة لظواهر القرآن ، هي التي ضمنت بقاء القرآن عبر الخلود ، والاعتبار بها ، لا بظاهر التنزيل.

[م / ٦٨] قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ، ثمّ مات أولئك القوم ، ماتت الآية ، لما بقي من القرآن شيء (أي أصبح لا فائدة فيه) ولكن القرآن يجري أوّله على آخره ، ما دامت السماوات والأرض. ولكلّ قوم آية يتلونها ، هم منها من خير أو شرّ» (١).

[م / ٦٩] وفي حديث آخر : «ظهره تنزيله ، وبطنه تأويله ، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد ، يجري كما تجري الشمس والقمر. كلّما جاء منه شيء وقع» (٢).

حجيّة ظواهر القرآن

لعلّه من بديهة القول ، إنّ القرآن حجّة بالغة في كلّ تعابيره التي خاطب بها الناس أجمعين ، لأنّه نزل هدى للناس وبلسان عربيّ مبين لعلّهم يتذكّرون.

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٣).

وفي أحاديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعترة عليهم‌السلام الشيء الكثير من الترغيب في مراجعة القرآن والتماس فرائده وعرض متشابهات الأمور عليه. وهكذا ندب الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام على التماس حقائقه والوقوف على دقائقه بالتعميق في مطاويه.

قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(٤).

[م / ٧٠] ولمّا نزلت الآية : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ)(٥) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويل لمن لاكها بين لحييه ثمّ لم يتدبّرها» (٦).

[م / ٧١] قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ألا لا خير في قراءة لا تدبّر فيها» (٧).

[م / ٧٢] وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم ، ولقوم يتلونه

__________________

(١) العيّاشي ١ : ٢١ / ٧.

(٢) المصدر : ٢٢ ـ ٢٣ / ٥ ؛ بصائر الدرجات : ٢١٦ / ٧.

(٣) سورة ص ٣٨ : ٢٩.

(٤) النحل ١٦ : ٤٤.

(٥) آل عمران ٣ : ١٩١ ـ ١٩٢.

(٦) مجمع البيان ٢ : ٤٧٠ ؛ شرح الباب الحادي عشر : ٥ واللفظ له.

(٧) معاني الأخبار : ٢٢٦ / ١.

٧٠

حقّ تلاوته. وهم الذين يؤمنون به ويعرفونه» (١).

وقد استوفينا الكلام عن حجّية ظواهر القرآن حجّية قاطعة لا مرية فيها ، وفنّدنا مزاعم القول بأنّ هناك من الأخباريين من ينكر حجّيتها ، وأنّها نسبة ظالمة تأباه طبيعة كون الكتاب هو السند الحيّ لفهم شرائع الدين ومعارفه. سوى أنّ هناك تخصيصات وتقييدات وتفاصيل لما أجمل في القرآن إجمالا ، لا بدّ من التماسها من السنّة الشريفة وفي أحاديث النبيّ وعترته الأطياب (صلوات الله عليهم) ، الأمر الذي يلتزم به كل فقيه بارع ، سواء أكان مجتهدا أصوليّا أم متعبّدا أخباريّا ، على سواء (٢).

السياق في القرآن

كان لسياقة الكلام دورها الأوفى في الإدلاء بمداليل الألفاظ والإيفاء بواقع المراد ، وكانت تعدّ من خير القرائن الحافّة المكتنفة بالكلام ، والآخذة بزمامه تسوقه حيث شاء المتكلّم أو كاتب المقال.

والسياق عبارة عن اتّجاه الكلام الخاصّ ، الموجب لتواثق الكلام وترابط أجزاءه مع البعض ، صدرا وذيلا وفي الأثناء ، يجعل من مسيرة الكلام في اتّجاه خاصّ. وبذلك يستبين أهداف التعابير الواردة في الكلام إفراديّا أو جمليّا ويتبيّن وجه الاستعمال إن حقيقة أو مجازا ، ومن ثمّ فالاهتمام به كبير ولا ينبغي التغافل عنه بحال.

قال الإمام بدر الدين الزركشي : ليكن محطّ نظر المفسّر ، مراعاة نظم الكلام الذي سيق له ، وإن خالف أصل الوضع اللغويّ لثبوت التجوّز. ولهذا ترى صاحب «الكشّاف» يجعل الذي سيق له الكلام معتمدا ، حتّى كأنّه غيره مطروح (٣).

وقال فيما إذا لم يرد في التفسير نقل عن المفسّرين ـ وهو قليل ـ : وطريق التوصّل إلى فهمه ، النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها واستعمالها بحسب السياق. وهذا يعتني به الراغب كثيرا في كتاب «المفردات» فيذكر قيدا زائدا على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ ، لأنّه

__________________

(١) المحاسن : ٢٦٨ / ٣٥٦.

(٢) راجع ما كتبناه بهذا الصدد في كتابنا : التمهيد ٩ : ٧٤ ـ ٨٥.

(٣) البرهان ١ : ٣١٧ ، آخر النوع ٢١.

٧١

اقتنصه من السياق (١).

نعم ، السّياق قد يغيّر المعنى عن أصله اللغويّ ، إن إفراديّا أو جمليّا ، حيث الألفاظ عند التركيب تتغيّر أوجه معانيها عمّا كانت في حالة الإفراد. وهذا معنى قول الأصوليين : إنّ للجمل التركيبيّة أوضاعا تخصّها ، فيما عدا أوضاع المفردات. فإنّ للهيآت التركيبيّة أيضا أوضاعا إلى جنب أوضاع مفردات الكلم.

يقول محمّد رشيد رضا : على المدقّق أن يفسّر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله. والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه ، بأن يجمع ما تكرّر في مواضع منه ، وينظر فيه ، فربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ «الهداية» وغيره. ويحقّق كيف يتّفق معناه مع جملة معنى الآية ، فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه. وقد قالوا : إنّ القرآن يفسّر بعضه ببعض ، وإنّ أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ ، موافقته لما سيق له من القول ، واتفاقه مع جملة المعنى وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته. (٢)

***

أمّا مستند حجّية السياق ، فهو ذاك الترابط الوثيق ، القائم بين أجزاء الكلام ، والمهيمن على الجوّ الذي تسير في ظلاله كوكبة الكلام ، الأمر الّذي يتحقق بجلاء فيما إذا كان الكلام مترابطا أجزاؤه في وحدة موضوعيّة متلائمة ، لا إذا كان منتثرا أشلاؤه ، مبعثرا هنا وهناك لا رابط بينها وثيقا.

وقد قالوا : للمتكلّم أن يلحق بكلامه ما شاء ، ما دام متكلّما أي ما شاء من قرائن ودلائل حافّة بكلامه تعيّن اتّجاه مسيرته. أمّا إذا انقطع عن الكلام ، فقد تمّت دلالته ، وليس له أن يأتي بعد ذلك من تفاسير منافية لظاهر التعبير حسبما قرّر في الدعاوي والأقارير.

وعليه فما وجه حجّيّة دلالة السياق في القرآن ، وقد نزل أجزاء متفرّقة وفي مناسبات مختلفة؟!

نعم يتحقّق السياق في آية أو آيات نزلن معا ، وليس في جميع الآيات وهنّ نزلن في مقاطع أثناء السور!!

هذا صحيح ، فلا سياق إلّا في كلّ مجموعة من تلك المقاطع ، لا مجموعة آيات السورة ، فكيف

__________________

(١) المصدر ٢ : ١٧٢ ، النوع ٤١ ، فيما يجب على المفسّر معرفته.

(٢) المنار ١ : ٢٢.

٧٢

بآيات من سور غيرها؟!

***

لكن هناك شيء يجب أن لا نتغافل عنه ، وهو : ما إذا عرفنا من دأب متكلّم ، أنّ سياقة كلامه متى خطب أو كتب ، ذات أسلوب خاصّ ، لمسناه من صميم تعابيره أو صرّح به خبير بصير ، فهذا يمكن الاتّكال على أساليبه التي دأب عليها ولمسناها عن يقين.

وهكذا لو عرفنا منه الاتّجاه نحو مرمى خاصّ ، في متنوّع كلامه ومختلف مواقفه من خطاب وعتاب. فهذا أيضا يجوز الاعتماد على أسلوبه العامّ ، في سبيل فهم مراداته من متعدّد أقواله ، لأنّها جميعا مركّزة حول محور خاصّ وإن تعدّدت المواقف. فتلك الوحدة الموضوعيّة ، هي التي ربطت متنوّع كلامه ، ليصبح المجموع في حوزة واحدة محيطة بالأطراف. الأمر الذي أكّد عليه علماء التفسير في مجموعة آيات كلّ سورة ، بل وفي مجموعة آيات القرآن كلّه.

قال تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ)(١).

قوله : «متشابها» أي يشبه بعضه بعضا. من غير ما اختلاف في التعبير والأسلوب وفي نسق البيان ولحن الخطاب.

وقوله : («مَثانِيَ) جمع مثنيّة بمعنى المعطوفة ، لانعطاف بعض آيه على بعض ، ورجوع بعضه إلى بعض ، بحيث يتبيّن بعضها من بعض ويشهد بعضها على بعض من غير اختلاف يؤدّي إلى دفع بعضه ببعض أو يناقض بعضه بعضا ، لا في الفحوى ولا في المؤدّى ، بل ولا في الأسلوب ولحن البيان. قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(٢).

نعم كان القرآن في مجموعه وحدة متماسكة الأجزاء متضامنة الأشلاء ، في تراصّ وتناسق ووئام وانسجام تامّ ، لا تفرقة بين أبعاضه ولا اختلاف بين أنحاء آياته. (كِتاباً مُتَشابِهاً :) متماثلا أساليب بيانه ومتناسبا ألحان خطابه ، يجري أوّله على آخره ، وآخره على أوسطه ، على نمط واحد في الأداء والإيفاء. فكان القرآن ـ على مختلف مطالبه ومتنوّع مقاصده ـ ذا سياق واحد من البدء فإلى الختم. ومن ثمّ :

[م / ٧٣] كان «يشهد بعضه على بعض ، وينطق بعضه ببعض» ، كما قال الإمام أمير المؤمنين ـ

__________________

(١) الزّمر ٣٩ : ٢٣.

(٢) النساء ٤ : ٨٢.

٧٣

عليه صلوات المصلّين ـ (١).

هذا بالنسبة إلى ذات القرآن نفسه وفي مجموعة آياته الكريمة ، من البدء إلى الختم ، كان ذا سياق واحد وتناسق فارد.

وهكذا في مجموعة آيات كلّ سورة ، حيث الوحدة الموضوعيّة لكلّ سورة بذاتها ، كانت هي الجامعة لشتات مواضيعها والكافلة لجمع شملها.

وذكرنا عند البحث عن التناسب القائم في كلّ سورة لوحدها : أنّ لكلّ سورة هدفا خاصّا أو أهدافا خاصّة مترابطة تستهدفها لغرض الإيفاء بها وأداء ما فيها من رسالة بالذات ، الأمر الذي يوجّه مصير انتخابها في كيفيّة لحن الأداء وفي كمّيّة عدد الآيات. فما لم تستوف الهدف لم تكتمل السورة ، قصرت أم طالت. وهكذا اختلاف لهجاتها من شديدة فمعتدلة وإلى ليّنة خفيفة. فلا بدّ من حكمة مقتضية لهذا التنويع في العدد واللحن ، لأنّه من صنع عليم حكيم.

ومن ثمّ فمن الضروري ـ بمقتضى الحكمة ـ أن تشتمل كلّ سورة على نظام وسياق خاصّ ، يستوعب تمام السورة من مفتتحها حتّى الختام ، وهذا هو الذي اصطلحوا عليه من الوحدة الموضوعيّة التي تحتضنها كلّ سورة بالذات.

إذن فكلّ سورة لوحدها كان لها سياقها الخاصّ ، قد شمل السورة كلّها على نسق واحد وعلى نمط واحد ، فصحّ الاستناد إليه في آية آية منها جميعا على سواء.

وقد يتشكّك البعض في الأخذ بالسياق ، بعد عدم الثقة بالنظم القائم بين آيات كلّ سورة ، فلعلّها تغيّرت عن محالّها وحصل فيها تقديم وتأخير ، ولا سيّما إذا قلنا بأنّ الترتيب القائم بين السور وكذا بين الآيات ، أمر حصل على يد الصحابة ، وربما جهلوا أو غفلوا عن موضع آية بالذات وسجّلت في غير موضعها الأصل ، قالوا : كما هو المحتمل في لفيف من آيات ، تبدو غير متناسبة مع موضعها الخاصّ.

لكن لا موضع لهذا التشكيك بعد أن ثبت أنّ النظم القائم بين آيات كلّ سورة ، هو النظم الطبيعي حسب النزول ، وإن حصل فيه تغيير ـ أحيانا ـ فبأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن غير أن يكون لأحد سواه يد في نظمها واتّساقها. ومن ثمّ فمن الضروري هو الالتزام بأنّ النظم القائم بين الآيات وترتيبها

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ : ١٧ ، الخطبة ١٣٣.

٧٤

توقيفي محضا ، لا يجوز مسّها على أيّ حال (١).

أمّا ترتيب السور فقد حصل بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى يد صحابته الكبار. ولا مساس له بمسألة السياق كما لا يخفى.

إذن فأصالة السياق ـ حسب النظم القائم بين آيات السّور ـ هي المحكّمة وعليها المعوّل في الاستناد والاستنباط.

وهناك جانب آخر من السياق ولعلّه أهمّ ، وهو : جانب سياق كلّ آية بذاتها ، أو مجموعة آيات نزلن معا ، وهي كتل ، كلّ كتلة هي مجموعة آيات مترابطة بعضها مع البعض في المرمى والنزول جميعا ، عرفت باسم مقاطع الآيات من كلّ سورة.

وهذا من أقوى السياق المساعد على فهم معاني الآيات مباشرة.

فمجموعة آيات نزلن جملة بشأن مناسبة خاصّة أو في حادث خاصّ ، يصلح بعضها دليلا (قرينة) على فهم البعض ، قرينة متّصلة بالكلام.

فالسياق بكلّيّته يلحظ تارة إلى القرآن كلّه في سياقه العامّ من فاتحته حتّى الختام. وأخرى بلحاظ كلّ سورة بذاتها باعتبار الوحدة الموضوعيّة فيها. وثالثة سياق جملة من آيات نزلن معا أو آية برأسها نزلت لوحدها. ولكلّ هذه السياقات بأنحائها الثلاثة مجالها الخاصّ ، وتصلح قرينة على فهم المراد والحصول على حقيقة المفاد.

وإليك نماذج من دلالات السياق على أنحائه الثلاثة :

أمّا السياق العامّ ، فهو المقصود من قولهم : القرآن يفسّر بعضه بعضا ، أو كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض» (٢).

فربّ آية في موضعها الخاصّ ذات إبهام لا تنطق ، وإنّما يرفع إبهامها وينطقها آية أخرى نظيرتها في المؤدّى والمفاد.

ومن ثمّ قيل : أحسن التفسير وأفضله ، أن يستند لتفسير آية إلى آية أخرى نظيرتها في السياق.

قال الإمام بدر الدين الزركشي : أحسن طريق التفسير أن يفسّر القرآن بالقرآن ، فما أجمل في مكان ، فقد فصّل في موضع آخر ، وما اختصر في مكان ، فإنّه قد بسط في آخر (٣).

__________________

(١) راجع ما أوردناه بهذا الصدد في كتابنا التمهيد ١ : ٢٨٠ ـ ٢٨٤.

(٢) نهج البلاغة ٢ : ١٧ ، الخطبة ١٣٣.

(٣) البرهان ٢ : ١٧٥.

٧٥

وقال سيّدنا العلّامة الطباطبائي : الطريقة المرضيّة في تفسير القرآن ، أن نفسّر القرآن بالقرآن ونستوضح معنى آية من نظيرتها ، بالتدبّر المندوب إليه في نفس القرآن. قال تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(١) وحاشا القرآن أن لا يكون تبيانا لنفسه (٢).

ومن ثمّ فقد جرى المفسّرون الأوائل ، ومن ورائهم الأواخر ، على التماس معاني القرآن من نفس القرآن وإنطاق بعض آيها ببعض مهما أمكن ، ثمّ التعرّج إلى مسائلة السنّة وأقوال السلف وسائر منابع التفسير.

مثلا : قوله تعالى في سورة الأنفال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)(٣) تهديدا لمن لم يعر انتباهه لمواعظ الدّين ولم يستجب لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم ، يتساءل : ما هذه الحيلولة المتوعّد بها وكيف يكون هو الله حائلا بين المرء وقلبه؟

وللإجابة على ذلك ، يكفينا الرجوع إلى آية أخرى نظيرتها في السياق : قوله تعالى ـ في سورة الحشر : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ)(٤). حيث الحيلولة ـ المهدّد بها ـ هي نسيان الذات ، إذا لم يتّعظ المرء بمواعظ الله العزيز الحكيم.

ولا يخفى أنّ سياق الآية ذاتها أيضا يرجّح هذا المعنى ، حيث إنّه سياق التهديد كما ذكرنا.

وقد فصّلنا الكلام حول الآية في كتابنا التمهيد (٥) ، والأمثلة على ذلك كثيرة جدّا. وقد دأب سيّدنا العلّامة الطباطبائي على انتهاج هذا النمط من التفسير.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ)(٦) ، ما هذا الرتق والفتق؟ فيه أقوال :

أحدها :

[م / ٧٤] كانتا ملتصقتين ، ففصّل الله بينهما بالهواء. نسب ذلك إلى ابن عبّاس والضحّاك وقتادة والحسن.

ثانيها :

[م / ٧٥] كانت السماء مطبقة (ذات طبقة واحدة مرتتقة) ففتقها الله أي جعلها سبع سماوات.

__________________

(١) النحل ١٦ : ٨٩.

(٢) الميزان ١ : ٩ ، (في المقدّمة).

(٣) الأنفال ٨ : ٢٤.

(٤) الحشر ٥٩ : ١٩.

(٥) التمهيد ٣ : ٢١١ ـ ٢٢٦ / ٨٠.

(٦) الأنبياء ٢١ : ٣٠.

٧٦

وكذلك كانت الأرض مطبقة ، فجعلها الله سبع أرضين. عن مجاهد والسدّي.

ثالثها :

[م / ٧٦] كانت السماء رتقا (أي منسدّا أبوابها) لا تمطر. وكانت الأرض رتقا لاتنبت. ففتقناهما (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ)(١)(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا. وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً)(٢).

قالوا : وهو قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ. وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ)(٣).

وفسّروا الرجع بالمطر ، لردّ الهواء ما تناوله من الماء ، والصدع هو : الشقّ. روي ذلك عن عكرمة وعطيّة وابن زيد.

[م / ٧٧] قال الطبرسيّ : وهو المرويّ عن الباقر والصادق عليهما‌السلام (٤).

هذا وقد رجّح أبو جعفر الطبريّ القول الأخير ، بحجّة سياق الآية ، حيث قوله تعالى ـ تعقيبا على ذلك ـ : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) جعله أبو جعفر أولى الأقوال بالصواب ، قال : وإنّه تعالى لم يعقّب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلّا والذي تقدّمه من ذكر أسبابه (٥).

وهنا تنبّه أبو جعفر لإشكال هو : أنّ المعهود ، نزول المطر من السماء الدنيا ، لا السماوات السبع!؟ لكنّه تورّط في الجواب بما لا يفيد.

قال البيضاوي : وعليه فالمراد بالسماوات هي سماء الدنيا ، وجمعها باعتبار الآفاق. أو لعلّ للسماوات بأسرها مدخلا في الإمطار (٦).

لكنّه خلاف التحقيق ، والتعبير أيضا. والرواية عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام ضعيفة لجهالة في السند (٧).

أمّا ما وهموه مستندا لهذا الترجيح ، فهو مجرّد تعقيب وليس تفريعا كما زعموا. وقد ذكر تعالى هنا أربع آيات متعاقبة. أولاها : حادث الرتق والفتق. ثانيها : جعل من الماء كلّ شيء حيّ. ثالثها : جعل في الأرض رواسي أن تميد بهم. رابعها : جعل السماء سقفا محفوظا. كلّ واحدة آية برأسها ،

__________________

(١) القمر ٥٤ : ١١.

(٢) عبس ٨٠ : ٢٦ ـ ٢٩.

(٣) الطارق ٨٦ : ١١ ـ ١٢.

(٤) مجمع البيان ٧ : ٨٢.

(٥) الطبري ١٠ : ٢٧.

(٦) البيضاوي ٤ : ٣٩.

(٧) راجع ما كتبناه بهذا الصدد : التمهيد ٦ : ١٢٩ فما بعد.

٧٧

تدلّ على أنّه واحد ولا مساس لإحداها بالأخرى فلا تفريع هناك.

قال المجلسيّ العظيم (١) : هذا الذي ذكروه خلاف ما أثر عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قوله في خلق العالم :

[م / ٧٨] «ثمّ أنشأ سبحانه فتق الأجواء ، وشقّ الأرجاء ، وسكائك الهواء ـ إلى قوله ـ : ثمّ فتق ما بين السماوات العلى ، فملأهنّ أطوارا من ملائكته» (٢).

[م / ٧٩] وقال ـ في عجيب صنعته ـ : ففتقها سبع سماوات بعد ارتتاقها (٣).

وهذا المعنى هو الذي جاءت الإشارة إليه في آية أخرى في سياقتها ، قال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ)(٤).

فالدخان ـ وهي المادّة الأولى لخلق السماوات ـ هو الأصل ، ومنه تفرّعت السماوات العلى وظهرت إلى الوجود. قوله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) يدلّ على سبق مادّتهنّ على وجودهنّ ، فأفاض عليهنّ الصور المائزة بينهنّ. ويدلّ عليه أيضا قوله في سورة النازعات : (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها)(٥). سوّاهنّ برفع سمكهنّ ، كناية عن تمدّد وتمطّط في جوانبها ، لتأخذ شكلها الخاصّ.

ونظرة تفرّع الموجودات من أصل واحد ، فتقا بعد رتق ، نظرة قديمة ، حدّث بها التوراة في أصل التكوين أيضا. قال الإمام الرازيّ ـ في تأويل قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٦) ـ : كانت اليهود والنصارى ومن يليهم من المشركين عالمين بذلك ، فإنّه جاء في التوراة : «إنّ الله تعالى خلق جوهرة ، ثمّ نظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ، ثمّ خلق السماوات والأرض منها وفتق بينها» (٧).

وتقول النظرة الحديثة : إنّ الكون في أصله سديم ، جمعه سدم (٨). والسديم يشبه سحابة من غاز وغبار ، وأصحّ تعبير عنه ما جاء في القرآن : الدخان : كتلة غازيّة هائلة ، كانت النجوم والكواكب وسائر الأجرام العلويّة إنّما وجدت على أثر تكاثف تلك الغازات والغبارات الموجودة في الفضاء.

__________________

(١) مرآة العقول : ٢٥ : ٢٣٢.

(٢) نهج البلاغة ١ : ١٧ ـ ١٩ ، الخطبة ١.

(٣) المصدر ٢ : ١٩١ ، الخطبة ٢١١.

(٤) فصّلت ٤١ : ١١ ـ ١٢.

(٥) النازعات ٧٩ : ٢٨.

(٦) الأنبياء ٢١ : ٣٠.

(٧) التفسير الكبير ٢٢ : ١٦٢. والنسخ الموجودة من التوراة حاليّا فاقدة لهذه العبارة ، ولعلّها ذهبت أدراج سلسلة التحريف ، التي كانت مستمرّة ولا تزال.

(٨) والسديم : أصله الضباب أو الرقيق منه. واستعير للمادّة الغازيّة الغباريّة التي تكوّنت منها الأجرام السماويّة. ويطلق عليها اسم «الأثير» في مصطلح العلم القديم وسمّي بالعنصر الخامس غير الخاضع للكون والفساد ، كما في سائر العناصر الأربعة في مصطلحهم.

٧٨

وقد شرحنا هذا الجانب من تفسير الآية ، في مباحثنا عن الإعجاز العلمي في القرآن (١).

***

وكذا لكلّ سورة سياقها الخاصّ يشي بموضعها من النزول ، كان في أوائل البعثة أو بعدها وقبل الهجرة أو بعدها ، أيّام كان المسلمون في ضعف أو في قوّة وشوكة ، مهدّدا في جوّ حالك أم مشرّعا في جوّ وادع هادئ. وبذلك قد يتبيّن وجه دلالة الآية ـ في كنف السياق ـ : أنّه تكليف أو إرشاد ، تبشير أو إنذار. وما إلى ذلك من ظروف وشرائط تكتنف الآية والتي يهتمّ بها أهل النظر والتحقيق.

مثلا : قوله تعالى ـ موبّخا للمشركين ـ : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)(٢) ، توبيخ لاذع لأولئك المشركين الذين لا يقومون بفريضة الزكاة.

استدلّ بعض الفقهاء بهذه الآية ، دليلا على أنّ الكفّار مكلّفون ـ شرعا ـ بالفروع ، كما هم مكلّفون ـ عقلا ـ بالأصول.

وردّ عليهم سيدنا الأستاذ (٣) الإمام الخوئي ـ طاب ثراه ـ بأنّ الآية في سياق سورة مكّيّة ، ولعلّها قبل الهجرة بمدّة ـ إذا لاحظنا أنّ مجموعة السور التي نزلت بمكة هي ٨٦ سورة ، وكان رقم نزول هذه السورة ٦١.

أمّا وجه التوبيخ أو العتاب فلأنّهم خسروا بأنفسهم عن الاستضاءة بنور الإسلام ، ومن جملتها : حرمانهم عن فرائض واجبة ، هي زكاة النفس وتطهيرها ، حرموا عنها بسبب لجاجهم عن الحقّ الصريح. فكان التوبيخ على ترك الإسلام الذي استعقب ترك فرائضها القيّمة وليس توبيخا على ترك الزكاة ، توبيخا مباشرا.

على أنّ الزكاة فرضت بعد الهجرة إلى المدينة ، ولم تكن فرضت في مكّة حتّى على المسلمين ، أللهمّ سوى الإنفاق في سبيل الله ، وقد أطلق عليه الزكاة بمفهومها العامّ.

***

أمّا السياق في آية أو آيات فكثير للغاية ، وبذلك قد يتعيّن معنى للفظ ، حسب اتّجاه الآية وسياقها.

__________________

(١) التمهيد ٦ : ١٢٩ ـ ١٣٨.

(٢) فصّلت ٤١ : ٦ ـ ٧.

(٣) في جلسة الدرس في النجف الأشرف.

٧٩

مثلا : لفظة «الدّين» له معان حسب استعمالاته ، وكثيرا مّا يتعيّن أحد معانيه بدلالة السياق ، كما في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(١) أريد به : الملّة والشريعة بقرينة السياق. وهكذا في قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ)(٢). وقوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ)(٣). وغيرها من آيات جاء استعمال لفظة الدين فيها بمعنى الشريعة وهي الطريقة المستقيمة.

وفي أكثر من عشرة مواضع من القرآن ، جاء التعبير بيوم الدين ، وأريد به : يوم الجزاء.

قوله تعالى : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)(٤). (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ)(٥). (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ)(٦). (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ)(٧). (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(٨). (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ)(٩).

وجاء استعماله بمعنى الطريقة والمنهج ـ الذي هو أصله في اللغة ـ في قوله : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ)(١٠) أي في مرسوم تلك البلاد. كلّ ذلك يعرف بقرينة السياق.

وذكر السيد رضي الدين محمّد بن الحسن الشريف الموسوي ، في تفسير قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)(١١) ، أنّ المراد بهذا الملك الذي يؤتيه الله من يشاء وينزعه عمّن يشاء ، هو الملك في الحياة الدنيا. وفنّد رأي من زعم أنّه نعيم الآخرة. وذلك نظرا لسياق الآية حيث تعقيبها بقوله : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ.) فإنّه كلام عن العزّ والذلّ في هذه الحياة ، لا حياة الآخرة (١٢). وكذا بقيّة الآية إلى قوله : (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(١٣).

__________________

(١) التوبة ٩ : ٣٣.

(٢) البيّنة ٩٨ : ٥.

(٣) آل عمران ٣ : ١٩.

(٤) الشعراء ٢٦ : ٨٢.

(٥) الذاريات ٥١ : ١٢.

(٦) المعارج ٧٠ : ٢٦.

(٧) الانفطار ٨٢ : ١٥.

(٨) الانفطار ٨٢ : ١٧ ـ ١٩.

(٩) سورة ص ٣٨ : ٧٨.

(١٠) يوسف ١٢ : ٧٦.

(١١) آل عمران ٣ : ٢٦.

(١٢) حقائق التأويل : ٦٥ ـ ٦٦.

(١٣) آل عمران ٣ : ٢٧.

٨٠