التفسير الأثري الجامع - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-94552-4-8
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٤١٦

[م / ٢٣] سأل عبد الله بن سنان الإمام أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام عن القرآن والفرقان ، أهما شيء واحد أم هما شيئان؟

قال عليه‌السلام : «القرآن ، جملة الكتاب ، والفرقان ، المحكم الواجب العمل به» (١).

[م / ٢٤] وفي حديث آخر : «القرآن ، جملة الكتاب. وأخبار ما يكون ، والفرقان ، المحكم الذي يعمل به وكلّ محكم فهو فرقان» (٢).

[م / ٢٥] وفي حديث عليّ بن إبراهيم القميّ بالإسناد إليه : «الفرقان ، هو كلّ أمر محكم. والكتاب ، هو جملة القرآن الذي يصدّق فيه من كان قبله من الأنبياء» (٣).

وذلك أنّ القرآن اسم لما يقرأ ، فيجوز إطلاقه على جميع القرآن بهذا الاعتبار.

أمّا الفرقان بمعنى المعيار المائز بين الصحيح والزائف ، فهي الآيات البيّنات ، الجليّات ببيان براهينها الساطعة اللائحة ، دون المتشابهات التي يختصّ بعلمها الراسخون في العلم.

اشتقاق لفظة القرآن

القرآن لفظة عربيّة عريقة ، لها اشتقاقها وأصالتها في اللغة وفي الاستعمال الدارج. قال الراغب : القرآن ـ في الأصل ـ : مصدر ، نحو كفران ورجحان [وغفران].

قال تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)(٤). وقد خصّ بالكتاب المنزّل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصار له كالعلم ، كما أنّ التوراة لما أنزل على موسى ، والإنجيل على عيسى عليه‌السلام.

قال بعض العلماء : تسمية هذا الكتاب قرآنا ، لكونه جامعا لثمرة سائر الكتب ، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم. كما أشار إليه تعالى بقوله : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ)(٥).

قال ابن فارس (توفيّ سنة ٣٩٥) : القاف والراء والحرف المعتلّ ، أصل صحيح يدلّ على جمع واجتماع. من ذلك قرية ، سمّيت قرية لاجتماع الناس فيها. ويقولون : قريت الماء في المقراة :

__________________

(١) معاني الأخبار : ١٨٩ ـ ١٩٠ / ١ ؛ البحار ٨٩ : ١٥ / ١٠.

(٢) العيّاشي ١ : ٢٠ / ٢ ؛ البحار ٨٩ : ١٥ / ١١.

(٣) القميّ ١ : ٩٦ ؛ العيّاشي ١ : ١٨٥ / ١ ؛ البحار ٨٩ : ١٦ / ١٣.

(٤) القيامة ٧٥ : ١٧ ـ ١٨ ؛ المفردات : ٤٠٢.

(٥) آخر آية من سورة يوسف.

٢١

جمعته (١). وذلك الماء المجموع : قريّ. والمقراة : الجفنة ، لاجتماع الضيف عليها ، أو لما جمع فيها من طعام. قال : وإذا همز ، كان هو والأوّل سواء. يقولون : ما قرأت هذه الناقة سلى (٢) ، كأنّه يراد أنّها ما حملت قطّ. قال الشاعر ـ وهو عمرو بن كلثوم في معلّقته المشهورة ـ :

ذراعي عيطل أدماء بكر

هجان اللّون لم تقرأ جنينا (٣)

قالوا : ومنه القرآن ، كأنّه سمّي بذلك لجمعه ما فيه من الأحكام والقصص وغير ذلك (٤).

وعليه فالقرآن مأخوذ من قرأ يقرأ قراءة وقرآنا وكانت همزته مقلوبة من واو ، لأنّه من القرى بمعنى الجمع. قال ابن الأثير : تكرّر في الحديث ذكر القراءة والاقتراء والقارئ والقرآن ، والأصل في هذه اللفظة الجمع ، وكلّ شيء جمعته فقد قرأته. وسمّي القرآن ، لأنّه جمع القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات والسور بعضها إلى بعض. وهو مصدر كالغفران والكفران (٥).

وقد جاء استعماله مهموزا في اللغة وفي القرآن والحديث وكذا في كلام العرب رائجا. قال الشاعر (٦) :

هنّ الحرائر ، لا ربّات أخمرة

سود المحاجر ، لا يقرأن بالسّور

أي لا يتلون السور ، بزيادة الباء. قال ابن منظور : المعنى عندهم : لا يقرأن السّور (٧) وهكذا قال ابن سيده : إنّه أراد : لا يقرأن السّور ، فزاد الباء (٨).

فكانت القراءة كالكتابة ، في أصلهما بمعنى الجمع ، غير أنّ الكتابة جمع الحروف ونظم الكلمات في الخطّ. والقراءة جمعها في اللفظ.

__________________

(١) قال الخليل : شبه حوض ضخم يقرى فيه من البئر ثمّ يفرّغ منه في قرو ومركن أو حوض. والجماعة : مقاري. (كتاب العين ٥ : ٢٠٤).

(٢) السّلى : جلدة يكون في ضمنها الولد في بطن أمّه.

(٣) العيطل : الطويلة العنق من النوق. الأدماء : البيضاء منها. والأدمة : البياض في الإبل. البكر : الناقة التي حملت بطنا واحدا. ويروى بكر ـ بفتح الباء ـ وهو الفتيّ من الإبل. وبكسر الباء أعلى الروايتين. ولم تقرأ جنينا أي لم تضمّ في رحمها ولدا. (شرح المعلقات للزوزني : ١٢٠ ـ ١٢١). وقال ابن دريد : أي لم تجمع في رحمها ماء الفحل. (جمهرة اللغة ١ : ٢٢٩).

(٤) مقاييس اللغة ٥ : ٧٨ ـ ٧٩.

(٥) النهاية ٤ : ٣٠.

(٦) هو عبيد بن حصين أبو جندل النميري المعروف بالراعي ، لكثرة وصفه الإبل في شعره. كان من فحول الشعراء الإسلاميين ، توفّي حدود التسعين للهجرة ، عاصر الفرزدق وجريرا. (الوافي بالوفيات ـ للصفدي ١٩ : ٢٨٣).

(٧) لسان العرب ٣ : ٣٨٩ (لحد). و ٤ / ٣٨٦ (سور). و ١ : ١٢٨ (قرأ).

(٨) المحكم ٦ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠.

٢٢

وبعد فإذ قد ثبتت أصالة اللفظة في اللغة ، وكان لها تصاريف دارجة في الاستعمال القديم ، فلا موضع لاحتمال كونها من الدخيل ، من أصل سرياني كما قيل!

ادّعى بعضهم أنّه من المحتمل اشتقاق لفظة «القرآن» من «قريانة» بمعنى القراءة ، حيث كانت تستعمل في الكنيسة السّريانيّة ، وجاء ذلك في دائرة المعارف الإنجليزيّة ، ويردّده مستشرق آخر فرنسي هو «ريجي بلا شير» ، وهكذا تلقّتها المصادر الغربيّة ، دون تحرّ عن الحقيقة أو بحث علمي قائم على خطوات منهجيّة (١).

على أنّ اشتراك اللغات المتجاورة في جذور كلمات وألفاظ ، كان شيئا معروفا ، كاشتراك أصول الأمم أنفسها ، ولا سيّما في مثل العربيّة والعبريّة والسّريانيّة ، لها جذور مشتركة ، ولا دليل على أنّ إحداها أخذت من الأخرى ، أو أنّ إحداها أصل والأخرى فرع ، إن لم نقل بأنّ العربيّة هي الأصل لعراقتها في القدم.

وهكذا انصبّ اهتمام عدد من المستعربين المتحرّشين بالإسلام ، على كلمة «فرقان» فبذلوا جهودا مضنية بهدف إرجاعها إلى أصول يهوديّة ـ مسيحيّة.

ولعلّه من جزاف القول : ما ذكره بعض المستشرقين اليهود (٢) ، تصوّروا أنّ كلمة «فرقان» عبريّة ، قدتّم تعريبها. حيث كانت في الأصل «بيركي» (ekriP) . وبشير «مرجليوث» في موسوعته «الدّين والأخلاق» ، قائلا : إنّ الكلمة الأصليّة هي «بيركى ـ أبوت» (٣).

ويعطي «ريتشارد ـ بيل» معلّقا على كلمة «فرقان» في كتابه «مدخل إلى القرآن» ص ١٣٦ ـ ١٣٧ ، الذي صدر بعد وفاته ، تفسيرا يمزج فيه بين التفسير الذي يجمع عليه المفسّرون المسلمون ، وبين تفسير المستشرقين المسيحيّين الذين يزعمون أنّ لفظة «فرقان» ترجع في أصلها إلى الكلمة السّريانيّة «فرقانا» (anakruF) يقول : إنّ الكلمة قد تمّ اشتقاقها من المصادر المسيحيّة ، لكنّ محمدا لا بدّ أنّه قد مزجها باللفظ العربي «فرق» لتسهيل التفريق ما بين أتباعه وبين

__________________

(١) راجع : قضايا قرآنيّة في الموسوعة البريطانيّة ـ للدكتور فضل حسن عبّاس : ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) أمثال «جيجر» في كتابه «ما ذا أخذ محمّد من اليهود؟ : ٩٩». و «هير شفيلد» في كتابه «بحوث جديدة في القرآن : ٦٨». و «هوروفيتز» : «بحوث قرآنيّة : ٧٦ ـ ٧٧».

(٣) الدفاع عن القرآن ضدّ منتقديه ـ عبد الرحمان بدوي : ٥٨.

٢٣

غير المؤمنين (١).

وكلامه هذا غامض جدّا ، ولا غرو بعد أن أخذ قائله في طيف الخيال!

قال الدكتور عبد الرحمان بدوي : إنّه من الغباء نسبة كلمة «فرقان» إلى الكلمة العبريّة «بيركي» (ekirP) ,التي تعني : فصول. كما أنّ الآراء التي تردّ كلمة «فرقان» إلى الكلمة السّريانيّة «بوركانا» (anakruP) بمعنى : الإنقاذ ، تعدّ هي الأخرى ضربا من الغباء (٢).

وعليه فإذ قد كانت الكلمة ذات اشتقاق أصيل في اللغة وفي الاستعمال العربي الشائع ، فلا مجال لاحتمال التعريب وأنّها من الدخيل.

كما وأنّه ليست لفظة «القرآن» ـ ومثلها «الفرقان» ـ لوحدها بالتي ادّعي أنّها دخيلة على العربيّة من أصل سرياني أو عبريّ بل هناك كلمات كثيرة هي من لبّ العربيّة وأساسها ، زعموها غير عربيّة ، ككلمتي «الإيمان والصلاة» حيث زعمت دائرة المعارف الإنجليزيّة ، أنّ الأولى عبريّة أو آراميّة ، وأنّ الثانية آراميّة. وكذلك كلمة «قلم» ، حيث ادّعي أنّها من أصل يونانيّ. وكلمة «صراط» و «سورة» : أنّها مشتقّة من العبريّة الحديثة (٣).

بل ذهبوا إلى ما هو أعجب ، فادّعوا أنّ «سدرة المنتهى» ليست عربيّة كذلك. فقد زعم الأب «أنستاس الكرملي» أنّ كلمة «سدرة المنتهى» الواردة في القرآن ، هي من أصل لاتينيّ. وقد تبعه حسن سالم في هذا الزعم ، كما جاء في مجلّة المصوّر القاهريّة في ١٧ كانون الأوّل ١٩٦٧ م ، العدد ٢٧٢٣ (٤).

قال الدكتور فضل : وهذه لعمر الحقّ هزيمة أشدّ من هزيمة حزيران في السنة نفسها ، أمام هجمات صهيون.

قال : ونحن إذ نردّ هذا الزعم ، لا نردّه جزافا ولا عصبيّة ، فنحن في بحثنا هذا ملتزمون بالمنهج العلمي القائم على أسس منهجيّة.

__________________

(١) المصدر : ٦٠.

(٢) المصدر : ٦١.

(٣) راجع : المستشرقون والدراسات القرآنيّة ـ محمّد حسين علي : ٣٤ (قضايا قرآنيّة : ٢٦).

(٤) راجع : دفاع عن الفصحى ـ أحمد عبد الغفور عطّار : ٣٥. (قضايا قرآنيّة : ٢٦).

٢٤

هب أنّ كلمة في السريانيّة [أو في غيرها من اللغات] جاءت مشابهة للفظة القرآن أو الفرقان ، أفلا يمكن أن يدّعى أنّ تلك اللفظة هي المأخوذة عن العربيّة؟! ولم لا تكون هناك كلمات متشابهة في لغات متجاورة ، ومن يدري أيّ الوضعين كان أسبق من الآخر في وقته؟ (١)

التفسير في مراحل التكوين

نزل القرآن هدى وبصائر للناس وتبيانا لكلّ شيء في بيان واضح وبرهان لائح ، لا غبار عليه ولا عثار لديه وقد كان المسلمون ـ على صفاء أذهانهم إذ ذاك ـ يستسيغون فهم معانيه ، ويستجيدون نظم لئاليه ، بكلّ يسر وسهولة ، حيث قد نزل القرآن بلغتهم وعلى أساليب كلامهم المعروف. ولئن كاد قد يوقف بهم إجمال لفظ أو إبهام معنى ، فإنّ الوقفة لم تكن لتطول بهم ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أظهرهم وفي متناولهم القريب ، فكان إذ ذاك يزيح علّتهم ويكشف النقاب عن وجه الإشكال ، إذ كان عليه البيان كما كان عليه البلاغ ، قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(٢).

وهكذا استمرّ المسلمون في مراجعة القرآن واستنطاقه في شتّى مسائلهم في الحياة ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جنب القرآن مفسّرا ومبيّنا لشرح ما أجمل من تشريع أو أبهم من برهان.

أضف إليه جانب تصدّيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتعليم الصحابة مناهج تلاوته ومباهج بيّناته عملا يوميّا كلّ يوم آيا بعدد.

[م / ٢٦] قال ابن مسعود : كان الرجل منّا إذا تعلّم عشر آيات لم يجاوز هنّ حتّى يعرف معانيهنّ والعمل بهنّ (٣).

[م / ٢٧] وقال أبو عبد الرحمان السّلمي : حدّثنا الذين كانوا يقرئوننا أنّهم كانوا يستقرئون من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانوا إذا تعلّموا عشر آيات لم يخلّفوها حتّى يعلموا بما فيها من العمل. قال : فتعلّمنا القرآن والعمل جميعا (٤).

__________________

(١) قضايا قرآنيّة : ٢٦ ـ ٢٩.

(٢) النحل ١٦ : ٤٤.

(٣) الطبري ١ : ٥٦ / ٦٦.

(٤) المصدر / ٦٧.

٢٥

والمراد بالعمل هنا هي عمليّة الاستنباط وأنّه كيف تستخلص الفروع من الأصول ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفقّه أصحابه في الدّين ويهديهم إلى الترتيل والتفسير جميعا.

وقد سار على منهاجه كبار أصحابه وخيار التابعين والصفوة من عترته الطيّبين. كانوا قدوة للناس ، يعلّمونهم الكتاب والحكمة وفصل الخطاب ، الأمر الذي وفّر على الأمّة تراثا علميّا خالدا وفي حجم كبير وأصبح منهلا عذبا يتروّى منه الوافدون عبر الأعصار.

ولقد كان معينا صافيا وضافيا بالخير والبركات لو لا ما عكر صفو زلالها أكدار الدسّ والتزوير ، من دخائل إسرائيليّة وأخرى وضعتها يد الاختلاق وربّما تساهل بعض الأوائل في حشد تلك الأثار من غير تنقيح أو تهذيب ، ومن غير أن يخلصوا السليم عن السقيم ، ومن ذلك جاءت البليّة في الخلط بين الغثّ والسمين ، بما لا ينبغي.

وأوّل من جمع فأوعى واستكثر من لمّ الشوارد ، هو الإمام أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (٢٢٤ ـ ٣١٠) ، سواء في تاريخه أو في التفسير. وهكذا أولع أصحاب المجاميع الحديثيّة ـ بشتّى أنحائها ـ بنقل تلك الآثار وحكاية تلك الأخبار ، وأكثرها من غير تمحيص.

وفي ذلك يقول العلّامة ابن خلدون (٧٣٢ ـ ٨٠٨) : وصار التفسير على صنفين ، تفسير نقليّ مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف ، وهي معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي ، وكلّ ذلك لا يعرف إلّا بالنقل عن الصحابة والتابعين. وقد جمع المتقدّمون في ذلك وأوعوا ، إلّا أنّ كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغثّ والسّمين والمقبول والمردود. وجاء شاهدا لذلك بالطبري والواقدي والثعالبي وأمثالهم من المفسّرين.

ثمّ قال : والسبب في ذلك أنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم ، وانّما غلبت عليهم البداوة والأمّيّة ، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتشوّق إليه النفوس البشريّة في أسباب المكوّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود ، فإنّما [كانوا] يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم ، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى.

وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ، ولا يعرفون من ذلك إلّا ما تعرفه العامّة من أهل الكتاب ، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهوديّة ، فلمّا أسلموا بقوا على ما كان عندهم

٢٦

في مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك ، وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه وعبد الله بن سلام وأمثالهم. فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض ، أخبار موقوفة عليهم.

وتساهل المفسّرون في مثل ذلك وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات ، وأصلها ـ كما قلنا ـ عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك. إلّا أنّهم بعد صيتهم وعظمت أقدارهم ، لما كانوا عليه من المقامات في الدّين والملّة ، فتلقّيت [منهم] بالقبول من يومئذ.

قال : فلمّا رجع الناس إلى التحقيق والتمحيص ، وجاء أبو محمّد عبد الحقّ بن غالب بن عطيّة من المتأخّرين (٤٨١ ـ ٥٤٢) بالمغرب ، فلخّص تلك التفاسير كلّها وتحرّى ما هو أقرب إلى الصحّة منها ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس ، حسن المنحى. [وأسماه : المحرّر الوجيز].

قال : وتبعه أبو عبد الله محمّد بن أحمد القرطبي (٥٨٠ ـ ٦٧١) في تلك الطريقة على منهاج واحد في كتاب آخر [الجامع لأحكام القرآن] مشهور بالمشرق (١).

وهكذا الإمام الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير (٧٠١ ـ ٧٧٤) في تفسيره القيّم ، قد أزاح الكثير من الإسرائيليّات والموضوعات عن وجه التفسير.

ومن أصحابنا الإماميّة قام الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠) بتهذيب التفسير وتنقيحه عن الشوائب والأكدار ، ليبدو نقيّا صافيا وضافيا بجلائل الدرر والجواهر الحسان ، في تفسيره الأثري العظيم (التبيان). وهو بحقّ تفسير حافل بأمّهات الدلائل على فهم معاني القرآن ، وجامع لكلّ ما يحتاج إليه المفسّر في تبيين المعاني وتشييد المباني ، خال عن كلّ حشو أو زيادة. فجاء تفسيرا جامعا وحاويا على أسس المطالب والتي تستهدفها رسالة القرآن الكريم.

غير أنّ تفسيره هذا ـ على عظمته ـ كان قد ازدحمت عليه المطالب من غير ما نظم وبصورة

__________________

(١) المقدّمة لابن خلدون : ٤٣٩ ـ ٤٤٠ ، (الفصل الخامس في علوم القرآن).

٢٧

منتثرة ، فجاء المفسّر القرم القويم أبو عليّ الفضل بن الحسن الطبرسي ، العلم الشامخ من أكابر علماء الإماميّة في القرن السادس (٤٦٠ ـ ٥٤٨) ، وأخذ في ترتيب وتبويب تفسير الشيخ وأضاف إليه ما وجده في سائر الأصداف والأسفاط من اللئالي والعقود والتيجان. وأسماه «مجمع البيان لعلوم القرآن». وهو بحقّ مجتمع العلوم والمعارف القرآنيّة وملتقى أفذاذ هذا المسرح الفسيح.

وقد وصفه كثير من الأعلام بالنبل والبراعة في التأليف والتصنيف وفي حسن الانتخاب وجودة الترصيف وهو كذلك ، وبذلك قد أفسح هو وأمثاله المجال أمام أهل النظر والتحقيق ممّن تأخّر ، فشكر الله مساعيهم.

وكان عملنا هذا امتدادا لما سار عليه أولئك النبلاء ، وارتواء من منهلهم العذب الرحيق إن شاء الله ، ومن الله التوفيق.

٢٨

التّفسير والتّأويل

(الظهر والبطن)

مصطلحان شرحناهما في مجال سابق (١) ، وبقي أن نذكر عنهما ما يخصّ موضوع الكتاب وليكون تكملة لما أسلفناه :

التفسير : مأخوذ من «فسر» بمعنى : أبان وكشف. واصطلحوا على أنّ التفسير هو : إزاحة الإبهام عن التعبير المشكل ، حيثما أبهم في إفادة المراد.

وكانت صياغته مزيدا فيه (من باب التفعيل) نظرا لمزيد العناية والمبالغة في محاولة كشف المعاني ، نظير الفرق بين كشف واكتشف ، ففي الثاني دلالة على زيادة محاولة وبذل جهد للحصول على المقصود ، فكان أخصّ من المجرّد الثلاثي ، بناء على أنّ زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني.

فالتفسير : محاولة لكشف المعنى وبذل الجهد لإزالة الخفاء عن وجه المشكل من الآيات. وبذلك تبيّن أنّ مورد التفسير ما إذا كان هناك إشكال (إبهام) في وجه الآية إمّا لفظيّا أو معنويّا ، وكان رفعه بحاجة إلى مزيد جهد وعناية ، يبذلها المفسّر بما أوتي من حول وقوّة.

__________________

(١) راجع : الجزء التاسع من كتابنا التمهيد.

٢٩

وسبق (١) أنّ لخفاء المعنى أسبابا وعللا منها ما يعود إلى اعتلاء المعنى وقصور اللفظ أو لإجمال هو بحاجة إلى بيان وتفصيل وما إلى ذلك ممّا لا يخلّ بفصاحة الكلام وبلاغته حسبما شرحناه. وبذلك يفترق التفسير عن الترجمة بأنّها حيث كان جهل بأصول الوضع ممّا ليس في رفعه على العارف بها كثير عناء.

والتأويل : مأخوذ من الأول بمعنى : الرجوع ، ليكون التأويل إرجاعا ، إمّا إلى الوجه المقبول ، كما في باب المتشابهات. أو إلى فحوى الآية العامّ ، بعد عدم صحّة الاقتصار على الظاهر الذي يبدو خاصّا حسب التنزيل.

فإنّ للتأويل مصطلحين عند أهل التفسير : أحدهما يختصّ بباب المتشابهات ، بمعنى : تأويل المتشابه من الأقوال (٢) أو الأعمال (٣) إلى الوجه المعقول المقبول. ومن ثمّ فهو نوع تفسير ، ينضمّ إلى رفع الإبهام عن الآية ، دفع الإشكال عنها أيضا ، ليكون رفعا ودفعا معا.

فالتأويل في باب المتشابهات ، هو بمعنى : توجيهها إلى الوجه الذي يقبله العقل والشرع.

والمصطلح الآخر للتأويل هو : تبيين المفهوم العامّ الخابئ وراء ستار اللفظ الذي يبدو خاصّا حسب التنزيل. فإنّ غالبيّة الآيات النازلة حسب المناسبات تبدو خاصّة بها لا تتعدّاها ظاهريّا ، فهذا يجعل من رسالة القرآن عقيمة مدى الأيّام ، غير أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد على ضرورة استخلاص الآية من ملابساتها ، ولتكون ذات مفهوم عامّ وشامل لجميع الأقوام والأعصار.

[م / ٢٨] قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن».

[م / ٢٩] وقد سئل الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام عن تفسير هذا الحديث فقال : «ظهره تنزيله وبطنه تأويله ، منه ما مضى ومنه ما لم يكن ، يجري كما تجري الشمس والقمر» (٤). وأضاف عليه‌السلام :

[م / ٣٠] «لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية ، لما بقي من القرآن شيء ، ولكنّ القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض ، ولكلّ قوم آية يتلونها هم

__________________

(١) المصدر ١٧ ـ ٢١ و ٣ : ١٢.

(٢) كما جاء في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران ٣ : ٧).

(٣) كما جاء في قصّة موسى وصاحبه : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف ١٨ : ٧٨).

(٤) بصائر الدرجات : ٢١٦ / ٧.

٣٠

منها من خير أو شرّ» (١).

وعليه فللقرآن ظهر حسب التنزيل ، وبطن حسب التأويل. وإنّما عبّر عنه بالبطن ، لأنّ هذا المفهوم العامّ إنّما استخلص من فحوى الآية استخلاصا ، بإعفاء جوانب الآية المرتبطة بالمناسبات ، والتي كادت تجعل الآية خاصّة بها حسب ظاهر التنزيل ، ليجلو وجه الآية العامّ بعد إلغاء الخصوصيّات الساترة ، فقد كان بطن هذا المعنى العامّ لمن قصر نظره على ملابسات الآية حسب تنزيلها. أمّا الذي تعمّق النظر وتدبّر ، فيجد الآية ذات مفهوم واسع سعة الآفاق ، الأمر الذي يجعل من القرآن ـ في جميع آيه ـ ذات رسالة خالدة.

خذ لذلك مثلا قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢) نزلت بشأن المشركين حيث تشكيكهم في موضع الرسول : هل يصحّ أن يكون من البشر؟

فالآية بمفادها الظاهري ـ حسب تنزيلها ـ نزلت بشأن إزاحة علّة المشركين بالذّات. لكنّها بفحواها العامّ ، تعمّ كلّ جاهل بأصول الديانة أو فروعها ، فعليه أن يراجع العلماء في ذلك. وهذه هي رسالة الآية الخالدة ومن ثمّ فهي مستند عقلاني ـ وحياني يحتجّ بها العلماء في كافّة الأصقاع والأعصار على ضرورة رجوع العامّة إلى ذوي الاختصاص في جميع المعارف والعلوم.

التأويل من المدلول الالتزامي

وليعلم أنّ المدلول بالتأويل ـ المعبّر عنه بالبطن ـ من المدلول الالتزامي للكلام لزوما غير بيّن (٣). وعليه فالتأويل تبيين للمعنى الذي تستهدفه الآية بدلالة خفيّة هي بحاجة إلى تعميق

__________________

(١) العيّاشي ١ : ٢١ / ٧.

(٢) النحل ١٦ : ٤٣.

(٣) للدلالة اللفظيّة أنحاء ثلاثة : دلالة مطابقيّة على تمام الموضوع له. ودلالة تضمّنيّة على كلّ من أبعاض الموضوع له. ودلالة التزاميّة على لازم الموضوع له الخارج عن ذاته كدلالة الشمس على الضوء والحرارة.

والدلالة الالتزاميّة على نحوين : دلالة على لازم بيّن اللزوم ودلالة على لازم غير بيّن. والبيّن اللزوم على قسمين : بيّن بالمعنى الأخصّ وبيّن بالمعنى الأعمّ ـ على ما فصّله علماء الميزان ـ.

والبيّن الأخصّ : ما يلزم من تصوّر ذات الملزوم محضا تصوّر اللازم. كتصوّر الضوء عند تصوّر الشمس.

والبيّن الأعمّ : ما يلزم من تصوّر اللازم مع تصوّر الملزوم وتصوّر النسبة بينهما الجزم باللزوم. كتصوّر الزوجيّة للأربعة. أو تصوّر أنّ

٣١

النظر ، دون الاقتصار على ظاهر الكلام حسب التنزيل. ومن ثمّ فسّر الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام الظهر بالتنزيل والبطن بالتأويل أي هناك للآية دلالة جليّة حسب ظاهر التنزيل ، ودلالة أخرى خفيّة ـ هي أوسع وأعمق ـ حسب البحث والتنقيب (التأويل).

غير أنّ الكلام هنا هو : أنّ هذا المعنى المتحصّل عن طريقة التأويل ، معنى متناسب مع ظاهر التنزيل أم هو أجنبيّ عنه وربّما تحميل على اللفظ بما يجعله أحيانا من التفسير بالرأي؟!

وقد نبّهنا مسبقا أنّ هذا المعنى العامّ المستفاد من فحوى الآية لا بدّ أن يكون بينه وبين المعنى الظاهريّ صلة قريبة بما يجعلهما متناسبين تناسب الخاصّ مع العامّ ، ليكون المعنى الظاهريّ خاصّا ، والمعنى الباطني المستفاد من فحوى الآية عامّا يشمل الظاهر وغيره عبر الأجيال.

ومن ثمّ كان المدلول بالتأويل من مداليل الكلام ذاته ، مدلولا التزاميّا وإن كان من القسم غير البيّن منه. فلا بدّ أن يكون متناسبا له ، إذ لا دلالة للكلام على أجنبيّ منه إطلاقا وإنّما هو تحميل محض.

وبذلك أصبحت جلّ تأويلات الباطنيّة ومن على شاكلتهم ، من التفسير بالرأي محضا ، على ما سننبّه.

طريق الحصول على بطن الآية

سبق أن نبّهنا أنّ في طيّ كلّ آية رسالة عامّة هي أوسع نطاقا من ظاهر التنزيل. وهذا الفحوى العامّ هي رسالة الآية تحتضنها إلى الملأ ، والتي قد ضمنت للقرآن خلود آيها جمعاء مع الأبد.

أمّا وكيف الحصول على هذا الفحوى العامّ؟

__________________

الاثنين نصف الأربعة.

وغير البيّن : ما يحتاج في الجزم باللزوم ـ مضافا إلى تصوّر اللازم والملزوم ـ إلى تبيين وتدليل. وقد صرّح صاحب الكبرى في المنطق بأنّ هذه الدلالة معتبرة عند علماء الأصول والبيان ، وعليه فالمدلول بالتأويل هي من الدلالة الالتزاميّة ولكن من القسم الثالث أي غير البيّن منها ، ويعدّ من المداليل اللفظيّة للكلام ، وإن كانت الدلالة بمعونة التدليل وقرينة العقل من خارج إطار اللفظ. ومن ثمّ لم تكن من الظهر بل من البطن المفتقر إلى دقّة وتعميق نظر.

غير أنّ الذي يجب التنبّه له هنا هو : ضرورة وجود المناسبة القريبة بين هذا المعنى الباطني والمعنى البدائي الظاهر من الكلام وإلّا لم يكن من المدلول الالتزامي ، بل كان أجنبيّا وتحميلا على اللفظ وكان من التفسير بالرأي ، فتدبّر! راجع : المنطق للمظفّر ١ : ٢٩ ـ ٣٠ و ٧٩ ـ ٨٠ والكبري في المنطق ، الفصول : ٧ ـ ١١ ، جامع المقدمات.

٣٢

نعم لا بدّ أن نلحظ مقارنات الآية وملابساتها حسب التنزيل ، فما كان له دخل في صلب رسالتها أبقيناه وما لا دخل له أعفيناه وذلك على طريقة السبر والتقسيم المنطقي (١).

ففي آية السؤال من أهل الذكر (٢) نرى أنّها نزلت بشأن المشركين لمكان جهالتهم بأصول النبوّات.

لكنّ المشركين بما أنّهم مشركون لا مدخل لهم في الأمر ، وإنّما موضع جهالتهم بالذات. وكذا لم يكن لخصوص مسألة إمكان نبوّة بشر مدخل ، بل كلّ أمر جهلوه سواء من الأصول أم الفروع.

وهكذا الرجوع إلى اليهود ومسائلة أهل الكتاب ، إنّما كان لأجل كونهم أهل علم وعارفين بما يجهله المشركون.

فلو أعفينا تلك الملابسات ، وأخذنا بلبّ الكلام ، لكان المستخرج المستخلص منه : أنّ على كلّ جاهل في أيّ مسألة من المسائل ، أن يراجع العلماء في ذلك. وهذا هو فحوى الآية الشامل وهي رسالة الآية العامّة إلى الملأ من العالمين.

وهكذا في جميع الآيات التي هي بظاهرها نزلت بشأن خاصّ ، لا بدّ أنّ في طيّها رسالة عامّة هي أوسع وأشمل من ظاهر التنزيل وبذلك يخرج القرآن عن كونه معالجة لقضايا خاصّة ترتبط وشؤون أقوام عايشوه. ومن ثمّ فالعبرة ببطن القرآن العامّ لا بظهره الخاصّ.

لكنّ العمدة إحكام طريقة هذا الاستخلاص فلا يكون تحميلا أو تفسيرا بالرأي! فلا بدّ من ضابط يضبط جميع أطرافه وأن لا يشذّ منه شيء.

ضابطة التأويل

فإذ كان للتفسير ضابطة يجب مراعاتها لئلّا يكون تفسيرا بالرأي ، فأجدر بالتأويل ـ وهو أفخم شأوا وأخطر جانبا من التفسير ـ أن تكون له ضابطة تجمع أطرافه وتمنع الدخائل. فرعاية

__________________

(١) برهان «السبر والتقسيم» عبارة عن عدّ جميع المحتملات الممكنة أو المفروضة ، ثمّ يقام الدليل على نفي واحد واحد ، حتّى ينحصر الأمر في واحد منها ليتعيّن كونه العلّة الموجبة للثبوت ، وبذلك يستكشف ملاك الحكم المترتّب على موضوع ذي عناوين متعدّدة. ومن شرطه ليكون برهانا حقيقيّا ، أن تحصر المحتملات حصرا عقليّا من طريق القسمة الثنائيّة التي تتردّد بين النفي والإثبات. وإلّا فيمكن أن تكون هناك محتملات أخرى وراء هذا المفروض فلا يوجب اليقين. راجع : أصول الفقه للمظفّر ٢ : ١٨٩ ، الباب ٨ (القياس) مطبعة النعمان ـ النجف ١٩٦٧ م ـ ١٣٨٦ ه‍ والمنطق للمظفّر أيضا ١ : ١١١ و ٢ : ١٣٢. مطبعة الزهراء ـ بغداد ١٩٥٧ م ـ ١٣٧٧ ه‍.

(٢) النحل ١٦ : ٤٣.

٣٣

للضابطة نذكر شرائط ثلاثة :

وأوّل شرائط صحّة التأويل : أن يكون على طريقة السّبر والتقسيم بإعفاء الملابسات غير الدخيلة في هدف الكلام الأصل ، وإبقاء ما كان دخيلا في صلب الموضوع ، وبذلك يستخلص ذلك الفحوى العامّ للآية والذي تستهدفه في اتّجاهها العامّ (١). وبذلك تحتفظ المناسبة القريبة بين هذا البطن المستخرج من الكلام وظهره المستفاد حسب ظاهر التنزيل وإلّا كان أجنبيّا عنه ولا دلالة عليه إطلاقا ويكون تحميلا عليه.

فكلّ بيان قدّم بعنوان بطن الآية أو تأويلها وكان اعتباطا غير مستخرج بطريقة منطقيّة ، كان من التفسير بالرأي بلا كلام.

الشرط الثّاني : رعاية الدقّة الكاملة في معرفة ملابسات الكلام ، أيّها دخيلة في اتّجاه الكلام فتبقى وأيّها غير دخيلة فتعفى ، وهو شرط خطير قلّ من يسترعيه.

الشرط الأخير ـ وهو بيت القصيد وبه تطرد الدخائل على علّاتها أجمع ـ : أن يصبح هذا الفحوى العامّ المستخرج بعد التمحيص والتحقيق ، بمثابة كبرى كلّيّة لما دلّ عليه ظاهر الكلام ، ويكون البطن المستخلص (المعنى التأويلي) كلّيّا منطبقا على ظاهر التنزيل. وبعبارة أخرى : يكون مجموع الظهر والبطن بمنزلة استدلال منطقي ، كان الفحوى العامّ بمثابة كبرى كلّيّة مستندا إليها انطباقا على صغراها التي هي مورد التنزيل.

ففي آية السؤال ـ مثلا ـ كان مفاد مجموع الكلام : أنّ على المشركين ـ حيث موضع جهلهم بأصول النبوّات ـ أن يتساءلوا مع جيرانهم اليهود وهم أهل علم وكتاب. لأنّ على كلّ جاهل أن يراجع العلماء فيما جهله ، وهي قاعدة كلّيّة مقبولة لدى العقل والشرع ، طبّقها الله تعالى ـ في ذكره الحكيم ـ بشأن مورد تنزيل الآية بالذات.

وهذا هو المقصود من توافق التأويل مع التنزيل توافق العامّ مع خاصّه. فلم يكن البطن أجنبيّا عن الظهر بل متناسبا معه ومدلولا عليه بدلالة التزاميّة مطويّة للكلام. وما يعقلها إلّا العالمون.

__________________

(١) مثلا : لم يكن المشركون بما أنّهم مشركون محطّ النظر ، بل بما أنّهم جاهلون. وكذلك لم يكن أهل الكتاب بما أنّهم أهل كتاب محطّ نظر ، بل بما أنّهم أهل علم ودراية بالنسبة إلى ما لا يعرفه المشركون. وأيضا فإنّ مورد السؤال وهو أمر النبوّة وهل تصحّ لبشر ، ملحوظا بالخصوص ، بل كلّ ما لا يعرفه الجاهلون. فيستخلص من ذلك : إنّ الجاهل بأيّ شأن من شؤون الدّين ، فعليه مراجعة ذوي العلم في ذلك.

٣٤

وبذلك صرّح الإمام الشاطبي باشتراط كون البطن جاريا على مقتضى الظاهر المقرّر في لسان العرب بحيث يجري على المقاصد العربيّة. أي جاريا على مقتضى أساليبهم في مداليل الكلام ، فلا يكون اعتباطا نابيا عن الظاهر يرفضه رفضا.

وأضاف شرطا آخر : أن يكون له شاهد من الكتاب ذاته (١).

[م / ٣١] «فإنّ القرآن ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض» ، كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢).

وإليك جانبا من كلامه أورده تفصيلا بهذا الشأن (٣).

أكّد الإمام أبو إسحاق الشاطبي : على ضرورة وجود المناسبة القريبة بين التنزيل والتأويل. وفي ذلك :

[م / ٣٢] روى عن الحسن البصري ـ فيما أرسله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ما أنزل الله آية إلّا ولها ظهر وبطن ـ بمعنى : ظاهر وباطن ـ وكلّ حرف حدّ وكلّ حدّ مطلع» (٤).

وفسّر بأنّ الظهر والظاهر هو ظاهر التلاوة ، والبطن هو الفهم عن الله لمراده. قال : وحاصل هذا الكلام أنّ المراد بالظاهر هو المفهوم العربي ، والباطن هو مراد الله تعالى (٥) من كلامه وخطابه.

ثمّ أخذ في شرح ذلك ، قائلا : فكلّ ما كان من المعاني العربيّة التي لا ينبني فهم القرآن إلّا عليها فهو داخل تحت الظاهر. فالمسائل البيانيّة والمنازع البلاغيّة لا معدل بها عن ظاهر القرآن.

وكلّ ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبوديّة والإقرار لله بالربوبيّة ، فذلك هو الباطن المراد والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله.

قال : كون الظاهر هو المفهوم العربيّ مجرّدا لا إشكال فيه ، لأنّ المؤالف والمخالف اتّفقوا على

__________________

(١) راجع : الموافقات ٣ : ٣٩٤.

(٢) نهج البلاغة ٢ : ١٧. الخطبة ١٣٣.

(٣) نورد كلامه بطوله متواصلا ومتقطّعا حيث أفاد وحقّق وأجاد ، وسنعقّبه بما فيه النظر. راجع : الموافقات ٣ : ٣٨٢ ـ ٤٠٦ ، المسالة الثامنة حتّى العاشرة.

(٤) ذكر الشيخ عبد الله دراز ـ في الهامش ـ : أنّ هذا الحديث رواه صاحب المصابيح عن ابن مسعود : «أنزل القرآن على سبعة أحرف. لكلّ آية منها ظهر وبطن ولكلّ حدّ مطلع». وفي روح المعاني في مقدّمة التفسير : «ولكلّ حرف حدّ ولكلّ حدّ مطلع». (هامش الموافقات ٣ : ٣٨٢).

(٥) أي الذي يتوصّل إليه بالوسائل المعهودة لمعرفة حقيقة المراد ، على ما أشار إليه المؤلّف في فصل سابق (الموافقات ٣ : ٣٧٥ ، المسألة السابعة).

٣٥

أنّه منزل بلسان عربيّ مبين.

قال : وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر وتبيّن ، ولكن يشترط فيه شرطان : أحدهما : أن يصحّ على مقتضى الظاهر المقرّر في لسان العرب ويجري على المقاصد العربيّة.

الثاني : أن يكون له شاهد نصّا أو ظاهرا في محلّ آخر يشهد لصحّته من غير معارض.

فأمّا الأوّل فظاهر من قاعدة كون القرآن عربيّا ؛ فإنّه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب (١) لم يوصف بكونه عربيّا بإطلاق. ولأنّه مفهوم يلصق بالقرآن (٢) ليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدلّ عليه ، وما كان كذلك فلا يصحّ أن ينسب إليه أصلا. وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم.

وأمّا الثاني فلأنّه إن لم يكن له شاهد في محلّ آخر أو كان له معارض ، صار من جملة الدّعاوي التي تدّعى على القرآن ، والدعوى المجرّدة غير مقبولة باتّفاق.

وبهذين الشرطين يتبيّن صحّة ما ذكره بعض السلف أنّه من الباطن (٣) لأنّهما موفّران فيه ، بخلاف ما فسّر به الباطنيّة ؛ فإنّه ليس من علم الباطن ، كما أنّه ليس من علم الظاهر.

ثمّ أخذ في تعداد بعض الأمثلة للتأويل الباطل فيما زعمه الباطنيّة أنّه من الباطن : فقد قالوا في قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ)(٤) : إنّه الإمام ورث النبيّ علمه. وقالوا في الجنابة : إنّ معناها : مبادرة المستجيب بإفشاء السرّ إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق. ومعنى الغسل : تجديد العهد على من فعل ذلك. ومعنى الطهور : هو التبرّي والتنظّف من اعتقاد كلّ مذهب سوى متابعة الإمام. والتيمّم : الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد الداعي أو الإمام. والصيام : الإمساك عن كشف السرّ. والكعبة : النبيّ. والباب : عليّ. والصفا : هو النبيّ. والمروة : عليّ. والتلبية : إجابة الداعي. والطواف سبعا : هو الطواف بمحمّد إلى تمام الأئمّة السبعة. والصلوات الخمس : أدلّة على الأصول الأربعة وعلى الإمام. ونار إبراهيم : هو غضب نمرود لا النار الحقيقيّة. وذبح إسماعيل (٥) : هو أخذ العهد

__________________

(١) هذا إشارة إلى ما نبّهنا عليه من ضرورة كون البطن مفهوما من الكلام ذاته ، وإن كان بدلالة التزاميّة خفيّة (غير بيّنة) أصبحت جليّة بفضل التدبّر وتعميق النظر. غير أنّها تعود إلى اللفظ وليس مجرّد اعتباط.

(٢) أي تحميل على القرآن وليس من دلالة ذاته في شيء.

(٣) سيأتي بعض الأمثلة لذلك.

(٤) النمل ٢٧ : ١٦.

(٥) ذكر المصنّف هنا إسحاق بدل إسماعيل. وهو مذهب أهل الكتاب وتبعهم من المسلمين من لا تحقيق له.

٣٦

عليه. وعصا موسى : حجّته التي تلقّفت شبه السّحرة. وانفلاق البحر : إفتراق علم موسى عليه‌السلام فيهم. والبحر : هو العالم. وتظليل الغمام : نصب موسى الإمام لإرشادهم. والمنّ : علم نزل من السماء. والسلوى : داع من الدعاة. والجراد والقمّل والضفادع : سؤالات موسى وإلزاماته التي تسلّطت عليهم. وتسبيح الجبال : رجال شداد في الدّين. والجنّ الذين ملكهم سليمان : باطنيّة ذلك الزمان. والشياطين : هم الظاهريّة الذين كلّفوا الأعمال الشاقّة. إلى سائر ما نقل من خباطهم الذي هو عين الخبال وضحكة السامع.

تأويلات قد تحتمل القبول

ثمّ عرّج الشاطبي على ذكر تأويلات من السلف ومن بعض أهل العلم قد تحتمل القبول ، قال : وقد وقعت في القرآن تفاسير مشكلة يمكن أن تكون من التأويل الباطل أو من قبيل الباطن الصحيح. وهي منسوبة لأناس من أهل العلم ، وربّما نسب منها إلى السلف الصالح. فمن ذلك :

فواتح السور ، نحو (الم) و (المص) و (حم) ونحوها فسّرت بأشياء ، منها ما يظهر جريانه على مفهوم صحيح ، ومنها ما ليس كذلك.

فينقلون عن ابن عبّاس أنّ (الم) : أنّ «ألف» : الله. و «لام» : جبريل. و «ميم» : محمّد. وهذا إن صحّ في النقل فمشكل ؛ لأنّ هذا النمط من التصرّف لم يثبت في كلام العرب هكذا مطلقا ، وإنّما أتي مثله إذا دلّ عليه دليل لفظيّ أو حاليّ ؛ كما قال الراجز :

قلت لها : قفي قالت : قاف

لا تحسبي أنّا نسينا الإيجاف

أرادت بقولها : قاف ، وقفت. وقال آخر :

نادوهم ألا الجموا ألا تا

قالوا جميعا كلّهم : ألا فا

أراد ألا تركبون ، قالوا : ألا فاركبوا.

وقال زهير :

بالخير خيرا «ت» وإن شرّا «فا»

ولا أريد الشرّ إلّا أن «تا»

أراد بالتاء : تشاء. وبالفاء : فاء الجزاء. أي وإن شرّا فشرّ ، إلا أن تشاء (١).

__________________

(١) راجع : القرطبي ١ : ١٥٥ ـ ١٥٦.

٣٧

قال الشاطبي : والقول في (الم) ليس هكذا (١) ، وأيضا فلا دليل من خارج يدلّ عليه ؛ إذ لو كان له دليل لاقتضت العادة نقله ، لأنّه من المسائل التي تتوفّر الدواعي على نقلها لو صحّ أنّه ممّا يفسّر ويقصد تفهيم معناه. ولمّا لم يثبت شيء من ذلك دلّ على أنّه من قبيل المتشابهات ؛ فإن ثبت له دليل يدلّ عليه صير إليه.

وهناك أقوال وآراء في تفسير هذه الحروف ، وكلّها غير مستندة إلى شاهد أو دليل ، وبذلك ترى هذه الأقوال مشكلة إذا سبرناها بالمسبار المتقدّم (٢).

هذا ومع إشكالها فقد اتخذها جمع من المنتسبين إلى العلم ، بل إلى الاطّلاع والكشف على حقائق الأمور ، حججا في دعاو ادّعوها على القرآن. وربّما نسبوا شيئا من ذلك إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وزعموا أنّها أصل العلوم ومنبع المكاشفات على أحوال الدنيا والآخرة ، وينسبون ذلك إلى أنّه مراد الله تعالى في خطابه للعرب الأمّيّة التي لا تعرف شيئا من ذلك. وهو إذا سلّم أنّه مراد في الجملة ، فما الدليل على أنّه مراد على كلّ حال من تركيبها بعضها ببعض ونسبتها إلى الطبائع الأربع وإلى أنّها الفاعلة في الوجود ، وأنّها مجمل كلّ مفصّل وعنصر كلّ موجود؟! ويرتّبون في ذلك ترتيبا جميعه دعاو ومحالة على الكشف والاطّلاع.

قال : ودعوى الكشف ليس بدليل في الشريعة على حال ، كما أنّه لا يعدّ دليلا في غيرها.

قال : ومن ذلك أنّه نقل عن سهل بن عبد الله (٣) في فهم القرآن أشياء مما يعدّ من باطنه. فقد ذكر عنه أنّه قال في قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً)(٤) أي أضدادا. قال : فأكبر الأضداد ، النفس الأمّارة بالسوء ، المتطلّعة إلى حظوظها ومناها بغير هدى من الله. (٥)

وهذا يشير إلى أنّ النفس الأمّارة داخلة تحت عموم الأنداد ، حتّى لو فصّل لكان المعنى : فلا تجعلوا لله أندادا لا صنما ولا شيطانا ولا النفس ولا كذا. وهذا مشكل الظاهر جدّا ؛ إذ كان مساق الآية ومحصول القرائن فيها يدلّ على أنّ الأنداد ، الأصنام أو غيرها ممّا كانوا يعبدون ، ولم يكونوا

__________________

(١) أي ليس في «الم» ما يشهد لهذا التفسير ، كما كان في الأمثلة الثلاثة الشعريّة.

(٢) أي تطابقا مع الشرطين لقبول التأويل والتفسير الباطني.

(٣) هو : أبو عبد الله سهل بن عبد الله التستري (ت : ٢٨٣). هو أوّل من خطّ التفسير على المنهج الصوفي الباطني وتبعه بعد ذلك أناس وتصدّى أبو بكر محمّد بن أحمد البلدي لجمع آرائه التفسيريّة غير أنّه ليس بجامع ، حيث الموجود في بطون الكتب أكثر منه.

(٤) البقرة ٢ : ٢٢.

(٥) تفسير التستري : ٢٧.

٣٨

يعبدون أنفسهم ولا يتّخذونها أربابا.

ولكن له وجه جار على الصحّة ، وذلك أنّه لم يقل إنّ هذا هو تفسير الآية (١) ولكن أتى بما هو ندّ في الاعتبار الشرعيّ الذي شهد له القرآن من جهتين.

إحداهما : أنّ الناظر قد يأخذ من معنى الآية معنى من باب الاعتبار ، فيجريه فيما تنزل فيه ، لأنّه يجامعه في القصد أو يقاربه ؛ لأنّ حقيقة الندّ : أنّه المضادّ لندّه الجاري على مناقضته ، والنفس الأمّارة هذا شأنها ، لأنّها تأمر صاحبها بمراعاة حظوظها ، لاهية أو صادّة عن مراعاة حقوق خالقها. وهذا هو الذي يعنى به الندّ في ندّه ؛ لأنّ الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه.

وشاهد صحّة هذا الاعتبار قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ)(٢) وهم لم يعبدوهم من دون الله ، ولكنّهم ائتمروا بأوامرهم ، وانتهوا عمّا نهوهم عنه كيف كان ، فما حرّموا عليهم حرّموه ، وما أباحوا لهم حلّلوه ، فقال الله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) وهذا شأن المتّبع لهوى نفسه.

والثانية : أنّ الآية وإن نزلت في أهل الأصنام ، فإنّ لأهل الإسلام فيها نظرا بالنسبة إليهم ، ألا ترى أنّ عمر بن الخطّاب قال لبعض من توسّع في الدنيا من أهل الإيمان : أين تذهب بكم هذه الآية (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا)(٣). وكان هو يعتبر نفسه بها ، وإنّما أنزلت في الكفّار. ولهذا المعنى تقرير في العموم والخصوص (٤) ، فإذا كان كذلك صحّ التنزيل بالنسبة إلى النفس الأمّارة في الآية.

ومن المنقول عن سهل أيضا في قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ)(٥) قال : ولم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة ، وإنّما أراد معنى مساكنة الهمّة لشيء هو غيره ، أي لا تهتمّ بشيء هو غيري. قال : فآدم لم يعتصم من الهمّة والتدبير فلحقه ما لحقه من أجل ذلك. قال : وكذلك كلّ من ادّعى ما ليس له وساكن قلبه ناظرا إلى هوى نفسه فيه ، لحقه الترك من الله ، مع ما جلبت عليه نفسه ، إلّا أن يرحمه‌الله فيعصمه من تدبيره وينصره على عدوّه وعليها. قال : وآدم لم يعصم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لمّا أدخل الجنّة ، ألا ترى أنّ البلاء دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست به

__________________

(١) هذا وجه وجيه سوف نتعرّض له.

(٢) التوبة ٩ : ٣١.

(٣) الأحقاف ٤٦ : ٢٠. والرواية في : شعب الإيمان ٥ : ٣٤ / ٥٦٧٢ ؛ كنز العمّال ٣ : ٧١٧ / ٨٥٥٨ ؛ الحاكم ٢ : ٤٥٥.

(٤) هو قولهم : «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المورد».

(٥) البقرة ٢ : ٣٥.

٣٩

نفسه ، فغلب الهوى والشهوة على العلم والعقل والبيان ونور القلب لسابق القدر. إلى آخر ما تكلّم (١).

وهذا الذي ادّعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس من أنّ المراد النهي عن نفس الأكل لا عن سكون الهمّة لغير الله وإن كان ذلك منهيّا عنه أيضا.

ولكن له وجه يجري عليه لمن تأوّل ، فإنّ النهي وقع عن القرب لا غيره ، ولم يرد النهي عن الأكل صريحا ، فلا منافاة بين اللفظ وبين ما فسّر به.

وأيضا فلا يصحّ حمل النهي على نفس القرب مجرّدا ؛ إذ لا مناسبة فيه تظهر ، وإنّما النهي عن معنى في القرب وهو إمّا التناول والأكل ، وإمّا غيره وهو شيء ينشأ الأكل عنه ، وذلك مساكنة الهمّة ، فإنّه الأصل في تحصيل الأكل. ولا شكّ في أنّ السكون لغير الله لطلب نفع أو دفع منهيّ عنه ، فهذا التفسير له وجه ظاهر. فكأنّه يقول : لم يقع النهي عن مجرّد الأكل من حيث هو أكل ، بل عمّا ينشأ عنه الأكل من السكون لغير الله ، إذ لو انتهى لكان ساكنا لله وحده ، فلمّا لم يفعل وسكن إلى أمر في الشجرة غرّه به الشيطان ، وذلك الخلد المدّعى ، أضاف الله إليه لفظ العصيان ، ثمّ تاب عليه ، إنّه هو التوّاب الرحيم (٢).

ومن ذلك أنّه قال في قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ)(٣) : أي أوّل بيت وضع للناس بيت الله عزوجل بمكة ، هذا هو الظاهر. وباطنها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد (٤) واقتدى بهدايته.

وهذا التفسير يحتاج إلى بيان ، فإنّ هذا المعنى لا تعرفه العرب ولا فيه من جهتها وضع مجازيّ مناسب ولا يلائمه مساق بحال (٥) ، فكيف هذا؟

والعذر عنده أنّه لم يقع فيه ما يدلّ على أنّه تفسير للقرآن (٦) فزال الإشكال. (٧)

وقال في قوله تعالى : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى :) أمّا باطنها فهو القلب. (وَالْجارِ الْجُنُبِ) هو الطبيعة. (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) هو العقل المقتدي بالشريعة. (وَابْنِ السَّبِيلِ)(٨) هي الجوارح المطيعة لله عزوجل.

__________________

(١) تفسير التستري : ٢٩.

(٢) الموافقات ٣ : ٣٩٩ ـ ٤٠١.

(٣) آل عمران ٣ : ٩٦.

(٤) تفسير التستري : ٥٠.

(٥) أي فهو فاقد للشرطين المتقدّمين.

(٦) بل من قبيل تداعي المعاني وتواردها من غير أن يكون تفسيرا للكلام حسبما ننبّه.

(٧) الموافقات ٣ : ٤٠١.

(٨) النساء ٤ : ٣٦.

٤٠