التفسير الأثري الجامع - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-94552-4-8
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٤١٦

هذا باطن الآية (١).

وهذا من المشكل الذي لم يرد به أثر ولا وافقه ظاهر تعبير ولا دلّ عليه دليل من خارج ، ومثله أقرب إلى ما ثبت ردّه من كلام الباطنيّة ومن شابههم (٢).

وقال ـ في قوله تعالى : (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ)(٣) ـ : الصرح : نفس الطبع. والممرّد : الهوى إذا كان غالبا ستر أنوار الهدى ، بالترك من الله تعالى العصمة لعبده (٤).

وقال ـ في قوله : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا)(٥) ـ : أي قلوبهم عند إقامتهم على ما نهوا عنه ، وقد علموا أنّهم مأمورون منهيّون. قال : الإشارة في البيوت إلى القلوب ، فمنها عامرة بالذكر ، ومنها خراب بالغفلة. ومن ألهمه الله بالذكر فقد خلصه من الظلم (٦).

وفي قوله : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها)(٧) قال : حياة القلوب بالذكر.

وفي قوله : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)(٨) : مثّل الله القلب بالبحر ، والجوارح بالبرّ ، ومثّله أيضا بالأرض التي تزهي بالنبات. هذا باطنه! (٩)

وقد حمل بعضهم قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)(١٠) على أنّ المساجد : القلوب تمنع بالمعاصي من ذكر الله.

ونقل في قوله تعالى : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ)(١١) أنّ باطن النعلين هما الكونان : الدنيا والآخرة! فذكر عن الشبلي أنّ معنى (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ :) اخلع الكلّ منك تصل إلينا بالكليّة. وعن ابن عطا : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) عن الكون فلا تنظر إليه بعد هذا الخطاب. وقال : النعل : النفس ، والوادي المقدّس : دين المرء ، أي حان وقت خلوّك من نفسك ، والقيام معنا بدينك. إلى غير ذلك ممّا لا يوجد في النقل عن السلف.

قال الشاطبي : وهذا كلّه إن صحّ نقله ، فهو خارج عمّا تفهمه العرب ، ودعوى لا دليل عليها في كونه مراد الله تعالى (١٢).

__________________

(١) تفسير التستري : ٥٣. (٢) الموافقات ٣ : ٤٠١ ـ ٤٠٢.

(٣) النمل ٢٧ : ٤٤. (٤) لم نجده في تفسيره ولا في غيره.

(٥) النمل ٢٧ : ٥٢.

(٦) تفسير التستري : ١١٦ ما أورده هنا فيه زيادة.

(٧) الروم ٣٠ : ٥٠.

(٨) الروم ٣٠ : ٤١.

(٩) لم نجده.

(١٠) البقرة ٢ : ١١٤.

(١١) طه ٢٠ : ١٢.

(١٢) أي فما ذكروه فاقد للشرطين في قبول التأويل الباطني.

٤١

[م / ٣٣] ولقد قال أبو بكر : أيّ سماء تظلّني وأيّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم (١).

[م / ٣٤] وفي الخبر : «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» (٢) ، وما أشبه ذلك من التحذيرات. وربما ألمّ الغزّالي بشيء منه في «الإحياء» (٣) وغيره (٤) ، وهو مزلّة قدم لمن لم يعرف مقاصد القوم.

قال : فإنّ الناس في أمثال هذه الأشياء بين قائلين : منهم من يصدّق به ويأخذه على ظاهره ، ويعتقد أنّ ذلك هو مراد الله تعالى من كتابه ، وإذا عارضه ما ينقل في كتب التفسير على خلافه فربما كذّب به أو أشكل عليه.

ومنهم من يكذّب به على الإطلاق ؛ ويرى أنّه تقوّل وبهتان ، مثل ما تقدّم من تفسير الباطنيّة ومن حذا حذوهم.

قال : وكلا الطريقين فيه ميل عن الإنصاف (أي إفراط أو تفريط).

قال : ولا بدّ قبل الخوض في رفع الإشكال من تقديم أصل مسلّم ، يتبيّن به ما جاء من هذا القبيل ، وهو :

أنّ الاعتبارات القرآنيّة الواردة على القلوب ، الظاهرة للبصائر ، إذا صحّت على كمال شروطها فهي على ضربين :

أحدهما : ما يكون أصل انفجاره من القرآن ويتبعه سائر الموجودات (ليكون أصل انبثاق المعاني ناشئا من القرآن ذاته ومنبعثا منه ، ثمّ يقاس عليه تلك الاعتبارات عقلانيّا).

الثاني : ما يكون أصل انفجاره من الموجودات (الاعتبارات الخارجيّة) ويتبعه الاعتبار في القرآن (أي كانت المستحسنات الذوقيّة ذات اعتبار عقلانيّ خارجيّ ، ثمّ تعرض على القرآن لاستحصال شواهد عليها منه دعما لها ، وهذا قد يكون من التفسير بالرأي وتحميلا على القرآن).

قال : فإن كان الأوّل فذلك الاعتبار صحيح ، وهو معتبر في فهم باطن القرآن من غير إشكال (لأنّه اعتبار قرآنيّ محض ومستحصل منه ذاته) وقلّما يجده إلّا من كان من أهله عملا به على نقل سليم أو اجتهاد قويم. فلا يخرجون عند الاعتبار فيه عن حدوده. ومنه ما نقل من فهم السلف

__________________

(١) الدرّ ٨ : ٤٢١.

(٢) الطبري ١ : ٥٥ بعد رقم ٦٤.

(٣) من كتاب الشكر.

(٤) في مشكاة الأنوار وكتاب جواهر القرآن (الموافقات ٣ : ٤٠٥).

٤٢

الصالح فيه ، فإنّه جار على ما تقضي به العربيّة ، وما تدلّ عليه الأدلّة الشرعيّة ، حسبما تبيّن قبل.

وإن كان الثاني فللتوقف عن اعتباره في فهم باطن القرآن مجال. وأخذه على إطلاقه فيه ممتنع ، وليس من قبيل الأوّل.

وبعد فإنّ تلك الأنظار الباطنة في الآيات المذكورة إذا لم يظهر جريانها على مقتضى الشروط المتقدّمة ، فهي راجعة إلى الاعتبار غير القرآني ، وهو الوجودي (١) وهو أمر خاصّ ، وعلم منفرد بنفسه يختصّ بموارده. فكون القلب جارا ذا قربى ، والجار الجنب هو النفس الطبيعى ، يصحّ تنزيله اعتباريّا بمقابلة الوجود للنصّ وقياسه عليه. غير أنّه مغرّر بمن ليس براسخ.

وأيضا فإنّ من ذكر عنه مثل ذلك لم يصرّح بأنّه المعنى المقصود من الآية لدى الخطاب ، بل أجراه مجراه وسكت عن كونه هو المراد. (٢)

أي لم يجعله تفسيرا للآية ، حتّى يكون تفسيرا بالرأي ، بل أجراه مجرى تداعي المعاني حسب البيان الآتي.

التأويل عند أرباب القلوب

للتأويل عند أرباب القلوب الواعية حديث طريف يختلف عن تأويلات الباطنيّة غير المبتنية على أساس معقول.

إنّ أهل التحقيق من أصحاب العرفان الصوفيّ يقرّون تفسير أهل الشريعة ، في الأخذ بظاهر القرآن ويرونه الأصل في تنزيله ، سوى أنّ لهم في كلام الله مذاقات عرفانيّة رقيقة لا يمكنهم إغفالها ، لأنّها بمثابة واردات أو هواتف هي سوانح ملكوتيّة قدسيّة ، تفاض على القلوب الواعية.

هذا تفسير كشف الأسرار للمولى أبي الفضل رشيد الدين الميبدي تفصيلا وتبيينا لتفسير العارف السالك الخواجا عبد الله الأنصاري ، تراه جمع بين الظاهر والباطن كلّا على حدّه. يفسّر

__________________

(١) أي هذا الفهم الباطني للآية مستفاد من أمر خارج عن إطار القرآن ، أمثال أسباب النزول الواردة في النقل ، كما روي في معنى قوله تعالى : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أنّ «ألف شهر» هي مدّة الدولة الأمويّة ، لأنّها مكثت ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر. وأنّ ذلك تسلية للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث رأى أنّ بني أميّة ينزون على منبره نزو القردة فاغتمّ ، فجاءت الآية تسلية له فسرى عنه. قال الشيخ عبد الله درّاز ـ في الهامش ـ : فهذا المعنى لم يؤخذ من القرآن ذاته ، بل أخذ من الخارج ، والواقع في ذاته يصادقه بمصادفة مطابقة العدد. واللفظ لا ينبو عنه. (الموافقات ٣ : ٤٠٤).

(٢) المصدر : ٤٠٣ ـ ٤٠٥. وقد وقع بعض التصرّف شرحا وإيضاحا لما لطف ودقّ من المعاني.

٤٣

القرآن أوّلا على نهج أهل الظاهر تفسيرا قويما ، ثمّ يعرّج على تفسيره وفق مذاقات أهل الباطن ، في ظرافة ولباقة كلّا في أحسن بيان ، مقرّا بأنّ تفسير الظاهر هو الأصل ، ولولاه لما أمكن استخراج الباطن الذي هو الفرع.

نعم يرون من تفسير الباطن اللباب الخابئ تحت ذاك العباب.

قال سهل بن عبد الله التستري ـ في قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(١) ـ :

يعني : شرك النفس الأمّارة بالسّوء.

[م / ٣٥] كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الشرك في أمّتي أخفى من دبيب النمل على الصفا» (٢).

قال : هذا باطن الآية. وأمّا ظاهرها فمشركو العرب يؤمنون بالله ، كما قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ)(٣). وهم مع ذلك مشركون يؤمنون ببعض ولا يؤمنون ببعض (٤).

إذن لم يخلط بين ظهر القرآن وبطنه وذكر كلّا على حدّه بأمانة. على أنّ الأخذ بالبطن كان مستندا إلى النبويّ الشريف ، مضافا إلى كونه الأخذ بمفهوم الآية العامّ ـ حسبما نبّهنا ـ مراعيا جانب المناسبة القريبة. فقد استجمع شرائط التأويل الصحيح.

نعم إنّ إخضاع القرآن للّغة التي مقياسها الوضع المحدود ، عقال له عن الانطلاق فيما وراء الغيوب ، وإغلاق لباب الفهم الذي مقياسه العقل الرشيد مدعما بإدراكات كان مجالها ما فوق العقل ألا وهو القلب الذي لا تحدّه الحدود ، لأنّه عرش استواء تجلّيات الربّ تعالى على مملكة الجسم.

[م / ٣٦] كما جاء في الحديث القدسي : «لم يسعني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن» (٥) وهو القلب الذي اختصّه الله بالأسرار ويجب أن يستفتيه الإنسان إذا حار.

[م / ٣٧] سأل وابصة بن معبد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن البرّ والإثم؟ فقال : «يا وابصة! استفت قلبك ؛ البرّ : ما اطمأنّت إليه النفس واطمأنّ إليه القلب. والإثم : ما حاك في قلبك وتردّد في الصدر ، وإن أفتاك الناس» (٦).

فذلك القلب له لغته كما أنّ للوضع لغته وللعقل لغته. فإذا كانت لغة الوضع تدرك بالألفاظ ويعبّر

__________________

(١) يوسف ١٢ : ١٠٦.

(٢) المستدرك للحاكم ٢ : ٢٩١ ؛ الكامل ٧ : ٢٤٠.

(٣) الزخرف ٤٣ : ٨٧.

(٤) راجع : تفسير التستري : ٨٣.

(٥) البحار ٥٥ : ٣٩.

(٦) مسند أحمد ٤ : ٢٢٨.

٤٤

عنها بالكلمات ، فلغة القلب تدرك بالذوق والإشراق ، الأمر الذي لا يحيط بالتعبير عنه الألفاظ والعبارات ، بل بالرموز والإشارات.

على أنّ تلك الإشارات المعبّرة عن الواردات القلبيّة لها واقع مشروع أقرّه الحديث المأثور : «لكلّ آية ظهر وبطن وحدّ ومطلع».

إذن فأربابها متبّعون لا مبتدعون ، وقد اختصّهم الله بأسراره وأودعهم ملكوت أنواره ، ليكونوا مصابيح الهدى في غسق الدجى (١).

قال سعد الدين التفتازاني : وأمّا ما يذهب إليه بعض المحقّقين من أنّ النصوص مصروفة على ظواهرها ، ومع ذلك فيها إشارات خفيّة إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك ، يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة ، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان (٢).

فالإشارة ترجمان لما يقع في القلوب من تجلّيات ومشاهدات ، وتلويح لما يفيض به الله على صفوته من خلقه من أسرار وغوامض في كلامه وكلام رسوله.

قال الأستاذ حسن عبّاس زكي ـ في تصديره لتفسير القشيري ـ : ومن هنا كانت مذاقات الصوفيّة وأهل التحقيق في القرآن ، وهم لا يرون أنّ تلك المذاقات وحدها هي المرادة ، وإنّما يأخذونها إشارات جاءت من قبل العبارات. وهذا النهج السديد بعيد كلّ البعد عن نهج الباطنيّة الذين يرون من تأويلات ـ غير مستندة ـ هي المرادة بالذات وقصرهم معاني القرآن فيما فهموه لا يتعدّاه. فبين مذاقات الصوفيّة ـ من أهل التحقيق ـ ونزعات الباطنيّة آماد وأبعاد والبون شاسع كبير (٣).

وقال الشيخ تاج الدين ابن عطاء الله الإسكندري (٤) ـ في كتابه لطائف المنن ـ : اعلم أنّ تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره ؛ ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له ، ودلّت عليه في عرف اللّسان. وثمّ أفهام باطنة تفهم عند الآية

__________________

(١) راجع : الموافقات ٣ : ٣٨٢.

(٢) شرح العقائد النسفيّة : ١٢٠.

(٣) راجع : مقدّمة تفسير القسيري ١ : ٦.

(٤) هو أحمد بن محمّد بن عبد الكريم بن عطاء الله ، أحد العلماء الجامعين لعلوم الدين من التفسير والحديث والأصول والتصوّف. استوطن القاهرة للوعظ ، ثمّ رحل إلى الإسكندريّة ومات بها سنة ٧٠٩ ، وكتاب لطائف المنن في مناقب شيخه أبي العبّاس المرسي. طبع بتونس سنة ١٣٠٤.

٤٥

والحديث لمن فتح الله قلبه ، وقد جاء في الحديث : «لكلّ آية ظهر وبطن» ، فلا يصدّنّك عن تلقّي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة : هذا إحالة لكلام الله وكلام رسوله ، فليس ذلك بإحالة ، وإنّما يكون إحالة لو قالوا : لا معنى للآية إلّا هذا ، وهم لم يقولوا ذلك ، بل يقرّون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها ، ويفهمون عن الله ما أفهمهم (١).

ظاهرة تداعي المعاني

كانت السوانح الفكريّة التي تدعى واردات القلوب ، يمكن تفسيرها بظاهرة تداعي المعاني (الشيء يذكر بالشيء) (٢) فقد ينسبق إلى أذهان أصحاب المعالي لطائف أفكار وظرائف أنظار ، ولا منشأ لها سوى تلاوة آيات قرعت أسماعهم ، وإذا بدقائق هي رقائق الفكر سنحت لهم بالمناسبة ، ومن غير أن تكون مدلولة ذاتيّة للكلام ما عدى الفحوى العامّ.

فكم من طرائف فكر وظرائف عبر تسنح أذهان ذوى الاعتبار ، بمجرّد أن واجهوا حادثة أو شاهدوا واقعة أوقفتهم عند حدّها وألزمتهم حجّتها فأخذوا منها دروسا وعبرا. وهكذا عند استماع تلاوة أو قراءة آية ذكّرتهم مكارم أخلاق ومبادي آداب ، كان كلّ ذلك من قبيل تداعي المعاني ، الخارج من دلالة اللفظ ذاته ، بل الشيء قد يذكر بالشيء ، حتّى ولو كان ضدّه ، فضلا عمّا لو كان نظيره.

مثلا : عند ما يستمع العارف السالك إلى قوله تعالى ـ خطابا مع موسى وهارون ـ : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(٣) ، ينسبق إلى ذهنه بادرة ضرورة تهذيب النفس وارعوائها عن الطغيان والعصيان قبل كلّ شيء. فيخاطب نفسه : ما بالك أنت ، منشغلا عن فرعنة نفسك الطاغية ، فاذهب إليها واجمع جموعك في تهذيبها وترويضها ، ولاطف معها بلين ، لعلّها تتّعظ وترعوى وترضخ لإرشادات العقل الحكيم.

فهذا لم يفسّر القرآن ولا جعل فرعون مرادا به النفس الأمّارة بالسّوء ، ولا موسى وهرون كلّ إنسان لبيب حكيم. بل خطر إلى ذهنه هذا المعنى ، متّعظا ومتذكّرا من فحوى الآية بالمناسبة.

__________________

(١) نقلا عن الإتقان للسيوطي ٤ : ١٩٧.

(٢) حسب تعبير ابن الصلاح فيما يأتي من نقل كلامه.

(٣) طه ٢٠ : ٤٣.

٤٦

يقول الإمام الحافظ تقيّ الدّين ابن الصلاح ـ في فتاواه وقد سئل عن كلام الصوفيّة في القرآن ـ : الظنّ بمن يوثق به منهم أنّه إذا قال شيئا من أمثال ذلك ، أنّه لم يذكره تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم ؛ فإنّه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنيّة ، وإنّما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن ، فإنّ النظير يذكر بالنظير. ومن ذلك قتال النفس في الآية الكريمة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ)(١). فكأنّه قال : أمرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفّار ، ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك ، لما فيه من الإبهام والإلباس (٢).

يعني : أنّ ما يذكرونه بهذا الشأن لا يعنون به التفسير ولا تأويل الآية بذلك ، وإنّما الشيء يذكر بالشيء من باب «تداعي المعاني» فيخطر ببالهم خواطر هي نفحات قدسيّة ملكوتيّة عند تلاوة الآي أو استماعها عن وعي وحضور قلب.

فهم عند ما يستمعون إلى نداء الآية العامّ يراجعون أنفسهم ، وفي طيّهم كافر عات هو أقرب إليهم وأخطر من الكفّار البعداء ، فيجب مقاتلته قبل مقاتلة سائر الكفّار ، أخذا بقياس الأولويّة في منطق العقل الرشيد.

وهذا معنى قول سهل : النفس كافرة فقاتلها بالمخالفة لهواها ، واحملها على طاعة الله والمجاهدة في سبيله وأكل الحلال وقول الصدق وما قد أمرت به من مخالفة الطبيعة (٣).

فهذا المعنى العرفاني الرقيق مستفاد من فحوى الآية ومستنبط من بطنها بالمناسبة من غير أن يكون ذا صبغة تفسيريّة أو بيانا للمراد من الآية بالذات.

وقد صرّح بذلك الإمام القشيري في تفسيره للبسملة ، قال : وقوم عند ذكر هذه الآية يتذكّرون من الباء برّه بأوليائه ، ومن السين سرّه بأصفيائه ، ومن الميم منّته على أهل ولايته. فيعلمون أنّهم ببرّه عرفوا سرّه ، وبمنّته عليهم حفظوا أمره ، وبه سبحانه وتعالى عرفوا قدره ، إلى آخر ما ذكره بهذا الصدد. (٤) تراه لم يجعله تفسيرا للآية ، وإنّما هو تذكّر قلبي عند استماعها أو استماع حروفها من قبيل الخواطر القلبيّة محضا ، من غير أن يكون تحميلا على القرآن أو تفسيرا بالرأي.

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٢٣.

(٢) راجع : التمهيد ١٠ : ٤٤٨ ـ ٤٤٩ ، عن فتاوى ابن الصلاح : ٢٩ (الذهبي ٢ : ٣٦٨).

(٣) راجع : تفسير السلمي ١ : ٢٩٢.

(٤) تفسير لطائف الإشارات للقشيري ١ : ٥٦.

٤٧

هذا بشأن أهل الاعتدال منهم ، وأمّا أرباب الشطط منهم فلنا معهم مقال آخر في مجال يأتي.

تأويل أو أخذ بفحوى الآية العامّ

وبتعبير أدقّ : كانت تأويلات أهل التحقيق أخذا بفحوى الآية العامّ ، المستحصل من بطن الآية ، حيث استخلاص مفهوم عامّ ، بعد إعفاء الخصوصيّات المكتنفة غير الدخيلة في أصل المقصود. فكان أخذا بدلالة الالتزام ـ وقد كانت خفيّة ـ بعد تبيين ، ومن ثمّ كانت جارية مجرى ظاهر السياق وعلى أساليب مفاهيم الكلام عند أهل اللسان ولا سيّما إذا كانت مدعمة بشواهد من الكتاب أو السنّه أو دلالة العقل الرشيد.

وقد عرفت في كلام سهل أنّه استند في تأويل قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(١) إلى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الشرك في أمّتي أخفى من دبيب النمل على الصفا» (٢). قال سهل : هذا باطن الآية (٣).

فهم يجرون في دلالة بطون القرآن مع ظهورها وفقا مع الشروط المعتبرة ، فلا تحميل ولا تفسير بالرأي. هذا إذا لم يتساهلوا كما تساهل بعضهم من أهل الاسترسال.

تأويلات مأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام

ومن هذا النمط الصحيح تأويلات مأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام كانت جارية مجراها الصحيح بشكل أدقّ.

وقبل أن نذكر موارد منها لا بدّ من التنبيه على نكتة هي : أنّ الوضع عن لسان الأئمة كثير ، وكذا دسّ أهل التزوير من الغلاة ومنهم الباطنيّة شيء وفير ، وقد ملأوا منها كتبا ودفاتر وربما وسموها باسم الشيعة ، ولها معنى عامّ يشمل الإماميّة وغيرهم من المنتحلين بولاء أهل البيت في ظاهر الأمر ، وطابعهم المغالاة التي تأباها طبيعة مذهب الشيعة الأصيل وقد بنيت أركانه على التحقيق والتدقيق وعلى أساس البرهان الحكيم ورفض الدخائل والمبتدعات في الدّين من أوّل يومهم.

__________________

(١) يوسف ١٢ : ١٠٦.

(٢) المستدرك للحاكم ٢ : ٢٩١.

(٣) تفسير التستري : ٨٣.

٤٨

فها نحن اليوم في مواجهة لمّة من روايات مدسوسة وأحاديث موضوعة هي بحطّ شأن الأئمّة أشبه منها برفع موضعهم الكريم. وسيأتي بعض الكلام في ذلك وأنّ جماعة جاهلة كانوا قد أولعوا بالوضع والدسّ في أحاديث أهل البيت ، وربّما كانوا (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.) والشيعة منهم براء «فتلك بيوتهم خاوية على عروشها» فاعتبر ولا تسترسل.

وبعد فإليك بعض ما صحّ من تأويلات جارية على منوالها المتين :

قال تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ)(١).

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي : وقيل : المراد بالميزان : العدل ، لأنّ المعادلة موازنة الأسباب ، والطغيان : الإفراط في مجاوزة الحدّ في العدل (٢).

وهذا أخذ بمفهوم الميزان العامّ ، لأنّ الموازنة هي المعادلة بين الأشياء وكذا بين الأمور ، فيشمل المحسوس والمعقول.

قال العلّامة الطباطبائي : المراد بالميزان كلّ ما يوزن أي يقدّر به الشيء أعمّ من أن يكون عقيدة أو قولا أو فعلا. قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(٣) ، فظاهره مطلق ما يميّز به الحقّ من الباطل والصدق من الكذب والعدل من الظلم والفضيلة من الرذيلة ، على ما هو شأن الرسول فيما يأتي به من عند ربّه (٤).

[م / ٣٨] وفي الأثر : «وبالعدل قامت السماوات والأرض» (٥).

[م / ٣٩] سئل الإمام الصادق عليه‌السلام : «ما الميزان؟ قال : العدل» (٦).

[م / ٤٠] وفي حديث آخر في قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) ، قال :

«أطيعوا الإمام بالعدل ولا تبخسوه من حقّه» (٧).

[م / ٤١] وقال في قوله : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ :) «لا تطغوا في الإمام بالعصيان والخلاف» (٨).

__________________

(١) الرّحمان ٥٥ : ٧ ـ ٩.

(٢) التبيان ٩ : ٤٦٥.

(٣) الحديد ٥٧ : ٢٥.

(٤) الميزان ١٩ : ١٠٩.

(٥) عوالي اللئالي ـ ابن أبي جمهور الأحسائي ٤ : ١٠٣ / ١٥١.

(٦) البحار ١٠ : ١٨٧. عن الاحتجاج ٢ : ٩٨.

(٧) البحار ٢٤ : ٣٠٩ / ١٢.

(٨) تأويل الآيات لشرف الدين الأسترآبادي ٢ : ٦٣٣ / ٥.

٤٩

[م / ٤٢] وعن الإمام أبي الحسن الكاظم عليه‌السلام في قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ)» (١) ، قال : هو الإمام (٢).

[م / ٤٣] وسأل جابر بن عبد الله الأنصاري الإمام أبا جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام عن الآية ، فقال : «أولو العلم ، الأنبياء والأوصياء وهم قيام بالقسط. ثمّ قال : والقسط هو العدل في الظاهر ، والعدل في الباطن أمير المؤمنين عليه‌السلام» (٣).

ومن ثمّ كان تأويل الميزان بالإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لكونه معيارا لتمييز الحقّ عن الباطل.

[م / ٤٤] وقد صرّح بذلك الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «الميزان أمير المؤمنين عليه‌السلام» (٤).

[م / ٤٥] وفي الحديث : «لأنّا حجّة المعبود ، وترجمان وحيه ، وعيبة علمه ، وميزان قسطه» (٥).

[م / ٤٦] وفي زيارة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام تقول : «السّلام على ميزان الأعمال» (٦).

[م / ٤٧] وفي زيارة أخرى : «أشهد أنّك حجّة الله بعد نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعيبة علمه ، وميزان قسطه ، ومصباح نوره» (٧).

[م / ٤٨] وفي ثالثة : «يا ميزان يوم الحساب» (٨).

[م / ٤٩] وفي ذلك سئل الإمام أحمد بن حنبل عن الحديث الذي يروى : أنّ عليّا عليه‌السلام قال : «أنا قسيم النار»؟ فقال أحمد : وما تنكرون من ذا؟ أليس روّينا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ : «لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق»؟ قالوا : بلى. قال : فأين المؤمن؟ قالوا : في الجنّة. قال : وأين المنافق؟ قالوا : في النار. قال أحمد : فعليّ قسيم النار» (٩).

فالإمام أمير المؤمنين ـ عليه صلوات المصلّين ـ هو الفاروق الأكبر الذي يفرّق به بين أصحاب النعيم وأصحاب الجحيم.

قال الإمام شهاب الدين ابن حجر الهيثمي :

[م / ٥٠] أخرج الديلمي بإسناده إلى أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى :

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٨.

(٢) العيّاشي ١ : ١٨٩ / ١٩.

(٣) المصدر : ١٨٨ ـ ١٨٩ / ١٨.

(٤) تأويل الآيات ٢ : ٦٣٣ / ٥.

(٥) البحار ٢٦ : ٢٥٩ / ٣٦.

(٦) المصدر ٩٧ : ٢٨٧ / ١٨.

(٧) المصدر : ٣٤٢ / ٣٢.

(٨) المصدر : ٣٧٤ / ٩.

(٩) طبقات الحنابلة ١ : ٣٢٠. (الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ـ أسد حيدر ٤ : ٥٠٣).

٥٠

(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ)(١) قال : «مسؤولون عن ولاية عليّ». قال الهيثمي : وكأنّ هذا هو مراد الواحدي بقوله :

[م / ٥١] روي في قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) أي عن ولاية عليّ وأهل البيت ، لأنّ الله أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعرّف الخلق أنّه لا يسألهم على تبليغ الرسالة أجرا إلّا المودّة في القربى ، والمعنى : أنّهم يسألون : هل والوهم حقّ الموالاة كما أوصاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم أضاعوها وأهملوها ، فتكون عليهم المطالبة والتبعة (٢).

***

وقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ)(٣).

كانت الآية في ظاهر تعبيرها ذات دلالة واضحة ؛ إنّ نعمة الوجود ووسائل العيش والتداوم في الحياة ، كلّها مرهونة تحت إرادته تعالى وفق تدبيره الشامل ورحمته العامّة. والله تعالى هو مهّد هذه البسيطة بجميع إمكاناتها لإمكان الحياة عليها : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً)(٤). (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)(٥).

هذا هو ظاهر الآية حسب دلالة الوضع وقرائن السياق.

ولكن للإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام هنا بيان يمسّ جانب باطن الآية ودلالة فحواها العامّ :

[م / ٥٢] قال عليه‌السلام : «إذا فقدتم إمامكم فلم تروه فماذا تصنعون» (٦).

[م / ٥٣] وعن الإمام أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : «ماؤكم : أبوابكم الأئمّة ، والأئمّة أبواب الله. (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي يأتيكم بعلم الإمام» (٧).

وقد كانت استعارة الماء المعين للعلم النافع ، ولا سيّما المستند إلى الوحي ، من نبيّ أو وصيّ نبيّ ، أمرا معروفا. فكما أنّ الماء أصل الحياة المادّيّة والموجب لإمكان المعيشة بسلام ، كذلك العلم النافع وعلم الشريعة بالذات هو الأساس لإمكان الحياة المعنويّة في سعادة وهناء.

__________________

(١) الصافات ٣٧ : ٢٤.

(٢) الصواعق المحرقة ـ ابن حجر : ٨٩. وراجع أيضا : شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ٢ : ١٦٠ ـ ١٦١ ، باب ١٣٥.

(٣) الملك ٦٧ : ٣٠.

(٤) النبأ ٧٨ : ٦.

(٥) الملك ٦٧ : ١٥.

(٦) كمال الدين للصدوق ٢ : ٣٦٠ / ٣.

(٧) تأويل الآيات ٢ : ٧٠٨ / ١٤. والآية من سورة الملك ٦٧ : ٣٠.

٥١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ)(١).

فهنا قد لوحظ الماء ـ باعتباره منشأ الحياة ـ في مفهومه العامّ الشامل للعلم ، ليعمّ الحياة المادّيّة والمعنويّة معا.

***

وقوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ)(٢). أي فليمعن النظر في طعامه كيف مهّدته الطبيعة وعملت العوامل في تهيئته ، ليعرف مقدار فضله تعالى على العباد.

[م / ٥٤] هذا وقد روى ثقة الإسلام الكليني بإسناده إلى زيد الشحّام ، قال : سألت الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قلت : ما طعامه؟ قال : «علمه الذي يأخذه ، عمّن يأخذه» (٣).

والمناسبة ظاهرة ، لأنّ العلم غذاء الروح ، ولا بدّ من الحيطة والحذر في الأخذ من منابعه الأصيلة ولا سيّما علم الشريعة وأحكام الدين الحنيف.

إلى غير ذلك من تأويلات متناسبة مع ظواهر الآيات ، استنبطها ذوو العلم من الأئمّة الهداة ، ولدينا منها الشيء الوفير والحمد لله.

تأويلات هي تخرّصات

وعلى العكس نجد هناك بعض تأويلات هي أشبه بتخرّصات هزيلة لا يمكن زنتها على مقياس الاعتبار. من ذلك تأويلات ارتكبها محيى الدّين ابن عربي ملأكتبه (الفتوحات والفصوص والتفسير) لا تعتمد على أساس سوى تخرّصات مهينة.

يقول ـ في فتوحاته ذيل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٤) ـ : إيجاز البيان فيه : يا محمّد ، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ستروا محبّتهم فيّ عنهم (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) بوعيدك الذي أرسلتك به (أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بكلامك ، فإنّهم لا يعقلون غيري وأنت تنذرهم بخلقي وهم ما

__________________

(١) الأنفال ٨ : ٢٤.

(٢) عبس ٨٠ : ٢٤.

(٣) راجع : تفسير البرهان للبحراني ٨ : ٢١٤ / ١. والكافي ١ : ٤٩ ـ ٥٠ / ٨.

(٤) البقرة ٢ : ٦ ـ ٧.

٥٢

عقلوه ولا شاهدوه ، وكيف يؤمنون بك وقد ختمت على قلوبهم فلم أجعل فيها متّسعا لغيري ، وعلى سمعهم فلا يسمعون كلاما في العالم إلّا منّي ، وعلى أبصارهم غشاوة من بهائي عند مشاهدتي فلا يبصرون سواي. ولهم عذاب عظيم عندي أردّهم بعد هذا المشهد السنيّ إلى إنذارك وأحجبهم عنّي كما فعلت بك بعد قاب قوسين أو أدنى قربا ، أنزلتك إلى من يكذّبك ويردّ ما جئت به إليه منّي في وجهك ، وتسمع فيّ ما يضيق له صدرك ، فأين ذلك الشرح الذي شاهدته في إسرائك ، فهكذا أمنائي على خلقي الذين أخفيتهم رضاي عنهم فلا أسخط عليهم أبدا.

ثمّ أخذ في تفصيل هذا البيان ، وقال : انظر كيف أخفى سبحانه أولياءه في صفة أعدائه ، وذلك لما أبدع الأمناء من اسمه اللطيف وتجلّى لهم في اسمه الجميل ، فأخبوه. والغيرة من صفات المحبّة في المحبوب والمحبّ ، فستروا محبّته غيرة منهم عليه كالشبلي وأمثاله وسترهم بهذه الغيرة عن أن يعرفوا فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ستروا ما بدا لهم في مشاهدتهم من أسرار الوصلة ، فقال : لا بدّ أن أحجبكم عن ذاتي بصفاتي فتأهّبوا لذلك ، فما استعدّوا.

فأنذرتهم على ألسنة أنبيائي الرّسل في ذلك العالم فما عرفوا ، لأنهم في عين الجمع ، وخاطبهم من عين التفرقة ، وهم ما عرفوا عالم التفصيل فلم يستعدّوا ، وكان الحبّ قد استولى على قلوبهم سلطانه غيرة من الحقّ عليهم في ذلك الوقت ، فأخبر نبيّه بالسبب الذي أصمّهم على إجابة ما دعاهم إليه فقال : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ، فلم يسعها غيره. (وَعَلى سَمْعِهِمْ) ، فلا يسمعون سوى كلامه (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) من سناه إذ هو النور ، وبهائه إذ له الجلال والهيبة ، فأبقاهم غرقى في بحور اللذّات بمشاهدة الذات ، فقال لهم : لا بدّ لكم من عذاب عظيم. فما فهموا ما العذاب ، لاتّحاد الصفة عندهم ، فأوجد لهم عالم الكون والفساد ، وحينئذ علّمهم جميع الأسماء ، وأنزلهم على العرش الرحمانيّ وفيه عذابهم ، وقد كانوا مخبوئين عنده في خزائن غيوبه ، فلمّا أبصرتهم الملائكة خرّت سجودا لهم فعلّموهم الأسماء. فأمّا أبو زيد فلم يستطع الاستواء ولا أطاق العذاب فصعق من حينه ، فقال تعالى : ردّوا عليّ حبيبي ، فإنّه لا صبر له عنّي ، فحجب بالشوق والمخاطبة وبقي الكفّار فنزلوا من العرش إلى الكرسيّ فبدت لهم القدمان فنزلوا عليهما في الثلث الباقي من ليلة هذه النشأة الجسميّة إلى سماء الدنيا النفسيّ فخاطبوا أهل الثقل الذين لا يقدرون على العروج : هل من داع فيستجاب له ، هل من تائب فيتاب عليه ، هل من مستغفر فيغفر له ، حتّى ينصدع الفجر ، فإذا انصدع

٥٣

ظهر الروح العقلي النوري ، فرجعوا من حيث جاؤوا.

[م / ٥٥] قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كان مواصلا فليواصل حتّى السحر فذلك أوان (بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) فكلّ عبد لم يحذر مكر الله فهو مخدوع». (١)

وهكذا يذهب في هواجسه ويخبط في تشويه آيات الذكر الحكيم من غير مبالاة. انظر كيف جعل القدح مدحا والذمّ ثناء وقلب ظهر المجنّ ، وهو يحسب أنّه يحسن صنعا.

وهكذا يرى من فرعون أنّه آمن عند الغرق فمضى طاهرا مطهّرا ليس فيه شيء من الخبث.

قال في الفصّ الموسوى : إنّ امرأة فرعون وكانت منطقة بالنطق الإلهي قالت لفرعون في حقّ موسى : إنّه (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ)(٢) فقرّة عينها بالكمال ـ حيث تكلّم الحقّ بلسانها ـ وكان قرّة عين فرعون بالإيمان الذي أعطاه الله له عند الغرق ، فقبضه طاهرا مطهّرا ليس فيه شيء من الخبث. لأنّه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام ، والإسلام يجبّ ما قبله. وجعله آية على عنايته سبحانه بمن شاء حتّى لا ييأس أحد من رحمة الله. فلو كان فرعون ممّن ييأس ما بادر إلى الإيمان. فكان موسى عليه‌السلام كما قالت امرأة فرعون فيه : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) وكذلك وقع ، فإنّ الله نفعهما به (٣).

انظر كيف يجرأ على الله في تقوّله ويضادّ القرآن في صريح كلامه تعالى.

قال تعالى ـ مؤنّبا فرعون في إيمانه حينذاك ـ : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)(٤).

وقد قال تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(٥).

وهكذا وقع بشأن فرعون لم يقبل إيمانه ولم يزل يكابد العذاب الأليم عبر البرزخ حتّى يرد النار مع قومه في الآخرة.

(وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ

__________________

(١) انظر : الفتوحات المكيّة ١ : ١١٥ ـ ١١٧.

(٢) القصص ٢٨ : ٩.

(٣) الفصّ الموسوي من الفصوص : ٤٥٢ ـ ٤٥٣ بشرح القيصري. وله في الفتوحات ٢ : ٢٧٦ ، كلام أغرب وأفحش بشأن فرعون وأنّه كان مؤمنا في باطنه ، جبروتا في ظاهره. فلمّا يئس من كبريائه أظهر باطنه وأصبح من الفائزين.

(٤) يونس ١٠ : ٩١.

(٥) النساء ٤ : ١٨.

٥٤

فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)(١).

(وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)(٢).

فياترى لم تقرع هذه الآيات مسامع ابن عربيّ في تقوّله ذلك الفضيع الشنيع!؟ وله من أمثال هذه الشنائع طامّات شحن بها دفاتره من غير هوادة.

وبحقّ قال الإمام محمّد عبده بشأن تفسيره : وفيه من النزعات ما يتبرّأ منه دين الله وكتابه العزيز. (٣)

ومن المؤسف أنّ جماعات ركضوا وراءه من غير وعي ركض الظمآن وراء السراب!

التفسير بالرأي

أمّا التفسير بالرأي ـ الذي جاء النهي عنه صريحا وتعضده شريعة العقل ـ فهو القول في القرآن بغير علم ، إمّا بتحميل الرأي على القرآن ـ كما دأب عليه أرباب النحل والأهواء المبتدعة ـ أو الاستبداد بالرأي في تفسيره ، من غير مراجعة ذوي الكفاءة من أهل العلم ، ومع غضّ النظر عن الأصول المعتمدة المقرّرة لفهم الكلام ، ولا سيّما الشرائط التي يجب توفّرها في مراجع نصوص الشريعة ، وبالأخصّ فهم كلام الله العزيز الحميد.

[م / ٥٦] روى أبو جعفر الصدوق بإسناده إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قال الله ـ جلّ جلاله ـ : ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي» (٤).

[م / ٥٧] وقال ـ أيضا ـ : «من قال في القرآن بغير علم ، أو برأيه ، فليتبوّأ مقعده من النار» (٥).

[م / ٥٨] وقال الصادق عليه‌السلام : «من فسّر القرآن برأيه فأصاب لم يوجر ، وإن أخطأ كان إثمه عليه» (٦).

__________________

(١) غافر ٤٠ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) هود ١١ : ٩٧ ـ ٩٩.

(٣) المنار ١ : ١٨.

(٤) العيون ١ : ١٠٧ / ٤ ، باب ١١.

(٥) التوحيد : ٩١ / ٥.

(٦) العيّاشي ١ : ٢٩ / ٢.

٥٥

[م / ٥٩] وفي حديث آخر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» (١).

إلى غيرها من أحاديث وهي كثيرة ، أوردناها في باب التفسير بالرأي وفصّلنا الكلام فيها من كتابنا «التفسير والمفسّرون» (٢).

قال أبو عبد الله القرطبي : إنّما يحمل النهي على أحد وجهين :

أحدهما : أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه ، فيتأوّل القرآن على وفق رأيه وهواه ، ليحتجّ على تصحيح غرضه ، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى ، لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى.

وهذا النوع يكون تارة مع العلم ، كالذي يحتجّ ببعض الآيات على تصحيح بدعته ، وهو يعلم أن ليس المراد بالآية ذلك ، ولكن مقصوده أن يلبّس على خصمه.

وتارة يكون مع الجهل ، وذلك إذا كانت الآية محتملة ، فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ، ويرجّح ذلك الجانب برأيه وهواه ، فيكون قد فسّر برأيه ، أي رأيه حمله على ذلك التفسير ، ولو لا رأيه لما كان يترجّح عنده ذلك الوجه.

الوجه الثاني : أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربيّة ، من غير استظهار بالسماع والنقل ، فيما يتعلّق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة ، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير. فمن لم يحكم ظاهر التفسير ، وبادر إلى استنباط المعاني بمجرّد فهم العربيّة ، كثر غلطه ودخل في زمرة من فسّر القرآن بالرأي (٣).

[م / ٦٠] قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من استبدّ برأيه هلك» (٤).

لسان القرآن

لا شكّ أنّ لسان القرآن ، الذي خاطب به نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هو لسان قومه العرب الذين عاصرهم وعاش في أوساطهم. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)(٥). (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ

__________________

(١) أبو داوود ٢ : ١٧٧ / ٣٦٥٢.

(٢) راجع : التمهيد ٩ : ٥٦ ـ ٧٤.

(٣) القرطبي ١ : ٣٢ ـ ٣٤ ، في المقدّمة. نقلا باختصار عن الإمام أبي حامد الغزالي في إحياء العلوم ١ : ٢٩٨ (ط : البابي ، مصر ، ١٩٣٩ م). وراجع : التمهيد ٩ : ٦٠ ـ ٦١.

(٤) نهج البلاغة ٤ : ٤١ ، الحكمة ١٦١.

(٥) إبراهيم ١٤ : ٤.

٥٦

بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(١). (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(٢) ، (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(٣).

[م / ٦١] روى أبو الفتح الكراجكي (ت ٤٤٩) حديثا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الله أنزل القرآن عليّ بكلام العرب والمتعارف في لغتها» (٤).

غير أنّ السؤال هو : أنّ لسان القرآن العربي ، هل هو لسان المتفاهم العامّ (العرف العامّ) ليكون عامّة الناس هم المخاطبين بخطابات القرآن ، وأنّهم هم المقصودون بلحن الخطاب ، ولو في ظاهر التنزيل وفي المرحلة الأولى في إفادة الكلام أم هم أولئك المتعمّقون من أصحاب النظر والاستدلال ، دون من سواهم من سائر الناس؟!

لكنّا إذا عرفنا أنّ لإفادة الكلام مراحل ، من ظاهر سطحيّ وباطن عمقيّ ، ولكلّ من ذلك مراتب حسب مستوى فهم السامعين ، سواء الحاضر منهم المعاصر أم الغائب النائي أو الآتي على امتداد الزمان. إذا عرفنا ذلك ، انحلّت لدينا مشكلة اختلاف مستويات المخاطبين في الخطاب العامّ وكان لكلّ (من مختلف طبقات الناس) حظّه من إفادات الكلام المتلاحقة.

الأمر الذي أكّد عليه رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أوّل يومه ، مصرّحا بأنّ للقرآن ظهرا وبطنا أي دلالات جليّة بحسب ظاهر التنزيل ، وأخرى دلالات خفيّة باطنة ، وإنّما تستجلى بعد التدبّر والإمعان في التأويل. ومن ثمّ جاء الأمر بالتدبّر وتعميق النظر فيه ، وكذا التعقّل والتفكّر في مطاويه ، فكلّما كان التدبّر أعمق ، كان المعنى المتحصّل منه أفخم وأوسع وأشمل ، حتّى يبلغ الآفاق.

[م / ٦٢] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «له ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ... لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه» (٥).

[م / ٦٣] وورد : أنّ القرآن على أربعة وجوه : على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق ، فالعبارة (الظاهرة بحسب التعبير اللفظي) للعوامّ ، أي لسائر الناس ممّن كانوا على المستوى العامّ. أمّا الإشارات والنكات الدقيقة ، والتي هي بحاجة إلى تدبّر وتعمّق وتفكير ، فهي للخواصّ ، أي

__________________

(١) الدخان ٤٤ : ٥٨.

(٢) القمر ٥٤ : ١٧.

(٣) الزمر ٣٩ : ٢٨.

(٤) كنز الفوائد : ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ؛ البحار ٩ : ٢٨٢ / ٦.

(٥) الكافي ٢ : ٥٩٩ / ٢.

٥٧

المتعمّقين من أهل الدقّة والنظر (١).

إذن أصبح القرآن في إفاداته موجّها خطابه نحو العموم ، ومراعيا جانب اختلاف المستويات ، بشكل بلاغيّ بديع ، وقد استوفينا الكلام فيه عند البحث عن منهج القرآن في الإفادة والبيان (٢) ، ولدى الكلام عن إعجازه البياني البليغ. (٣).

صياغة القرآن

صياغة القرآن هي صناعة الوحي ، لا يد لغيره في صياغته ، لا في نضد ألفاظه ولا في نظم معانيه ، فكان لفظا ومعنى هو صنيع الوحي المباشر ، لا غير.

ذلك أنّه كلام الله ـ بصريح القرآن (٤) ـ ولا ينسب كلام إلى أحد حتّى يكون هو ناظمه ومؤلّفه في صياغة كلام. (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى)(٥).

على أنّه مما قرأه الله على النبيّ (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)(٦). والقراءة وكذا التلاوة إنّما تنصبّ على الكلام المنتظم ، لا مجرّد إلقاء المعاني.

كما أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرأ القرآن ويتلوه على أصحابه ، ولا قراءة ولا تلاوة إلّا فيما يحكيه من لفظ وعبارة ، لا مجرّد بيان المعاني ، ليكون اللفظ له ، وإلّا كان كلاما له يتكلّم به ، حكاية للمعاني فحسب.

وفي كثير من تعابير القرآن دلالة واضحة على أنّه من صنيع الوحي ليس غير ، فهناك لفظة «قل» وردت صدر آيات ، ولا يحسن إذا كان من إنشاء النبيّ ومن صياغته. إذ كان يجب عليه حينذاك أن يقول : أمرني ربّي أن أقول.

وهناك الكثير من العتاب والخطاب ، موجّه إلى النبيّ بصيغة خطاب (٧) ، فلو كان من إنشائه ،

__________________

(١) جامع الأخبار : ١١٦ / ٢١١ ـ ١٥.

(٢) راجع : التمهيد ٩ : ٨٥ ـ ٩٨.

(٣) راجع : التمهيد ٥ : ٤٠٧ ـ ٤٢٣.

(٤) (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) (التوبة ٩ : ٦). وفي الحديث : «ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي». (أمالي الصدوق : ٥٥ / ٣ ـ ١٠ ، المجلس الثاني).

(٥) الأعلى ٨٧ : ٦.

(٦) القيامة ٧٥ : ١٧ ـ ١٨.

(٧) منها قوله تعالى : طه ، (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (طه ٢٠ : ١ ـ ٢) وقوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (الشورى ٤٢ : ١٧).

٥٨

لوجب أن يكون بصيغة المتكلم.

وغير ذلك من قرائن ودلائل ظاهرة بل صريحة على أنّ القرآن بجملته ـ لفظا ومعنى ـ من صنيع السماء وليس من دونها.

أضف إلى ذلك : أنّه معجزة الإسلام الخالدة ، وأنّه يعجز البشر ـ أيّا كان ، النبيّ أو غيره ـ أن يأتوا بمثله ، والتحدّي لا يخصّ المعنى ، وإنّ للّفظ ونظمه ونضده ، قسطا وافرا في هذا التحدّي ، فلو كان للنبيّ أن يأتي بمثل نظم القرآن وأسلوبه البديع ، لكان من المستطاع نقض التحدّي على يد بشر.

على أنّا لا نجد في كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا غيره من أمراء البيان كالإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ما يضاهي القرآن أو يماثله في صياغة البيان.

وذكر الإمام بدر الدين الزركشي : أنّه نقل بعضهم عن السمرقندي (١) حكاية ثلاثة أقوال في المنزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أحدها ـ وهو الرأي السائد ـ : أنّ النازل هو اللفظ والمعنى معا ، حسب صريح تعبير القرآن.

ثانيها : أنّ جبرائيل إنّما نزل بالمعاني خاصّة ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو صاغها في صياغة اللسان العربي المبين ، نظرا لقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ)(٢). وقوله : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ)(٣). بزعم أنّ الذي يعيه القلب هو المعنى دون اللفظ الذي يخصّ مدرك السمع.

ثالثها : أنّ جبرائيل هو الذي كان يفرغها في قوالب الألفاظ بلسان عربيّ مبين ، ثمّ كان يلقيها على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ومن ثمّ كان أهل السّماء استمعوا إلى قرآن جبرائيل ، وجعلوا يقرأونه بالعربيّة.

ولا مستند لهذا القول سوى ما روي من نزول القرآن جملة إلى السماء الدنيا أو الرابعة ، ثمّ نزل تدريجا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طول عشرين سنة. (٤)

قال الجويني (٥) : الوحي على قسمين : أحدهما أن يأمر الله جبرائيل بأن يقول للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم افعل كذا ، أو أنّ الله أمر بكذا. فكان جبرائيل يتلقّى المعنى ويلقيه على قلب النبيّ.

__________________

(١) هو : أبو بكر محمّد بن اليمان السمرقندي (ت ٢٦٨) كان فقيها حنفيّا ومتكلّما.

(٢) الشعراء ٢٦ : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٣) البقرة ٢ : ٩٧.

(٤) راجع : البرهان ١ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠. ونقله السيوطي في الإتقان ١ : ١٢٦.

(٥) هو إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف ، إمام وقته ومن تغني شهرته عن ذكره ، ومن بارك الله في تلامذته حتّى صاروا أئمّة الدنيا ، مثل الخوافي والغزالي والكياهراسي وغيرهم. توفّي سنة ٤٧٨ بنيسابور.

٥٩

الثاني : أن يقول له : اقرأ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكذا ، فهذا يلقيه بلفظه الذي كان يتلقّاه ، من غير تبديل. كما كان الملوك يكتبون الرسائل ويرسلونها على أيدي الرسل فيوصلونها من غير تصرّف أو تغيير.

قال جلال الدين السيوطي ـ بعد نقل كلام الجويني ـ : والقرآن من قبيل الثاني ، كان يتلقّاه جبرائيل بلفظه ويلقيه على النبيّ كما تلقّاه من غير تصرّف فيه ، لا في لفظه ولا في معناه. ولم يجز له إلقاء المعنى فقط. والسرّ في ذلك : أنّ المقصود من القرآن ، التعبّد بلفظه ، وراء التعبّد بالعمل بمعناه. ولأنّه دليل الإعجاز ، فلا يستطيع أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه ، لا جبرائيل ولا غيره. وأنّ تحت كلّ حرف منه مقاصد لا تحصى ، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليها (١).

قال الزرقاني : وقد أسفّ بعض الناس فزعم أنّ جبرائيل كان ينزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعاني القرآن ، والرسول يعبّر عنها بلغة العرب. وزعم آخرون أنّ اللفظ لجبرائيل وأنّ الله كان يوحي إليه المعنى فقط. وكلاهما قول باطل أثيم ، مصادم لصريح الكتاب والسنّة والإجماع ، ولا يساوي قيمة المداد الذي يكتب به. وعقيدتي أنّه مدسوس على المسلمين في كتبهم ، وإلّا فكيف يكون القرآن حينئذ معجزا واللفظ لمحمّد ولجبرائيل؟! ثمّ كيف تصحّ نسبته إلى الله واللفظ ليس لله؟! (٢)

أمّا الآيات التي استند إليها زاعم هذا الرأي ، فلعلّها على عكس مطلوبه أدلّ! ذلك أنّ المراد بالقلب في الآية هو شخصيّة الرسول الباطنة ، الآهلة لتلقّي الوحي من عند الله ، وليس هذا العضو الصنوبري الكامن في الصدور ، حيث إنّ أجهزة الإدراك عندنا لم تعدّ لاستلام هكذا تلقّيات ممّا وراء المادّة ، وإنّما تعمل في إطار محدود.

ونظير هذه المحدوديّة في المادّة ، الأمواج اللّاسلكيّة تتلقّاها أجهزة خاصّة بذلك ، تلقّيا بنفس الألفاظ وحتّى الصور والأشكال والألوان من مكان بعيد ، ممّا لا يمكن تلقّيها بهذا الحسّ الظاهري العاديّ.

وهكذا النفوس المستعدّة تستأهل لإدراك أمور تعجز الأحاسيس العاديّة عن إدراكها ما دامت على كثافتها الأولى ولم تبلغ لطافتها المتناسبة مع الملأ الأعلى.

__________________

(١) الإتقان ١ : ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٢) مناهل العرفان ١ : ٤٩.

٦٠