التفسير الأثري الجامع - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-94552-4-8
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٤١٦

[م / ١٣٩] قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : «إنّ لكلّ شيء ذروة ، وذروة القرآن آية الكرسيّ» (١).

فلا غرو أن يكون لتلاوة القرآن ولا سيّما آياته العظام ، دفع لأيّ مكروه يخاف ، أو محنة يخشى مغبّة أمرها ، مع عنايته تعالى بكشف الكروب عن وجه عباده المخلصين.

وهكذا ما ورد من أدعية وأذكار أو قراءة قرآن لدفع المكاره أو للشفاء من الأمراض أو رفع الأسقام ، فإن أريد به الدعم للدواء المعالج به ، حتّى يؤثّر الدواء في رفع الداء بإذن الله تعالى ، فهذا لا ضير فيه ، بل ويبدو طبيعيّا بعد أن كان الله هو الشافي لجميع الأدواء. أمّا إذا أريد الاستقلال ، والاستغناء عن التطبّب رأسا ، والاكتفاء بمجرّد الذكر والدعاء وتلاوة القرآن ، فهذا ممّا نرفضه رفضا ، ويخالف ناموس الحياة وسنن الله في الطبيعة تماما.

قال ابن التّين : الرّقى بالمعوّذات وغيرها من أسماء الله تعالى ، هو الطبّ الرّوحاني ، إذا كان على لسان الأبرار من الخلق ، حصل الشفاء بإذن الله تعالى. فلمّا عزّ هذا النوع ، فزع الناس إلى الطبّ الجسماني.

قال السيوطي : ويشير إلى هذا :

[م / ١٤٠] قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو أنّ رجلا موقنا قرأ بها على جبل لزال» (٢).

وقال القرطبيّ : تجوز الرّقية بكلام الله وأسمائه ، فإن كان مأثورا استحبّ.

وقال الربيع : سألت الشافعيّ عن الرّقية فقال : لا بأس أن يرقى بكتاب الله ، وما يعرف من ذكر الله (٣).

***

وللحكيم أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن سعيد (كان حيّا في مصر سنة ٣٩٠) التميمي ، كتاب أسماه «خواصّ القرآن» ذكر فيه أنّه أخذه من بعض الحكماء بالهند (٤).

ولكن كيف الوئام بين القرآن وأخذ خواصّه من حكماء البراهمة بالهند؟!

__________________

(١) العيّاشي ١ : ١٥٦ / ٤٥٠ ؛ البحار ٨٩ : ٢٦٧ / ١٤.

(٢) في حديث ابن مسعود : تقرأ الآية ١١٥ من سورة المؤمنون في أذن مصاب. (الدرّ ٦ : ١٢٢).

(٣) الإتقان ٤ : ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٤) كشف الظنون ١ : ٧٢٧.

١٦١

غير أنّ عبد الرحمان بن علي بن أحمد القرشي درج في أثره وصنّف كتابا بنفس الاسم ، ينقل فيه أحيانا عن الإمام الصادق عليه‌السلام والأكثر روايته عن الإمام التميمي. قال الشيخ آغا بزرگ الطهراني : والظاهر أنّ مراده الحكيم أبو عبد الله التميمي الآنف. قال : توجد نسخة منه كتابتها سنة ٩١٢ بقلم الشيخ زين الدين آل صباح الحميدي في شطرة ـ العراق عند رشيد شعرباف البغدادي التاجر هناك ، حسبما كتب إليه (١).

وللمولى عبد الله بن الحسين التستري (المتوفى بأصبهان ١٠٢١) تأليف باسم «خواصّ القرآن» مرتّب على قسمين ، أوّلا في خواصّ مجموع القرآن. وثانيا في خواصّ كلّ سورة سورة من الفاتحة إلى الناس ، يذكر الخواصّ التي لقراءتها أو كتابتها. قال الطهراني : رأيت منه نسخة في خزانة شيخ الشريعة الأصبهاني في النجف الأشرف وعليها حواش كثيرة من المصنف (٢).

وأيضا كتاب «خواصّ القرآن» فارسيّ في خواصّ جملة من السور القرآنيّة ، للمولى محمّد كاظم بن محمّد شفيع هزار جريبي الحائري ، فرغ من تأليفه في كربلاء ـ العراق في ١٢٢٠. قال الطهراني : رأيت نسخة منه تاريخ كتابتها ١٢٣٦ في خزانة الشيرازي بسامرّاء. ونسخة أخرى عند الشيخ الأردوبادي في النجف (٣).

قال السيوطي (٤) : أفرده بالتصنيف جماعة ، منهم التميميّ والغزاليّ. ومن المتأخرين اليافعيّ. قال : وغالب ما يذكر في ذلك كان مستنده تجارب الصالحين.

قال : وها أنا أبدأ بما ورد من ذلك في الحديث ، ثمّ ألتقط عيونا مما ذكره السلف والصالحون :

[م / ١٤١] أخرج ابن ماجة وغيره من حديث ابن مسعود : عليكم بالشفاءين ، العسل والقرآن (٥).

[م / ١٤٢] وأخرج أبو عبيد عن طلحة بن مصرّف ، قال : كان يقال : إذا قرئ القرآن عند المريض وجد لذلك خفّة (٦).

قلت : هذا حقّ ، لأنّ الاستماع إلى كلام ربّ الرحمة راحة للقلوب.

__________________

(١) الذريعة ٧ : ٢٧٣.

(٢) المصدر.

(٣) المصدر.

(٤) الإتقان ٤ : ١٣٧ ـ ١٤٤ ، النوع ٧٥.

(٥) يالله ، كيف يجعل القرآن في عرض العسل وفي عداد سائر العقاقير والأدوية الطبّية؟! (ابن ماجة ٢ : ١١٤٢ / ٣٤٥٢ ، باب ٧ ؛ فضائل القرآن : ٢٣٣ / ٩ ، باب ٦٠).

(٦) الإتقان ٤ : ١٣٧ ؛ فضائل القرآن : ٢٣٣ / ١٠ ، باب ٦٠.

١٦٢

[م / ١٤٣] قال : وأخرج البيهقي في الشّعب عن واثلة بن الأسقع ، أنّ رجلا شكا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجع حلقه ، قال : «عليك بقراءة القرآن»!! (١).

هذا غريب! إنّ لداء الحلق دواء ومعالجة طبّيّة لا بدّ من العناية بها ، اللهم إلّا أن يراد دعمها بذلك والتخفيف من وطأة المرض على المريض!

[م / ١٤٤] وهكذا ما أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أشتكي صدري ، فقال : «اقرأ القرآن ، لقول الله تعالى : وشفاء لما في الصدور» (٢).

ولنا تعليق على هذا الحديث يأتي عند التعرّض لكلام المولى ابن فهد الحلّي.

[م / ١٤٥] وأخرج البيهقيّ وغيره من حديث عبد الله بن جابر : «في فاتحة الكتاب شفاء من كلّ داء» (٣) أي تقرأ على كلّ مرض كي تؤثّر معالجته بإذن الله.

[م / ١٤٦] وأيضا من حديث جابر بن عبد الله : فاتحة الكتاب شفاء من كلّ شيء إلّا السام.

والسام : الموت (٤).

[م / ١٤٧] ومن حديث أبي سعيد الخدريّ : فاتحة الكتاب شفاء من السمّ (٥) يعني إذا عولج على يد الحذّق من الأطبّاء ، مرفقا بنفحة قرآنيّة.

[م / ١٤٨] وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة : إنّ البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان (٦). قلت : لا شأن للبقرة بذاتها وإنّما هو من خاصّيّة القرآن العظيم : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً)(٧).

[م / ١٤٩] أخرج الدارميّ عن ابن مسعود ـ موقوفا ـ : «من قرأ أربع آيات من أوّل سورة البقرة ، وآية الكرسيّ ، وآيتين بعدها ، وثلاثا من آخر سورة البقرة ، لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه ، ولا يقرأ على مجنون إلّا أفاق» (٨).

[م / ١٥٠] وأخرج البخاريّ عن أبي هريرة قال : وكّلني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني

__________________

(١) الإتقان ٤ : ١٣٧.

(٢) الإتقان ٤ : ١٣٧ ؛ الدرّ ٤ : ٣٦٦. والآية من سورة يونس ١٠ : ٥٧.

(٣) شعب الإيمان ٢ : ٤٥٠ / ٢٣٦٧.

(٤) العيّاشي ١ : ٣٥ / ٩.

(٥) شعب الإيمان ٢ : ٤٥٠ / ٢٣٦٨.

(٦) الإتقان ٤ : ١٣٨ ؛ مسلم ٢ : ١٨٨.

(٧) الإسراء ١٧ : ٤٦.

(٨) الإتقان ٤ : ١٣٨ ؛ الدارمي ٢ : ٤٤٨.

١٦٣

آت فجعل يحثو من الطعام (١) ، فأخذته وقلت : لأرفعنّك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّي محتاج وعليّ عيال ولي حاجة شديدة قال : فخلّيت سبيله. فلمّا أصبحت ، قال لي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت : شكا حاجة شديدة فرحمته. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما إنّه قد وكذلك وسيعود. فرصدته فجاء مثل البارحة. لكنّه شكا حاجته فخلّيت عنه أيضا. فقال لي النبيّ صلّى الّله عليه وآله وسلّم حين أصبحت : إنّه سيعود. فرصدته الثالثة. فأخذته فقال : دعني. أعلّمك كلمات يفنعك الله بها! قلت : ما هي؟ قال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي. فإنّك لم يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان ، حتّى تصبح!

يقول أبو هريرة : فخلّيت سبيله ، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت : زعم أنّه يعلّمني كلمات ينفعني الله بها ، فخلّيت سبيله!

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هي؟ قلت : قال لي : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسيّ ولن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان ، حتّى تصبح ، وكانوا ـ أي الصحابة (٢) ـ أحرص شيء على الخير.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما إنّه قد صدقك ، وهو كذوب (٣).

ثمّ قال : تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال : لا. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ذاك شيطان (٤).

[م / ١٥١] قال ابن حجر ـ في الشرح ـ : وفي حديث معاذ بن جبل زيادة : وخاتمة سورة البقرة «آمن الرسول إلى آخرها» وقال في أوّل الحديث : ضمّ إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمر الصدقة ، فكنت أجد فيه كل يوم نقصانا ، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لي : هو عمل الشيطان فارصده فرصدته ، فأقبل في صورة فيل ، فلمّا انتهى إلى الباب دخل من خلل الباب في غير صورته ، فدنا من التمر ، فجعل يلتقمه ، فشددت على ثيابه فتوسّطته ...

ثمّ غدوت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرته بما قال ، فقال : صدق الخبيث وهو كذوب. قال معاذ :

__________________

(١) حثا يحثو التراب : صبّه. أي جعل يحثو من الطعام في وعاء كان معه.

(٢) هذا التفات. يعني : وكنّا نحن الصحابة. راجع : ابن حجر في الشرح ٤ : ٣٩٧.

(٣) قال ابن حجر : وهو من التتميم البليغ ، لأنّه لمّا أوهم مدحه بوصفه الصدق ، استدرك نفي الصدق عنه بصيغة المبالغة. والمعنى : صدقك في هذا القول ، مع أنّ عادته الكذب المستمر ، وهو كقولهم : قد يصدق الكذوب. (فتح الباري ٩ : ٥١).

(٤) البخاري ٣ : ٦٤ ، كتاب الوكالة ، باب ٩. و ٦ : ١٠٤ ، باب فضل سورة البقرة ، كتاب فضائل القرآن.

١٦٤

فكنت أقرأهما بعد ذلك فلا أجد نقصانا (١).

[م / ١٥٢] وأخرج النسائي ، وأبو يعلى ، وابن حبّان ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم ـ وصحّحه ـ وأبو نعيم ، والبيهقي معا في الدلائل ، عن أبيّ بن كعب : أنّه كان له جرن (٢) من تمر ، وكان يتعاهده فوجده ينقص ، فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابّة شبه الغلام المحتلم. قال : قلت له : من أنت؟! جنّيّ أم إنسيّ؟ قال : جنّي! قلت : ناولني يدك ، فإذا يداه يدا كلب وشعره شعر كلب. قلت : هكذا خلق الجنّ؟ قال : إنّ فيهم من هو أشدّ منّي! قلت : ما حملك على ما صنعت؟ قال : بلغني أنّك رجل تحبّ الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك!

فقال له أبيّ : فما الذي يجيرنا منكم؟ قال : آية الكرسيّ ، من قرأها حتّى يمسي أجير منّا حتّى يصبح ، ومن قرأها حين يصبح أجير منا حتّى يمسي. فلمّا أصبح أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره ، فقال : «صدق الخبيث» (٣).

[م / ١٥٣] قال ابن حجر : وفي رواية الروياني : فأخذته فالتففت يديّ على وسطه ، فقلت : يا عدوّ الله ، وثبت إلى تمر الصدقة فأخذته؟ وكانوا ـ أي الصحابة ـ أحقّ به منك ، لأرفعنّك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيفضحك!!

وفي رواية الروياني : ما أدخلك بيتي تأكل التمر؟! قال : أنا شيخ كبير فقير ذو عيال ، وما أتيتك إلّا من «نصيبين» (٤) ، ولو أصبت شيئا دونه ما أتيتك. ولقد كنّا في مدينتكم هذه (يثرب) حتّى بعث صاحبكم ، فلمّا نزلت عليه آيتان تفرّقنا منها ، فإن خلّيت سبيلي علّمتكهما! قلت : نعم. قال : آية الكرسيّ وآخر سورة البقرة (٥).

[م / ١٥٤] وأخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان ، ومحمّد بن نصر الطبراني ، والحاكم ـ وصحّحه (٦) ـ وأبو نعيم ، والبيهقيّ ، كلاهما في الدلائل ، عن معاذ بن جبل ، قال : ضمّ إليّ

__________________

(١) الدرّ ٢ : ٩.

(٢) جرن ـ بضمّتين ـ : جمع جرين ، وهو موضع تجفيف التمر ، وهو له كالبيدر للحنطة. قال ابن الأثير ، ومنه حديث أبيّ مع الغول : «أنّه كان له جرن من تمر». (النهاية ١ : ٢٦٣).

(٣) الدرّ ٢ : ٥ ؛ النسائي ٦ : ٢٣٩ / ١٠٧٩٦ ؛ ابن حبّان ٣ : ٦٣ ـ ٦٤ / ٧٨٤ ؛ العظمة ٥ : ١٦٥٠ / ١٠٩٢ ـ ١٢ ؛ الحاكم ١ : ٥٦٢ ؛ الدلائل للبيهقي ٧ : ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٤) مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادّة القوافل من الموصل إلى الشام. كثيرة العقارب.

(٥) فتح الباري ٤ : ٣٩٧.

(٦) قال : هذا حديث صحيح الإسناد. الحاكم ١ : ٥٦٣.

١٦٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمر الصدقة ، جعلته في غرفة لي ، فكنت أجد فيه كلّ يوم نقصانا ـ وساق الحديث إلى قوله ـ : ولقد كنّا في مدينتكم هذه حتّى بعث صاحبكم ، فلمّا نزلت عليه آيتان أنفرتنا منها فوقعنا في «نصيبين» ، ولا تقرآن في بيت إلّا لم يلج فيه الشيطان ثلاثا ، فإن خلّيت سبيلي علّمتكهما! قلت : نعم! قال : آية الكرسيّ وآخر سورة البقرة فخلّيت سبيله (١).

[م / ١٥٥] وأخرج أبو عبيد في فضائله ، والدارميّ ، والطبرانيّ ، وأبو نعيم في دلائل النبوّة ، والبيهقيّ عن عبد الله بن مسعود ، قال : خرج رجل من الإنس ، فلقيه رجل من الجنّ ، فقال الجنّي : هل لك أن تصارعني؟ فإن صرعتني علّمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك ، لم يدخله شيطان! فصارعه ، فصرعه الإنسيّ فقال : تقرأ آية الكرسيّ ، فإنّه لا يقرأها أحد إذا دخل بيته إلّا خرج الشيطان ، له خبج كخبج الحمار (٢).

وفي ذيل الحديث : سئل ابن مسعود عن الرجل الذي صارع الجنّيّ فصرعه؟ فقال : من عسى أن يكون إلّا عمر!! (٣)

قلت : يا لله والمهازل ، كيف تنسب مخاريف سخيفة إلى كبار الصحابة الأجلاء ، أمثال : عبد الله ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل. وحاشاهم من نسبة تلك الأباطيل إليهم. دع عنك أبا هريرة : كان لا يحتاج إلى من يزمّر له ، وقد نشط على سرد الأقاصيص في أحضان معاوية ، حيث كان يجعل الجعائل على رواج الأساطير والقصص الملهية (٤).

وأظنّنا في غنى عن تبيين مواضع السخف من هذه الأحاديث المفتعلة ، البادية عليها آثار الاختلاق.

ونحن إذ لا نعاتب الحشويّة في حشدهم لهكذا أحاديث هزيلة ، حيث دأبوا على حصد الغث والسمين من غير مبالاة. ولكن نوجّه عتابنا إلى أولئك الأئمّة من كبار المحدّثين أمثال البخاريّ

__________________

(١) الكبير ٢٠ : ٥١ ـ ٥٢ / ٨٩ ؛ الدلائل لأبي نعيم ٢ : ٦٠٠ ـ ٦٠١ ـ ٥٤٧ ؛ الدلائل للبيهقي ٧ : ١٠٩ ـ ١١٠ ، باب ما جاء في الشيطان.

(٢) الخبج ـ بفتحتين ـ : الضّراط.

(٣) الدرّ ٢ : ٧ ؛ الدارمي ٢ : ٤٤٨ ؛ الكبير ٩ : ١٦٦ / ٨٨٢٦ ؛ الدلائل لأبي نعيم ٢ : ٣٦٩ ـ ٣٧٠ / ٢٦٨ ، وفيه : «له هيج كهيج الحمار» ؛ مجمع الزوائد ٩ : ٧٠ ـ ٧١.

(٤) تحدّثنا عن مناشئ رواج الإسرائيليات وقصص القصّاصين يومذاك ، في كتابنا : التمهيد ١٠ : ٣٧ ، عند الكلام عن آفات التفسير بالنقل.

١٦٦

والنسائيّ وأحمد والبيهقيّ ، وكذا مثل ابن حجر ذلك الإمام الناقد ، ومثله الخبير المضطلع كالسيوطي وأضرابهم كيف رضوا بأنفسهم الاقتناع بقبول هكذا أقاويل ، يرفضها العقل الرشيد.

ولعلّها من وضع من أراد التشوية بسمعة الإسلام الرفيعة!!

[م / ١٥٦] نعم ، صحّ ما أخرجه الديلمي في الفردوس من حديث أبي قتادة : «من قرأ آية الكرسيّ عند الكرب ، أغاثه الله» (١). إذ لكلامه تعالى بركة فائضة تذهب بكلّ سوء ومكروه.

وهكذا ما ورد بشأن آيات من القرآن تتلى عند مسّ الضرّ ، فيرفعه الله برحمته.

[م / ١٥٧] وأخرج البيهقيّ في الدعوات من حديث أنس : ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل ولا مال ولا ولد ، فيقول : ما شاء الله ، لا قوّة إلّا بالله ... فيرى فيه آفة دون الموت (٢).

[م / ١٥٨] وأيضا أخرج الديلمي عن أنس : من رأى شيئا فأعجبه ، له أو لغيره فليقل : ما شاء الله ، لا قوّة إلّا بالله (٣).

وهذا حقّ ، لأنّ في ذكر الله تعالى وقاية :

[م / ١٥٩] فقد روى الإمام الصادق عليه‌السلام عن آبائه عن جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «العين حقّ ، فمن أعجبه من أخيه شيء فليذكر الله في ذلك ، فإنّه إذا ذكر الله لم يضرّه» (٤).

[م / ١٦٠] وأخرج الحكيم الترمذيّ ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن السنيّ في عمل يوم وليلة ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن مردويه عن ابن مسعود : أنّه قرأ في أذن مصاب : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ. فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ. وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ. وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)(٥) فبرأ. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما ذا قرأت في أذنه؟ فأخبره! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي نفسي بيده لو أنّ رجلا موقنا قرأها على جبل لزال» (٦).

فياترى من أين عرف ابن مسعود ذلك ، إذ لم يكن يدري به رسول الله؟!

__________________

(١) الإتقان ٤ : ١٣٩.

(٢) المصدر : ١٤١.

(٣) الفردوس بمأثور الخطاب ٣ : ٥٤٤ / ٥٦٩٧ ؛ كنز العمّال ١٠ : ٦٥ / ٢٨٣٨٣.

(٤) طب الأئمّة : ١٢١ ؛ البحار ٩٢ : ١٢٧ / ٧.

(٥) هنّ آخر آيات سورة المؤمنون ٢٣ : ١١٥ ـ ١١٨.

(٦) الدرّ ٦ : ١٢٢ ؛ الإتقان ٤ : ١٤١ ؛ نوادر الأصول ٣ : ١٧١ ـ ١٧٢ ؛ أبو يعلى ٨ : ٤٥٨ / ٥٠٤٥ ؛ ابن أبي حاتم ٨ : ٢٥١٣ / ١٤٠٧٠ ؛ الحلية ١ : ٧.

١٦٧

ثمّ ما هي المناسبة بين هذه الآيات ودفع أسقام الجسم ، وهنّ نزلن لدفع أسقام الروح ، والهزّة بتلك الأنفس العاتية!!

[م / ١٦١] وفي المستدرك : «من وجد في قلبه قسوة فليكتب يس في جام بزعفران ، ثمّ يشربه» (١).

لا شكّ أنّ سورة يس نزلت لإزالة القسوة من القلوب ، لكن لا بشربها ، بل بتلاوتها والتدبّر فيها!!

ومثله ما ورد في عسر الولادة :

[م / ١٦٢] أخرج البيهقي في الدعوات عن ابن عبّاس ـ موقوفا ـ : في المرأة يعسر عليها ولادها؟ قال : يكتب في قرطاس ثمّ تسقى : «بسم الله الذي لا إله إلّا هو الحليم الحكيم. سبحان الله وتعالى ربّ العرش العظيم ، الحمد لله ربّ العالمين. (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها)(٢). (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)(٣)» (٤).

ما ندري ما هي الصلة بين آيات نزلت وعيدا بشأن أصحاب النار ، وبين مسكينة عسر عليها الطلق؟!

ثمّ ما معنى : يكتب في قرطاس ثمّ تسقى؟! ولعله مسح ما في القرطاس بالماء في جام ثمّ تشربه! وهل لا يضرّها كثرة المداد؟!

***

وهنا بحث طريف بين فقهاء القوم : هل يجوز شرب غسالة القرآن ، أو ابتلاع ورقة فيها كتابة قرآن؟

قال أبو قلّابة والأوزاعي : لا بأس به. وكرهه النخعيّ. وقال القاضي حسين والبغويّ وغيرهما : لو كتب على حلوى وطعام فلا بأس بأكله.

قال الزركشي : وممّن صرّح بالجواز في مسألة الإناء ، العماد النيهيّ ، مع تصريحه بأنّه لا يجوز

__________________

(١) الحاكم ٢ : ٤٢٨ ؛ الإتقان ٤ : ١٤٢.

(٢) النازعات ٧٩ : ٤٦.

(٣) الأحقاف ٤٦ : ٣٥.

(٤) الإتقان ٤ : ١٤٢.

١٦٨

ابتلاع ورقة فيها آية. وأفتى ابن عبد السّلام بالمنع من الشرب أيضا ، لأنّه تلاقيه نجاسة الباطن؟؟!! (١)

***

عقد المولى المحقّق أحمد بن محمّد أبو العباس ابن فهد الحلّي الأسدي (٧٥٧ ـ ٨٤١) في كتابه «عدّة الداعى» فصلا ذكر فيه خواصّ آي من القرآن ، قال فيه : اعلم أنّ في القرآن ، الترياق الأكبر ، والكبريت الأحمر ، والخواصّ الغريبة ، والمعجزات العجيبة ، ولا يمثّل بالطود الأشمّ ، بل هو أفخم. ولا بالبحر الخضمّ ، بل هو أعظم.

فذكر جوانب من هذه العظمة وطرفا من تلك الفخامة بحيث يغني الفقيه ، ويروى البليغ الأريب (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)(٢) حتّى يأتي إلى جانب الاستشفاء به والاسترقاء ، وأنّ فيه الشفاء والدواء ، وهو سبيل إلى الكفاية والاستغناء ، ووسيلة إلى استجابة الدعاء.

قال بشأن الاستشفاء به من العلل : ولنورد منه شيئا يسيرا لأجل الاستشهاد على ما ادّعيناه ، إذ كثيره كثير يعجز عنه غير المعصومين عليهم‌السلام.

[م / ١٦٣] فروى حديثا عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، رفعه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لمن اشتكى وجعا في صدره : «استشف بالقرآن ، فإنّ الله عزوجل يقول : (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ)(٣)».

[م / ١٦٤] وأيضا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «شفاء أمّتي في ثلاث : آية من كتاب الله العزيز ، أو لعقة عسل ، أو شرطة حجّام». (يقال : شرط الجلد : بضعه وبزغه لاستفراغ الدم ونحوه) (٤).

[م / ١٦٥] وعن الرضا عليه‌السلام : «من قرأ آية الكرسي عند منامه لم يخف الفالج. ومن قرأها في دبر كلّ صلاة لم يضرّه ذو حمة». (الحمة ـ بضم الحاء وفتح الميم الخفيفة : السمّ. وتطلق على أبرة العقرب ونحوها).

[م / ١٦٦] وعن الأصبغ بن نباتة ـ في حديث طويل ـ قال : قام إليه ـ يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ رجل فقال : إنّ في بطني ماء أصفر ، فهل من شفاء؟ قال عليه‌السلام : «نعم ، بلا درهم ولا دينار ، ولكن تكتب

__________________

(١) البرهان ١ : ٤٧٦ ؛ الإتقان ٤ : ١٤٤.

(٢) الأنعام ٦ : ٣٦.

(٣) والآية من سورة يونس ١٠ : ٥٨.

(٤) البحار ٨٩ : ١٧٦ / ٥.

١٦٩

على بطنك آية الكرسيّ ، وتكتبها وتشربها (١) ، وتجعلها ذخيرة في بطنك ، فتبرأ بإذن الله تعالى. قال : ففعل الرجل فبرء بإذن الله».

[م / ١٦٧] وعن الباقر عليه‌السلام : «من لم يبرأه الحمد لم يبرأه شيء» (٢).

والأحاديث التي ذكرها ـ ما عدا الأخير الخامس ـ ممّا يستغرب ويستبعد صدورها من المعصومين عليهم‌السلام.

أمّا الحديث الأوّل فإنّ القرآن نزل شفاء لما في الصدور ، من عقد نفسيّة ونفثات شيطانيّة تضايقت به الصدور ، فجاء القرآن ليحلّ تلك العقد ويذهب بنفثات الشيطان ، ليخلفها نفحات الرحمان ، فتترحّب بها الصدور وتنشرح انشراحا.

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ. وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ. فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)(٣).

(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ)(٤).

قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(٥).

جاءتكم الموعظة لتحيى قلوبكم ، وتشفى صدوركم من الخرافة التي تملؤها ، والشكّ الذي يسيطر عليها ، والزيغ الذي يمرضها ، والقلق الذي يحيرها ، جاءت لتفيض عليها البرء والعافية واليقين والاطمئنان والسّلام مع الإيمان.

فهذا هو الذي يستحق الفرح ، لا وفرة المال ولا أعراض هذه الحياة. إنّ ذلك هو الفرح العلويّ الذي يطلق النفس من عقال المطامع الأرضيّة والأعراض الزائلة ، فيجعل من هذه الأعراض خادمة للحياة لا مخدومة ، ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها ، لا عبدا خاضعا لها (٦).

أمّا أوجاع الصدر الجسمانية ، من قبيل الذبحة الصدريّة أو تصلّب الشرايين ، أو تضايق قصب الرئة ونحو ذلك ، فلها علاجها الخاصّ ، وقد مارسها أطبّاء حذّق ، وألهمهم الله العلاج الناجع ، بفضل

__________________

(١) كيف يشرب ما كتب على البطن؟!

(٢) عدّة الداعي : ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

(٣) الانشراح ٩٤ : ١ ـ ٦.

(٤) الأعراف ٧ : ١٥٧.

(٥) يونس ١٠ : ٥٨.

(٦) في ظلال القرآن ٤ : ٤٤٣ ، الجزء ١١ : ١٧١.

١٧٠

جهودهم ومثابرتهم في سبيل ارتقاء مدارج العلم البشري بإذن الله.

نعم كانت الأدعية المأثورة وقراءة الحمد ، ممّا يجعل من عسر العلاج يسرا ويمدّ في تأثير الدواء النافع بإذن الله.

هذا فحسب ، أمّا كونه في عداد العقاقير الطبّية ـ كما في الحديث الثاني (حيث جعلت الآية القرآنية ، في عرض لعقة عسل أو شرطة حجام) أو يكون وقاية لمرض الفالج ـ كما في الحديث الثالث ـ أو علاجا لماء أصفر ينزل في البطن كما في الحديث الرابع ـ!!

فهذا كلّه ممّا ترفضه قدسيّة القرآن الكريم ، والذي جاء شفاء لأدواء الروح ، ممّا ليس بمقدور البشر ، لو لا عنايته تعالى ، لا أسقام الجسد ، والتي كان بمقدور البشر معالجتها حسب تجاربه في الحياة!!

وإليك بعض الغرائب من استشفاءات بالقرآن الكريم :

وقبل أن نخوض عجائبها لا بدّ من التنبيه على أمر ، وهو : أنّ الدعاء إذا أخذ ردفا للدواء ، ليكون دعما له ووسيلة لجعل الشفاء فيه بإذن الله تعالى وعنايته ، فهذا ممّا لا ضير فيه ، بل ومن المعلوم من ضرورة الدين : أنّ الشافي هو الله وحده ، وأنّه مسبّب الأسباب ، ولا حول ولا قوّة إلّا به.

وقد نبّهنا أنّ الذي ننكره أشدّ الإنكار هو جعل الدعاء في مقابلة الدواء ، وأنّه أحد العلاجين كلّ على حياله ، الأمر الذي جاء التصريح به في بعض هذه الأحاديث ، مع الأسف!!

فلا بدّ من نبذه أو تأويله بما يتلائم ودليل العقل والحكمة الرشيدة :

وقد مرّ في حديث الأصبغ بن نباتة : أنّ آية الكرسيّ ، علاج داء البطن من غير صرف درهم ولا دينار. أي بشراء الدواء والعقّار (١).

[م / ١٦٨] وفي كتاب «مكارم الأخلاق» : روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «علّمني جبرائيل دواء لا يحتاج معه إلى دواء! فقيل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما ذلك الدواء؟

قال : يؤخذ ماء المطر قبل أن ينزل إلى الأرض ، ثمّ يجعل في إناء نظيف ويقرأ عليه : الحمد سبعين مرّة ، ثمّ يشرب منه قدحا بالغداة وقدحا بالعشيّ. فو الذي بعثني بالحقّ لينزعنّ الله ذلك الداء

__________________

(١) عدّة الداعي : ٢٧٤.

١٧١

من بدنه وعظامه ومخخه وعروقه» (١).

هذا غريب ويتنافى مع مجاري الطبيعة والتي هي سنن الله في الخلق والتدبير.

[م / ١٦٩] روي عن ابن عبّاس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلّمنا من الأوجاع كلّها أن نقول : «باسم الله الكبير ، أعوذ بالله العظيم ، من شرّ عرق نعّار ، ومن حرّ النار» (٢).

[م / ١٧٠] وفي كتاب الاختصاص : أنّ ابن الوشّا أخذته الحمّى الرّبع ، فدعى الإمام الرضا عليه‌السلام بدواة وقرطاس وكتب بعد البسملة : «أبجد ، هوّز ، حطّي عن فلان ابن فلان ابن فلانة». ودعا بخيط فشدّ وسطه وعقد على الجانب الأيمن أربع عقد وعلى الأيسر ثلاث عقد. وقرأ على كلّ عقدة الحمد والمعوّذتين وآية الكرسيّ ثمّ شدّه على عضده الأيمن (٣).

إن هذا إلّا صنع أحد القوّالين من أصحاب التعاويذ ، وضعه حسب صنعته الوضيعة وحاشا الإمام الهمام!

[م / ١٧١] وأيضا للحمّى الرّبع (٤) : اكتب على ورقة : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ)(٥) وعلّقه على المحموم.

[م / ١٧٢] وفي أخرى : يكتب على قرطاس : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٦) ، ويشدّ على عضده.

[م / ١٧٣] وفي ثالثة : يكتب «بطلط ، بطلطلط» ويقول : عقدت على اسم الله الحمّى ويشدّ على ساقه الأيسر.

[م / ١٧٤] وفي رواية : يكتب : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً)(٧).

[م / ١٧٥] وفي رواية : يكتب على كتفه الأيمن : بسم الله جبرائيل. وعلى الأيسر : بسم الله

__________________

(١) مكارم الأخلاق : ٣٨٧ ، باب ١١ (الفصل الثاني في الاستشفاء بالقرآن). وزاد فيه : «سورة التوحيد والمعوّذتين كلّ واحدة سبعين مرّة» ؛ البحار ٩٢ : ١٥ / ١٦.

(٢) البحار ٩٢ : ١٧ / ١٧ ، و ٧٣ / ١ ؛ طبّ الأئمّة : ٣٧.

هذه الروايات يرويها المجلسي في البحار اعتبارا لا اعتقادا ، والعهدة على المنقول عنهم فليتدبّر.

(٣) الاختصاص : ١٨ ـ ١٩ ؛ البحار ٩٢ : ٢١ / ٥.

(٤) يقال : جاءته الحمّى ربعا أي كلّ رابع يوم.

(٥) الانبياء ٢١ : ٦٩.

(٦) يونس ١٠ : ٥٩.

(٧) مكارم الأخلاق : ٣٧٢ ، باب ١٢ (فصل ٢ في الاستشفاء بالقرآن) ؛ البحار ٩٢ : ٢٦ / ١١. والآية من سورة الفرقان ٢٥ : ٤٥.

١٧٢

ميكائيل. وعلى رجله اليمنى : بسم الله إسرافيل. وعلى رجله اليسرى : بسم الله (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً)(١). وبين كتفيه : بسم الله العزيز الجبّار.

وللغبّ (٢) يأخذ ثلاثة أوراق ، يكتب على إحداها : «طيسوما» وعلى الثانية : «أو حوما» وعلى الثالثة : «ابرا سوما» ويلقى في الماء ثلاث دفعات (٣).

ولوجع الرأس يقال : «يا طاهي ، يا ذرّ ، يا طمنة ، يا طنات» ، فإنّها أسام عظام ، لها مكان من الله عزوجل يصرف الله عنه (٤).

قصّة القلنسوة العجيبة

هناك طرائف وظرائف عن قصّة القلنسوة العجيبة ذات الأسرار الغريبة ، كانت حرزا حصينا وطلّسما منيعا ، لمعالجة الأمراض الصعبة العلاج أو ممتنعه. توارثها ملوك الروم وقياصرتها وبطارقتها ، وحتّى ملوك الأحباش بأتيوبيا (الحبشة) منذ أربعمائة سنة قبل ظهور الإسلام

والآن فاستمع إلى القصّة كما يقصّها الأخباريّون :

ذكر الزمخشري في كتابه «ربيع الأبرار» : أنّه صدع المأمون بطرسوس (٥) فلم ينفعه علاج. فوجّه إليه قيصر ـ ملك الروم ـ قلنسوة وكتب : بلغني صداعك ، فضعها على رأسك يسكن. فخاف أن تكون مسمومة ، فوضعها على رأس حاملها فلم تضرّه ، ثمّ وضعت على رأس مصدّع فسكن ، فوضعها على رأسه فسكن ، فتعجّب من ذلك. ففتقت فإذا فيها رقّ فيه : «بسم الله الرّحمان الرّحيم ، كم من نعمة في عرق ساكن ، (حم عسق) ، (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ.) من كلام الرحمان خمدت النيران ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم».

وجال نفع الدواء فيك كما

يجول ماء الربيع في الغصن (٦).

وعن محمّد بن الفهم قال : كنت عند المأمون في بلاد الروم ، فأقام على حصن ليفتحه ، فجال الحرب بينهم ، فلحق المأمون صداع ، فأمر بالكفّ عن الحرب. فأطلع البطريق ، فقال : ما بالكم

__________________

(١) الإنسان ٧٦ : ١٣.

(٢) الغبّ : الحمّى تأتيه يوما وتتركه يوما.

(٣) مكارم الأخلاق : ٤٠٢ ـ ٤٠٣ ؛ البحار ٩٢ : ٢٩ / ١٣.

(٤) طب الأئمّة : ١٩ ؛ البحار ٩٢ : ٥٤ / ١٦.

(٥) طرسوس : مدينة كانت عامرة بثغور الشام بين أنطاكيّة وحلب وبلاد الروم.

(٦) ربيع الأبرار ٥ : ٦٦ / ٢٠٣ ، باب ٧٧ (في الأمراض والعلل) ؛ البحار ٩٢ : ٦٣ / ٣٨. والآية من سورة الواقعة ٥٦ : ١٩.

١٧٣

كففتم عن الحرب؟ فقالوا : نال أمير المؤمنين صداع ، فرمى قلنسوة ، فقال : قولوا له : يلبسها ، فإنّ الصداع يسكن ، فلبسها فسكن. فأمر المأمون بفتقها ، فوجد فيها قطعة رقّ فيها مكتوب : «سبحان من لا ينسى من نسيه ، ولا ينسى من ذكره. كم من نعمة لله على عبد شاكر وغير شاكر ، في عرق ساكن وغير ساكن ، حم عسق ...».

وروي أنّ النجاشي كان ورث عن آبائه قلنسوة من ٤٠٠ سنة ، ما وضعت على وجع إلّا سكن. ففتّشت فإذا فيها : «بسم الله الملك الحقّ المبين ، (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ.) الله نور ، وحكمة ، وحول ، وقوّة ، وقدرة ، وسلطان ، وبرهان. لا إله إلّا الله ، آدم صفيّ الله. لا إله إلّا الله إبراهيم خليل الله. لا إله إلّا الله موسى كليم الله [لا إله إلّا الله عيسى روح الله وكلمته](١). لا إله إلّا الله محمّد العربيّ رسول الله وحبيبه وخيرته من خلقه. اسكن يا جميع الأوجاع والأسقام والأمراض ، وجميع العلل وجميع الحمّيات. سكّنتك بالذي سكن له ما بالليل والنهار وهو السميع العليم وصلّى الله على خير خلقه محمّد وآله أجمعين (٢).

وقصّة «حرز القلنسوة» يرويها الطبرسيّ بشكل آخر ، وعلى عكس ما رواه الراوندي :

[م / ١٧٦] قال : كان بالملك النجاشيّ صداع ، فكتب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك فبعث إليه هذا الحرز ، فخاطه في قلنسوته ، فسكن ما به من صداع.

والحرز هو : «بسم الله الرّحمان الرحيم. بسم الله الحقّ المبين. (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.) لله نور وحكمة. وعزّة وقوّة. وبرهان وقدرة. وسلطان ورحمة. يا من لا ينام. لا إله إلّا الله ، إبراهيم خليل الله. لا إله إلّا الله ، موسى كليم الله. لا إله إلّا الله ، عيسى روح الله وكلمته. لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله وصفيّه وصفوته ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم أجمعين. اسكن سكّنتك بما سكن له ما في السماوات والأرض ، وبمن يسكن له ما في الليل والنهار ، وهو السميع العليم. فسخّرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث

__________________

(١) صحّحناه على رواية المكارم حسبما يأتي.

(٢) دعوات الراوندي : ٢١١ / ٥٧١ ؛ البحار ٩٢ : ٦٢ ـ ٦٣ / ٣٨. والآية من سورة آل عمران ٣ : ١٨ ـ ١٩.

١٧٤

أصاب ، والشياطين كلّ بنّاء وغوّاص. ألا إلى الله تصير الأمور» (١).

ولعلّك أيّها القارئ النبيه تعجب من طول الحديث حول قصّة جوفاء فارغة ، هي أشبه بأساطير خرافيّة بائدة ، لكنّها جاءت ـ مع الأسف ـ في مجموعات حديثيّة معروفة ، ويتداولها السذّج من ذوي العقائد الرجعيّة (الجاهليّة الأولى) وحتّى اليوم ، فكان من الضروري الإنذار بالتحرّز منها ، فلا نرجع إلى الوراء.

[م / ١٧٧] وذكر الطبرسيّ رقية أخرى للصداع : يكتب في رقّ ويشدّ على الرأس بخيط : «بسم الله الرحمان الرحيم ـ إلى سبع آيات من أوّل سورة آل عمران ـ ويعقبها بقوله : أخرج منها مذموما مدحورا» (٢).

[م / ١٧٨] وللشقيقة : بعد البسملة ، الآية الثامنة من سورة آل عمران. ويعقّبه بدعاء غريب. ذكره (٣). قال : فإن برئ وإلّا أخذت حمّصة بيضاء ونصفا ودققتها دقّا ناعما وقرأت عليها سورة التوحيد ثلاث مرّات ، وسقيتها المريض (٤).

ولعلاج الصمم : امسح يدك عليه واقرأ : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) ـ إلى آخر سورة الحشر ـ (٥).

ولوجع الأذن : يقرأ على دهن الياسمين أو البنفسج سبع مرّات : (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً.) ويصبّ في الأذن (٦).

[م / ١٧٩] ولوجع الضرس : اسكني أيّتها الريح ، أسكنتك بالذي سكن له ما في السماوات وما في الأرض. رفعه الرافعي إلى النبيّ (٧).

[م / ١٨٠] ولعرق النساء : بعد البسملة ، بسم الله وبالله ، أعوذ بسم الله الكبير ، وأعوذ بسم الله العظيم ، من شرّ كلّ عرق نعّار ، ومن شرّ حرّ النار (٨).

__________________

(١) مكارم الأخلاق : ٤٠٣ ـ ٤٠٤. والآيتان من سورة ص ٣٨ : ٣٧ ، وسورة الشورى ٤٢ : ٥٣.

(٢) مكارم الأخلاق : ٤٠٤. والآية من سورة الأعراف ٧ : ١٨.

(٣) المصدر : ٣٧٣ و ٤٠٤.

(٤) المصدر : ٣٧٤.

(٥) طب الأئمّة : ٢٣. والآية من سورة الحشر ٥٩ : ٢١.

(٦) مكارم الأخلاق : ٣٧٥. والآيتان من سورة لقمان ٣١ : ٧. والإسراء ١٧ : ٣٦.

(٧) كنز العمّال ١٠ : ٦٤ / ٢٨٣٨٠.

(٨) طب الائمّة : ٣٧.

١٧٥

[م / ١٨١] وللبواسير : اكتب سورة يس بالعسل واشربه (١).

[م / ١٨٢] وللرعاف : يا من حمل الفيل من بيته الحرام ، اسكن دم فلان بن فلان.

[م / ١٨٣] وأيضا : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى. يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ) ـ إلى قوله ـ (هَمْساً. يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ...) الآية. (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ...) الآية (٢) إلى غيرها من أحاديث هي لا تشبه الجدّ ، فتدبّر.

الإسرائيليات

من أعظم البليّات التي داهمت العالم الإسلامي منذ عهده الأوّل ، وبعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة ، هي كارثة الإسرائيليّات ، زاحمت درب الحياة على المسلمين ، بوفرة أباطيلها وأكاذيب كادت تقلب الحقائق ظهرا لبطن ، على يد مشعوذين من مسلمة أهل الكتاب ، وآخرين منخدعين بتسويلات أحبار اليهود.

فكان من ذا وذاك لمّة كبيرة من أقاصيص وحكايات ، هي أشبه بالخرافات ، ازدحمت بها كتب الحشويّة من أهل الحديث والتفسير ، حشدوا بها حقائبهم الواسعة ملأ الحلقوم.

وبذلك أصبح الحديث والتفسير مزيجا من الغث والسمين وصار التحديث موضع اتهام النبهاء من المحقّقين.

وقد تحدّثنا عن كارثة الإسرائيليات وآثارها السيئة المتبقّية في عالم الحديث والتفسير ، واستوفينا الكلام فيها بتفصيل ، عند التعرّض لآفات التفسير ولا سيّما الأثريّ منه (٣) ، فلا نعيد.

وسوف ننبّه على مواضع أقحم فيها الإسرائيليات إقحاما ، ضمن سرد أحاديث التفسير ، حسب ترتيب الآيات ، ونبيّن وجه تزييفها ، إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) مكارم الأخلاق : ٣٨٣.

(٢) المصدر : ٣٨٣. والآيات من سورة طه ٢٠ : ٥٥ و ١٠٨. هود ١١ : ٤٤. يس ٣٦ : ٩.

(٣) في كتابنا : التمهيد ١٠ : ٣٧ وما بعد.

١٧٦

ما ورد بشأن أسباب النزول

كانت لمعرفة أسباب النزول قيمتها الأغلى في سبيل فهم معاني القرآن الكريم ، حسبما فصّلنا الكلام فيه (١). غير أنّ الذي يجدر التنبّه له ـ هنا ـ أنّ الطابع الغالب على المأثور في هذا الباب هو الضعف والجهالة والإرسال ، فضلا عن الوضع والدسّ والتزوير.

قال الإمام بدر الدين الزركشي : يجب الحذر من الضعيف فيه والموضوع فإنّه كثير. قال الميموني : سمعت الإمام أحمد بن حنبل يقول : ثلاث ليس لها اصول ـ أولا أصل لها ـ : المغازي والملاحم والتفسير. أي لا أصل معتمدا عليه. قال المحقّقون من أصحابه : يعنى أنّ الغالب ، أنّها ليس لها أسانيد صحاح متّصلة الإسناد. وإلّا فقد صحّ من ذلك كثير (٢).

قال جلال الدين السيوطي : الذي صحّ من ذلك قليل جدّا ، بل أصل المرفوع منه (أي المتّصل الإسناد إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في غاية القلّة (٣).

وقد نقم على الواحدي في إخراجه أحاديث في أسباب النزول ، أكثرها ضعاف أو في أسانيدها مجاهيل أو هي أباطيل. ومن ثمّ عمد هو إلى تأليف أخصر وأجمع وأسدّ ، أسماه «لباب النقول» وحسبه يمتاز على تأليف الواحدي بأمور : أحدها ، الاختصار. ثانيها : الجمع الكثير ممّا تفلّت عن الواحدي. ثالثها : إسناد كلّ حديث إلى مخرّجه من الكتب المعتبرة. أمّا الواحدي فتارة يورد الحديث بإسناده ، وفيه مع التطويل عدم العلم بمخرج الحديث. وتارة يورده مقطوعا. رابعها : تمييز الصحيح من غيره والمقبول من المردود. خامسها : الجمع بين الروايات المتعارضة. سادسها : تنحية ما ليس من أسباب النزول.

ذكر ذلك في المقدمة. وهل وفى بما وعد أو استطاع الإيفاء بما صال وجال؟

إنّ المراجع لهذا التأليف ـ مع امتيازاته الستّة ـ ليجد فيه الغثّ ما يغلب على السمين. وفيه ما يخالف العقل السليم.

[م / ١٨٤] روى من طريق البيهقي عن أبي هريرة : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف على حمزة حين استشهد بأحد ، وقد مثّل به ، فقال : لأمثّلنّ بسبعين منهم مكانك!! فنزل جبرائيل بقوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ

__________________

(١) راجع : التمهيد ١ : ٢٥٣ ـ ٢٧٦.

(٢) البرهان ٢ : ١٥٦.

(٣) الإتقان ٤ : ١٨١.

١٧٧

فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(١).

[م / ١٨٥] قال : وقد أخرج الترمذيّ عن أبيّ بن كعب ، قال : أصيب في أحد من الأنصار أربعة وستّون ومن المهاجرين ستّة منهم حمزة. وقد مثّل بهم. فقالت الأنصار : لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ عليهم. فلمّا كان يوم فتح مكّة أنزل الله هذه الآيات (٢).

هذا مع العلم أنّ سورة النحل بكاملتها نزلت بمكّة قبل الهجرة ، الأمر الذي يكشف عن غفوة واضع هذه الأحاديث التي تتنافي وقدسيّة شأن الرسول وصحابته الأبرار ، فلا يتجاوزون حدود ما أنزل الله ، ولا يزلّ بهم هوسات النفس ولا همزات الشياطين.

هذا وقد أحسّ السيوطي بوهنها ، فحاول علاجها بافتراض نزول الآيات ثلاث مرات : قبل الهجرة ، وبعدها بأحد ، ثمّ يوم فتح مكة (٣).

يا لله! الكذبة الفادحة تتبعها كذبات!!

[م / ١٨٦] قال : وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة (بإسناد فيه جهالة) (٤) عن حفص بن ميسرة روى عن أمّه ، أنّها روت عن أمّها خولة ، وقد كانت خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ جروا دخل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخل تحت السرير فمات. فمكث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعة أيّام لا ينزل عليه الوحي ، فقال : يا خولة ، ما حدث في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جبرئيل ما يأتيني!! فقلت في نفسي : لو هيّأت البيت ، فكنسته فأهويت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو.

قالت : فجاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وترتعد لحياه ، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة ، فأنزل الله : (وَالضُّحى) ـ إلى قوله ـ (فَتَرْضى)(٥).

قال ابن حجر : قصّة إبطاء جبرائيل بسبب كون الكلب تحت سريره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يشعر به ، مشهورة ، لكنّ كونها سبب نزول هذه الآيات غريب ، بل شاذّ مردود (٦).

على أنّ القصّة المزعومة مدنيّة ، والسورة مكّيّة بلا خلاف.

__________________

(١) الآية من آخر سورة النحل ـ وهي مكّيّة النزول. شعب الإيمان ٧ : ١٢٠ / ٩٧٠٣.

(٢) الترمذي ٤ : ٣٦١ ـ ٣٦٢ / ٥١٣٦.

(٣) لباب النقول : ١٦٧.

(٤) ذكره ابن حجر (فتح الباري ٨ : ٥٤٥).

(٥) لباب النقول : ١٦٧ ؛ الكبير ٢٤ : ٢٤٩ / ٦٣٦.

(٦) فتح الباري ٨ : ٥٤٥.

١٧٨

[م / ١٨٧] وأخرج البخاري عن عمر بن الخطّاب ، قال : لمّا توفّي عبد الله بن أبي سلول ، جاء ابنه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه ، فأعطاه.

ثمّ سأله أن يصلّي عليه ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصلّي عليه. قال عمر : فأخذت ثوبه وقلت : تصلّي عليه ، وقد نهاك ربّك أن تصلّي عليه؟!

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما خيّرني الله فقال : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)(١). وسأزيد على السبعين.

قال عمر : إنّه منافق ، قال : فصلّى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ)(٢). قال عمر : فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله (٣).

قلت : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ)(٤). كيف يظنّون بنبيّ الإسلام يستهين حرمات الله وفي تلك التعاليل الواهية ، والتي تتناسب وعقليّة الراوي الهزيلة ، دون مقام الرسول الرفيع.

وحاول أئمّة النقد والتمحيص ردّ مثل هذا الحديث لنكارته ، ونسبوه إلى وهم الراوي ، معلّلين بأنّه يستدعي أن يكون عمر قد اجتهد في مقابلة النصّ ، أو أنّه فهم ما لم يفهمه صاحب الشريعة.

وحاول ابن حجر تصحيح الخبر والردّ على هؤلاء ، لكنّه أتى بما يزيد في الطين بلّة. يقول : زعم غير هؤلاء أنّ عمر اطّلع على نهي خاصّ في ذلك. لكنّه من أين؟ قال القرطبي : لعلّ ذلك وقع في خاطر عمر ، فيكون من قبيل الإلهام ـ وقد حرم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك حينذاك!؟ ـ قال : ويحتمل أن يكون فهم ذلك من نهي الاستغفار ـ ما لم يفهمه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منه!! ـ (٥).

قال ابن حجر : وما قاله القرطبيّ أقرب. لكنّ المشكلة : كيف يلهم عمر بما لا يعرفه صاحب الشريعة. وهنا اقترح ابن حجر افتراض فهم عمر قال :

[م / ١٨٨] أخرج ابن مردويه أنّ عمر ، قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتصلّي عليه وقد نهاك الله؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أين؟ قال : قال الله (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ...) قال ابن حجر : فكان عمر قد فهم من هذه الآية ـ ما هو الأكثر الأغلب من لغة العرب ـ من أنّ «أو» ليست ـ هنا ـ للتخيير ، بل للتسوية ، في

__________________

(١) التوبة ٩ : ٨٠.

(٢) التوبة ٩ : ٨٤.

(٣) البخاري ٥ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧ ، وراجع : لباب النقول : ١٤٦.

(٤) سبأ ٣٤ : ٢٠.

(٥) القرطبي ٨ : ٢١٩.

١٧٩

عدم الوصف المذكور.

قال : وقد فهم عمر ـ أيضا ـ من قوله تعالى : (سَبْعِينَ مَرَّةً) أنّها للمبالغة ، ولا مفهوم للعدد هنا. بل المراد نفي المغفرة لهم ولو كثر الاستغفار ـ مهما بلغ ـ فيحصل من ذلك ، النهي عن الاستغفار ، فأطلقه.

قال : وفهم ـ أيضا ـ : أنّ المقصود الأعظم من الصلاة على الميّت طلب المغفرة للميّت والشفاعة له ، فلذلك استلزم عنده النهي عن الاستغفار ترك الصلاة قال : ولهذه الأمور استنكر عمر على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إرادة الصلاة على عبد الله بن أبي سلول. قال : هذا تقرير ما صدر عن عمر ، مع ما عرف من شدّة صلابته في الدين!! (١)

ولعلّك أيّها القارئ النابه ، في غنى عن زنة أمثال هذه السفاسف ، ممّا شحن بها أهل الحشو حقائبهم المنتفخة بأقاصيص وأساطير غريبة ومهينة إلى حدّ بعيد.

ولعلّهم في عذر طالما سدّوا على أنفسهم أبواب الرجوع إلى أئمة الهدى العترة من آل بيت الرسول ـ صلوات الله عليهم ـ وقد أوصى بهم في كثير من المواقف ، ولا سيّما في حديث الثقلين الناصّ على أنّ العترة هم خلفاؤه في تبيين وشرح وتفصيل الكتاب.

هذا السيوطي ـ على سعة باعه واضطلاعه بالحديث والتفسير ـ لم يمكنه الحصول على أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلّم ـ بشأن القرآن وتفسيره وتبيينه أكثر من مائتين وخمسين رواية ، أكثرها ضعاف ومراسيل ، أوردها في آخر كتابه الإتقان ، سورة سورة.

أمّا نحن ـ الإماميّة ـ فبفضل رجوعنا إلى أئمّة أهل البيت والتماس اعتابهم المقدّسة من أوّل يومنا ، فقد ورثنا ما يقرب من عشرة آلاف حديث مأثور عن الرسول الأعظم ، أسندها إليه الأئمّة من عترته ، ولا سيّما الإمامين الهمامين الباقر والصادق وأحفادهما الأئمّة عليهم‌السلام دوّنتها كتب أصحابنا في الحديث والتفسير ، وفيها العرض التامّ لأسباب النزول والأحداث التي استدعت نزول آية أو آيات في مجالاتها ، وغيرها من موارد الحاجة إلى تفسير النبيّ وتبيينه. والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

(١) راجع : فتح الباري ٨ : ٢٥٢.

١٨٠