التفسير الأثري الجامع - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-94552-4-8
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٤١٦

عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) باعتبار البسملة هي الآية الأولى من السورة.

[١ / ٢٦٨] وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أمّ سلمة قالت : «قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) وقال : هي سبع يا أم سلمة» (١).

[١ / ٢٦٩] وروى الكليني عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين عن محمّد بن إسماعيل عن صالح بن عقبة عن أبي هارون المكفوف قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «الحمد سبع آيات» (٢).

[١ / ٢٧٠] وروى عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس عن معاوية بن عمّار قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا قمت للصلاة أقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في فاتحة الكتاب؟ قال : نعم ، قلت : فإذا قرأت فاتحة الكتاب أقرأ بسم الله الرحمان الرحيم مع السورة؟ قال : نعم» (٣).

[١ / ٢٧١] وعن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن مهزيار عن يحيى بن أبي عمران الهمداني قال : كتبت إلى أبي جعفر عليه‌السلام (٤) جعلت فداك ما تقول في رجل ابتدأ ببسم الله الرحمان الرحيم في صلاته وحده في أمّ الكتاب فلمّا صار إلى غير أمّ الكتاب من السورة تركها ، فقال العبّاسي (٥) : ليس بذلك بأس؟ فكتب بخطّه يعيدها مرّتين ، على رغم أنفه يعني العبّاسي (٦).

[١ / ٢٧٢] وروى الشيخ عن محمّد بن عليّ بن محبوب عن العبّاس عن محمّد بن أبي عمير عن أبي أيوب عن محمّد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن السبع المثاني والقرآن العظيم هي الفاتحة؟ قال : نعم ، قلت : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) من السبع المثاني؟ قال : نعم هي أفضلهنّ» (٧).

[١ / ٢٧٣] وروى العيّاشي بإسناده إلى أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سرقوا أكرم آية في كتاب الله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (٨).

[١ / ٢٧٤] وروى الصدوق بإسناده عن الرضا عن آبائه عن عليّ عليهم‌السلام أنّه قال : «إنّ (بِسْمِ اللهِ

__________________

(١) الدرّ ١ : ١٢.

(٢) الكافي ٣ : ٣١٤ / ١٤.

(٣) المصدر : ٣١٢ ـ ٣١٣ / ١.

(٤) يعني الجواد عليه‌السلام.

(٥) يعني الهشام بن إبراهيم العبّاسي وكان يعارض الرضا والجواد عليهما‌السلام قاله المجلسي رحمه‌الله (مرآة العقول ١٥ : ١٠٦ ـ ١٠٧).

(٦) الكافي ٣ : ٣١٣ / ٢.

(٧) التهذيب ٢ : ٢٨٩ / ١١٥٧.

(٨) العيّاشي ١ : ٣٣ / ٤.

٣٢١

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) آية من فاتحة الكتاب ، وهي سبع آيات تمامها (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (١).

[١ / ٢٧٥] وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عمر أنّه كان يقرأ في الصلاة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فإذا ختم السورة قرأها ، يقول : ما كتبت في المصحف إلّا لتقرأ (٢).

[١ / ٢٧٦] وأخرج الطبراني في الأوسط والدارقطني والبيهقي عن نافع ، أن عبد الله بن عمر كان إذا افتتح الصلاة يقرأ ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في امّ القرآن وفي السورة التي تليها ، ويذكر أنّه سمع ذلك من رسول الله (٣).

[١ / ٢٧٧] وأخرج أبو داوود والترمذي والدارقطني والبيهقي عن ابن عبّاس قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفتتح صلاته ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(٤).

[١ / ٢٧٨] وروى الصدوق بإسناده إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث طويل جاء فيه : «قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام يا أمير المؤمنين أخبرنا عن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أهي من فاتحة الكتاب؟ فقال : نعم كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأها ويعدّها آية منها : ويقول : فاتحة الكتاب هي السبع المثاني» (٥).

[١ / ٢٧٩] وأخرج الشافعي في الأمّ والدارقطني والحاكم وصحّحه والبيهقي عن معاوية أنّه قدم المدينة فصلّى بهم ولم يقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ولم يكبّر إذا خفض وإذا رفع ، فناداه المهاجرون والأنصار حين سلّم : يا معاوية أسرقت [من] صلاتك ، أين (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)؟ وأين التكبير؟ فلمّا صلّى بعد ذلك قرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لأمّ القرآن ، وللسورة التي بعدها ، وكبّر حين يهوي ساجدا (٦).

__________________

(١) العيون ١ : ٢٧٠ / ٦٠ ، باب ٢٨ (فيما جاء عن الإمام عليّ بن موسى عليه‌السلام من الأخبار المتفرقة) ، رواه مطوّلا ؛ الأمالي : ٢٤٠ ـ ٢٤١ / ٢٥٥ ، المجلس ٣٣ ، في حديث طويل.

(٢) الدرّ ١ : ٢٠ ؛ الشعب ٢ : ٤٣٩ ـ ٤٤٠ / ٢٣٣٦ ، باب ١٩ (في تعظيم القرآن ، فصل في ابتداء السورة بالتسمية).

(٣) الدرّ ١ : ٢٢ ؛ الأوسط ١ : ٢٥٧ ؛ الدارقطني ١ : ٣٠٤ ؛ البيهقي ٢ : ٤٨ ؛ جماع أبواب صفة الصلاة ، باب افتتاح القراءة في الصلاة ؛ مجمع الزوائد ٢ : ١٠٩ كتاب الصلاة ، باب في بسم الله الرحمان الرحيم.

(٤) الدرّ ١ : ٢١ ؛ الترمذي ١ : ١٥٥ / ٢٤٥ ؛ الدارقطني ١ : ٣٠٣ ؛ البيهقي ٢ : ٤٧.

(٥) العيون ١ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠ / ٥٩ ، باب ٢٨ (فيما جاء عن الإمام عليّ بن موسى عليه‌السلام من الأخبار المتفرقة) ؛ الأمالي : ٢٤٠ / ٢٥٤ ، المجلس ٣٣ ؛ البحار ٨٩ : ٢٢٧ / ٣.

(٦) الدرّ ١ : ٢١ ؛ الأمّ ١ : ١٣٠ ، باب القراءة بعد التعوّذ ؛ الدارقطني ١ : ٣٠٨ وقال في الإسناد كلّهم ثقات ؛ الحاكم ١ : ٢٣٣ ؛ البيهقي ٢ : ٤٩ ـ ٥٠ وقد فصّل في ذكر الحديث بطرق مختلفة وذكر عن الشافعي (الأمّ ١ : ١٣٠): «أنّ إسناد الحديث على ما ذكر في المتن أحفظ» ؛ أبو الفتوح ١ : ٤٨ ؛ ابن كثير ١ : ١٧.

٣٢٢

البسملة ، فاتحة كلّ سورة سوى براءة

[١ / ٢٨٠] أخرج الواحدي عن عبد الله بن عمر قال : نزلت (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في كلّ سورة (١).

[١ / ٢٨١] وأخرج الدارقطني عن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «كان جبريل إذا جاءني بالوحي أوّل ما يلقي عليّ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (٢).

[١ / ٢٨٢] وأخرج البيهقي في شعب الإيمان والواحدي عن عبد الله بن مسعود قال : كنّا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتّى تنزل (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(٣).

[١ / ٢٨٣] وأخرج أبو داوود والبزّار والطبراني والحاكم وصحّحه والبيهقي في المعرفة عن ابن عبّاس قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعرف فصل السورة ـ وفي لفظ : خاتمة السورة ـ حتّى ينزل عليه (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). زاد البزّار ، والطبراني : فإذا نزلت عرف أنّ السورة قد ختمت ، واستقبلت ، أو ابتدئت سورة أخرى (٤).

[١ / ٢٨٤] وأخرج الحاكم وصحّحه والبيهقي في سننه عن ابن عبّاس قال : كان المسلمون لا يعرفون انقضاء السورة حتّى تنزل (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فإذا نزلت عرفوا أنّ السورة قد انقضت (٥).

[١ / ٢٨٥] وأخرج الطبراني والحاكم وصحّحه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا جاءه جبريل فقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) علم أنّها سورة (٦).

[١ / ٢٨٦] وأخرج أبو عبيد عن سعيد بن جبير أنّه في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا لا يعرفون انقضاء السورة حتّى تنزل (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فإذا نزلت علموا أن قد انقضت السورة ونزلت أخرى (٧).

[١ / ٢٨٧] وروى العيّاشي بإسناده إلى صفوان الجمّال قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ما أنزل الله من

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٠ ؛ أسباب النزول : ١٠ ـ ١١.

(٢) الدرّ ١ : ٢٠ ؛ الدارقطني ١ : ٣٠٤.

(٣) الدرّ ١ : ٢٠ ؛ الشعب ٢ : ٤٣٩ / ٢٣٣٣ ، باب ١٩ (في تعظيم القرآن) ؛ أسباب النزول : ١٠ ؛ رواه البغوي (١ : ٧٣ ضمن الحديث رقم ٢٧) عن ابن عبّاس.

(٤) الدرّ ١ : ٢٠ ؛ أبو داوود ١ : ١٨٣ / ٧٨٨ ، كتاب الصلاة (باب ١٢٥ من جهر بها) ؛ الكبير ١٢ : ٦٤ ؛ الحاكم ١ : ٢٣١ ؛ البيهقي ٢ : ٤٢ ؛ البغوي ١ : ٧٣ / ٢٧ ؛ ابن كثير ١ : ١٧.

(٥) الدرّ ١ : ٢٠ ؛ الحاكم ١ : ٢٣١ ـ ٢٣٢ ؛ البيهقي ٢ : ٤٣.

(٦) الدرّ ١ : ٢٠ ؛ الكبير ١٢ : ٦٤ ؛ الحاكم ٢ : ٦١١ ؛ الشعب ٢ : ٤٣٩ / ٢٣٣٢ ، باب ١٩ (في تعظيم القرآن).

(٧) الدرّ ١ : ٢٠ ؛ فضائل القرآن : ١١٤ / ٥ ـ ٣٢.

٣٢٣

السماء كتابا إلّا وفاتحته (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، وإنّما كان يعرف انقضاء السورة بنزول (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء للاخرى» (١).

ولعل المراد : ما أنزل الله من السماء سورة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا وفاتحتها (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

ويشهد لذلك ما مرّ من حديث عبد الله بن عمر : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كان جبرئيل إذا جاءني بالوحي ، اوّل ما يلقى عليّ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(٢).

البسملة مفتاح كلّ كتاب

[١ / ٢٨٨] أخرج الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في الجامع عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مفتاح كلّ كتاب» (٣).

[١ / ٢٨٩] روى عليّ بن جعفر في الجعفريّات : أخبرنا عبد الله بن محمّد ، قال : أخبرنا محمّد بن محمّد ، قال : حدّثني موسى بن إسماعيل ، قال : حدّثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه عليّ بن الحسين ، عن أبيه ، عن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ كتاب لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع» (٤).

[١ / ٢٩٠] وروى ثقة الإسلام الكليني بإسناده إلى جميل بن درّاج قال : قال أبو عبد الله جعفر ابن محمّد الصادق عليه‌السلام : «لا تدع (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وإن كان بعده شعر» (٥).

[١ / ٢٩١] وروى أحمد بن محمّد السياري في كتاب التنزيل والتحريف : حدّثني بعض الرواة من أصحابنا ، قال : من حقّ القلم على من أخذه إذا كتب أن يبدأ ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(٦).

[١ / ٢٩٢] وأخرج الخطيب في الجامع عن سعيد بن جبير قال : لا يصلح كتاب إلّا أوّله (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وإن كان شعرا (٧).

قال القرطبي : وذهب إلى رسم التسمية في أوّل كتب الشعر سعيد بن جبير وتابعه على ذلك

__________________

(١) العيّاشي ١ : ٣٣ ـ ٣٤ / ٥.

(٢) الدارقطني ١ : ٣٠٤ ؛ الدرّ ١ : ٢٠.

(٣) الدرّ ١ : ٢٧ ؛ الجامع ١ : ٤٠٧ / ٥٤٧ ؛ كنز العمّال ١ : ٥٥٥ / ٢٤٩٠.

(٤) مستدرك الوسائل ٨ : ٤٣٤ / ٩٩١٧ ؛ الجعفريات : ٢١٤.

(٥) الكافي ٢ : ٦٧٢ / ١.

(٦) مستدرك الوسائل ٨ : ٤٣٤ / ٩٩١٨ ؛ التنزيل والتحريف : ٤.

(٧) الدرّ ١ : ٢٧ ؛ الجامع ١ : ٤٠٧ / ٥٤٦.

٣٢٤

أكثر المتأخّرين وقال أبو بكر الخطيب : وهو الذي نختاره ونستحبّه (١).

وقال القرطبي أيضا : واتفقت الأمّة على جواز كتبها في أوّل كلّ كتاب من كتب العلم والرسائل ، فإن كان الكتاب ديوان شعر فروى مجالد عن الشعبي قال : أجمعوا أن لا يكتبوا أمام الشعر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). وقال الزهري : مضت السنّة أن لا يكتبوا في الشعر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(٢) وهذا رأي اختصّ به الشعبي وتبعه الزهري.

[١ / ٢٩٣] وأخرج ابن أبي شيبة وأبو بكر بن أبي داوود والخطيب في الجامع عن الشعبي قال : كانوا يكرهون أن يكتبوا أمام الشعر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(٣).

[١ / ٢٩٤] وأخرج الخطيب عن الشعبي قال أجمعوا أن لا يكتبوا أمام الشعر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(٤).

[١ / ٢٩٥] وأخرج الخطيب عن الزهري قال : قضت السنة أن لا يكتب في الشعر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

وفي تفسير القرطبي : مضت السنة أن لا يكتبوا ... (٥).

تفسير البسملة

[١ / ٢٩٦] روى الصدوق بإسناده إلى عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضّال عن أبيه قال : سألت الرضا عليّ بن موسى عليه‌السلام عن «بسم الله ...»؟ قال : «معنى قول القائل : " بسم الله ..." أي أسم على نفسي بسمة من سمات الله عزوجل وهي : العبوديّة! قلت : ما السمة؟ قال : العلامة» (٦).

وهذا يدلّنا على أنّ «اسم» مأخوذ من «سمة» أصله «وسم» بمعنى العلامة. وهو مذهب الكوفيّين. لأنّ اسم كلّ شيء سمته التي يعرف بها ، أي علامته الدالّة عليه. قال أبو محمّد مكّي بن أبي طالب : هو عند الكوفيّين مشتقّ من السّمة ، إذ صاحبه يعرف به ، وأصله وسم ، ثمّ أعلّ بحذف الفاء وحرّكت العين على غير قياس (٧).

__________________

(١) القرطبي ١ : ٩٧.

(٢) المصدر.

(٣) الدرّ ١ : ٢٧ ؛ المصنّف ٦ : ١٨٣ ، كتاب (٢١) الأدب ، باب ١١٣ (من كره أن يكتب أمام الشعر بسم الله ...) ؛ الجامع ١ : ٤٠٦ / ٥٤٤.

(٤) الدرّ ١ : ٢٧ ؛ الجامع ١ : ٤٠٥ / ٥٤٣ ؛ القرطبي ١ : ٩٧.

(٥) الدرّ ١ : ٢٧ ؛ الجامع ١ : ٤٠٦ / ٥٤٥ ؛ القرطبي ١ : ٩٧.

(٦) العيون ١ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ / ١٩ ، باب ٢٦ ؛ معاني الأخبار : ٣ / ١ ؛ التوحيد : ٢٢٩ ـ ٢٣٠ / ١ ، باب ٣١.

(٧) مشكل إعراب القرآن ١ : ٦٦.

٣٢٥

وذهب البصريّون إلى أنّه مأخوذ من «السموّ» وهي الرفعة ، فهو معتلّ اللام ، بدليل سائر اشتقاقاته : (سمّى. سمّيت. مسمّى ...) ولأنّ جمعه «أسماء» منصرف ، فلو كان أصله «وسم» لكانت همزته زائدة وكانت غير منصرفة. قال الزمخشري : واشتقاقه من السموّ ، تنويه بالمسمّى وإشادة بذكره (١).

قلت : لا إشادة بمجرّد ذكر الإسم على إطلاقه! وأمّا الاشتقاقات والجمع فهي من القلب والتبديل في باب التصريف ، وكان سبيلها سبيل التوهّم في التصرّفات ، وعلى خلاف القياس ، كما هو شائع في لغة العرب. نصّ عليه الكسائي والمحقّقون من أهل الأدب (٢).

[١ / ٢٩٧] وروى الكليني بإسناده إلى محمّد بن سنان قال : «سألته (أي الرضا عليه‌السلام) عن الإسم ، ما هو؟ قال : صفة لموصوف» (٣).

ورواه الصدوق بنفس الإسناد أيضا (٤).

يعني : سأله عن أسمائه تعالى ومدى صلتها بذاته المقدّسة ـ المتعالية عن مقارنة الأوصاف ـ فأجابه الإمام بأنّها محض سمات هي دلائل على ذات الموصوف المتنزّه عن مشابهة سائر المخلوق.

وإلى هذا المعنى يشير ما جاء في مناشدة هشام بن الحكم للإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام :

[١ / ٢٩٨] روى الكليني عن شيخه عليّ بن إبراهيم القمّي عن أبيه عن النضر بن سويد عن هشام بن الحكم : أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن أسماء الله واشتقاقها ... «الله» ممّا هو مشتقّ؟ قال : فقال لي : «يا هشام ، الله مشتقّ من «إله» ، والإله يقتضي مألوها. والإسم غير المسمّى. فمن عبد الإسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا. ومن عبد الإسم والمعنى فقد أشرك وعبد اثنين (٥). ومن عبد المعنى دون الإسم فذاك التوحيد! أفهمت يا هشام؟

قال : فقلت : زدني! قال : إنّ لله تسعة وتسعين إسما ، فلو كان الإسم هو المسمّى ، لكان كلّ اسم منها إلها. ولكن الله معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء ، وكلّها غيره. يا هشام ، الخبز اسم للمأكول ، الماء للمشروب ، والثوب للملبوس ، والنار اسم للمحرق. أفهمت يا هشام فهما تدفع به وتناضل به

__________________

(١) الكشاف ١ : ٥.

(٢) راجع : شرح الشافية للشيخ رضيّ الدين الأستر آبادي ١ : ٢٩ و ٢ : ٧٩.

(٣) الكافي ١ : ١١٣ / ٣.

(٤) العيون ١ : ١١٨ / ٢٥ ، باب ١١ ؛ التوحيد : ١٩٢ / ٥.

(٥) العبارة مطابقة مع رواية الصدوق عن الكليني (التوحيد : ٢٢١ / ١٣).

٣٢٦

أعداءنا والمتّخذين مع الله ـ جلّ وعزّ ـ غيره؟ قلت : نعم. فقال : نفعك الله به وثبّتك يا هشام!

قال هشام : فو الله ما قهرني أحد في التوحيد ، حتّى قمت مقامي هذا» (١).

وهذا من جلّة الأحاديث الواردة بشأن الدلائل على وحدانيّة الذات المقدّسة ، منزّهة عن التركيب والمقارنة والتشبيه ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(٢).

إنّ الله تبارك وتعالى وصف نفسه بصفات كما وسم نفسه بسمات ، وما هي إلّا دلائل على عين الذات ، متعالية عن أيّ مقارنة أو تشبيه بمخلوق. فالصفة كالعلامة تدلّ على ذي العلامة (ذات الموصوف) من غير أن تكون ذات أثر في الذات أو حاكية عن اقترانها بشيء ؛ نظير الإشارة إلى شيء من غير أن تكون العلامة المشيرة أو ذات الإشارة ذات تأثير في المشار إليه.

عباراتنا شتّى وحسنك واحد

وكلّ إلى ذاك الجمال يشير

[١ / ٢٩٩] ولذا قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «وكمال الإخلاص نفي الصفات عنه» (٣) أي نفي مقارنة الذات بمبادىء الصفات ...

ولذلك كان المعبود المتعالي هو الذات ، موصوفة بالصفات من غير مقارنة ، كما هي مدلول عليها بالسمات من غير مشابهة.

[١ / ٣٠٠] وقال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : «من عبد الإسم والمعنى فقد أشرك. ومن عبد المعنى ، بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه ، فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته ، فأولئك أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام حقّا» (٤).

وقوله عليه‌السلام في حديث هشام : «الخبز اسم للمأكول ...» إشارة إلى هذا المعنى : فإنّ الذي يشبع هو المسمى من غير مدخليّة الاسم. وكذا الذي يروى ويكسو هو المعنى دون اللفظ. وهذا من أحسن التشبيه لمعرفة مفارقة مبادئ الصفات عن الذات وأن لا شأن لها سوى الإشارة إلى الذات محضا ، وأنّه تعالى بذاته من دون مقارنته بشيء ، هو المعبود حقّا وهو الله ربّ العالمين.

[١ / ٣٠١] وفي حديث عبد الأعلى عن الصادق عليه‌السلام : «اسم الله ، غير الله ... إلى قوله : والله يسمّى بأسمائه ، وهو غير أسمائه ، والأسماء غيره» (٥). أي غيره حقيقة وفي ماهيّتها سوى الإشارة إليه

__________________

(١) الكافي ١ : ٨٧ / ٢.

(٢) الشورى ٤٢ : ١١.

(٣) نهج البلاغة ١ : ١٥ ، الخطبة ١.

(٤) الكافي ١ : ٨٧ / ١ ، باب المعبود.

(٥) التوحيد : ١٩٢ / ٦ ، باب ٢٩.

٣٢٧

تعالى محضا.

[١ / ٣٠٢] وفي حديث هشام في مساءلة الزنديق للإمام الصادق عليه‌السلام :

قال السائل : فتقول : إنّه سميع بصير؟!

قال الإمام : «هو سميع بصير ، سميع بغير جارحة ، وبصير بغير آلة. بل يسمع بنفسه ، ويبصر بنفسه. ليس قولي : إنّه يسمع بنفسه ويبصر بنفسه ، أنّه شيء والنفس شيء آخر. ولكن أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولا ، وإفهاما لك إذ كنت سائلا. وأقول : يسمع بكلّه ، لا أنّ الكلّ منه ، له بعض. ولكنّي أردت إفهاما لك والتعبير عن نفسي. وليس مرجعي في ذلك إلّا إلى أنّه السميع البصير العالم الخبير ، بلا اختلاف الذات ولا اختلاف المعنى» (أي من غير أن تنثلم الوحدانيّة الذاتيّة).

قال السائل : فما هو؟ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «هو الربّ ، وهو المعبود ، وهو الله. وليس قولي : «الله» إثبات هذه الحروف : الف ، لام ، هاء. ولكنّي أرجع إلى معنى هو شيء خالق الأشياء وصانعها ، وقعت عليه هذه الحروف. وهو المعنى الذي يسمّى به الله والرحمان والرحيم والعزيز وأشباه ذلك من أسمائه ، وهو المعبود ـ جلّ وعزّ ـ» (١).

[١ / ٣٠٣] وفي حديث الفتح بن يزيد الجرجاني مع الإمام الرضا عليه‌السلام : لكنّك قلت : الأحد الصمد ، وقلت : لا يشبه شيئا ، والله واحد والإنسان واحد ، أليس قد تشابهت الوحدانيّة؟ قال عليه‌السلام : «يا فتح ، أحلت ـ ثبّتك الله تعالى ـ إنّما التشبيه في المعاني ، فأمّا في الأسماء فهي واحدة ، وهي دلالة على المسمّى» (٢). يعني : أنّ أسماءه تعالى وإن تعدّدت وتفاوتت مفهوما ، غير أنّها جمع ليس سوى دلائل على الذات المقدّسة وإشارات إليه سبحانه من غير دلالة على تعدّد المعاني والمسمّيات.

***

«الله» علم شخص له تعالى. أصله «الإله» ، ثمّ صار علما بالغلبة ؛ قال الراغب : ولتخصّصه به قال تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)(٣) ، وحذفت همزته تخفيفا حيث كثرة الاستعمال ، وأدغمت اللّامان ، ويفخّم إلّا إذا كانت قبله كسرة.

وفي أصل الإله أقوال :

__________________

(١) المصدر : ٢٤٥ / ١ ، باب ٣٦.

(٢) العيون ١ : ١١٧ / ٢٣ ، باب ١١ (ما جاء عن الرّضا عليه‌السلام في التوحيد).

(٣) مريم ١٩ : ٦٥.

٣٢٨

١ ـ إنّه من «أله يأله إلاهة» بمعنى «عبد يعبد عبادة». قال صاحب القاموس : «أله إلاهة وألوهة وألوهيّة : عبد عبادة ، ومنه لفظ الجلالة. واختلف فيه على عشرين قولا ... وأصحّها : أنّه علم غير مشتق ، وأصله «إله» كفعال بمعنى مألوه (نحو كتاب بمعنى مكتوب) وكلّ ما اتّخذ معبودا إله عند متّخذه بيّن الإلاهة والألهانيّة».

وقال ابن الأنباري : والأصل في «الله» : إلاه ، من أله إذا عبد. وهو مصدر بمعنى مألوه أي معبود. كقولهم : خلق الله بمعنى مخلوق (١).

٢ ـ من «أله يأله ألها» بمعنى «تحيّر». قال ابن الأنباري : وقيل : من ألهت أي تحيّرت. فسمّي سبحانه إلها ، لتحيّر العقول في كنه ذاته وصفاته. قال الراغب : وقيل : من أله أي تحيّر.

[١ / ٣٠٤] وتسميته تعالى بذلك إشارة إلى ما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «كلّ دون صفاته تحبير اللّغات ، وضلّ هناك تصاريف الصفات» (٢).

٣ ـ من «لاه يلوه لياها» بمعنى «احتجب». قال ابن الأنباري : وقيل : هو من «لاهت العروس إذا احتجبت. فهو سبحانه سمّي إلها لأنّه احتجب من جهة الكيفيّة عن الأوهام. وقال الراغب : قالوا : وذلك إشارة إلى قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ)(٣) والمشار إليه في قوله : (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ)(٤).

٤ ـ من الوله بمعنى التحيّر من شدّة الوجد ، أو الفزع واللجوء إلى ركن وثيق. يقال : وله الصبيّ إلى امّه إذا فزع إليها. وولهت الأمّ إلى ولدها إذا حنّت إليه.

قال ابن الأنباري : «وقيل : أصله «ولاه» من الوله ، لأنّه يوله إليه في الحوائج [وعند الشدائد]. فأبدلوا من الواو المكسورة همزة كقولهم في وشاح : إشاح. وفي وسادة : إسادة».

قال الراغب : وتسميته بذلك لكون كلّ مخلوق والها نحوه ، إمّا بالتسخير فقط كالجمادات والحيوانات. وإمّا بالتسخير والإرادة معا كبعض الناس. ومن هذا الوجه قال بعض الحكماء : الله محبوب الأشياء كلّها. وعليه دلّ قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(٥).

__________________

(١) البيان في إعراب القرآن ١ : ٣٢.

(٢) التوحيد : ٤٢ ؛ الكافي ١ : ١٣٤ بتغيير يسير ؛ البحار ٤ : ٢٦٩.

(٣) الأنعام ٦ : ١٠٣.

(٤) الحديد ٥٧ : ٣.

(٥) الإسراء ١٧ : ٤٤.

٣٢٩

فيكون أصل إله : ولاه بمعنى المألوه إليه. وقلب الواو في بدء الكلمة همزة شائع في اللغة كأناة أصله : وناة بمعنى التصبّر (١). وأجم في وجم بمعنى انقبض وجهه من شدّة الغيظ (٢). وأحد في وحد وأسماء ـ اسم امرأة ـ أصلها : وسماء. وقيل في أخذ : أصله وخذ ، لدلائل ذكرها الرضيّ في شرح الشافية (٣).

وإذا كانت الواو في أوّل الكلمة مكسورة ، فقال بعضهم بجواز قلبها همزة قياسا ، كما في إعاء ووعاء. وإلدة في ولدة جمع ولد. وإفادة في وفادة.

قال سيبويه ـ عند الكلام عن الواو الواقعة فاء الفعل ـ : «واعلم أنّ هذه الواو إذا كانت مضمومة فأنت بالخيار إن شئت تركتها على حالها ، وإن شئت أبدلت الهمزة مكانها.

وذلك نحو قولهم في ولد : ألد ، وفي وجوه : أجوه. وإنّما كرهوا الواو ، حيث صارت فيها ضمّة.

ولمّا كانوا يبدلونها وهي مفتوحة في مثل وناة وأناة ، كانوا في هذا أجدر أن يبدلوا ، حيث دخله ما يستثقلون ، فصار الإبدال فيه مطّردا ، حيث كان البدل يدخل فيما هو أخفّ منه وقالوا : وجم وأجم ووناة وأناة وقالوا : أحد وأصله وحد ، لأنّه واحد. فأبدلوا الهمزة ، لضعف الواو. وليس ذلك مطّردا في المفتوحة.

قال : ولكنّ ناسا كثيرا يجرون الواو إذا كانت مكسورة مجرى المضمومة ، فيهمزون الواو المكسورة إذا كانت أوّلا ، كرهوا الكسرة فيها ، كما استثقل في ييجل وسيّد (٤) وأشباه ذلك. فمن ذلك قولهم : إسادة وإعاء. وسمعناهم ينشدون البيت لابن مقبل :

إلّا الإفادة فاستولت ركائبنا

عند الجبابير بالبأساء والنّعم». (٥)

[١ / ٣٠٥] وفي ربيع الأبرار للزمخشري : «قال رجل لجعفر بن محمّد عليهما‌السلام : ما الدليل على الله ، ولا تذكر لي العالم والعرض والجوهر؟ فقال له : هل ركبت البحر؟ قال : نعم ، قال : فهل عصفت بكم الريح حتّى خفتم الغرق؟ قال : نعم ، قال : فهل انقطع رجاؤك من المركب والملّاحين؟ قال : نعم ، قال : فهل تتبعت نفسك أن ثمّ من ينجيك؟ قال : نعم ، قال : فإنّ ذاك هو الله سبحانه وتعالى ، قال

__________________

(١) قال في اللسان : امرأة وناة وأناة وأنيّة : حليمة (وقورة). الهمزة فيه بدل من الواو.

(٢) الوجوم : السكوت على الغيظ بما يبدو أثره على الوجه.

(٣) شرح الشافية ٣ : ٧٩.

(٤) أصل ييجل يوجل من وجل إذا خاف شيئا. وسيّد ، أصله سويد من ساد يسود.

(٥) كتاب سيبويه ٢ : ٤٢٨ ـ ٤٢٩ (باب ما كانت الواو فيه أوّلا وكانت فاء).

٣٣٠

الله عزوجل : (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)(١) و (إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ)(٢)» (٣).

***

وهذا الوجه الرابع هو الراجح والذي وردت به الرواية عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

[١ / ٣٠٦] روى الصدوق بإسناده المتّصل إلى الإمام أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري عليه‌السلام في تفسير البسملة قال : «الله هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد ، كلّ مخلوق وعند انقطاع الرجاء من كلّ من دونه وتقطّع الأسباب من جميع من سواه».

[١ / ٣٠٧] واستشهد بحديث جدّه الإمام الصادق عليه‌السلام : سأله رجل أن يدلّه على الله ما هو؟ فقال له الإمام : «يا عبد الله ، هل ركبت سفينة قطّ؟ قال : نعم ، قال : فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال : نعم ، قال : فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئا من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال : نعم ، قال الصادق عليه‌السلام : فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث» (٤).

[١ / ٣٠٨] قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «الله ، معناه المعبود الّذي أله الخلق عن إدراك ماهيّته والإحاطة بكيفيّته. تقول العرب : أله الرجل إذا تحيّر في الشيء فلم يحط به علما ، ووله إذا فزع إلى شيء مما يحذره ويخافه. فالإله هو المستور عن حواسّ الخلق». (٥)

[١ / ٣٠٩] وروى الإمام العسكري عليه‌السلام بإسناد رفعه إلى الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : قام رجل إلى الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام فقال : يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرني ما معنى (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؟) فقال الإمام زين العابدين : حدّثني أبي عن أخيه عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّ رجلا سأله عن ذلك فقال :

«إنّ قولك : «الله» أعظم الأسماء من أسمائه تعالى ، وهو الاسم الذي لا ينبغي أن يتسمّى به غير الله ، ولم يتسمّ به مخلوق».

فقال الرجل : فما تفسير قوله تعالى : «الله»؟

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٦٧.

(٢) النحل ١٦ : ٥٣.

(٣) ربيع الأبرار ٢ : ٤٨ / ٦ ، باب ١٩ (الجوابات المسكتة ...) ؛ البرهان ١ : ١٠٩ ـ ١١٠ / ١٢.

(٤) معاني الأخبار : ٤ ـ ٥ / ٢ ، باب معنى «الله» ، وراجع : تفسير الإمام : ٢١ ـ ٢٢ / ٥ و ٦.

(٥) التوحيد للصدوق ٨٩ / ٢ ، باب تفسير قل هو الله.

٣٣١

قال عليه‌السلام : «هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق ، عند انقطاع الرجاء من جميع من دونه ، وتقطّع الأسباب من كلّ ما سواه.

وذلك أنّ كلّ مترئّس في هذه الدنيا أو متعظّم فيها ، وإن عظم غناؤه وطغيانه ، إذا كثرت حوائج من دونه إليه ، فإنّهم سيحتاجون حوائج لا يقدر عليها هذا المتعاظم. وكذلك هذا المتعاظم يحتاج حوائج لا يقدر عليها ، فينقطع إلى الله عند ضرورته وفاقته ، حتّى إذا كفي همّه ، عاد إلى شركه. أما تسمع الله عزوجل يقول : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ)(١).

قال تعالى لعباده : أيّها الفقراء إلى رحمتي ، إنّي قد ألزمتكم الحاجة إليّ في كلّ حال ، وذلّة العبوديّة في كلّ وقت. فإليّ فافزعوا في كلّ أمر تأخذون به وترجون تمامه وبلوغ غايته. فإنّي إن أردت أن أعطيكم لم يقدر غيري على منعكم ، وإن أردت أن أمنعكم لم يقدر غيري على إعطائكم. فأنا أحقّ من سئل وأولى من تضرّع إليه. فقولوا عند افتتاح كلّ أمر عظيم أو صغير : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أي أستعين على هذا الأمر بالله الذي لا تحقّ العبادة لغيره. المغيث إذا استغيث والمجيب إذا دعي ، الرحمان الذي يبسط الرزق علينا ، الرحيم بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا».

[١ / ٣١٠] قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أحزنه أمر تعاطاه فقال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وهو مخلص لله عزوجل ويقبل بقلبه إليه ، لم ينفكّ عند إحدى اثنتين : إمّا بلوغ حاجته الدنياويّة ، وإمّا يعدّ له عنده ويدّخر لديه. وما عند الله خير وأبقى للمؤمنين» (٢).

وسنذكر روايات اخرى بهذا الشأن.

***

أمّا الوجهان الأوّلان فلا مستند لهما لغويّا ، حيث لم يرد في اللغة «أله» مهموزا في أصله ، لا مفتوح العين ولا مكسوره. وأيضا لم يرد «أله» بمعنى «عبد» وإن ذكره صاحب القاموس ، إذ لا شاهد له في اللّغة. وأمّا «أله» بمعنى «تحيّر» فأصله «وله» حسبما تقدّم (٣).

ودليلا على أنّ «أله» ـ مهموزا ـ ليس أصلا في اللغة : أنّه لم يرد الاشتقاق منه في اللغة ثلاثيّا. قال الخليل بن أحمد الفراهيدي : وليس «الله» من الأسماء التي يجوز منها اشتقاق «فعل» ، كما

__________________

(١) الأنعام ٦ : ٤٠ ـ ٤١.

(٢) تفسير الإمام : ٢٧ ـ ٢٨ / ٩.

(٣) راجع : مقاييس اللغة ١ : ١٢٧.

٣٣٢

يجوز في «الرحمان» و «الرحيم» (١).

أمّا الوجه الثالث فأضعف الاحتمالات ، إذ كانت حروف الأصل في «لاه يلوه لياها» من المعتلّ العين! ولعلّه قد اشتبه الأمر على قائله!

فالصحيح هو الوجه الرابع والذي توافقت عليه الروايات عن السلف. وقد عرفت الرواية عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

[١ / ٣١١] وهكذا روي عن الضحّاك قال : إنّما سمّي «الله» إلها ، لأنّ الخلق يتألّهون إليه في حوائجهم ويتضرّعون إليه عند شدائدهم (٢).

وذكر عن الخليل بن أحمد أنّه قال : لأنّ الخلق يألهون إليه ـ بفتح اللام وكسرها (لغتان) ـ (٣).

قال أبو الهيثم : «وأصل «إله» ولاه ، فقلبت الواو همزة كما قالوا للوشاح : إشاح ، وللوجاح ـ وهو السّتر ـ إجاح. ومعنى «ولاه» : أنّ الخلق يولهون إليه في حوائجهم ، ويضرعون إليه فيما يصيبهم ، ويفزعون إليه في كلّ ما ينوبهم ، كما يوله كلّ طفل إلى أمّه» (٤).

[١ / ٣١٢] وفي حديث وهيب بن الورد : إذا وقع العبد في ألهانيّة الربّ ، ومهيمنيّة الصدّيقين ، ورهبانيّة الأبرار ، لم يجد أحدا يأخذ بقلبه. قال ابن منظور : أي لم يجد أحدا يعجبه ولم يحبّ إلّا الله سبحانه (٥).

وقال ابن الأثير : هو مأخوذ من «إلاه» ، وتقديرها : فعلانيّة ، بالضم. تقول : إلاه ، بيّن الإلهيّة والألهانيّة ، وأصله من أله يأله إذا تحيّر. يريد : إذا وقع العبد في عظمة الله تعالى وجلاله وغير ذلك من صفات الربوبيّة ، وصرف همّه إليها ، أبغض الناس حتّى لا يميل قلبه إلى أحد (٦).

***

[١ / ٣١٣] لكن روى ثقة الإسلام الكليني بإسناده إلى أحمد بن محمّد البرقي عن القاسم بن يحيى عن جدّه الحسن بن راشد عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام : «سئل عن معنى «الله». فقال : استولى على ما دقّ وجلّ» (٧).

__________________

(١) راجع : العين ٤ : ٩١.

(٢) راجع : القرطبي ١ : ١٠٣.

(٣) المصدر.

(٤) راجع : لسان العرب ١٣ : ٤٦٨ / باب «أله».

(٥) المصدر : ٤٦٧ ورواه ابن عساكر في (٣٣ : ٢٥٦) بهذا اللفظ : «إذا دخل العبد في لاهوتيّة الربّ ومهيمنة الصديقين ورهبانية الأبرار لم يلق أحدا يأخذ بقلبه ولا تلحقه عينه».

(٦) النهاية ١ : ٦٢.

(٧) الكافي ١ : ١١٤ ـ ١١٥ / ٣.

٣٣٣

وهكذا رواه الصدوق بإسناده إلى سعد بن عبد الله الأشعري عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن القاسم بن يحيى عن جدّه الحسن بن راشد عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام مثله (١).

هذا الحديث ممّا احتار المفسرون في تبيينه ، نظرا لأنّ الاستيلاء لا يلائم مفهوم الإله ، اللهمّ إلّا إذا أريد لازم معناه!

فهذا الحكيم الفيلسوف صدر المتألهين في شرحه على أصول الكافي يقول : هذا من باب تفسير الشيء بلازمه ، فإنّ معنى الإلهيّة يلزمه الاستيلاء على جميع الأشياء دقيقها وجليلها ، غيبها وشهادتها ، ملكها ومملوكها ، دنياها وآخرتها (٢).

والحكيم الإلهي المحقق الفيض الكاشاني يقول : لما كان الله اسما للذات الأحديّة القيّوميّة ، فسّر بما يختصّ به الذات ، وهو استيلاؤها على الدقيق والجليل (٣).

وقال المولى ميرزا رفيع النائيني (شيخ المجلسي) في تعليقته على الوافي : قوله : عن معنى الله ، أي مفهوم هذا الإسم ومناطه ، فقال : استولى على ما دقّ وجلّ. أي الاستيلاء على كلّ شيء ، هو مناط المعبوديّة بالحقّ لكلّ شيء (٤).

وقال المولى محمّد صالح المازندراني في شرحه على أصول الكافي : من المشهور عقلا ونقلا أنّ «الله» اسم للذات المقدّسة التي هي بعينها عين جميع الصفات الذاتيّة الملحوظة في مرتبة الذات ، ومن أعظم تلك الصفات هو استيلاؤه على جميع ما سواه من الممكنات دقيقها وجليلها ، لأنّ هذه الصفة مستلزمة لجميع الصفات الكماليّة ، كالعلم بالكلّيات والجزئيّات ، والقدرة الشاملة لجميع الممكنات ، والرحمة الكاملة التي وسعت كلّ شيء ، فلذلك فسّر عليه‌السلام «الله» تفسيرا له ببعض الوجوه الكامل الشامل (٥).

***

لكنّ المولى المحقّق المجلسي العظيم تنبّه لنكتة ربما أغفلها الآخرون ، وهو : احتمال التحريف أو غلط النسخة. فإنّ الكليني روى هذا الحديث عن أحمد بن محمّد بن خالد البرقي وأخذه من كتابه «المحاسن» بإسناده إليه. والحديث جاء في الكتاب الأصل كالتالي :

__________________

(١) معاني الأخبار : ٤ / ١ ، باب معنى «الله» ؛ التوحيد : ٢٣٠ / ٤.

(٢) شرح الأصول من الكافي : ٢٨٩.

(٣) الوافي ١ : ٤٧٠ / ٣٨٠ ـ ٢.

(٤) هامش الوافي ١ : ١٢١.

(٥) شرح أصول الكافي ٤ : ٧ ـ ٩.

٣٣٤

[١ / ٣١٤] «... وسئل عن معنى قول الله : (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(١)؟ فقال : استولى على ما دقّ وجلّ» (٢). وهكذا رواه صاحب كتاب «الاحتجاج» (٣). وعليه فلا موضع لتلكم التكلّفات في تفسير ما لم يثبت أصله.

قال العلّامة المجلسي ـ بعد أن ذكر تأويل الحديث حسبما ذكره الشرّاح قريبا ممّا ذكره شيخه المولى رفيع ـ : وقيل : السؤال إنّما كان عن مفهوم الاسم ومناطه ، فأجاب الإمام عليه‌السلام بأنّ الاستيلاء على جميع الأشياء ، مناط المعبوديّة بالحقّ لكلّ شيء ـ قال :

الظاهر أنّه سقط من الخبر شيء ، لأنّه مأخوذ من كتاب البرقي. وروى في المحاسن بهذا السند بعينه عن القاسم عن جدّه الحسن عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام وسئل عن معنى قول الله (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(٤)؟ فقال : استولى على ما دقّ وجلّ. وروى الطبرسي في الاحتجاج أيضا هكذا. فلا يحتاج إلى هذه التكلّفات ، إذ أكثر المفسّرين فسّروا الاستواء بمعنى الاستيلاء. وقد حقّقنا في مواضع من كتبنا أنّ العرش يطلق على جميع مخلوقاته سبحانه ، وهذا أحد إطلاقاته ، لظهور وجوده وعلمه وقدرته في جميعها.

قال : وهذا [الاشتباه في النقل والرواية] من الكليني غريب [لأنّه غاية في الدقّة والعناية]. ولعلّه من النسّاخ! (٥).

***

وأمّا أبو جعفر الطبري فإنّه يرى الإله بمعنى المألوه أي المعبود من أله بمعنى عبد كما ذكره الفيروز آبادي في القاموس :

قال : وأمّا تأويل قول الله : «الله» ، فإنّه على معنى ما روي لنا عن عبد الله بن عبّاس : هو الذي يألهه كلّ شيء ويعبده كلّ مخلوق.

[١ / ٣١٥] وذلك أنّ أبا كريب حدّثنا بالإسناد إلى أبي روق عن الضحّاك عن عبد الله بن عبّاس قال : الله ، ذو الألوهيّة والمعبوديّة على خلقه أجمعين.

فإن قال لنا قائل : فهل لذلك في «فعل ويفعل» أصل كان منه بناء هذا الإسم؟

__________________

(١) طه ٢٠ : ٥.

(٢) المحاسن ١ : ٢٣٨ / ٢١٢.

(٣) الاحتجاج ٢ : ١٥٧ ، (باب احتجاجات أبي الحسن الكاظم عليه‌السلام) ، برواية الحسن بن راشد أيضا.

(٤) طه ٢٠ : ٥.

(٥) مرآة العقول ٢ : ٣٩ ـ ٤٠.

٣٣٥

قيل : أمّا سماعا من العرب فلا ، ولكن استدلالا!

يعنى : إنّه لم يثبت تصريف أله يأله بمعنى عبد يعبد ثلاثيّا في أصل اللغة ، حسبما قدّمنا. غير أنّه يمكن إثباته استدلالا ... ثمّ أخذ في الاستدلال واستشهد بقول رؤبة بن العجّاج :

لله درّ الغانيات المدّة

سبّحن واسترجعن من تألّهي (١)

يعني : من تعبّدي وطلبي الله بعمل.

قال : وإذ ثبت التألّه بمعنى التعبّد ، وهو مزيد فيه ، فلا بدّ أن هناك في مجرّده الثلاثي أيضا ثابت!

[١ / ٣١٦] واستشهد أيضا بما رواه سفيان بن وكيع رفعه إلى ابن عبّاس : أنّه قرأ : ويذرك وإلاهتك (٢) ، قال : عبادتك. قال : إنّما كان فرعون يعبد ولا يعبد.

وكذلك كان يقرأها عبد الله ومجاهد ويفسّرانها بذلك.

قال : والإلاهة مصدر ثلاثي من قول القائل : أله الله فلان إلاهة ، كما يقال : عبد الله فلان عبادة ، وعبر الرؤيا عبارة. فقد ثبت من قول ابن عبّاس ومجاهد : أنّ «أله» : «عبد» وأنّ الإلاهة مصدره ... (٣)

قال ابن عطيّة ـ وهو يتابع ابن جرير ـ : وذهب كثير من أهل العلم إلى أنّ «الله» مشتقّ من «أله الرجل» إذا عبد ، و «تألّه» إذا تنسّك. ومن ذلك قول رؤبة بن العجّاج ... وقوله تعالى :

«ويذرك وإلاهتك» على هذه القراءة ، فإنّ ابن عبّاس وغيره (يريد به مجاهدا) قال [في تفسيره] وعبادتك. قالوا : فاسم «الله» مشتقّ من هذا الفعل ، لأنّه الذي يألهه كلّ خلق ويعبده ـ حكاه النقّاش في صدر سورة آل عمران ـ فإلاه ، فعال من هذا (٤).

قلت : لا شكّ أنّ اللغة توقيف ولا يحتمل الاجتهاد النظري ، فإذ ثبت عدم السماع في «أله» بمعنى «عبد» ، واعترف به الطبري (٥) ـ وهو الرجل الخبير بمواضع اللغة ـ فأيّ موضع بعد ذلك للاستدلال إذا لم يكن له شاهد في اللّغة العربيّة الأولى؟!

وأمّا ما تشبّث به قياسا من شعر رؤبة ، فلم يثبت أنّه أراد من التألّه : التنسّك بمعنى العبادة ، بل الظاهر أنّه أراد التوغّل والإمعان في ألوهيّة الربّ تعالى أي التفكّر فيها والتخضّع في ساحة قدسه

__________________

(١) الغانيات ، جميع الغانية : المرأة الغنيّة بحسنها وجمالها الفارهة الجمال. والمدّه ، جمع ماده من مده بمعنى مدح تزلّفا.

(٢) والقراءة المشهورة : «وآلهتك» في قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) الأعراف ٧ : ١٢٧.

(٣) الطبري ١ : ٨٢ ـ ٨٣ والحديثان رقم ١١٧ و ١١٨ وبعده.

(٤) المحرّر الوجيز ١ : ٦٣.

(٥) وقد مرّ في كلام الخليل أيضا ـ وهو أبو العربيّة ومحتدها الأصيل ـ!

٣٣٦

تعالى ، والذي يلزمه التعبّد بعمل قربيّ ، فيكون لازمه لا نفسه. والتفسير باللازم شائع كثير.

وهكذا تفسير ابن عبّاس ومجاهد «إلاهتك» بالعبادة إن صحّ ، فهو تفسير باللازم. نظرا لأنّ المعنى في الحقيقة : ويذرك وألوهيّتك التي تدّعيها ، حيث قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى)(١) ، فقد كان يدّعي الألوهيّة بمعنى الربوبيّة ، أي المالك المتصرّف في شؤون المربوبين ، ولم يعهد أنّه دعى الناس إلى عبادته ، ولا ثبت أنّهم عبدوه كما يعبدون الأصنام. فلا موضع لقول القائل : وفرعون كان يعبد ولا يعبد! ولم يصحّ استناده إلى مثل ابن عبّاس العربيّ الصميم وكذا تلميذه الذكيّ مجاهد بن جبر!

لم يكن من فرعون سوى دعوى الألوهيّة (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي)(٢). وأنّه يتولّى هدايتهم إلى حيث الرشاد (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ)(٣). نعم إنّه كان قد استخفّ قومه فأطاعوه (٤). أمّا العبادة والعبوديّة بمعناها الخاصّ فلم يعهد ذكره في القرآن أو غيره من كتاب.

***

(الرَّحْمنِ) و (الرَّحِيمِ) وصفان من أبرز صفاته تعالى ، ليكون الأوّل مظهر رحمته الواسعة (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ)(٥). (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)(٦). والثاني دليل على عنايته الخاصّة بعباده المؤمنين (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ)(٧). (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)(٨).

والرحمان ، فعلان دلّ على مبالغة في سعة رحمته تعالى ، سعة لا يحتملها سوى ذاته المقدّسة فلا يوصف به غيره تعالى. والرحيم ، دلّ على رأفة وعناية خاصّة ، يوصف به كلّ ذي رأفة وشفقة بالناس ، ومن ثمّ يوصف به النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمكان شفقته بالمؤمنين (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٩).

[١ / ٣١٧] قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «الرحمان ، اسم خاصّ بصفة عامّة. والرحيم ، اسم عامّ بصفة خاصّة» (١٠).

[١ / ٣١٨] وفي حديث آخر : «قلت : الرحمان؟ قال : بجميع العالم. قلت : الرحيم؟ قال :

__________________

(١) النازعات ٧٩ : ٢٤.

(٢) القصص ٢٨ : ٣٨.

(٣) المؤمن ٤٠ : ٢٩.

(٤) من الآية ٥٤ سورة الزخرف ٤٣.

(٥) الأنعام ٦ : ١٤٧.

(٦) الأعراف ٧ : ١٥٦.

(٧) الأعراف ٧ : ١٥٦.

(٨) الأحزاب ٣٣ : ٤٣.

(٩) التوبة ١٠ : ١٢٨.

(١٠) الصافي ١ : ١٢١.

٣٣٧

بالمؤمنين خاصّة» (١).

[١ / ٣١٩] وفي حديث عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام قال : «الرحمان بجميع خلقه ، والرحيم بالمؤمنين خاصّة» (٢).

[١ / ٣٢٠] وعنه عليه‌السلام : «الرحمان خاصّ اللفظ عامّ المعنى ، والرحيم عامّ اللفظ خاصّ المعنى» (٣).

[١ / ٣٢١] وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحّاك قال : الرحمان بجميع الخلق ، والرحيم بالمؤمنين خاصّة(٤).

[١ / ٣٢٢] ورواه أبو جعفر الطبري بإسناده إلى عثمان بن زفر قال : سمعت العزرمي يقول :

الرحمان الرحيم ، الرحمان بجميع الخلق ، الرحيم بالمؤمنين (٥).

[١ / ٣٢٣] وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحّاك عن ابن عبّاس : الرحيم : الرقيق الرفيق لمن أحبّ أن يرحمه ، البعيد الشديد على من أحبّ أن يعنف عليه العذاب (٦).

[١ / ٣٢٤] وأخرج بإسناده إلى أبي الأشهب عن الحسن قال : الرحمان ، اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه ، تسمّى به تبارك وتعالى (٧).

[١ / ٣٢٥] وأخرج الطبري عن الحسن قال : الرحمان ، اسم ممنوع (٨). أي لا يصحّ إطلاقه على غيره تعالى ، حيث دلالته على سعة شاملة في رحمته تعالى ، مما لا يجوز وصف غيره تعالى به.

وفي اللسان : قال الحسن : الرحمان ، اسم ممتنع ، لا يسمّى غير الله به ، وقد يقال : رجل رحيم (٩).

[١ / ٣٢٦] وأخرج البيهقي عن ابن عبّاس قال : الرحمان ، وهو الرفيق. والرحيم ، وهو العاطف على خلقه بالرزق. وهما اسمان رقيقان ، أحدهما أرقّ من الآخر (١٠).

[١ / ٣٢٧] وأخرج ابن أبي حاتم عن خالد بن صفوان التميمي ، قال ـ في الرحمان الرحيم ـ :

هما رقيقان أحدهما أرقّ من الآخر (١١).

[١ / ٣٢٨] قال أبو علي الفارسي : الرحمان ، اسم عامّ في جميع أنواع الرحمة ، يختصّ به الله

__________________

(١) التوحيد : ٢٣٠ / ٣. (٢) الكافي ١ : ١١٤ / ١ ، باب معاني الأسماء ؛ التوحيد : ٢٣٠ / ٢.

(٣) رواه الشيخ أبو الفتوح الرازي ١ : ٥٩. (٤) ابن أبي حاتم ١ : ٢٨ / ٢٠ ؛ الدرّ ١ : ٢٤.

(٥) الطبري ١ : ٨٥ / ١٢١.

(٦) ابن أبي حاتم ١ : ٢٦ / ٦.

(٧) المصدر : ٧.

(٨) الطبري ١ : ٨٩ / ١٢٥ ؛ الدرّ ١ : ٢٤.

(٩) مادة «رحم» (لسان العرب ١٢ : ٢٣١.

(١٠) الأسماء والصفات ١ : ٥١.

(١١) ابن أبي حاتم ١ : ٢٨ / ٢١.

٣٣٨

تعالى. والرحيم ، إنّما هو من جهة المؤمنين (١).

وعن أبي عبيدة : رحمان ، ذو رحمة. ورحيم ، معناه أنّه راحم. وكرّر لضرب من التأكيد ، كما قالوا : ندمان ونديم (٢).

قال الجوهري : والرحمان والرحيم ، اسمان مشتقّان من الرحمة. ونظيرهما في اللغة : نديم وندمان ، وهما بمعنى. ويجوز تكرير الإسمين إذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد ، كما يقال : فلان جادّ مجدّ. إلّا أنّ الرحمان اسم مختصّ لله تعالى لا يجوز أن يسمّى به غيره ولا يوصف ، ألا ترى أنّه تبارك وتعالى قال : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) ، فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره (٣).

وزاد ابن منظور : وهما من أبنية المبالغة ، ورحمان أبلغ من رحيم. والرحيم يوصف به غير الله تعالى فيقال : رجل رحيم ، ولا يقال : رحمان (٤).

قال الأزهري : ولا يجوز أن يقال «رحمان» إلّا لله عزوجل. وفعلان من أبنية ما يبالغ في وصفه. فالرحمان : الذي وسعت رحمته كلّ شيء (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)(٥). فلا يجوز أن يقال : «رحمان» لغير الله (٦).

[١ / ٣٢٩] وعن عكرمة : الرحمان برحمة واحدة والرحيم بمئة رحمة (٧). وهذا لا ينافي شمول الرحمة الرحمانيّة العامّة ، لأنّها واحدة شاملة. أمّا الرحمة الرحيميّة فهي العناية البالغة المفاضة بجميع أبعادها ومناحيها.

[١ / ٣٣٠] قال الطبرسي : وهذا المعنى قد اقتبسه [عكرمة] من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ لله عزوجل مائة رحمة وإنّه أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسّمها بين خلقه ، بها يتعاطفون ويتراحمون ، وأخّر تسعا وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة. وروي أنّ الله قابض هذه إلى تلك فيكملها مائة يرحم بها عباده يوم القيامة» (٨).

[١ / ٣٣١] روى عطاء بإسناد رفعه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ لله تبارك وتعالى من رحمته مأة

__________________

(١) القرطبي ١ : ١٠٥.

(٢) التبيان ١ : ٣٠.

(٣) صحاح الجوهري ٥ : ١٩٢٩.

(٤) لسان العرب ١٢ : ٢٣١ ، والظاهر أنّه سقط من النسخة المطبوعة من الجوهري.

(٥) الأعراف ٧ : ١٥٦.

(٦) لسان العرب ١٢ : ٢٣١.

(٧) مجمع البيان ١ : ٥٤.

(٨) المصدر.

٣٣٩

جزء ، ادّخر منها في خزانة الغيب تسعة وتسعين جزءا ، وفرّق جزءا واحدا منها على جميع أهل الدنيا ، وكلّ رحمة ورأفة وشفقة وعطوفة في هذا العالم إنّما هو من ذلك الجزء الفرد. ثمّ يوم القيامة يجتمع هذا الجزء مع التسعة والتسعين جزءا فتكمل المأة لتشمل عصاة هذه الأمّة ...» حتّى جاء في الحديث :

[١ / ٣٣٢] أنّ إبليس يطمع أن يشمله من تلك الرحمة شيء. أخرجه الشيخ أبو الفتوح الرازي في التفسير (١).

وبذلك يفسّر ما ورد في الدعاء : «رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما».

[١ / ٣٣٣] أخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الرحمان بن سابط ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو بهذه الكلمات : «اللهمّ فارج الهمّ ، وكاشف الكرب ، ومجيب [دعوة] المضطرّين ، ورحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما. أنت ترحمني فارحمني رحمة تغنيني بها عمّن سواك» (٢).

[١ / ٣٣٤] وروى الصدوق بإسناده إلى أحمد بن موسى بن سعد عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : كنت معه في الطواف ، فلمّا صرنا معه بحذاء الركن اليماني قام عليه‌السلام فرفع يديه ، ثمّ قال : «يا الله يا وليّ العافية ، ويا خالق العافية ، ويا رازق العافية ، والمنعم بالعافية ، والمتفضّل بالعافية عليّ وعلى جميع خلقك ، يا رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ، صلّ على محمّد وآل محمّد وارزقنا العافية ، ودوام العافية ، وتمام العافية ، وشكر العافية في الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين» (٣).

ذلك أنّ رحمته تعالى الرحمانيّة كما شملت أهل الدنيا ، كذلك شملت أهل الآخرة بفضل عميمها. وهكذا رحمته الرحيميّة شملت المؤمنين ـ في الدنيا ـ في تخفيفه عليهم طاعاته ، وللكافرين بالرفق في دعائهم إلى موافقته ، كما ورد في تفسير الإمام عليه‌السلام (٤).

[١ / ٣٣٥] وأمّا ما رواه الطبرسي عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ عيسى بن مريم عليهما‌السلام

__________________

(١) أبو الفتوح ١ : ٦٠.

(٢) المصنّف ٧ : ١٤١ / ١ ، كتاب الدعاء ، باب ١٥٧ (ما كان النبيّ يعظمه من الدعاء) ؛ الدرّ ١ : ٢٤ ؛ البزار ١ : ١٣١ / ٦٢ ؛ الحاكم ١ : ٥١٥ ـ ٥١٦ وصحّحه. البيهقي في الدلائل (٦ : ١٧١) عن عائشة عن أبيها عن رسول الله ، وذكر نحوا من ذلك. وفي الصحيفة السجاديّة : ٣٠٨ / ٥٤ قال الإمام عليّ بن الحسين عليهما‌السلام : «يا فارج الهمّ وكاشف الغمّ يا رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما صلّ على محمّد وآل محمّد ...».

(٣) العيون ٢ : ١٩ / ٣٧ ، باب ٣٠ (فيما جاء عن الرضا من الأخبار المنثورة.

(٤) تفسير الإمام : ٣٤ / ١٢.

٣٤٠