التفسير الأثري الجامع - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-94552-4-8
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٤١٦

[م / ٣١٠] وفي حديث المعلّى بن خنيس قال : قال أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصل في كتاب الله عزوجل. وأضاف : ولكن لا تبلغه عقول الرجال» (١) أي الرجال الأباعد!

[م / ٣١١] وقال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم» (٢).

أي تدبّروا فيه وأمنعوا النظر في معانيه ، ففيه شفاء لكل داء ، أمّا هو فلا يبادئكم بما فيه لو لا مراجعتكم له وإلحاح الطلب منه. ومن ثمّ قال الإمام عليه‌السلام : «فلو سألتموني عنه لعلّمتكم» (٣).

[م / ٣١٢] وروى الكشّي بإسناده إلى محمّد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمان ، أنّ بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر فقال له : يا أبا محمّد! ما أشدّك في الحديث ، وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا ، فما الذي يحملك على ردّ الأحاديث؟

فقال يونس : حدّثني هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «لا تقبلوا علينا حديثا إلّا ما وافق القرآن والسّنّة ، أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدّمة ، فإنّ المغيرة بن سعيد دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي. فاتّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى وسنّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّا إذا حدّثنا قلنا : قال الله عزوجل وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

قال يونس : وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليه‌السلام ووجدت أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام متوافرين ، فسمعت منهم وأخذت كتبهم ، فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله عليه‌السلام وقال لي : «إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد الله عليه‌السلام ، وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام.

قال عليه‌السلام : فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنّا إن تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنّة ، إنّا عن الله وعن رسوله نحدّث ، ولا نقول قال فلان وفلان ، فيتناقض كلامنا. إنّ كلام آخرنا مثل كلام أوّلنا ، وكلام أوّلنا مصادق لكلام آخرنا. فإذا أتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك فردّوه عليه وقولوا : أنت أعلم وما جئت به ، فإنّ مع كلّ قول منّا حقيقة وعليه نورا ، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان» (٤).

__________________

(١) المصدر / ٦.

(٢) المصدر : ٦١ / ٧.

(٣) المصدر.

(٤) رجال الكشّي ٢ : ٤٨٩ ـ ٤٩٠ / ٤٠١.

٢٢١

[م / ٣١٣] وفي حديث سماعة عن الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه ، أو تقولون فيه؟ قال : «بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١).

[م / ٣١٤] وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في حديث قال : «إذا جاءكم عنّا حديث ، فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به وإلّا فقفوا عنده ، ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم» (٢).

وعليه فالمعيار الأوّل لتمييز القويّ عن الضعيف هو العرض على محكمات الدين ، نظير عرض المتشابهات من القرآن على محكمات الآيات ، الأمر الذي يتطلّب حنكة وإحاطة شاملة ، بعد الاستعانة بالله العليّ القدير.

أمّا البحث عن الأسناد فهو بحث جانبي وعقيم في غالب الأحيان ، بعد وفور المراسيل وإهمال الكثير من تراجم الرجال. فضلا عن إمكان الدسّ في الأسناد. نظير الاختلاق في المتون ، فبقي طريق العرض على المحكمات هو الأوفق الأوفى على كلّ حال.

[م / ٣١٥] قال الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام : «إنّ في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن ، ومحكما كمحكم القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا» (٣).

وقد مرّ عليك حديث ابن أبي يعفور عن الإمام الصادق عليه‌السلام : جعل الاعتبار بتواجد شاهد من كتاب الله أو من سنة رسول الله ، يشهد بصدق الرواية ، سواء أكان الراوي ثقة أو غير ثقة. فلا اعتبار بالسند وحده ما لم يدعمه اعتلاء المحتوى (٤).

[م / ٣١٦] وهكذا روى العيّاشي بإسناده عن محمّد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام قال : «يا محمّد! ما جاءك في رواية ـ من برّ أو فاجر ـ يوافق القرآن فخذ به ، وما جاءك في رواية ـ من برّ أو فاجر ـ يخالف القرآن فلا تأخذ به» (٥).

كيف العرض على كتاب الله

سؤال أثارته الدراسات الأصوليّة ولا سيّما في باب التعادل والترجيح ، حيث الموافق مع كتاب الله متقدّم على المخالف. ذلك أنّ نصوص الكتاب محدودة النطاق وليست بذلك المتّسع

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٢ / ١٠.

(٢) المصدر ٢ : ٢٢٢ / ٤.

(٣) عيون أخبار الرضا ١ : ٢٦١ / ٣٩ ، باب ٢٨.

(٤) راجع : الكافي ١ : ٦٩ / ٢ ، باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب.

(٥) العيّاشي ١ : ٢٠ / ٣ ؛ مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٤ / ٥.

٢٢٢

الشامل لجلّ مسائل الخلاف فضلا عن كلّها ، فكيف العرض؟!

وقد اضطربت كلماتهم هنا ، حيث فرضوا المخالفة مع الكتاب إمّا بالتباين أو بالعموم من وجه أو بالعموم المطلق. أمّا الأخير فلا مخالفة ذاتيّا بعد إمكان الجمع عرفيّا بالحمل على التخصيص ، مثاله : قوله تعالى ـ بشأن المطلّقات ـ : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ)(١) ، المخصّص بما ثبت في الشريعة من اختصاص ذلك بالرجعيّات (٢).

وهكذا المخالفة بالعموم من وجه ، كما في قوله تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ)(٣) ، مع حديث «لا ضرر ولا ضرار» (٤) فيما إذا حاول الطبيب معالجة مريض ، لكن فرط منه ما أوجب تلفه أو نقصه ، من غير أن يكون عامدا ، فإنّ الآية تنفي ضمان خسارته ، لكونه محسنا وبصدد معالجته. أمّا حديث «لا ضرر» فيقضي بضمانه ، وإن لم يرتكب إثما.

وفي ذلك ينبغي اللجوء إلى ترجيح أحد الظاهرين على الآخر ، إمّا ترجيحا بمقتضى قوّة الدلالة أو بمرجّحات اخر ، وهنا كان الترجيح مع الحديث ، لما ورد مستفيضا من ضمان الطبيب ولو كان حاذقا (٥).

أمّا المخالفة بالتباين فلا مورد له ، بعد شعور الوضّاعين بعدم رواج أكاذيبهم ما لو كانت المخالفة صريحا مع ظاهر الكتاب.

فأين موضع عرض الأحاديث على كتاب الله ، ليعرف السقيم منها عن السليم ، بالخلاف أو الوفاق؟!

قلت : ليس الأمر كما ظنّ ، إذ لا يعقل أن يكذب أحد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أحد الصادقين عليهم‌السلام كذبا صريحا ، بحيث يتخالف مع القرآن أو السنّة القويمة ، بشكل واضح ومبائن علنا ، إذ حيث ذاك تبدو سوأته على ملاء من الناس ويفضح من أساس.

لكنّه ـ عن خبث ـ يحاول تلبيس الأمر بحيث يمكن تعبيره على العامّة. أمّا الخاصّة فلا تشتبه عليهم التلبيسات ولا يمكن التعبير عليهم ، ما داموا أذكياء نبهاء ، يعرفون مراسي الشريعة ومبانيها القويمة ، ويقفون سدّا منيعا دون رسوب الأباطيل في الدين.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٢٨.

(٢) راجع : الجواهر ٣٢ : ١٧٩ فما بعد.

(٣) التوبة ٩ : ٩١.

(٤) مسند أحمد ٥ : ٣٢٧.

(٥) راجع : الوسائل ٢٩ : ٢٦٠ ، باب ٢٤ (ضمان الطبيب إذا لم يأخذ البراءة).

٢٢٣

[م / ٣١٧] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين» (١).

[م / ٣١٨] وفي لفظ آخر : «يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» (٢).

نعم ، إنّهم بفضل وقوفهم على محكمات الدين وعرفانهم لأصول الشريعة ومبانيها الوثيقة ، يمكنهم رفض الواردات المنافية مع معطيات الكتاب والسنّة ، رفضا عن علم وحكمة وعلى أساس متين. (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)(٣).

إذن فالمراد من المخالفة هنا هي المباينة مع صميم الدين وروح الشريعة الغرّاء ، مباينة مع أهدافها وأغراضها الهادفة إلى إسعاد الأمّة في دنياهم وآخرتهم. فما عاكس هذا الاتجاه ، فهو زخرف مرفوض ، وما رافقه فهو حقّ مقبول.

نعم هناك محكمات ومتشابهات ، فمن عرف المحكمات لم تلتبس عليه المتشابهات.

ومن لمس الحقيقة في صميمها ، سهل عليه رفض الأباطيل.

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ)(٤).

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ)(٥).

[م / ٣١٩] وبهذا المعنى ورد حديث المعلّى عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصل في كتاب الله عزوجل ولكن لا تبلغه عقول الرجال» (٦).

أي ما من أمر يمسّ شؤون الأمّة إلّا ويمكن نقده (تمييز جيّده عن رديئه) في ضوء محكمات القرآن ، الأمر الذي يخصّ الراسخين في العلم النابهين الأذكياء ، ومن ثمّ قال : ولكن لا تبلغه عقول الرجال ، أي سائر الناس من الغوغاء العوامّ.

[م / ٣٢٠] وفي حديث ابن أبي يعفور عن الصادق عليه‌السلام قال : «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له

__________________

(١) رواه الكشّي بالإسناد إلى الإمام الصادق عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (رجال الكشّي ١ : ١٠ / ٥) ؛ البحار ٢ : ٩٣ / ٢٢.

(٢) تفسير الإمام : ٤٧ ؛ البحار ٢٧ : ٢٢٢ / ١١.

(٣) الأنعام ٦ : ٩٠.

(٤) الأنبياء ٢١ : ١٨.

(٥) الرعد ١٣ : ١٧.

(٦) الكافي ١ : ٦٠ / ٦.

٢٢٤

شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلّا فالذي جاءكم به أولى به» (١).

أي وجدتم له شاهدا يشهد بصدقه ، الأمر الذي يتنبّه له العارفون بمواضع كتاب الله وسنة نبيّه عرفانا شاملا وفي إحاطة بالغة.

[م / ٣٢١] جاء في حديث هشام عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «لا تقبلوا علينا حديثا إلّا ما وافق القرآن والسنّة أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدّمة. قال : فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى وسنّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فإنّا إذا حدّثنا ، قلنا : قال الله عزوجل ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٢).

فجعل عليه‌السلام المعيار لمعرفة السليم عن السقيم هو العرض على المعلوم من كتاب الله وسنة نبيّه.

وفيما رواه الشيخ أبو الفتوح الرازي المفسّر ، ما هو أجلى وأبين. قال :

[م / ٣٢٢] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا أتاكم عنّي حديث فاعرضوه على كتاب الله وحجّة عقولكم» (٣).

فقد جعل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة العقول إلى جنب كتاب الله ، معيارا للتمييز. والمراد : بداهة العقل الرشيد وضرورة الحكمة القويمة. ومن ثمّ :

[م / ٣٢٣] كان عبد الله بن عبّاس رحمه‌الله إذا حدّث قال : إذا سمعتموني أحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم تجدوه في كتاب الله أو حسنا عند الناس ، فاعلموا أنّي قد كذبت عليه (٤).

فالشائع الذائع والمعلوم المعروف عن رسول الله ، هو المعيار لنبذ الشاذّ الزائف الذي لا يعضده المعقول المستحسن السائغ.

وعليه فليس المراد : الموافقة أو المخالفة الحرفية مع الكتاب ، وإنما هي مخالفة جوهريّة ، بحيث يتنافى وروح الإسلام النابضة في جميع تشريعاته وأحكامه وسننه ، الأمر الذي يمكن للفقيه الألمعي الاستشراف عليه بما أوتي من العلم بمواضع الدين وأسرار الشريعة.

فلو جاءت هناك رواية ـ مهما كانت أسانيدها ـ ولم تكن منسجمة مع طبيعة تشريعات الدين كتابا وسنة ، ولم تلتئم مع مزاج الشريعة الأصيل ، فلا محالة كانت باطلة يجب نبذها وضربها عرض الجدار. مثلا :

[م / ٣٢٤] ما ورد بشأن الأكراد وأنّهم حيّ من أحياء الجنّ ، كشف عنهم الغطاء ، فلا تخالطوهم

__________________

(١) المصدر : ٦٩ / ٢.

(٢) رجال الكشّي ٢ : ٤٨٩ / ٤٠١.

(٣) أبو الفتوح ٥ : ٣٦٨. ذيل الآية (٤٠) من سورة النساء.

(٤) الدارمي ١ : ١٤٦ ، باب تأويل حديث رسول الله.

٢٢٥

ولا تعاملوهم (١). متناف مع صراحة الكتاب بأنّ البشريّة جمعاء خلقوا من نسل واحد وانحدروا من سلالة واحدة ، لا ميز بينهم في جنس ولا نسب ولا في جوهر الذاتيّات.

قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً)(٢).

فالخطاب عام ويشمل جميع الشعوب والقبائل وأصناف الناس عربهم وعجمهم على سواء.

[م / ٣٢٥] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الناس من آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط ، لا فضل للعربيّ على العجميّ ، ولا للأحمر على الأسود إلّا بالتقوى» (٣).

إذن فحديث الأكراد الآنف ، متبائن مع صريح الكتاب والسنّة المأثورة. وبذلك اتّضح :

[م / ٣٢٦] قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه» (٤).

يعنى : من عرف الكتاب عرف وجه الصواب في جميع الأمور ، وأمكنه تمييز الحق عن الباطل في يسر وسهولة ، بما آتاه الله من بصيرة ونور.

[م / ٣٢٧] قال الصادق عليه‌السلام : «ما آتاكم عنّا من حديث لا يصدّقه كتاب الله فهو زخرف» (٥).

[م / ٣٢٨] وقال : «لا تصدّق علينا إلّا ما وافق كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٦).

وأصرح من الجميع :

[م / ٣٢٩] ما رواه الحسن بن الجهم ـ الرجل الثقة الثبت ـ عن العبد الصالح الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام قال : «إذا جاءك الحديثان المختلفان ، فقسمها على كتاب الله وأحاديثنا ، فإن أشبههما فهو حقّ ، وإن لم يشبههما فهو باطل» (٧).

__________________

(١) رواه عليّ بن الحكم عمّن حدّثه عن أبي الربيع الشامي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، الوسائل ١٧ : ٤١٦ باب ٢٣ (من أبواب آداب التجارة). والرواية كما ترى مجهولة الاسناد (من الذي حدّث ابن الحكم؟) بل وإنّ خليد بن أوفى المعروف بأبي الربيع الشامي ، لم يرد في شأنه توثيق ولا مدحه أحد من أصحاب الرجال.

(٢) النساء ٤ : ١.

(٣) قاله بشأن من لمز بشأن سلمان الفارسيّ. راجع : البحار ٢٢ : ٣٤٨ / ٦٤.

(٤) جامع أحاديث الشيعة ١ : ٣١١ ـ ٣١٢ / ٤٥٤ ـ ٨. (عن الكافي ١ : ٦٩ / ١ ؛ أمالي الصدوق : ٤٤٩ / ٦٠٨ ـ ١٨).

(٥) جامع أحاديث الشيعة ١ : ٣١٣ / ٤٥٧ ـ ١١ ؛ العيّاشي ١ : ٢٠ / ٤.

(٦) جامع أحاديث الشيعة ١ : ٣١٤ / ٤٦٣ ـ ١٧ ؛ العيّاشي ١ : ٢٠ / ٦.

(٧) جامع أحاديث الشيعة ١ : ٣١٤ / ٤٦٤ ـ ١٨.

٢٢٦

ويعني بالمشابهة : المسانخة والتلاؤم والوفاق ، الأمر الذي لا يخصّ الوفاق الحرفي ، وإنّما هي الموافقة في صميم الكلام وفحواه العام ، كما عرفت.

فالمراد بالموافقة هي الموافقة الذاتيّة بين مضمون الحديث والأصول الإسلاميّة المستفادة من الكتاب والسنّة. ومن ثمّ كانت روايات الجبر والتفويض مرفوضة عندنا ، لمكان مخالفتها مع قاعدة «الأمر بين الأمرين» المستفادة من صميم الكتاب والسنّة.

الأمر الذي يعبّر عنه في علم «معرفة الحديث» بالنقد الداخلي للخبر ، أي مقارنة مضمونه مع الأصول العامّة والمباني الأولى للشريعة ، انسجاما مع روحها النابضة في جميع أشلائها.

وهذه هي الطريقة الحكيمة التي سلكها عميد الطائفة الشيخ أبو عبد الله المفيد ـ قدس‌سره ـ في معالجة روايات الجبر والتفويض. قال : وكتاب الله تعالى مقدّم على الأخبار والروايات ، وإليه يتقاضى في صحيح الأخبار وسقيمها ، فما قضى به فهو الحقّ دون ما سواه (١).

قال ذلك ردّا على أبي جعفر الصدوق فيما زعم أنّ أفعال العباد مخلوقة لله. وفسّر الخلق بالتقدير ، استنادا إلى رواية لم يتحقّقها. وكانت مخالفة للكتاب بشأن استطاعة العباد.

جاء في رسالة الاعتقادات : «اعتقادنا في أفعال العباد أنّها مخلوقة ، خلق تقدير لا خلق تكوين. ومعنى ذلك أنّه لم يزل الله عالما بمقاديرها» (٢).

قال أبو عبد الله المفيد : الصحيح عن آل محمّد ـ صلوات الله عليهم ـ أنّ أفعال العباد غير مخلوقة لله تعالى. والذي ذكره أبو جعفر رحمه‌الله قد جاء به حديث غير معمول به ولا مرضيّ الإسناد (٣) ، والأخبار الصحيحة بخلافه. وذكر من تلك الأخبار :

[م / ٣٣٠] ما روى عن أبي الحسن الثالث عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى الرضا عليهم‌السلام أنّه «سئل

__________________

(١) رسالة تصحيح الاعتقاد : ٤٤ (مصنّفات المفيد ٥).

(٢) رسالة الاعتقادات : ٢٩ / ٤ (مصنّفات المفيد ٥) ؛ البحار ٥ : ١٩.

(٣) والحديث هو ما رواه الصدوق (سنة ٣٥٢) عن شيخه عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس العطّار النيسابوري ـ مجهول ـ عن عليّ ابن محمّد بن قتيبة النيسابوري ـ لم يوثّق ـ عن الفضل بن شاذان ، فيما سأل المأمون الإمام الرضا عليه‌السلام أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز. فجاء فيما كتب : «وأنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، خلق تقدير لا خلق تكوين ، والله خالق كلّ شيء. ولا نقول بالجبر والتفويض». (عيون أخبار الرضا ٢ : ١٣٢ / ١ ، باب ٣٥).

وروى أيضا بنفس الإسناد : عن ابن عبدوس عن ابن قتيبة عن حمدان بن سليمان النيسابوري عن عبد السّلام بن صالح أبي الصلت الهروي قال : سمعت أبا الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام يقول : أفعال العباد مخلوقة. فقلت له : يا ابن رسول الله ، وما معنى «مخلوقة»؟ قال : مقدّرة. (معاني الأخبار : ٣٩٥ ـ ٣٩٦ / ٥٢ ، باب نوادر المعاني).

٢٢٧

عن أفعال العباد ، أهي مخلوقة لله تعالى؟ فقال : لو كان خالقا لها لما تبرّأ منها. وقد قال سبحانه : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)(١) ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم ، وإنّما تبرّأ من شركهم وقبائحهم».

[م / ٣٣١] وفي حديث أبي حنيفة مع الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام حيث «سأله عن أفعال العباد ، ممّن هي؟ فأجابه الإمام ـ في وجه عقلي حاصر ـ : إنّها من العباد ، بدليل اختصاصهم بالمثوبة والعقاب» (٢).

والإنكار على الصدوق إنّما هو من جهة ابتناء عقيدته على خبر ضعيف الإسناد فضلا عن مخالفته للكتاب فيما بيّنه الإمام الهادي عليه‌السلام : أنّ الشرك والقبائح لو كان فعله تعالى لما تبرّأ منه في صريح القرآن. مضافا إلى مخالفته لبرهان العقل في توجيه الملامة إلى فاعل القبيح محضا دون غيره على الإطلاق.

وأيضا فإنّ المفيد إنّما أنكر على الصدوق ضعف مقدرته على تمحيص الأخبار وتمييز السليم عن السقيم ، ومن ثمّ جاءته بليّة الاسترسال إلى أحاديث ضعاف.

قال ـ في مسألة الإرادة والمشيئة ـ : الذي ذكره الشيخ أبو جعفر رحمه‌الله في هذا الباب لا يتحصّل ، ومعانيه تختلف وتتناقض. والسّبب في ذلك أنّه عمل على ظواهر الأحاديث المختلفة ولم يكن ممّن يرى النّظر فيميّز بين الحقّ منها والباطل ، ويعمل على ما يوجب الحجّة. ومن عوّل في مذهبه على الأقاويل المختلفة وتقليد الرّواة كانت حاله في الضعف ما وصفناه (٣).

هذا في حين أنّ السيّد أبا المعالي المرتضى استثنى أبا جعفر الصدوق من جماعة القمّيين المسترسلين في نقل الحديث من غير هوادة. قال : والقمّيّون كلّهم من غير استثناء لأحد منهم إلّا أبا جعفر ابن بابويه رحمه‌الله ، بالأمس كانوا مشبّهة مجبّرة وكتبهم وتصانيفهم تشهد بذلك وتنطق به. قال : فليت شعري أيّ رواية تخلص وتسلم من أن يكون في أصلها وفرعها واقف أو غال ، أو قمّي مشبّه مجبّر ، والاختبار بيننا وبينهم التفتيش. ثمّ لو سلم خبر أحدهم من هذه الأمور ، ولم يكن راويه إلّا مقلّد بحت معتقد لمذهبه بغير حجّة ودليل. ومن كانت هذه صفته عند الشيعة ، جاهل بالله تعالى ، لا يجوز أن يكون عدلا ، ولا ممكن أن تقبل أخباره في الشريعة.

__________________

(١) التوبة ٩ : ٣.

(٢) تصحيح الاعتقاد : ٤٣ ـ ٤٤ (مصنفات المفيد ٥). والحديث رواه المشايخ في جلّ كتبهم. راجع : البحار ١٠ : ٢٤٧ / ١٦ والتعليقة رقم ٨.

(٣) تصحيح الاعتقاد : ٤٩.

٢٢٨

قال : وكلّ من نشير إليه منهم إذا سألته عن سبب اعتقاده التوحيد والعدل أو النبوّة والإمامة ، أحالك على الروايات وتلا عليك الأحاديث. فلو عرف هذه المعارف بجهة صحيحة ، لما أحال في اعتقاده إذا سئل عن جهة علمها (١).

وعليه فالمذهب الصحيح في تمحيص الأخبار هو ما ذهب إليه شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في كتابه «الاستبصار» : قسّم الخبر إلى متواتر يوجب تواتره العلم بصحّة مؤدّاه ، وخبر آحاد حفّت به قرائن قطعيّة تلحقه بالمتواتر ، وخبر آحاد عري من القرائن ، غير أنّه ممّا رواه الثقات ولم يكن ما يوجب وهنه ، فهذا أيضا يجب العمل به على أصولنا.

قال : واعلم أنّ الأخبار على ضربين : متواتر وغير متواتر ، فالمتواتر منها ما أوجب العلم. فما هذا سبيله يجب العمل به ، من غير توقّع شيء ينضاف إليه ولا أمر يقوى به ولا يرجّح به على غيره. وما يجري هذا المجرى لا يقع فيه التعارض ولا التضادّ في أخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام.

وما ليس بمتواتر على ضربين ، فضرب منه يوجب العلم أيضا ، وهو كلّ خبر تقترن إليه قرينة توجب العلم. وما يجري هذا المجرى يجب أيضا العمل به. وهو لاحق بالقسم الأوّل.

والقرائن أشياء كثيرة :

منها : أن تكون مطابقة لأدلّة العقل ومقتضاه.

ومنها : أن تكون مطابقة لظاهر القرآن ، إمّا لظاهره أو عمومه أو دليل خطابه أو فحواه. فكلّ هذه القرائن توجب العلم وتخرج الخبر عن حيّز الآحاد وتدخله في باب المعلوم.

ومنها : أن تكون مطابقة للسنّة المقطوع بها ، إمّا صريحا أو دليلا أو فحوى أو عموما.

ومنها : أن تكون مطابقة لما أجمع المسلمون عليه ، أو أجمعت عليه علماء الطائفة.

فإنّ جميع هذه القرائن تخرج الخبر من حيّز الآحاد وتدخله في باب المعلوم وتوجب العمل به. وأمّا القسم الآخر ، فهو كلّ خبر لا يكون متواترا ويتعرّى من كلّ واحد من هذه القرائن ، فإنّ ذلك خبر واحد ، ويجوز العمل به على شروط (ذكرها في الأصول وعمدتها : رواية الثقة الأمين).

فإذا كان الخبر لا يعارضه خبر آخر ، فإنّ ذلك يجب العمل به ، لأنّه من الباب الذي عليه الإجماع في النقل. إلّا أن تعرف فتاواهم بخلافه ، فيترك لأجلها العمل به.

__________________

(١) رسالته في إبطال العمل بأخبار الآحاد رقم ٤٨ (رسائل السيّد المرتضى ـ المجموعة الثالثة : ٣١٠ ـ ٣١١).

٢٢٩

ثمّ أخذ في الكلام عن المتعارضين وعن أنواعه وطريقة العلاج ، على ما بيّن في الأصول (١).

وهكذا فصّل الكلام في ذلك في كتابه الذي وضعه لتمهيد أصول الفقه (٢).

وهذا المنهج الذي انتهجه الشيخ هو المنهج القويم لتقييم الروايات ووزنها على المقياس العقلاني الرشيد.

فقد جعل المعيار لوزن اعتبار الأخبار هي مراتب قوّتها في إيجاب العلم بمؤدّاها ، فما كانت متواترة كان سبيلها وجوب العمل بها من غير انتظار شيء ينضاف إليها.

وأمّا غير المتواتر من الأخبار فما كان منه مقترنا بقرائن توجب العلم بصّحة مؤدّاه ، فهذا كالمتواتر ، كان سبيله العمل بموجبه ، لأنّ ما يوجب العلم يستلزمه وجوب العمل بلا ريب.

وهذا أدقّ نكتة تنبّه لها شيخنا الأقدم ، في أنّ أخبار الآحاد المحتفّة بقرائن صادقة ، هي كالمتواترات الموجبة للعلم! فليس هناك تعبّد بظنّ وإنّما هو عمل بعلم.

وهذا هو الذي مشى عليه سيّدنا الأستاذ الإمام الخوئي ـ طاب ثراه ـ بشأن حجّية أخبار الآحاد (الجامعة لشرائط الحجّية) في مختلف أبواب الشريعة ، وليس خاصّا بأبواب التكاليف.

حيث اعتبر من مؤدّى خبر الثقة الأمين علما وليس تعبّدا بظنّ (٣).

والمهمّ في كلام الشيخ ، تعداده للقرائن الحافّة الموجبة للعلم ، وقد جعل أوّلها وأولاها هي : مطابقة دلائل العقل الحكيمة. وثانيها : موافقة دلائل الكتاب ، بأنحاء الدلائل الجليّة منها والخفيّة (ظاهر الكتاب وباطنه) والتي يعلم تفسيرها وتأويلها الراسخون في العلم.

وثالثها : موافقة السنّة المقطوع بها ، إمّا صريحا أو دليلا أو فحوى أو عموما.

ورابعها : المرافقة مع إجماع المسلمين أو إجماع علماء الطائفة ، وإجماعهم حجّة بلا ريب.

والعمدة : أنّه رحمه‌الله جعل من مؤدّى تلكم الأخبار المحتفّة بإحدى هذه القرائن ، علما يوجب العمل به. وأنّ خبرا هذا شأنه خارج عن حيّز أخبار الآحاد وداخل في باب المعلوم الذي يلزم الأخذ به.

وممّا يلفت النظر في كلامه قدس‌سره أنّه جعل خبر الواحد ـ المنقول في كتب الأصحاب ـ إذا لم يعارضه خبر آخر ، داخلا في باب الإجماع على نقله ، ويلزم العمل به ما لم تعارضه الفتاوى!

وهذا هو القول الفصل بشأن اعتبار أخبار الآحاد ، في جميع مجالات الدين ، أصولا وفروعا ،

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٣ ـ ٤.

(٢) راجع : عدّة الأصول ١ : ٣٣٦ و ٣٦٧ ـ ٣٧٢.

(٣) نقلنا كلامه في الفصل السابق.

٢٣٠

ما لم يعلها أثر وهن يوجب التريّث لديه ، كما إذا كان الآتي بالخبر معروفا بالفسق ، وقد قال تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(١). وهذا التخصيص دليل على الترخيص فيما عداه.

وإليك موارد سلكها الشيخ بهذا النهج القويم في تقييم الأخبار وتمييز سليم الروايات عن سقيمها أو الترجيح مع محكمات الآثار :

[م / ٣٣٢] روى بإسناده إلى محمّد بن إسماعيل عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله عزوجل خلق الدنيا في ستّة أيّام ، ثمّ اختزلها من أيّام السنة ، والسنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما. شعبان لا يتمّ أبدا. وشهر رمضان لا ينقص والله أبدا ، ولا تكون فريضة ناقصة ، إنّ الله تعالى يقول : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)(٢). وشوّال تسعة وعشرون يوما. وذو القعدة ثلاثون يوما ، لقول الله عزوجل : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)(٣). وذو الحجّة تسعة وعشرون يوما. والمحرّم ثلاثون يوما. ثمّ الشهور بعد ذلك شهر تامّ وشهر ناقص!؟ (٤)

هذا الخبر ـ على إرساله ـ موهون بمخالفة الواقع ، وفيها تعاليل غريبة جدّا.

ونظيرها أحاديث أخر نصّت على أنّ شهر الصيام لا ينقص أبدا.

لكنّ الشيخ رحمه‌الله رفضها رفضا باتّا ، بحجّة أنّها مخالفة للكتاب ومتواتر الأخبار ، فضلا عن وهن محتواها من تعاليل غريبة ، توهن جانب انتسابها إلى إمام هدى معصوم عليه‌السلام وأخذ في الاستدلال على نكارتها من وجوه ، في عدّة صفحات (٥).

[م / ٣٣٣] وروى بإسناده إلى محمّد بن قيس عن الإمام أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في وليد أمة سبّ رجلا : أن لا حدّ عليه ، وقال للخصم : سبّه كما سبّك أو تعفو عنه».

قال الشيخ : هذا الخبر ضعيف مخالف لما قدّمناه من الأخبار الصحيحة ، ولظاهر القرآن ، فلا ينبغي أن يعمل عليه. على أنّ فيه ما يضعّفه ، وهو : أنّ أمير المؤمنين أمر الخصم أن يسبّ خصمه كما سبّه ، ولا يجوز أن يأمر عليه‌السلام بالسّبّ ، لأنّ السّبّ قبيح ، وإنّما له أن يقيم عليه الحدّ إمّا على الكمال أو التعزير. فأمّا أن يأمره بالسباب فذلك مما لا يجوز على حال (٦).

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ٦.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٥.

(٣) الأعراف ٧ : ١٤٢.

(٤) الاستبصار ٢ : ٦٨ / ٢١٨ ـ ٢٠.

(٥) المصدر : ٦٩ ـ ٧١.

(٦) تلفيق ممّا ذكره في كتابيه : التهذيب ١٠ : ٨٨ / ٣٤٢ ـ ١٠٧ ؛ الاستبصار ٤ : ٢٣٠ ـ ٢٣١ / ٨٦٧ ـ ١٥.

٢٣١

[م / ٣٣٤] وروى بإسناده إلى عليّ بن الحكم عن عبد الرحمان بن محمّد بن عبيد الله العزرمي الفزاري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «صلّى عليّ عليه‌السلام بالناس على غير طهر ، وكانت الظهر ، فخرج مناديه أنّ أمير المؤمنين صلّى على غير طهر فأعيدوا ، وليبلغ الشاهد الغائب» (١).

هذا الحديث ـ حسب قواعد الفنّ ـ صحيح الإسناد ولا مغمز في عبد الرحمان العزرمي ، وحتّى أنّ ابن حبّان ذكره في الثقات وقال : يعتبر حديثه من غير روايته عن أبيه (٢).

لكنّ الشيخ رمى الحديث بالشذوذ ، لمخالفته لأحاديث متضافرة بعدم البأس بصلاة قوم أمّهم رجل على غير طهور وهو لا يعلم (٣). وقد اتفقت آراء الفقهاء على ذلك ، ويعضده حديث «لا تعاد».

قال : وقد تضمّن أيضا من الفساد ما يقدح في صحّته ، وهو أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام صلّى بالناس على غير وضوء ، وقد آمننا من ذلك ، دلالة عصمته عليه‌السلام.

قلت : وللعزرمي هذا أيضا أحاديث قد يشنّع عليه ،

[م / ٣٣٥] منها ما رواه بشأن الحسنين عليهما‌السلام : كان بينهما طهر ، وكان بينهما في الميلاد ستة أشهر وعشر (٤).

[م / ٣٣٦] وقد اشتهرت الرواية عند الشيعة الإماميّة بأنّ الحسن عليه‌السلام ولد في النصف من رمضان في سنة ثلاث من الهجرة. وولد الحسين عليه‌السلام لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة بعد أخيه بعشرة أشهر وعشرين يوما.

نصّ على ذلك ابن شهر آشوب في المناقب (٥) والمفيد في الإرشاد (٦). وهكذا الشيخ في المصباح (٧).

[م / ٣٣٧] ومن غريب حديثه أيضا ما رواه عن أبيه في رجل موطوء ، فأمر به أمير المؤمنين بالسيف ثمّ الحرق بالنار ، وفيه تعليل غريب (٨).

[م / ٣٣٨] وروى بإسناده إلى عمّار الساباطي فيمن شكّ في صلاة المغرب ، فلم يدر ركعتين صلّى أم ثلاثا ، قال : «يسلّم ثمّ يقوم فيضيف إليها ركعة» (٩).

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٤٣٣ / ١٦٧١.

(٢) لسان الميزان ٣ : ٤٢٩ / ١٦٧٩.

(٣) الاستبصار ١ : ٤٣٢ ، باب ٢٦٤.

(٤) الكافي ١ : ٤٦٣ ـ ٤٦٤ / ٢ ، باب مولد الحسين عليه‌السلام.

(٥) المناقب ٣ : ٢٣١ ؛ البحار ٤٣ : ٢٣٧ / ١.

(٦) الإرشاد ٢ : ٢٣١ ؛ البحار ٤٣ : ٢٥٠ / ٢٦.

(٧) مصباح المتهجد : ٨٢٦ ؛ البحار ٤٣ : ٢٦٠ / ٤٨.

(٨) الكافي ٧ : ١٩٩ / ٥ و ٦.

(٩) الاستبصار ١ : ٣٧١ / ٧ و ٨.

٢٣٢

وردّه الشيخ بأنّه مخالف لسائر الأخبار المعمول بها لدى الأصحاب ، ولأنّ عمّارا الساباطي هذا ضعيف فاسد المذهب لا يعمل بما يختصّ بروايته. وقد اجتمعت الطائفة على ترك العمل بهذا الخبر (١).

[م / ٣٣٩] وروى بإسناده إلى ضريس الكناسي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة وعبد قتلا رجلا خطأ؟ فقال : «إنّ خطأ المرأة والعبد مثل العمد ، فإن أحبّ أولياء المقتول أن يقتلوهما قتلوهما».

[م / ٣٤٠] وأيضا بالإسناد إلى أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سئل عن غلام لم يدرك وامرأة قتلا رجلا خطأ؟ فقال : «إنّ خطأ المرأة والغلام عمد ، فإن أحبّ أولياء المقتول أن يقتلوهما قتلوهما» (٢).

قال الشيخ : قد أوردت هاتين الروايتين لما تتضمّنان من أحكام قتل العمد. فأمّا قوله في الخبر الأوّل : إنّ خطأ المرأة والعبد عمد ، وفي الرواية الأخرى : إنّ خطأ المرأة والغلام عمد ، فهذا مخالف لقول الله تعالى ، لأنّ الله حكم في قتل الخطأ الدية دون القود ، فلا يجوز أن يكون الخطأ عمدا ، كما لا يجوز أن يكون العمد خطأ فيما سوى المجانين.

وأيضا فإنّ العبد إذا قتل خطأ سلّم إلى أولياء المقتول أو يفتديه مولاه ، وليس لهم قتله. وكذلك الصبيّ إذا لم يبلغ فإنّ عمده خطأ وتتحمّل الدية عاقلته ، فكيف يجوز أن نقول في هذه الرواية إنّ خطأه عمد.

قال : وإذا كان الخبران على ما وصفنا من الاختلاط ، لم ينبغ أن يكون العمل عليهما (٣).

[م / ٣٤١] وروى بإسناده إلى أبي مريم الأنصاري ـ بطريقين ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام «في امرأة قتلت رجلا؟ قال : تقتل ويؤدّي وليّها بقيّة المال».

قال الشيخ : هذه رواية شاذّة ، لم يروها إلّا أبو مريم الأنصاري ، ومع ذلك فإنّها مخالفة لظاهر الكتاب ، قال الله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)(٤). والروايات التي قدّمناها صريحة

__________________

(١) المصدر : ٣٧٢.

(٢) التهذيب ١٠ : ٢٤٢ / ٩٦٢ ـ ٢ و ٩٦٣ ـ ٣ ؛ الاستبصار ٤ : ٢٨٦ ؛ الكافي ٧ : ٣١٠ / ٢ و ١ ؛ من لا يحضره الفقيه ٤ : ١١٣ / ٥٢٢٤.

(٣) راجع : التهذيب ١٠ : ٢٤٣. وهكذا ذكر في الاستبصار.

(٤) المائدة ٥ : ٤٥.

٢٣٣

بأنّه لا يجني الجاني على أكثر من نفسه ، فإذا وردت رواية مخالفة لذلك ، ينبغي أن لا يلتفت إليها (١).

انظر كيف جعل ظاهر الكتاب نصّا بعد دعمه بصريح الروايات ، وجعل ما يخالف هذا الظاهر مخالفا للكتاب. وهو أسلوب فنيّ دقيق ، قد يخفى على غير ذوي الاختصاص بمشارب الفقاهة.

وللشيخ في ترجيحاته لمختلف الروايات أساليب تنبؤك عن سعة باعه في طريقة الاجتهاد والاستنباط ، ولا بدّ أن تؤخذ أسوة ـ كما كانت عند السلف والخلف من فقهائنا العظام ـ ولا يجعل مجرّد اعتبار السند أو محض وثاقة الراوي معيارا للقبول.

وهذا الإمام أحمد بن حنبل يجعل العرض على الثابت من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقياسا لتمييز الصحيح عن السقيم.

[م / ٣٤٢] قال محمّد بن منصور : كنّا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل : يا أبا عبد الله! ما تقول في هذا الحديث الذي يروى : أنّ عليّا عليه‌السلام قال : «أنا قسيم النار»؟ فقال أحمد : وما تنكرون من ذا؟ أليس روينا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ عليه‌السلام «لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق»؟ قلنا : بلى! قال : فأين المؤمن؟ قلنا : في الجنّة. قال : وأين المنافق؟ قلنا : في النار. قال أحمد : فعليّ قسيم النار! (٢)

نماذج من نقد الحديث ذاتيّا

ولقد كان نقد الحديث متنا (ذاتيّا من داخل محتواه) أمرا معروفا منذ البداية ولا يزال. وإليك أوّلا النقد بمخالفة الكتاب :

[م / ٣٤٣] روى البخاري في صحيحه بالإسناد إلى مسروق بن الأجدع قال : قلت لعائشة : يا أمّتاه! هل رأى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه؟ فقالت : لقد قفّ شعري (٣) مما قلت! أين أنت من ثلاث من حدّثكهنّ فقد كذب :

١ ـ من حدّثك أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى ربّه ، فقد كذب. ثمّ قرأت :

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(٤). (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ)(٥).

__________________

(١) الاستبصار ٤ : ٢٦٨ / ٥ ـ ١٠٠٩ ، باب ١٥٥.

(٢) طبقات الحنابلة ١ : ٣٢٠. (الإمام الصادق والمذاهب الاربعة ـ أسد حيدر ٤ : ٥٠٣).

(٣) يقال : قفّ شعره ، إذا قام لشدّة الفزع.

(٤) الأنعام ٦ : ١٠٣.

(٥) الشورى ٤٢ : ٥١.

٢٣٤

٢ ـ ومن حدّثك أنّه يعلم ما في غد فقد كذب. ثمّ قرأت : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً)(١).

٣ ـ ومن حدّثك أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتم (أي لم يبلّغ بعض ما أنزل إليه) فقد كذب. ثمّ قرأت : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ)(٢).

قالت : ولكنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى جبريل عليه‌السلام في صورته مرّتين (٣).

[م / ٣٤٤] روى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يدخل الجنّة ولد الزنا ، ولا ولده ، ولا ولد ولده».

[م / ٣٤٥] وروى عبد الله بن عمرو عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يدخل الجنّة ولد زنية».

[م / ٣٤٦] وروى : «إنّ الله ذرأ لجهنّم ماذرأ ، كان ولد الزنا فيمن ذرأ لجهنّم» (٤).

[م / ٣٤٧] وهكذا روى أبو هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا شيء من نسله إلى سبعة آباء».

وناقش ابن الجوزي هذه الأحاديث مناقشة سنديّة أوّلا وذكر تضعيف الأئمة لها من وجوه ، ثمّ قال : وأيّ ذنب لولد الزنا حتّى يمنعه من دخول الجنّة ، فهذه الأحاديث تخالف الأصول ، وأعظم ما في قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(٥).

وفي قصّة هاروت وماروت وما حيكت حولهما من أساطير ، يقول سيّدنا العلّامة الطباطبائي : إنّها قصّة خرافيّة تنسب إلى الملائكة المكرمين ما يخالف نصّ القرآن على نزاهتهم وطهارة ساحتهم عن الأدناس والأرجاس (٦).

قال تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)(٧). (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)(٨).

وقال بشأن ما ورد في تفسير قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(٩) :

[م / ٣٤٨] فيما أخرجه الفريابي وغيره عن عليّ عليه‌السلام قال : «نزلت هذه الآية في إبراهيم

__________________

(١) لقمان ٣١ : ٣٤.

(٢) المائدة ٥ : ٦٧.

(٣) راجع : البخاري ٦ : ٥١. في تفسير سورة النجم. وقد أسلفنا الحديث عن رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجبرائيل في صورته مرّتين. في كتابنا التمهيد ١ : ٦١ ، عند البحث عن الوحي المباشر.

(٤) كنز العمّال ٥ : ٣٣٣ / ١٣٠٩٥ ـ ١٣٠٩٧.

(٥) الموضوعات ٣ : ١١١. والآية من سورة الأنعام ٦ : ١٦٤.

(٦) الميزان ١ : ٢٤١.

(٧) الأنبياء ٢١ : ٢٦ ـ ٢٧.

(٨) التحريم ٦٦ : ٦.

(٩) الأنعام ٦ : ٨٢.

٢٣٥

وأصحابه خاصّة ، ليس في هذه الأمّة» (١).

قال : والرواية لا توافق بظاهرها الأصول الكليّة المستخرجة من الكتاب والسنّة ، فإنّ الآية ـ في دلالتها ـ عامّة ، إذ الإيمان بجميع آثاره ومراتبه ، وكذا الظلم بمراتبه وسوء آثاره ، أمر يرتبط مع فطرة الإنسان ومعطياته الإنسانيّة المودعة في جبلّته وذلك لا يختلف مع اختلاف الأمم والأزمنة. فالقول باختصاص مضمون الآية بأمّة دون غيرها ، مخالف لهذه الكليّة الفطريّة المستفادة من الكتاب والسنّة (٢).

وله قدس‌سره مواقف كريمة تجاه روايات جاءت مخالفة لمعطيات الكتاب والسنّة ، ولم يقتصر على ما خالف الكتاب نصّا ، وإن لم يكن ذلك بعزيز.

مثلا : ما ورد بشأن بدء النسل البشري ، وقد اختلفت الروايات في ذلك :

[م / ٣٤٩] فقد روي أنّ أحد ابني آدم تزوّج بحوراء نزلت من السماء ، فولدت له أربعة بنين. وتزوّج ابنه الآخر من بنات الجانّ ، فولدت له أربع بنات ، فتزوّج بنو ذاك من بنات هذا. فما كان من جمال فمن قبل الحوراء وما كان من قبح وسوء خلق فمن الجنّ. والروايات بهذا المعنى كثيرة (٣).

وتجاه ذلك رواية أخرى :

[م / ٣٥٠] في حديث الإمام عليّ بن الحسين السجّاد عليه‌السلام مع قرشيّ يصف فيه تزوّج كلّ من ابني آدم بأخت الآخر من غير بطنه. حتّى إذا استوى النسل ، جاء التحريم بالتزوّج بالأخوات. وعلّل عليه‌السلام ذلك بأنّ تحريم التزوّج بالأخت تشريع اعتباري ، فيجوز تحليله حينذاك وتحريمه بعد ذلك ، وليس ذاتيّا كي لا يتحمّل التخصيص ولو في مصلحة تكثير النسل بدءا.

وبذلك يختلف عن تزوّج بعض الأقوام ـ فيما يقال ـ بذوات الأرحام ، كالأخت مثلا. حيث كان هذا بعد التحريم.

هكذا رواه صاحب كتاب الاحتجاج بالإسناد إلى أبي حمزة الثمالي ، قال : سمعت عليّ بن الحسين عليه‌السلام يحدّث رجلا من قريش. وسرد الحديث (٤).

قال سيدنا الطباطبائي ـ تعقيبا على حديث الإمام السجّاد ـ : وهذا هو الموافق لظاهر الكتاب

__________________

(١) الدرّ ٣ : ٣٠٩.

(٢) الميزان ٧ : ٢٢١ نقلا بتوضيح.

(٣) راجع : العيّاشي ١ : ٢٤١ ـ ٢٤٢. وعلل الشرائع ١ : ١٧ ـ ١٨ / ١.

(٤) الاحتجاج ٢ : ٤٣ ـ ٤٤.

٢٣٦

وللاعتبار أيضا (١).

وعلّل ذلك مسبقا بقوله : وظاهر الآية أنّ النسل البشري ينتهي إلى آدم وزوجته حوّاء ، من غير أن يشاركهما فيه غيرهما ، حيث قوله تعالى : (وَبَثَّ مِنْهُما)(٢) ، ولم يقل : منهما ومن غيرهما.

قال : وبناء عليه كان الازدواج في الطبقة الأولى ـ بعد آدم وزوجته ـ أي في أولادهما بلا واسطة ، إنّما وقع بين الإخوة والأخوات (ازدواج البنين بالبنات). إذ الذكور والإناث كانا منحصرين فيهم يومذاك. قال : ولا ضير فيه بعد كونه حكما تشريعيّا يرجع أمره إلى الله وفق ما يراه من مصلحة ، فيجوز أن يباح يوما ويحرّم يوما آخر (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)(٣)(٤).

أنظر كيف رجّح رواية مرسلة فريدة في نوعها ، على سائر الروايات وكادت أن تكون مستفيضة. لا لشيء إلّا لأنّ تلك كانت متوافقة مع ظاهر الكتاب وللاعتبار العقلي أيضا.

على أنّ في تلك الروايات ـ فضلا عن كونها مخالفة لظاهر الكتاب ـ شيئا من نكارة يرفضها العقل وكذا العلم أيضا. إذ كيف يمكن التوالد من تزاوج جنسين؟! ثمّ كيف كان الجمال وصالح الأعمال نابعا من أصل غير بشري؟! وكذا القباحة في المنظر والسلوك ناشئة من خارج إطار اختيار الإنسان بما يرفع عن الإنسان مسؤوليته في الحياة!! كلّ ذلك مخالف لصريح مناهج الكتاب وتعاليمه الحكيمة ، الأمر الذي يحتمّ نبذ تلكم الأخبار وضربها عرض الجدار.

وهكذا اختلفت الأقوال والروايات بشأن والد إبراهيم : آزر أو تارح. وجاء في ظاهر تعبير القرآن : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً)(٥).

[م / ٣٥١] أخرج أبو الشيخ عن الضحّاك في الآية قال : آزر أبو إبراهيم (٦) قال ابن كثير : آزر اسم صنم ، وأبو إبراهيم اسمه تارح. وهكذا قال غير واحد من علماء النسب : إنّ اسمه تارح. قال : كأنّه غلّب عليه آزر : لخدمته ذلك الصنم (٧).

أو لعلّ اسمه الأصلي كان «آزر» بمعنى النشيط ، ولكنهم رأوا منه كسلا وفشلا فلقّبوه بتارح بمعنى الكسول (٨).

__________________

(١) الميزان ٤ : ١٥٧.

(٢) النساء ٤ : ١.

(٣) الرعد ١٣ : ٤١.

(٤) الميزان ٤ : ١٤٥ ـ ١٤٦.

(٥) الأنعام ٦ : ٧٤.

(٦) الدرّ ٣ : ٣٠٠.

(٧) ابن كثير ٢ : ١٥٥.

(٨) على ما أسبقنا الكلام فيه. راجع : كتابنا التمهيد ٧ : ٦٦ ـ ٦٩.

٢٣٧

فقد تسالم أصحاب هذا القول على أنّ المعنيّ بهذا الخطاب هو والد إبراهيم الحقيقي ، سواء أكان اسمه آزر أو تارح.

وفي قبال ذلك إطباق آراء مفسّري الإماميّة ، وفق أحاديثهم المأثورة المستفيضة بطهارة آباء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على أنّ المخاطب بهذا الكلام هو عمّ إبراهيم ، وربّما تزوّج بأمّه بعد وفاة والده تارح ، فأصبح إبراهيم ربيبه ، وبذلك صحّ إطلاق الأب عليه. لأنّ الأب أعم من الوالد ، فيطلق على الجدّ للأمّ ، وعلى المربّي والمعلّم والمرشد ، وعلى العمّ أيضا حيث جاء إطلاق الأب عليه في القرآن. فقد حكى الله عن أولاد يعقوب قولهم : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ)(١). وإسماعيل كان عمّا ليعقوب.

وأنكر الزجّاج أن يكون «آزر» اسم والد إبراهيم. قال الشيخ أبو جعفر الطوسيّ : والذي قاله الزجّاج يقوّي ما قاله أصحابنا : أنّ آزر كان جدّ إبراهيم لأمّه أو كان عمّه ، لأنّ أباه كان مؤمنا ، لأنّه قد ثبت عندهم أنّ آباء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى آدم كلّهم كانوا موحّدين لم يكن فيهم كافر. ولا خلاف بين أصحابنا في هذه المسألة.

[م / ٣٥٢] قال : وأيضا روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «نقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، لم يدنّسني بدنس الجاهليّة». وهذا خبر لا خلاف في صحّته (٢). فبيّن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الله نقله من أصلاب الطاهرين. فلو كان فيهم كافر لما جاز وصفهم بأنّهم طاهرون ، لأنّ الله وصف المشركين بأنّهم أنجاس : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)(٣)(٤).

وللإمام الرازي بحث مذيّل وحجج أقامها دعما لما يقوله مفسر والشيعة ، وأخيرا يقول : فثبت بهذه الوجوه أنّ «آزر» ما كان والد إبراهيم عليه‌السلام بل كان عمّا له ، والعمّ قد يسمّى بالأب ، كما سمّى أولاد يعقوب إسماعيل أبا ليعقوب.

[م / ٣٥٣] وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن عمّه العبّاس حين أسر : «ردّوا عليّ أبي».

قال : وأيضا يحتمل أنّ «آزر» كان والد أمّ إبراهيم. وهذا قد يقال له الأب ، كما كان عيسى عليه‌السلام

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٣٣.

(٢) ورد في تأويل قوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (الشعراء ٢٦ : ٢١٩) بطريق الفريقين أحاديث متظافرة أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات». راجع : التفسير الكبير ١٣ : ٣٩ ؛ الدرّ ٦ : ٣٣٢ ؛ مجمع البيان ٦ : ٤٢٦.

(٣) التوبة ٩ : ٢٨.

(٤) التبيان ٤ : ١٧٥.

٢٣٨

من ذريّة إبراهيم من قبل الأمّ (١).

ولسيّدنا الطباطبائي هنا تحقيق لطيف ، جعل من القول بكون «آزر» والد إبراهيم متنافيا مع ظاهر الكتاب ، فضلا عن منافاته لأصول العقيدة الإسلاميّة في آباء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكونهم موحّدين حتّى آدم عليه‌السلام.

وذلك أنّ إبراهيم لمّا آيس من آزر إيمانه هجره ووعده بالاستغفار له : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا)(٢).

وبالفعل وفى بما وعد : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ)(٣). لكن سرعان ما رجع عمّا كان قد رجا في أبيه خيرا ، ومن ثمّ تبرّأ منه من بعد : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)(٤).

هذا في بداية الأمر وقبل مغادرته بلاد شنعار (كلدان ـ العراق) وربما كان في منتصف عمره أي في سنّ الخامسة والسبعين. ولكنّه بعد ما طاف البلاد واتخذ الأرض المقدّسة مهجرا له ورزق بإسماعيل ومن بعده بإسحاق ، فكان ممّا فعله في أخريات حياته أن بنى البيت هو وابنه إسماعيل وربما بلغ من العمر ما يقارب المأة والخمسين ، هنا لك دعا ربّه وقال : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ)(٥) نراه يعود فيستغفر لوالديه (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ)(٦).

هنا يأتي العلّامة الطباطبائي ليدلي برأيه الأخير ، ويقول : والآية بما لها من السياق والقرائن المحتفّة بها ، خير شاهدة على أنّ والده الذي دعا له واستغفر له هنا ، غير أبيه آزر الذي تبرّأ منه في سالف الأيّام.

إذ لم يكن إبراهيم ممن ينسى أو يتناسى موقف أبيه آزر ـ الذي تبيّن له أنّه عدوّ لله ـ ليعود فيدعو له من جديد ، مع العلم أنّه لم يحصل شيء جديد في موقف آزر العدائي العتيد مع الله سبحانه.

قال العلّامة : فقد تحصّل أنّ آزر الذي جاء ذكره في تلكم الآيات ، لم يكن والد إبراهيم ولا أباه

__________________

(١) التفسير الكبير ١٣ : ٤٠.

(٢) مريم ١٩ : ٤٧.

(٣) الشعراء ٢٦ : ٨٩.

(٤) التوبة ٩ : ١١٤.

(٥) إبراهيم ١٤ : ٣٥.

(٦) إبراهيم ١٤ : ٤١.

٢٣٩

الحقيقي. وإنّما أطلق عليه الأب توسّعا ، كما هو جار في اللغة ومعروف لدى سائر الأقوام (١).

انظر إلى هذه الدقّة الفائقة في معالجة أخبار كانت سقيمة ومتنافرة مع نصّ الكتاب والمستفاد من أصول المعارف الإسلاميّة العريقة.

وللأستاذ الشيخ محمّد عبده أيضا مواقف مشهودة تجاه تلكم الأخبار الضعيفة ولا سيّما الإسرائيليّات ، فقد أبان فضحها وفنّدها تفنيدا بالغا ، ونقدها في ضوء نور العقل وهدي الكتاب العزيز. نذكر منها :

قال تعالى : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ. فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ. قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)(٢).

ذكر أرباب النقل في التفسير هنا ، في وجه سؤال زكريّا ربّه أن يجعل له آية ، ما يتنافى ومقام الأنبياء وكرامتهم عند الله ، قالوا : إنّه شكّ ـ على أثر وسوسة إبليس ـ أنّ الذين بشّروه كانوا هم الملائكة أم الشياطين سخروا به ، فعاقبه الله بعقد لسانه ثلاثة أيام لا يقدر على التكلّم ، لمكان شكّه وتأثّره بوسوسة إبليس.

قال الطبري ـ في تأويل قوله (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) : يعني بذلك (جلّ ثناؤه) خبرا عن زكريّا قال : ربّ إن كان هذا النداء الذي نوديته والصوت الذي سمعته صوت ملائكتك وبشارة منك لي فاجعل لي آية ، يقول : علامة أنّ ذلك كذلك ، ليزول عني ما قد وسوس إليّ الشيطان فألقاه في قلبي من أنّ ذلك صوت غير الملائكة وبشارة من عند غيرك :

[م / ٣٥٤] روى بإسناده عن السّدّي : أنّ زكريّا لما سمع نداء الملائكة بالبشارة ، جاءه الشيطان فقال له : إنّ الصوت الذي سمعت ليس هو من الله ، إنّما هو من الشيطان يسخر بك. ولو كان من الله أوحاه إليك كما يوحي إليك في غيره من الأمر ، فشكّ زكريّا مكانه وقال : أنّى يكون لى غلام (٣).

[م / ٣٥٥] وهكذا روى بإسناده عن عكرمة قال : فأتاه الشيطان فأراد أن يكدر عليه نعمة ربّه ، فقال : هل تدري من ناداك؟ قال : نعم ناداني ملائكة ربّي! قال : بل ذلك الشيطان! لو كان هذا من ربّك

__________________

(١) الميزان ٧ : ١٦٨ ـ ١٧١ وراجع ما كتبناه هنا بتفصيل في التمهيد ٧ : ٦٦ ـ ٦٩.

(٢) آل عمران ٣ : ٣٧ ـ ٤١.

(٣) الطبري ٣ : ٣٥٠ / ٥٥٠٧.

٢٤٠