التفسير الأثري الجامع - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-94552-4-8
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٤١٦

معروف بالتفسير. وليس لأحد تفسير أطول منه ولا أشبع فيه. وبعده مقاتل بن سليمان (م ١٥٠) إلّا أنّ الكلبي يفضّل عليه. ثمّ بعد هذه الطبقة ألّفت تفاسير تجمع أقوال الصحابة والتابعين. وجعل يعدّدهم بتفصيل (١).

وقال أحمد بن عبد الحليم : إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنّة ، ولا وجدته عن الصحابة ، فقد رجع كثير من الأئمّة في ذلك إلى أقوال التابعين (٢).

هذا وقد تعلّل بعضهم في اعتبار ما ورد من تفاسير التابعين ، إذ ليس لهم سماع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهي من آرائهم ، ويجوز عليهم الخطاء. كما لم ينصّ على عدالتهم كما نصّ على عدالة الصحابة. فقد نقل عن أبي حنيفة أنّه قال : ما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعلى الرأس والعين ، وما جاء عن الصحابة تخيّرنا ، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال!

وقال شعبة بن الحجّاج : أقوال التابعين ليست حجّة ، فكيف تكون حجّة في التفسير؟ وقد عرفت عن أحمد روايتين : إحداهما بالقبول ، والأخرى بالرفض! (٣)

قلت : إن كان أريد التعبّد بأقوال التابعين والتسليم لآرائهم في التفسير ، فهذا لا مبرّر له ، نعم سوى العناية بأقوالهم لغرض التحقيق وبلوغ الغاية المنشودة ، ليكون لآرائهم موضع الوصول إلى حقيقة الواقع ، حيث هم أقرب عهدا وأسهل تناوشا لمواضع النزول. كما أنّهم هم الواسطة بيننا وبين أقوال الصحابة وأحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد عرفت أنّ جلّ التابعين هم المتخرّجون من مدارس الصحابة الأوّلين ، المتربّين على يد صاحب الرسالة بالذات.

فجملة علومهم ، مستنبطة من منابع أصيلة ومنتهية إلى مصدر الوحي الأمين ، الأمر الذي يجعل الفارق بيّنا بين من كان شأنهم هذا ، وبين من كان مستقاه بعيد المنال!

موضع الحديث من التفسير

لا شكّ أنّ المصدر الأوّل لتفسير القرآن هو القرآن ، باعتبار ردّ متشابهاته إلى المحكمات لأنّهنّ أمّ الكتاب ، وكما قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : القرآن ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض (٤).

__________________

(١) البرهان ٢ : ١٥٨ ـ ١٥٩. وراجع : الكامل لابن عديّ ٦ : ١٢٠.

(٢) مقدمته في أصول التفسير : ٤٩.

(٣) التفسير والمفسّرون للذهبي ١ : ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٤) نهج البلاغة ٢ : ١٧ ، الخطبة ١٣٣.

١٢١

وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جنب القرآن هو المصدر الآخر لتبيينه وتفسيره ، (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(١). وقد ربّى أصحابه على فهم القرآن والاستنباط منه ليكونوا قدوة لسائر الأمّة ومعالم بها يهتدون.

كما تربّى على يديهم الذين اتّبعوهم بإحسان ، فكانوا جميعا مراجع الأمّة ومصادر أولى للفقه والتفسير وكانت أحاديثهم وآراؤهم هي مشاعل وهّاجة تنير درب الهداية ، في كافّة أنحاء الحياة.

هذا ممّا لا مجال للريب فيه إذا بلغتنا أحاديثهم عن طريق متواتر أو محفوف بدلائل اليقين. أمّا إذا كان حديثا واصلا عن طريق الآحاد ، فهل هو على نفس الاعتبار ، أم له شأن آخر؟ الأمر الذي أثار بعض الشبه ، فلنتريّث لديه!

قد يقال : إذا كان اعتبار الخبر الواحد مستندا إلى دليل التعبّد به ، ومن غير أن يوجب علما ، فهذا ممّا لا يجدي نفعا في باب التفسير ، حيث المطلوب هنا هو فهم معاني القرآن ، ولا تعبّد في فهم ، إنّما التعبّد فيما كان المطلوب هو العمل محضا ، وهو خاصّ بباب التكاليف والأحكام. أمّا التفسير فلا مجال للتعبّد فيه. فلا حجّيّة في خبر لم يبلغ مبلغ التواتر أو لم تحفّه قرائن قاطعة ممّا يوجب العلم بمؤدّاه!

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي : ولا يجوز لأحد أن يقلّد أحدا منهم (المفسّرين القدامى والمتأخّرين) بل ينبغي أن يرجع إلى الأدلّة الصحيحة ، إمّا العقليّة أو الشرعيّة ، من إجماع أو نقل متواتر ، عمّن يجب اتّباع قوله ، ولا يقبل في ذلك خبر واحد ، خاصّة إذا كان [المورد] ممّا طريقته العلم. ومتى كان التأويل يحتاج إلى شاهد من اللّغة ، فلا يقبل من الشاهد إلّا ما كان معلوما بين أهل اللغة شائعا بينهم ، وأمّا طريقة الآحاد من الرّوايات الشاردة والألفاظ النادرة ، فإنّه لا يقطع بذلك ولا يجعل شاهدا على كتاب الله وينبغي أن يتوقّف فيه (٢).

والأصل في ذلك ما ذكره الشيخ أبو عبد الله المفيد بشأن الرّوايات في باب الاعتقاديّات من أنّ حجّيتها إنّما هي من باب التعبّد بها ، ولا تعبّد فيما سبيله العلم ولا عمل هناك كي يمكن التعبّد فيه. وشأن التفسير شأن أصول المعارف ، حيث المطلوب فيه العلم المبتني على الفهم القاطع ، دون الظنّ والاحتمال.

__________________

(١) النحل ١٦ : ٤٤.

(٢) التبيان ١ : ٦ ـ ٧.

١٢٢

ذكر ذلك مكرّرا في كتابه «تصحيح الاعتقادات» ردّا على أبي جعفر ابن بابويه الصدوق في بنائه جلّ المعارف على أساس أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا (١). حيث المطلوب في هذا الباب هو العلم ، والخبر الواحد لا يوجب علما. كما أنّ اعتباره إنّما هو من باب التعبّد ، ولا تعبّد في غير العمل الخاصّ بأبواب التكاليف.

لكنّه رحمه‌الله إنّما أنكر على الصدوق اعتماده على الأحاديث من غير تمحيص ولا تمييز بين صحيحها وسقيمها ، وليس مطلق العمل بالخبر الواحد إذا كان وجيها معلوم الوجاهة. قال في مسألة الإرادة والمشيئة ـ بعد أن ذكر كلام الصدوق فيها ـ : الذي ذكره الشيخ أبو جعفر رحمه‌الله في هذا الباب ، لا يتحصّل ، ومعانيه تختلف وتتناقض ، والسّبب في ذلك أنّه عمل على ظواهر الأحاديث المختلفة ، ولم يكن ممّن يرى النظر ، فيميّز بين الحقّ منها والباطل ويعمل على ما يوجب الحجّة. ومن عوّل في مذهبه على الأقاويل المختلفة وتقليد الرواة كانت حاله في الضعف ما وصفناه (٢).

وقال في مسألة القضاء والقدر ـ بعد أن ذكر كلام الصدوق في النهي عن الخوض فيها ـ : عوّل أبو جعفر في هذا الباب على أحاديث شواذّ ، لها وجوه يعرفها العلماء ، متى صحّت وثبت إسنادها. ولم يقل فيه قولا محصّلا ، وقد كان ينبغي له ـ لمّا لم يكن يعرف للقضاء معنى ـ أن يهمل الكلام فيه (٣).

إذن لم ينكر الشيخ المفيد جواز التعويل على أخبار الآحاد بصورة مطلقة ، وإنّما أنكر التعويل عليها من غير تمحيص ولا تقويم ، ولا سيّما لمن لم يكن من أهله!

ومن ثمّ نراه هو ، قد اعتمد الكثير من أخبار الأحاد في نفس الكتاب ، حيث وجدها صالحة للاعتماد.

وهكذا نرى أبا المعالي علم الهدى السيد المرتضى رحمه‌الله إنّما أنكر على الجمهور اعتمادهم أخبار الآحاد من غير رويّة ولا مبالاة (٤) ، أمّا الخبر إذا كان ذا مستند وثيق وكان راويه ممّن يوثق به ولم يكن ممّا يرفضه العقل أو يخالف ظاهر الكتاب ، فهذا ممّا لا منع من التعبّد به ، نظير الإخبار عن

__________________

(١) راجع بالخصوص قوله عن حديث نزول القرآن جملة واحدة إلى البيت المعمور. (مصنّفات الشيخ ٥ : ١٢٣).

(٢) المصدر : ٤٩.

(٣) المصدر : ٥٤.

(٤) راجع : الذّريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٥١٧ ـ ٥٥٥. ورسالته في إبطال العمل بأخبار الآحاد (رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الثالثة : ٣٠٩ / ٤٨). والفصل الثاني عن أجوبته للمسائل التبّانيّات : ٢١ ـ ٢٩ (المجموعة الأولى).

١٢٣

الحوادث والبلدان ، وقد اعتمد الأصحاب رواية الثقة في الشرائع والأحكام. وطريقتهم هذه معروفة وحجّة معتبرة ، كما ذكره الشيخ في كتابه «عدّة الأصول» (١).

وللشيخ نجم الدين أبي القاسم المحقّق الحلّي صاحب كتاب «شرائع الإسلام» تحقيق لطيف عن مذهب السيّد والشيخ وينتهي إلى ما ذكره الشيخ في نهاية المطاف (٢).

ذكر سيّدنا الأستاذ الخوئي ـ طاب ثراه ـ عن شيخه المحقّق النائيني ـ طاب رمسه ـ أنّ ما نفاه السيّد وتبعه الشيخ من عدم اعتبار خبر الواحد إنّما هو في الأخبار الضعيفة أو الموهونة ، لا التي رواها الثقة الثبت من الرجال.

قال : إنّ للخبر الواحد اصطلاحين ، أحدهما : مقابل المتواتر أو المحفوف بقرائن قطعيّة. والثاني : الضعيف الموهون. ولا يبعد أن يكون معقد الإجماع الذي ادّعاه السيد ـ قدس‌سره ـ وغيره ، على عدم الحجّية ، هو الخبر الواحد بالمعنى الثاني. وإلّا فلم يعهد من أحد من الأعلام عدم العمل بأخبار الآحاد التي يرويها الثقات. فدعوا هم الإجماع على عدم الحجّيّة لا تنافي عملهم بالأخبار ، لأنّ معقد الإجماع هو المعنى الثاني ، والمعمول به هو الخبر بالمعنى الأوّل.

قال : والشاهد على ذلك أنّ الشيخ ـ قدس‌سره ـ الذي ادّعى الإجماع على حجّية خبر الواحد ، كثيرا مّا يقول ـ في كتاب الاستبصار ، في مقام الاعتذار عن عدم العمل بخبر ـ : إنّما لم نعمل به ، لأنّه خبر واحد (٣). والمراد هو المعنى الثاني ، وإلّا فخبر الثقة العدل عنده حجّة مسلّمة (٤). وكان دأبه وكذا السيّد والمفيد وغيرهم من علمائنا الأعلام هو العمل بخبر الثقة الثبت.

وقد تواتر عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام لزوم الأخذ بما يرويه عنهم الثقات :

[م / ١٠٣] جاء في التوقيع الذي خرج على يد القاسم بن العلاء : «فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يؤدّيه عنّا ثقاتنا ، قد عرفوا بأنّنا نفاوضهم سرّنا ، ونحمّله إيّاه إليهم» (٥).

[م / ١٠٤] وروى ثقة الإسلام الكليني بإسناده الصحيح إلى أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن

__________________

(١) راجع : عدّة الأصول للطوسي ١ : ٣٣٦ ـ ٣٦٧.

(٢) راجع : معارج الأصول : ١٤٠ ـ ١٤٨.

(٣) انظر على سبيل المثال : الاستبصار ١ : ٣٥ ـ ٣٦ ذيل الحديث ٩٦.

(٤) راجع : الهداية في الأصول للصافي الإصفهاني ٣ : ١٧٥. وراجع : مصباح الأصول للبهسودي ٢ : ١٤٩.

(٥) راجع : رجال الكشّي ٢ : ٨١٦ / ١٠٢٠. في ترجمة أحمد بن هلال العبرتائي (الذي خرج التوقيع بذمّه) وفي نسخة الوسائل ٢٧ : ١٤٩ ـ ١٥٠ / ٣٣٤٥٥ : فيما يرويه عنا ثقاتنا. ونحمّلهم إيّاه إليهم. و ١ : ٣٨ / ٢٢ : «يؤدّيه».

١٢٤

الهادي عليه‌السلام قال : سألته : من أعامل ، وعمّن آخذ ، وقول من أقبل؟ فقال : العمري ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول. فاسمع له وأطع ، فإنّه الثقة المأمون.

[م / ١٠٥] وأيضا قال : إنّه سأل أبا محمّد العسكري عن مثل ذلك؟ فقال : العمرى وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنّهما الثقتان المأمونان (١).

والعمريّ وابنه هما : عثمان بن سعيد العمريّ وابنه محمّد بن عثمان ، كانا النائبين الأوّل والثاني من النوّاب الأربعة في الناحية المقدّسة على عهد الغيبة الصغرى ، على غائبها ألف تحيّة وسلام ، وعجّل الله تعالى فرجه الشريف.

على أنّ دأب علمائنا الأعلام على الأخذ برواية الثبت الثقة الأمين معروف معهود لا غبار عليه ، كما ذكره الشيخ في العدّة ، حتّى ولم يشترطوا كونه إماميّا بعد احراز كونه صدوقا في حديثه أمينا في روايته. وهذا هو مذهب أصحابنا أجمع من غير خلاف. وهكذا المعهود من دأبهم الأخذ برواية الثقة الثبت ، في مختلف شؤون الدين ، في المعارف والأحكام والتاريخ والتفسير جميعا ومن غير فرق.

نعم هناك من أخذ من كلام المفيد ، بأن لا تعبّد في غير التكاليف ، مستندا لرفض حجيّة الخبر الواحد في مجال التفسير ، حيث المطلوب فيه هو فهم المعاني ، وهو من باب العلم ولا مساس له بالعمل فيما سوى آيات الأحكام.

وبذلك فسّر كثير من الأصوليّين الحجّيّة التعبّديّة في باب الأمارات والدلائل الظنيّة ، ومنها الخبر الواحد ، بالتنجّز والتعذّر تعبّدا (٢) ، ولا مجال له في غير التكاليف ذوات أثر شرعي عملي.

ومن ثمّ قالوا ـ في مسألة الإخبار مع الواسطة ـ بضرورة كون المخبر به ذا أثر شرعي حتّى يشمله دليل الحجّيّة التعبّديّة (٣).

وهكذا ذهب العلّامة الطباطبائي إلى عدم حجّيّة خبر الواحد في باب التفسير ، استنادا إلى ما

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٢٩ ـ ٣٣٠ / ١ ، باب تسمية من رآه من كتاب الحجّة.

(٢) راجع : كفاية الأصول للمحقّق الخراساني : ٢٧٧.

(٣) راجع : أجود التقريرات للإمام الخوئي ، تقريرا لمباحث المحقق النائيني ٢ : ١٠٥ ؛ كفاية الأصول : ٢٩٧.

١٢٥

ذكره علماء الأصول. قال : الذي استقرّ عليه النظر اليوم في المسألة ، أنّ الخبر إذا كان متواترا أو محفوفا بقرينة قطعيّة ، فهو حجّة. وأمّا غير ذلك فلا حجّيّة فيه ، ما سوى الأخبار الواردة بشأن الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، إذا كان الخبر موثوق الصدور ... قال : وذلك أنّ الحجّيّة الشرعيّة (التعبّديّة) من الاعتبارات العقلائيّة ، فتتبع وجود أثر شرعيّ في المورد ليقبل الجعل والاعتبار الشرعيّ. أمّا القضايا التاريخيّة والأمور الاعتقاديّة ، فلا معنى لجعل الحجّيّة فيها ، لعدم أثر شرعيّ. قال ولا معنى لحكم الشارع بكون غير العلم علما وإلزام المكلّفين بالتعبّد به (١).

وهذا الذي نفاه أخيرا ، قد أثبته سيّدنا الأستاذ الخوئي ومن قبله شيخه المحقّق النائيني وغيرهما من أعلام الأصوليين.

أمّا المحقّق النائيني فإنّه يرى من تفسير الحجّيّة في باب الأمارات هو : اعتبار كاشفيّتها ، وجعلها دلائل علميّة ، حسب اعتبار العقلاء عرفيّا ، وليس تعبّديّا محضا. إنّه ـ قدّس سره ـ يرى في باب الطرق والأمارات ، أنّ المجعول (الذي تعلّق به الاعتبار والحجّيّة) هو نفس الكاشفيّة والوسطيّة في الإثبات ، فالمجعول هي الطريقيّة التامّة أي تتميم الكشف. حسب مصطلحهم (٢).

وهكذا جاء في تقريرات سيدنا الأستاذ لمحاضرات شيخه النائيني حرفا بحرف (٣).

قال سيّدنا الأستاذ عند كلامه عن أصول التفسير وتبيين مواضع أئمّة الدين من التفسير : «لا شبهة في ثبوت قولهم عليهم‌السلام إذا دلّ عليه طريق قطعيّ لا شكّ فيه. وهل يثبت بطريق ظنّي دلّ على اعتباره دليل قطعي؟ فيه كلام بين الأعلام :

وقد يشكل في حجّية خبر الواحد الثقة إذا ورد عن المعصومين عليهم‌السلام في تفسير الكتاب ، ووجه الإشكال في ذلك : أنّ معنى الحجّيّة ، التي ثبتت للخبر الواحد أو لغيره من الأدلّة الظنيّة ، هو وجوب ترتيب الآثار عليه عملا ، وهذا المعنى لا يتحقّق إلّا إذا كان مؤدّى الخبر حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعيّ ، وهذا المعنى مفقود في رواية التفسير.

قال : وهذا الإشكال خلاف التحقيق ، فإنّا قد أوضحنا في مباحث الأصول : أنّ معنى الحجّيّة

__________________

(١) راجع : الميزان ١٠ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦. و ٣ : ٨٧ ـ ٨٨ و ٦ : ٥٩ و ١٢ : ٢٧٨ وكتابه «قرآن در اسلام» : ٧٠.

(٢) راجع : فوائد الأصول المحقّق الكاظمي ، تقريرا لمباحث المحقّق النائيني ٣ : ١٨٠ ـ ١٨١.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ١٠٥.

١٢٦

في الأمارة (الناظرة إلى الواقع ، أي التي كان لهاجهة كاشفيّة) هو جعلها علما تعبّديّا في حكم الشارع (أي أعتبر الظنّ الحاصل منها بمنزلة العلم) فيصبح الطريق (الظنّي) المعتبر فردا من أفراد العلم ، لكنّه تعبّدا لا وجدانا. فيترتّب عليه جميع ما يترتّب على القطع (العلم) من آثار. فيصحّ الإخبار على طبقه كما يصحّ الإخبار طبق العلم الوجداني ولا يكون قولا بغير علم» (١).

وعليه فلا فرق في ذلك بين الأخبار المتكفّلة لبيان حكم شرعي أو غيره ، كما في التفسير وسائر شؤون الدين.

وقال ـ في مباحثه عن حجيّة الظنّ ـ : إن كان الظنّ متعلّقا بما يجب التباني وعقد القلب عليه والتسليم والانقياد له ، كتفاصيل البرزخ وتفاصيل المعاد ووقائع يوم القيامة وتفاصيل الصراط والميزان ونحو ذلك مما لا تجب معرفته ، وإنّما الواجب عقد القلب عليه والانقياد له على تقدير إخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن كان المتعلّق بهذه الأمور من الظنون الخاصّة (الثابتة حجّيتها بغير دليل الانسداد) فهو حجّة ، بمعنى أنّه لا مانع من الالتزام بمتعلّقه وعقد القلب عليه ، لأنّه ثابت بالتعبّد الشرعي.

بلا فرق بين أن تكون الحجيّة بمعنى جعل الطريقيّة ـ كما اخترناه ـ أو بمعنى جعل المنجّزيّة والمعذّريّة ـ كما اختاره صاحب الكفاية ـ.

وأمّا الظنّ المتعلّق بالأمور التكوينيّة أو التاريخيّة ، كالظنّ بأنّ تحت الأرض كذا أو فوق السماء كذا. والظنّ بأحوال أهل القرون الماضية وكيفيّة حياتهم ونحو ذلك ، فإن كان الظنّ من الظنون الخاصّة ، فلا بدّ من التفصيل بين مسلكنا ومسلك صاحب الكفاية رحمه‌الله ، فإنّه على مسلكنا من أنّ معنى الحجيّة جعل غير العلم علما بالتعبّد ، يكون الظنّ المذكور حجّة ، باعتبار أثر واحد وهو جواز الإخبار بمتعلّقه. فإذا قام ظنّ خاصّ على قضيّة تاريخيّة أو تكوينيّة ، جاز لنا الإخبار بتلك القضيّة ، بمقتضى حجيّة الظنّ المذكور ، لأنّ جواز الإخبار عن الشيء منوط بالعلم به ، وقد علمنا به بالتعبّد الشرعي. وهذا بخلاف مسلك صاحب الكفاية إذ لا أثر شرعيّا للموجودات الخارجيّة أو القضايا التاريخيّة ليكون الظنّ منجّزا أو معذّرا بالنسبة إليه. وأمّا جواز الإخبار عن شيء فهو فرع

__________________

(١) راجع : البيان : ٤٢١.

١٢٧

العلم به ، والمفروض حصول العلم ـ ولو عن تعبّد شرعيّ ـ كما نبّهنا! (١)

وهذا الذي ذكره سيّدنا الأستاذ ـ طاب ثراه ـ في غاية الدقّة والإتقان ، غير أنّ هنا التفاتة يجدر التنبّه لها ، وتعود إلى جانب قوله بالتعبّد في حجيّة الأمارات ، كما جاء في كلام سائر المشايخ العظام من اعتبارهم حجّية الخبر الواحد من باب التعبّد به شرعيّا.

ولنتسائل : هل هناك تعبّد ـ في منح هذه الحجّية لخبر الثقة العدل ـ أم هي مرافقة مع العرف العامّ (أعراف العقلاء)؟

والذي يبدو لنا : أنّ حجّية الخبر الواحد (الجامع لشرائط الاعتبار) لم تكن مستندة إلى دليل تعبّدي (بأن تعبّدنا الشارع به) وإنّما هي سيرة عقلائيّة مشى عليها عرفهم العامّ وجرى معهم الشارع الحكيم في مرافقة رشيدة! فلا تعبّد هناك ـ إطلاقا ـ كي يلتمس ترتّب أثر عمليّ عليه أو يكون الشارع استهدفه تكليفيّا! وإنّما هي مسايرة مع أعراف العقلاء في مناهجهم لتنظيم الحياة العامّة ، وكان إخبار الثقة الضابط هو أحد أسباب العلم عندهم. فأمضاه الشارع وواكبهم في هذا المنهج الحكيم. وما ورد من آيات وروايات بشأن اعتبار خبر الثقة الأمين ، إنّما هي شواهد على هذا الإمضاء والموافقة ، ففي الحقيقة إنّه إرشاد إلى ذلك الاعتبار العامّ ، وليس. مجرّد تكليف بالتعبّد محضا.

__________________

(١) راجع : مصباح الأصول ٢ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩ (مبحث حجّية الظنّ في الاعتقاديّات).

١٢٨

آفات التفسير

هناك للتفسير آفات يجب التحذّر عنها ، سواء أكان من النمط الأثري (النقلي) أم النظري (الاجتهادي). الأمر الذي ينبغي التنبّه له ، أوّلا ، معرفة مواضع الآفة ، ثمّ المحاولة بشأن علاجها قبل التورّط فيها.

وأهمّ مواضع الآفة في التفسير الأثري ، هي وفور دواعي الدسّ والتزوير في روايات التفسير وكثرة الوضع والجعل لغايات ، منها الخبيثة ومنها عن حسن النيّة لفرط الجهل والغباء. فتلك روايات إسرائيليّة وأخرى مفتعلة على يد القصّاصين وأصحاب المكايد والدسائس المدبّرة ، قد ازدحمت بها كتب التفسير والحديث ، وكانت بليّة مفجعة كابدها علماء الإسلام النابهون.

كما أنّ من أهمّ الآفات في التفسير النظري ، هو جانب احتمال التفسير بالرأي في كثير من الأحيان حيث وفرة دواعي تحميل الرأي على القرآن أو الاستبداد بالرأي في تفسيره ، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، كما نصّ عليه الذكر الحكيم (١).

وقد شرحنا جوانب من مزلّات التفسير بكلا نوعيه ، عند الكلام عن التفسير والمفسّرين ، بتفصيل وتبيين ، وإليك موجزا عن ذلك.

__________________

(١) راجع : آل عمران ٣ : ٧.

١٢٩

الوضع في التفسير

كان قد تناول جماعة للدسّ في الحديث والتفسير ، نزولا مع رغبات ساقطة وأهداف أخرى شرحناها (١) وكانوا قد أورثوا الأمّة أضرارا فادحة ربما لا تنجبر مع الأيام ، إذ قد قلبوا الحقائق وطعنوا في التشويه والتزوير الشيء الكثير.

وحتّى قال الإمام أحمد : ثلاث كتب لا أصل لها : المغازي والملاحم والتفسير. قال المحقّقون من أصحابه : يعني أنّ الغالب على هذه الكتب أن ليس لها أسانيد صحاح متّصلة الإسناد (٢).

وهذا الإمام محمّد بن إدريس الشافعي يقول : لم يثبت عن ابن عبّاس في التفسير إلّا شبيه بمائة حديث (٣). مراده : عدم صحّة الإسناد إليه في الكثير من المرويّات عنه.

وهذا الكلام وإن كان مبالغا فيه ، إلّا أنّه يدلّنا على كثرة ما دخل في التفسير من أحاديث مكذوبة مصطنعة ، فضلا عن الضعاف والمراسيل.

وقد عقد أبو عبد الله القرطبي في مقدّمة تفسيره بابا للتنبيه على أحاديث وضعت في فضل سور القرآن وغيره. قال فيه : لا التفات لما وضعه الواضعون واختلقه المختلقون من الأحاديث الكاذبة والأخبار الباطلة في فضل سور القرآن وغير ذلك من فضائل الأعمال ، قد ارتكبها جماعة كثيرة اختلفت أغراضهم ومقاصدهم في ارتكابها. ثمّ أخذ في شرح تلك المقاصد والآثار السيّئة التي ترتّبت على تلك المساوئ (٤).

* هذا أحمد بن عبد الله الجويباري ـ في عصر شيوخ الأئمّة (٥) ـ من أهل هرات ، قال أبو حاتم محمّد بن حبّان : دجّال من الدجاجلة ، كذّاب ، يروي عن ابن عيينة ووكيع وأبي ضمرة وغيرهم من أصحاب الحديث ، ويضع عليهم ما لم يحدّثوا. وقد روى عن هؤلاء الأئمّة ألوف حديث ما حدّثوا بشيء منها ، كان يضعها عليهم (٦).

قال ابن عديّ : كان يضع الحديث لابن كرّام (٧) ، على ما يريده ، وكان ابن كرّام يخرجها في كتبه

__________________

(١) التمهيد ٩ : ٣٧ ـ ٢١٤. عند الكلام عن آفات التفسير بالمأثور.

(٢) الإتقان ٤ : ١٨٠.

(٣) المصدر : ٢٠٩.

(٤) راجع : القرطبي ١ : ٧٨.

(٥) المغني في الضعفاء ، للذهبي ١ : ٤٣ / ٣٢٢.

(٦) كتاب المجروحين ١ : ١٤٢.

(٧) هو : أبو عبد الله محمّد بن كرّام. كان صاحب بدعة ومذهب في التجسيم والتشبيه. قال عنه الشهرستاني : ونبغ رجل متنمّس بالزهد

١٣٠

عنه ، ويسمّيه أحمد بن عبد الله الشيباني. قال : وله ممّا وضعه أحاديث كثيرة لم أخرجها هاهنا. وممّا رواه على هذا النمط ما أسنده إلى أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يكون في أمّتي رجل يقال له النعمان بن ثابت ، يكنّى أبا حنيفة ، يجدّد الله سنّتي على يديه». هذا الحديث رواه عنه محمّد بن الكرّام وحدّث به عنه (١).

قال البيهقي : أمّا الجويباري فإنّي أعرفه حقّ المعرفة بوضع الأحاديث على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد وضع عليه أكثر من ألف حديث. وقال الحاكم : كذّاب خبيث لا تحلّ رواية حديثه بوجه (٢).

قال أبو سعيد النقاش : لا نعرف أحدا أكثر وضعا منه. وقال ابن حبّان في ترجمة إسحاق بن نجيح الملطي : تعلّق به أحمد بن عبد الله الجويباري ، فكان يروي عنه ما وضعه إسحاق ، ويضع عليه ما لم يضع ايضا (٣).

* ومحمّد بن تميم السعدي الفاريابي شيخ محمّد بن كرّام. قال الحاكم : هو كذّاب خبيث.

وقال أبو نعيم : كذّاب وضّاع (٤) كان هو والجويباري كفرسي رهان يتسابقان في وضع الحديث في صالح ابن كرّام. قال ابن حبّان : تعلّق محمّد بن كرّام برجله وتشبّث بالجويباري في كتابه فأكثر روايته عنهما. قال : وكان السبب في ترك أصحابنا إيّاهما ، أنّهما كانا يضعان الحديث على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضعا (٥).

قال سهل بن شاذويه : رأيت ببخارى ثلاثة من الكذّابين الذين يكذبون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

محمّد بن تميم هذا والحسن بن شبل الكرميني البخاري (شيخ معاصر للبخاري ، ذكره السليماني في جملة من يضع الحديث) (٦) وآخر (٧). قلت : ولعلّه محمّد بن عكّاشة التالي ، قبل أن ينتقل إلى الشام.

* ومحمّد بن إسحاق العكّاشي الغنوي المعروف بابن عكّاشة ، من ولد عكّاشة بن محصن.

__________________

من سجستان ، قليل العلم ، قد قمش من كلّ مذهب ضغثا وأثبته في كتابه وروّجه على أغتام غرجة وغور وسواد بلاد خراسان ، فانتظم ناموسه وصار ذلك مذهبا وقد نصره محمود بن سبكتكين وصبّ البلاء على أصحاب الحديث والشيعة. ومذهبه أقرب إلى مذهب الخوارج ، وهم مجسّمة. ومذهبه في الإمامة هو الجمع بين إمامين في زمان. فقد قالوا بإمامة عليّ ومعاوية على سواء. توفّي ابن كرّام سنة ٢٥٥. (الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٣١ و ١٠٨ ـ ١١٣).

(١) الكامل في الضعفاء ١ : ١٧٧ ـ ١٧٨ / ١٧ ـ ١٧.

(٢) لسان الميزان ١ : ١٩٣ / ٦١١.

(٣) المصدر : ١٩٤.

(٤) المصدر ٥ : ٩٨ / ٣٣١.

(٥) كتاب المجروحين ٢ : ٣٠٦.

(٦) لسان الميزان ٢ : ٢١٢ / ٩٤٢.

(٧) المصدر ٥ : ٩٨ / ٣٣١.

١٣١

سكن الشام. قال ابن حبّان : كان ممّن يضع الحديث على الثقات ، لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلّا على جهة التعجّب عند أهل الصناعة (١). ذكره الحاكم في الضعفاء وقال : إنّه كان ممّن يضع الحديث حسبة. ونقل عن سهل بن السرّي الحافظ أنّه كان يقول : وضع أحمد الجويباري ، ومحمّد بن تميم ، ومحمّد بن عكّاشة ، على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من عشرة آلاف حديث (٢).

* وهذا أبو عصمة نوح بن أبي مريم المروزي قاضي مرو. قال ابن حبّان : كان ممّن يقلب الأسانيد ويروي عن الثقات ما ليس من حديث الأثبات. قال : لا يجوز الاحتجاج به بحال (٣).

ولّي قضاء مرو في خلافة المنصور ، وامتدّت حياته (هلك سنة ١٧٣) وكتب إليه أبو حنيفة عندما استقضي ، يعظه (٤).

كان ممّن يضع الحديث حسبة ، قال الحاكم : وضع أبو عصمة حديث فضائل القرآن الطويل (٥).

وقال البخاري : ذاهب الحديث. وقال النسائي : ليس بثقة ولا مأمون.

قال ابن المبارك : أكره حديث أبي عصمة ، وضعّفه وأنكر كثيرا منه. وقال ـ في الحديث الذي يرويه عن مقاتل بن حيّان في الشمس والقمر ـ : ليس له أصل. قال ابن حجر : الحديث الذي أشار إليه ابن المبارك في الشمس والقمر ، هو حديث طويل ، آثار الوضع عليه ظاهرة. وأورده أبو جعفر الطبري في تاريخه في بدء الخلق ، وأشار إلى عدم صحّته ، مع قلّة كلامه على الحديث في ذلك الكتاب. وكان مرجئيّا شديدا على الجهميّة (٦).

كان يقال له : الجامع ، لجمعه بين الفقاهة والتحديث والتفسير وعلم السير والمغازي ، وكان مع ذلك عالما بأمور الدنيا (٧).

لكن قال الحاكم : أبو عصمة مقدّم في علومه إلّا أنّه ذاهب الحديث بمرّة وقد أفحش أئمّة الحديث القول فيه ببراهين ظاهرة. قال : لقد كان جامعا رزق كلّ شيء إلّا الصدق ، نعوذ بالله من الخذلان.

__________________

(١) كتاب المجروحين ٢ : ٢٨٤.

(٢) لسان الميزان ٥ : ٢٨٦ / ٩٨٣.

(٣) كتاب المجروحين ٣ : ٤٨.

(٤) ميزان الاعتدال ٤ : ٢٧٩ / ٩١٤٣.

(٥) المصدر. وسنذكر طرفا من الحديث فيما يأتي. وقيل : إنّ واضعه هو مأمون بن أحمد السلمي (هامش كتاب المجروحين ٣ : ٤٨).

(٦) تهذيب التهذيب ١٠ : ٤٨٦ / ٨٧٦ ؛ ميزان الاعتدال ٤ : ٢٧٩.

(٧) تهذيب التهذيب ١٠ : ٤٨٧.

١٣٢

وذكر ابن حجر عن ابن حبّان قوله في نوح الجامع : جمع كلّ شيء إلّا الصدق (١).

* ومأمون بن أحمد أبو عبد الله السّلمي من أهل هراة. قال ابن حبّان : كان دجّالا من الدجاجلة ، ظاهر أحواله مذهب الكرّاميّة وباطنها ما لا يوقف على حقيقته. يروي عن هشام بن عمّار وغيره من أهل الشام ومصر وشيوخ لم يرهم. قال ابن حبّان : قلت له يوما : متى دخلت الشام؟ قال : سنة خمسين ومائتين! قلت : فإنّ هشاما الذي تروي عنه مات سنة خمس وأربعين ومائتين! فقال : هذا هشام بن عمار آخر!!

قال : وروى عن أحمد بن عبد الله الجويباري بإسناده إلى أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يكون في أمّتي رجل يقال له محمّد بن إدريس أضرّ على أمّتي من إبليس ، ويكون في أمّتي رجل يقال له أبو حنيفة ، هو سراج أمّتي».

قال ابن حبّان : فمن حدّث بهذه الأحاديث أو ببعضها يجب أن لا يذكر في جماعة أهل العلم. وإنّما ذكرته لأنّ الأحداث بخراسان قد كتبوا عنه ، ليعرف كذبه في الحديث وتعمّده في الإفك على أهل العلم (٢).

قال الذهبي : مأمون بن احمد السلمي الهروي ، أخذ عن الجويباري ، وله طامّات وفضائح (٣).

* وعبد الرحيم بن حبيب الفاريابي أبو محمّد. أصله من بغداد سكن فارياب (٤). يروي عن بقيّة (٥) وإسحاق بن نجيح (٦). وكان يضع الحديث على الثقات وضعا. قال ابن حبّان : ولعلّ هذا الشيخ قد وضع أكثر من خمسمائة حديث على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رواها عن الثقات (٧).

__________________

(١) المصدر : ٤٨٨.

(٢) كتاب المجروحين ٣ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٣) المغني في الضعفاء ٢ : ٥٣٩ / ٥١٥٥.

(٤) مدينة مشهورة بخراسان من أعمال جوزجان قرب بلخ غربيّ جيحون. (معجم البلدان ٤ : ٢٢٩)

(٥) هو : بقيّة بن الوليد أحد أئمّة الحديث يروي عمّن دبّ ودرج وله غرائب تستنكر. قال ابن حنبل : له مناكير عن الثقات. قالوا : وكان يدلّس عن المتروكين. قال ابن حبّان : سمع من قوم كذّابين عن قوم ثقات ، فأسقط أولئك الكذابين بينه وبينهم ، فروى عن الثقات بالتدليس. (المغني للذهبي ١ : ١٠٩ / ٩٤٤).

(٦) هو : إسحاق بن نجيح الملطي. قال أحمد بن حنبل : هو من أكذب الناس. قال : كان يحدّث عن أناس من السلف برأي أبي حنيفة. وقال يحيى بن معين : معروف بالكذب ووضع الحديث. وقال أحمد بن محمّد : سمعت يحيى بن معين يقول : إسحاق بن نجيح الملطي كذّاب ، عدوّ الله ، رجل سوء خبيث. (ميزان الاعتدال ١ : ٢٠٠ / ٧٩٥)

(٧) كتاب المجروحين ٢ : ١٦٢ ـ ١٦٣.

١٣٣

أهمّ أسباب الوضع في الحديث

ذكر الإمام الحافظ محمّد بن حبّان بن أحمد ، أبو حاتم التميمي البستي (المتوفّى سنة ٣٥٤) في كتابه الذي وضعه لبيان المجروحين من المحدّثين والضعفاء والمتروكين ، أنواعا من الجرح في الضعفاء ، نذكرها بتلخيص :

النوع الأوّل ، ما وضعه الزنادقة ممّن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، كانوا يدخلون المدن ويتشبّهون بأهل العلم ويضعون الحديث على العلماء ليوقعوا الشكّ في قلوب الناس. وربما سمع الثقات منهم ما يروون فيؤدّونها إلى من بعدهم ، فوقعت في أيدي الناس حتّى تداولوها يدا بيد.

قال ابن لهيعة (١) : دخلت على شيخ وهو يبكي فقلت : ما يبكيك؟ قال : وضعت أربعمائة حديث أدخلتها في برنامج الناس ، فلا أدري كيف أصنع!

قال يحيى بن عبد الله بن بكير (٢) : سمعت الليث ابن سعد (٣) يقول : قدم علينا شيخ من الإسكندريّة يروي عن نافع ـ ونافع يومئذ حيّ ـ فأتيناه فكتبنا عنه فنداقين (٤) عن نافع ، فلمّا خرج الشيخ أرسلنا بالفنداقين إلى نافع فما عرف منها حديثا واحدا. قال أصحابه : ينبغي أن يكون هذا من الشياطين الذين حسبوا (٥).

وذكر القرطبي أنّ قوما من الزنادقة مثل : المغيرة بن سعيد الكوفي ومحمّد بن سعيد الشامي المصلوب في الزندقة وغيرهما ، وضعوا أحاديث وحدّثوا بها ليوقعوا بذلك الشكّ في قلوب الناس. فممّا رواه محمّد بن سعيد عن أنس بن مالك في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا خاتم الأنبياء لا نبيّ بعدي» : إلّا ما شاء الله.

فزاد هذا الاستثناء ، لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة (٦).

__________________

(١) هو : عبد الله بن لهيعة أبو عبد الرحمان المصري الفقيه القاضي. قال أبو داوود عن أحمد : ومن كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه. (تهذيب التهذيب ٥ : ٣٧٥ / ٦٤٨).

(٢) هو أبو زكريّا المصري الحافظ وقد ينسب إلى جدّه. ذكره ابن حبّان في الثقات (١٥٤ ـ ٢٣١). قال ابن عديّ : كان جار الليث بن سعد ، هو أثبت الناس فيه. وعنده عن الليث ما ليس عند أحد. (تهذيب التهذيب ١١ : ٢٣٨ / ٣٨٧).

(٣) هو : الليث بن سعد بن عبد الرحمان الفهمي أبو الحارث الإمام المصري الشهير أصله من إصبهان. قال ابن سعد : كان قد اشتغل بالفتوى في زمانه وكان ثقة كثير الحديث صحيحا وكان سربا من الرجال نبيلا سخيّا. وقال أحمد : ليس لأهل مصر أصحّ حديثا من ليث. (تهذيب التهذيب ٨ : ٤٦١ / ٨٣٢).

(٤) الفنداق : صحيفة الحساب : الدفتر.

(٥) أي رجموا بالحسبانة وهي الصاعقة.

(٦) القرطبي ١ : ٧٨.

١٣٤

النوع الثاني ، ما وضعه المغترّون حسبة لله فيما زعموا. قال أبو حاتم : ومنهم من استفزّه الشيطان حتّى كان يضع الحديث على الشيوخ الثقات في الحثّ على الخير وذكر الفضائل ، والزجر عن المعاصي والعقوبات عليها ، متوهّمين أنّ ذلك مما يؤجرون عليها ، يتأوّلون : قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كذب عليّ متعمّدا ...» زعموا : أنّهم كذبوا له لا عليه! قالوا : المقصود من الكذب عليه ، رميه بالسحر أو الشعر أو الكهانة.

قال أبو حاتم : حدّثني أحمد بن محمّد الجواربي بواسط ، عن عليّ بن عبد الرحمان بن المغيرة ، قال : سمعت أبا صالح يقول : سمعت بقيّة (هو ابن الوليد كان يروي عمّن دبّ ودرج من غير هوادة) يقول : سمعت إبراهيم بن أدهم (١) يقول ـ بشأن هذا الحديث ـ : أن لو قال قائل : النبيّ ساحر أو شاعر أو كاهن.

قال : سمعت عبد الله بن جابر بطرسوس يقول : سمعت جعفر بن محمّد الأزدي يقول سمعت محمّد بن عيسى الطبّاع يقول سمعت ابن مهديّ (٢) يقول لميسرة بن عبد ربّه (٣) : من أين جئت بهذه الأحاديث : من قرأ كذا فله كذا؟ قال : وضعتها أرغّب الناس فيها.

النوع الثالث ، ما وضعوه جرأة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال أبو حاتم : ومنهم من كان يضع الحديث على الثقات وضعا استحلالا وجرأة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أنّ أحدهم كان عامّة ليله يسهر في وضع الحديث ، كأبي البختري وهب بن وهب القاضي (٤) وسليمان بن عمرو

__________________

(١) هو : أبو إسحاق العجلي البلخي الزاهد ، سكن الشام. قال ابن حبان : هو من الثقات كان صابرا على الجهد والفقه والورع الدائم والسخاء الوافر إلى أن مات في بلاد الروم سنة ١٦١. قال النسائي : ثقة مأمون أحد الزهّاد. وقال الدارقطني : إذا روى عنه ثقة فهو صحيح الحديث! (تهذيب التهذيب ١ : ١٠٣ / ١٧٦).

(٢) هو : عبد الرحمان بن مهديّ بن حسان العنبري أبو سعيد البصري الحافظ الإمام العلم الشامخ (تهذيب التهذيب ٦ : ٢٧٩ / ٥٤٩).

(٣) كان ممّن يروي الموضوعات عن الأثبات ويضع الحديث. وهو صاحب حديث فضائل القرآن الطويل ـ حسبما نذكر ـ (لسان الميزان ٦ : ١٣٨ / ٤٨٠).

(٤) سكن بغداد وولّي قضاء عسكر المهديّ ثمّ قضاء المدينة. ثمّ ولّي حرسها وصلاتها وكان جوادا ممدحا ، لكنّه متّهم في الحديث. وممّا وصموه : أنّه أكذب البريّة أو أكذب الناس طرّا. قال ابن الجارود : كذّاب خبيث ، كان عامّة اللّيل يضع الحديث. كان يضع الحديث تزلّفا للأمراء. وهو صاحب حديث القباء الأسود وحديث لا سبق إلّا في جناح. وغيرهما من أحاديث كان يضعها ارتجالا. ولمّا بلغ ابن مهدي موته قال : الحمد لله الذي أراح المسلمين منه. (لسان الميزان ٦ : ٢٣٣ / ٨٣٠).

١٣٥

النخعي (١) والحسين بن علوان (٢) وإسحاق بن نجيح الملطي (٣) وذويهم.

النوع الرابع ، من كان يضع الحديث تشوّقا للملوك في حين بعد حين من غير أن يجعل ذلك صناعة له. وهذا كغياث بن إبراهيم (٤) ، حيث أدخل على المهدي وكان يهوي اللعب بالحمام ، فلمّا دخل غياث وإذا قدّامه حمامة ، فقيل له : حدّث أمير المؤمنين!

فقال : حدّثنا فلان عن فلان أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا سبق إلّا في نصل أو خفّ أو حافر أو جناح.

فأمر له المهديّ ببدرة (٥). فلمّا قام وذهب ، قال المهديّ : أشهد أنّه قفا كذّاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قال : أنا حملته على ذلك. فأمر بالحمام فذبحت ، ورفض ما كان عليه.

وحدّث سيف بن عمر قال : كنّا عند سعد بن طريف الإسكاف (٦) ، فجاء ابنه يبكي ، فقال : ما لك؟ قال : ضربني المعلّم! فقال : أما والله لأخزينّهم. حدّثني عكرمة عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : معلّموا صبيانكم شراركم ، أقلّهم رحمة ليتيم ، وأغلظهم على المسكين!

النوع الخامس ، من كان كبر سنّه وذهل عن الحفظ والتمييز ، فإذا هو يخلط ويخبط ويقلب الأسانيد ، فإذا حدّث ، رفع المرسل ، او أسند الموقف ، وربما وهم من كلام حسن أنّه حديث عن رسول الله ، فيرفعه إليه ذهولا وغفلة ، بما أخرج حديثه عن حدّ الاحتجاج به. كأبان بن أبي

__________________

(١) هو : أبو داود النخعي الكذّاب. قال يحيى بن معين : معروف بوضع الحديث. قال : كان أكذب الناس. قال الحاكم : لست أشكّ في وضعه للحديث على تقشّفه وكثرة عبادته. قال ابن حجر : الكلام فيه لا يحصى ، فقد كذّبه ونسبه إلى الوضع من المتقدّمين والمتأخّرين فوق الثلاثين نفسا. (لسان الميزان ٣ : ٩٩ / ٣٣٢).

(٢) هو : الحسين بن علوان الكلبي ، روى عن الأعمش وهشام بن عروة. قال يحيى : كذّاب. وقال ابن المديني : ضعيف جدّا. قال ابن حبّان : كان يضع الحديث على هشام وغيره وضعا ، وقال محمّد بن عبد الرحيم : كان ابن علوان يحدّث عن هشام وابن عجلان أحاديث موضوعة. (لسان الميزان ٢ : ٣٠٠ / ١٢٤٤).

(٣) قدّمنا بعض الكلام فيه.

(٤) النخعي. قال أحمد : ترك الناس حديثه. وقال الجوزجاني : سمعت غير واحد يقول : يضع الحديث. وقال الآجري : سألت أبا داوود عنه فقال : كذّاب ، وقال : ليس بثقة ولا مأمون. وقال يحيى بن معين : كذّاب خبيث. (لسان الميزان ٤ : ٤٢٢ / ١٢٩٦).

(٥) البدرة : كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم ، أو سبعة آلاف دينار.

(٦) الحذّاء الحنظلي الكوفي. قال النجاشي : يعرف وينكر وكان قاصّا وضعّفه ابن الغضائري. (قاموس الرجال ٥ : ٤٣ / ٣١٧٢).

١٣٦

عيّاش (١) ويزيد الرقاشي (٢) وذويهما.

قال القواريري : سمعت يحيى بن سعيد القطّان يقول : لم نجد الصالحين أكذب منهم في الحديث. وقال أبو إسحاق الطالقاني : سمعت ابن المبارك يقول : كنت اشتاق إلى لقاء عبد الله بن المحرّر (٣) ، فلمّا رأيته ، كانت بعرة أحبّ إليّ منه.

النوع السادس ، جماعة ثقات اختلطوا في أواخر أعمارهم حتّى لم يكونوا يعقلون ما يحدّثون ، فاختلط حديثهم الصحيح بالسقيم فلم يتميّز فاستحقوا الترك.

ذكر مؤمّل بن الفضل ، قال : سألت عيسى بن يونس عن الليث بن أبي سليم الكوفي (٤) ، فقال : قد رأيته وكان قد اختلط ، وكنت مررت به ارتفاع النهار وهو على المنارة يؤذّن. وهذا ملحق بالنوع الخامس.

النوع السابع ، من كان يجيب عن كلّ شيء يسئل سواء أكان ذلك من حديثه أو من غير حديثه ، فلا يبالي أن يتلقّن ما لقّن ، فإذا قيل له : هذا من حديثك حدّث به من غير أن يحفظ ، فهذا وأحزابه لا يحتجّ بهم ، لأنّهم يكذبون من حيث لا يعلمون.

النوع الثامن ، من كان يحدّث بأحاديث غيره ناسبا لها إلى نفسه اغترارا وذهولا ، من غير أن

__________________

(١) أبو إسماعيل البصري : روى عن أنس فأكثر. قال أبو حاتم : كان رجلا صالحا ولكنّه بلي بسوء الحفظ. قال ابن أبي حاتم : سئل أبو زرعة عنه فقال : ترك حديثه ولم يقرأه علينا ، فقيل له : كان يتعمّد الكذب؟ قال : لا ، كان يسمع الحديث من أنس ومن شهر بن حوشب ومن الحسن ، فلا يميّز بينهم. وقال ابن عديّ : عامّة ما يرويه لا يتابع عليه. وأرجو أن لا يتعمّد الكذب ، إلّا أنّه كان يشتبه عليه ويغلط ، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق ، كما قال شعبة. نعم كان قاريا مجيدا ولقّب بطاووس القرّاء. (تهذيب التهذيب ١ : ٩٨ / ١٧٤).

(٢) هو : يزيد بن أبان الرقاشي البصري ، أبو عمرو الزاهد العابد. روى عن أنس وغنيم بن قيس والحسن. قال يزيد بن هارون : سمعت شعبة يقول : لأن أزني أحبّ إليّ من أن أحدّث عن يزيد الرقاشي. ثمّ قال : يزيد ، ما كان أهون عليه الزنا. قال أحمد : كان يزيد منكر الحديث ، وكان سعيد يحمل عليه. وكان قاصّا. وهو الذي روى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبيّ ، فأخذ جبرائيل بثوبه. وروى أيضا أنّ آدم عليه‌السلام يشفّع في ألف ألف وعشرة آلاف ألف. (ميزان الاعتدال ٤ : ٤١٨ / ٩٦٦٩).

(٣) هو : عبد الله بن المحرّر الجزري. روى عن ابن الأصمّ وقتادة. قال أحمد : ترك الناس حديثه. وقال الجوزجاني : هالك. وقال ابن حبّان : كان من خيار عباد الله ، إلّا أنّه كان يكذب ولا يعلم ويقلّب الأخبار ولا يفهم. ولّاه منصور قضاء الرقّة. (ميزان الاعتدال ٢ : ٥٠٠ / ٢٠٨).

(٤) قال أبو بكر بن عيّاش : كان ليث من أكثر الناس صلاة وصياما ، وإذا وقع على شيء لم يردّه. وقال عبد الوارث : كان من أوعية العلم. وقال الدارقطني : كان صاحب سنّة. قال ابن حبّان : اختلط في آخر عمره. وقال أحمد : مضطرب الحديث. (ميزان الاعتدال ٣ : ٤٢٠ / ٦٩٩٧).

١٣٧

يعرف شناعة هذا الأمر ، لكثرة غباوته.

النوع التاسع ، من كان يحدّث عن شيوخ لم يرهم ولكنّه أخذ من كتبهم وصحائفهم من غير سماع.

النوع العاشر ، من كان يقلّب الأسانيد ويجعل الإسناد من شخص إلى شخص آخر تدليسا.

الحادي عشر ، من كان ينسب إلى شيخ ـ رآه وسمعه ـ حديثا لم يسمع منه ، وإنما سمع من آخر ينسبه إلى شيخه ذاك ، فهذا أخذه من ذلك ونسبه إلى شيخه سماعا منه.

الثاني عشر ، من كان يحدّث عن كتب غيره بعد أن ضاعت كتبه. فيرى أنّه يحدّث عن كتب نفسه.

الثالث عشر ، من كثر خطاؤه وفحش وكاد أن يقلب الصواب ، فاستحقّ الترك من أجله ، وإن كان ثقة صالحا في ظاهر حاله. لأنّ العدل إذا غلبت عليه أمارات الجرح استحقّ الترك.

الرابع عشر ، من امتحن بولد سوء أو كاتب سوء. يضع له الحديث وقد أمن الشيخ ناصيته. فيقرأ عليه ويقول له : هذا من حديثك ، فيحدّث به اغترارا. فالشيخ في نفسه ثقة ، إلّا أنّه متّهم بالخلط والتزوير من ناحية ذويه.

كان عبد الله بن ربيعة القدامي (١) بالمصّيصة (٢) ، كان له ابن سوء يدخل عليه الحديث عن مالك.

وكان لسفيان بن وكيع بن الجرّاح (٣) ورّاق (كاتب) يقال له : قرطمة أو قرطمة ، يدخل عليه

__________________

(١) هو : عبد الله بن محمّد بن ربيعة بن قدامة القدامي المصّيصى. قال ابن حجر : أحد الضعفاء ، أتى عن مالك بمصائب. منها : عن جعفر بن محمّد عن آبائه قال : توفّيت فاطمة عليها‌السلام ليلا ، فجاء أبو بكر وعمر وجماعة كثيرة ، فقال أبو بكر لعليّ : تقدّم فصّل ، قال : لا والله ، لا تقدّمت وأنت خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقدّم أبو بكر وكبّر أربعا.

قال ابن عديّ : عامّة أحاديثه غير محفوظة. وقال ابن حبّان : كان يقلّب الأخبار ، لعله قلب على مالك أكثر من مائة وخمسين حديثا. وروى عن إبراهيم بن سعد نسخة أكثرها مقلوب. قال الحاكم والنقّاش : روى عن مالك أحاديث موضوعة. قال الخليلي : أخذ أحاديث الضعفاء من أصحاب الزهري فرواها عن مالك. وقال أبو نعيم الإصبهاني : روى مناكير. (لسان الميزان ٣ : ٣٣٤ / ١٣٨٢).

(٢) المصّيصة : مدينة على شاطئ جيحان من ثغور الشام بين أنطاكيّة وبلاد الروم تقارب طرسوس. (معجم البلدان ٥ : ١٤٤).

(٣) هو : سفيان بن وكيع بن الجرّاح الرواسي أبو محمّد الكوفي. قال البخاري : يتكلّمون فيه لأشياء لقّنوه. وقال ابن أبي حاتم : سألت أبا زرعة عنه فقال : لا يشتغل به. قال : كان أبوه رجلا صالحا. وأمّا سفيان هذا فيتّهم بالكذب. قال : سمعت أبي يقول : كلّمني فيه مشايخ من أهل الكوفة ، فأتيته مع جماعة من أهل الحديث ، فقلت له : إنّ حقّك واجب علينا ، لو صنت نفسك واقتصرت على كتب أبيك ،

١٣٨

الحديث. قال ابن حبّان : وهم جماعة يكثر عددهم. قال : أخبرنى محمّد بن عبد الله بن عبد السّلام ببيروت ، عن جعفر بن أبان الحافظ قال : سألت ابن نمير (١) عن قيس بن الربيع (٢) فقال : كان له ابن هو آفته. ونظر أصحاب الحديث في كتبه ، فأنكروا حديثه وظنّوا أنّ ابنه قد غيّرها.

الخامس عشر ، من أدخل عليه شيء وهو لا يعلم ، فلمّا تبيّن له لم يرجع عنه وجعل يحدث به آنفا من الرجوع عمّا خرج منه. وهذا لا يكون إلّا من قلّة الديانة وعدم المبالاة بما هو مجروح في فعله ، فاستحقّ الترك.

قال ابو حاتم : سمعت محمّد بن إسحاق الثقفي يقول : سمعت أبا سيّار ـ وكان خير الرجال ـ يقول : سمعت أحمد بن حنبل يقول : لقّن غياث بن إبراهيم داوود الأودي (٣) عن الشعبي عن عليّ عليه‌السلام قال : لا يكون مهرا أقلّ من عشرة دراهم. فصار يحدّث ...

__________________

لكانت الرحلة إليك في ذلك. فقال : وما الذي ينقم عليّ؟ قلت : قد أدخل ورّاقك ما ليس من حديثك ، بين حديثك! قال : فكيف السبيل في هذا؟ قلت : ترضى بالمخرجات وتقتصر على الأصول ، وتنحّي هذا الورّاق ، وتدعو بابن كرامة وتوليه أصولك ، فإنّه يوثق به! فقال : مقبول منك. قال : فما فعل شيئا ممّا تذاكرنا معه. قال : وبلغني أنّ ورّاقه كان يستمع علينا الحديث ، فبطل الشيخ ، وكان يحدّث بتلك الأحاديث التي أدخلت بين حديثه. (تهذيب التهذيب ٤ : ١٢٤ / ٢١٠).

وقال ابن حبّان : كان شيخا فاضلا صدوقا إلّا أنّه ابتلى بورّاق سوء كان يدخل عليه الحديث ، وكان يثق به فيجيب فيما يقرأ عليه. وقيل له في أشياء منها فلم يرجع ، فمن أجل ذلك استحقّ الترك. (كتاب المجروحين ١ : ٣٥٩).

(١) هو : محمّد بن عبد الله بن نمير الهمداني الخارفي أبو عبد الرحمان الكوفي الحافظ. كان أحمد بن حنبل يعظّمه تعظيما عجبا ويقول : أيّ فتى هو!؟

وكان يقول : هو درّة العراق. كان رجلا نبيلا قد جمع العلم والفهم والسنّة والزهد. قال أحمد بن سنان : ما رأيت من الكوفيّين من أحداثهم أفضل منه! وقال ابن عدي : سمعت الحسن بن سفيان يقول : ابن نمير ، ريحانة العراق وأحد الأعلام. (تهذيب التهذيب ٩ : ٢٨٣ / ٤٦٣).

(٢) هو : قيس بن الربيع الأسدي أبو محمّد الكوفي. قال ابن عمّار : كان قيس عالما بالحديث ولكنّه ولّي المدائن فنفر الناس عنه. قال ابن المديني : سألت أبي عنه فضعّفه. قال : وإنّما أهلكه ابن له ، كان يقلّب عليه أشياء من حديثه. قال أبو داوود الطيالسي : إنّما أتي قيس من قبل ابنه ، كان ابنه يأخذ حديث الناس فيدخلها في درج كتاب أبيه ولا يعرف الشيخ ذلك. (تهذيب التهذيب ٨ : ٣٩٤ / ٦٩٦).

(٣) هو : داوود بن يزيد بن عبد الرحمان الأودي (نسبة إلى أود بن صعب بن سعد العشيرة من مذحج) الزعافري (نسبة إلى زعافر ـ بطن من أود) أبو يزيد الكوفي الأعرج عمّ ابن إدريس. روى عن أبيه والشعبي وعنه السفيانان وشعبة. كان يقول بالرجعة ومن ثمّ قال أبو حاتم : ليس بقويّ يتكلّمون فيه. لكن قال ابن عديّ : لم أر له حديثا منكرا جاوز الحدّ ، إذا روى عنه ثقة. وقال الساجي : صدوق يهمّ (تهذيب التهذيب ٣ : ٢٠٥ / ٣٨٩ ؛ كتاب المجروحين ١ : ٢٨٩).

١٣٩

قال : وسمعت محمّد بن المنذر يقول : سمعت أحمد بن واضح يقول : كان هانئ بن المتوكّل (١) لم يكن أوّل أمره يحدّث بشيء من المناكير ، إنّما أدخلوا عليه بعد ما كبر الشيخ.

السادس عشر ، من سبق لسانه ، حتّى حدّث بشيء خطاء وهو لا يعلم ، ثمّ تبيّن له بعد ذلك وعلم فلم يرجع عنه وتمادى في غيّه وجعل يروي ذلك الخطاء عالما عامدا تأنّفا. قال أبو حاتم : ومن كان دأبه ذلك كان كذّابا صراحة واستحقّ الترك.

قال : أخبرني الثقفي عن محمّد بن يحيى قال : سمعت نعيم بن حمّاد يقول : سمعت ابن مهدي يقول : قلت لشعبة : من الذي تترك الرواية عنه؟ قال : إذا تمادى في غلط مجمع عليه ، ولم يتّهم نفسه عند اجتماعهم على خلافه ، أو رجل يتّهم بالكذب.

حدّث عفّان قال : سمعت شعبة يقول : لو قيل لعاصم بن عبيد الله (٢) : من بنى مسجد البصرة؟ لقال : حدّثنا فلان عن فلان أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بناه! (٣)

السابع عشر ، قال أبو حاتم : ومنهم المعلن بالفسق وإن كان صدوقا في روايته ، لأنّ الفاسق لا يكون عادلا ، ومن خرج عن حدّ العدالة لا يعتمد صدقه.

روى معن قال : سمعت مالكا يقول : أربعة لا يكتب عنهم : رجل سفيه معروف بالسّفه. وصاحب هوى داعية إلى هواه. ورجل صالح لا يدري ما يحدّث. ورجل يكذب في حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قال تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٤) أي لا تثقوا به.

قال عبّاس بن محمّد : سمعت يحيى بن معين يقول ـ وذكرت له شيخا كان يلزم ابن عيينة يقال له : ابن مبادر (٥) ـ : أعرفه كان يرسل العقارب في المسجد الحرام حتّى تلسع الناس. وكان يصبّ المداد بالليل في المواضع التي يتوضّأ منها حتّى تسودّ وجوه الناس. ليس يروى عنه.

__________________

(١) هو : هانئ بن المتوكّل الإسكندراني ، أبو هاشم المالكي الفقيه. روى عن مالك وحيوة بن شريح. وعمّر دهرا طويلا لعلّه أزيد من مائة سنة (مات : ٢٤٢). قال ابن حبّان : كان تدخل عليه المناكير وكثرت ، فلا يجوز الاحتجاج به بحال. (ميزان الاعتدال ٤ : ٢٩١ / ٩١٩٨).

(٢) هو : عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العدوي. روى عن أبيه وابن عامر. وعنه شعبة ومالك ، ثمّ ضعفّه مالك. قال يحيى : ضعيف لا يحتجّ به. وقال ابن حبّان : كثير الوهم ، فاحش الخطاء ، فترك. قال ابن عيينة : كان الأشياخ يتّقون حديثه. وقال أبو زرعة : منكر الحديث. وقال الدارقطني : يترك ، وهو مغفّل. وقال ابن خزيمة : لا أحتجّ به لسوء حفظه. (ميزان الاعتدال ٢ : ٣٥٤ / ٤٠٥٦).

(٣) أوردناه كما في ميزان الاعتدال ٢ : ٣٥٤.

(٤) الحجرات ٤٩ : ٦

(٥) في بعض النسخ : ابن مغادر. لم يعرف.

١٤٠