تذكرة الفقهاء - ج ١٦

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ١٦

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-437-x
الصفحات: ٤١٨

الفصل الثالث : في تزاحم الحقوق‌

وفيه مباحث :

الأوّل : في الطرق.

مسألة ١٠٥٠ : الطرق نوعان : نافذة وغير نافذة.

الأوّل : النافذة‌ ، والناس كلّهم في السلوك فيها شرعٌ سواء مستحقّون للممرّ فيها (١) ، وليس لأحدٍ أن يتصرّف فيها ٢ بما يبطل المرور فيها ٣ أو ينقصه أو يضرّ بالمارّة من بناء حائطٍ فيها ٤ أو دكّة أو وضع جناح أو ساباط (٥) على جداره إذا أضرّ بالمارّة إجماعاً.

ولو لم يضرّ بالمارّة بأن كان عالياً لا يظلم به الدرب ، جاز وضع الجناح والساباط من غير منعٍ عند بعض علمائنا (٦) ـ وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمّد (٧) ـ لأنّه ارتفق بما لم يتعيّن ملك أحدٍ عليه ، فكان جائزاً ، وليس لأحدٍ منعه ، كالاستظلال بحائط الغير والاستطراق في الدرب.

__________________

(١ ـ ٤) بدل كلمة « فيها » في المواضع الأربعة في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فيه ». والمثبت يقتضيه السياق.

(٥) الساباط : سقيفة بين دارين من تحتها طريق نافذ. العين ٧ : ٢١٨ « سبط ».

(٦) كالمحقّق الحلّي في شرائع الإسلام ٢ : ١٢٣.

(٧) المغني ٥ : ٣٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨ ، الأُم ٣ : ٢٢١ ـ ٢٢٢ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٧٥ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٤١ ، حلية العلماء ٥ : ١١ ـ ١٢ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٤٨ ، البيان ٦ : ٢٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣٩ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٢٠ : ١٤٤.

٤١

ولأنّ الناس اتّفقوا على إشراع الأجنحة والساباطات في الطرق النافذة والشوارع المسلوكة في جميع الأعصار وفي سائر البقاع من غير إنكارٍ ، فكان سائغاً.

ولأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصب بيده ميزاباً في دار العبّاس (١) ، والجناح مثله ؛ لاشتراكهما في المنفعة الخالية عن الضرر.

وقال الشيخ رحمه‌الله وأبو حنيفة : لا عبرة بالضرر وعدمه ، بل إن عارضه فيه رجل من المسلمين ، نزع ، ووجب قلعه وإن لم يكن مضرّاً به ولا بغيره ، وإلاّ تُرك ؛ لأنّه بنى في حقّ غيره بغير إذنه ، فكان له مطالبته بقلعه ، كما لو بنى دكّةً في المسلوك ، أو وضع الجناح في سلك غيره (٢).

والقياس ممنوع ؛ فإنّ الضرر يحصل مع بناء الدكّة ، بخلاف الجناح والساباط والروشن (٣) ؛ لأنّ الأعمى يتعثّر بها ، وكذا في الليل المظلم يحصل تعثّر البصير بها ، ويضيق الطريق بها ، بخلاف الشارع. وملك الغير لا يجوز الممرّ فيه إلاّ بإذنه ، بخلاف الطرق ، فافترقا.

فروع :

أ ـ شرط أحمد في جواز إشراع الجناح إذنَ الإمام فيه‌ ، فإن أذن فيه جاز ، وإلاّ فلا (٤).

وهو ممنوع ؛ لاتّفاق الناس على عمله.

__________________

(١) الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٤ : ٢٠ ، تاريخ مدينة دمشق ٢٦ : ٣٦٦ ـ ٣٦٧ ، سنن البيهقي ٦ : ٦٦ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٣ : ٣٣١ ـ ٣٣٢.

(٢) المبسوط ـ للطوسي ـ ٢ : ٢٩١ ، الخلاف ٣ : ٢٩٤ ، المسألة ٢ من كتاب الصلح ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٢ : ١٤٤ ، المغني ٥ : ٣٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٧٦ ، حلية العلماء ٥ : ١٢ ، البيان ٦ : ٢٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٦.

(٣) الروشن : الرفّ والكوّة. لسان العرب ١٣ : ١٨١ « رشن ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٦.

٤٢

ب ـ الضابط في التضرّر وعدمه العرفُ ، ويختلف بحال الطرق.

فإن كان ضيّقاً لا يمرّ فيه الفُرْسان والقوافل ، وجب رفعه بحيث يمرّ المارّ تحته منتصباً ، والمحمل مع الكنيسة المنصوبة على رأسه على البعير ؛ لأنّه يتّفق ذلك وإن كان نادراً ، ولا تشترط الزيادة عليه.

وقال بعض الشافعيّة : يجب أن يكون بحيث يمرّ الراكب تحته منصوبَ الرمح (١).

وإن كان متّسعاً تمرّ فيه الجيوش والأحمال ، وجب أن لا يضرّ بالعماريّات والكنائس ، وأن يتمكّن الفارس من الممرّ تحته ورمحه منتصب لا يبلغه ؛ لأنّه قد يزدحم الفُرْسان فيحتاج إلى أن ينصب الرماح.

وقال بعض الشافعيّة : لا يقدّر بذلك ؛ لأنّه يمكنه وضع الرمح على عنقه بحيث لا ينال رمحه أحداً (٢).

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّ ذلك قد يعسر.

ج ـ إذا وضع الجناح أو الروشن أو الساباط في الدرب المسلوك على وجهٍ يضرّ بالمارّة ، تجب عليه إزالته‌ ، وعلى السلطان إلزامه بذلك.

ولو صالحه الإمام على وضعه ـ أو بعض الرعيّة ـ على شي‌ءٍ ، لم يجز ؛ لأنّ ذلك بيع الهواء منفرداً ، وهو باطل ، والهواء لا يفرد بالعقد ، بل يتبع الدار ، كالحمل مع الأُم.

ولأنّه إن كان مضرّاً لم يجز أخذ العوض عنه ، كبناء الدكّة في‌

__________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٧٦ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٤١ ، الوسيط ٤ : ٥٤ ، حلية العلماء ٥ : ١٣ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٤٨ ، البيان ٦ : ٢٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣٩.

(٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٤١ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٤٨ ، البيان ٦ : ٢٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣٩.

٤٣

الطريق ، وإن لم يكن مضرّاً كان جائزاً ، وما يجوز للإنسان فعله في الطريق لا يجوز أن يؤخذ منه عوض عنه كالسلوك ، وأحدٌ من الرعيّة ليس هو المستحقّ ولا نائبَ المستحقّين.

د ـ لو أظلم الطريق بوضع الجناح أو الروشن أو الساباط ، فإن أذهب الضياء بالكلّيّة مُنع إجماعاً‌ ؛ لأنّه يمنع السلوك فيه.

وإن لم يُذهب الضياء (١) جملةً بل بعضه ، فالوجه : المنع إن تضرّر به المارّة ، وإلاّ فلا.

وللشافعيّة قولان :

أحدهما : المنع مطلقاً.

والثاني : الجواز مطلقاً (٢).

مسألة ١٠٥١ : لو أخرج روشناً في شارعٍ أو دربٍ نافذ ، لم يكن لمقابله الاعتراضُ عليه‌ ، ولا منعه منه ، سواء استوعب عرض الدرب أو لا إذا لم يحصل ضرر لأحدٍ به.

وليس له وضع أطراف خشبه على حائط جاره وإن لم يتضرّر به الجار.

ولو أخرج روشنه إلى بعض الدرب ، كان لمحاذيه إخراج روشنٍ فيما بقي من الهواء ، وليس لصاحب الروشن الأوّل منعه ما لم يضع على خشبه شيئاً.

وإن أراد محاذيه بأن يُخرج روشناً تحت روشن محاذيه ، جاز ذلك.

وإن أراد أن يُخرج روشناً فوق روشن محاذيه ، جاز إذا لم يتضرّر به‌

__________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « الضوء ».

(٢) البيان ٦ : ٢٣٣ ، وانظر العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٩ ، وروضة الطالبين ٣ : ٤٤٠.

٤٤

بأن يكون عالياً لا يضرّ بالمارّ في الروشن السفلاني.

ولو أظلم الدرب بوضع الروشن الثاني ، أُزيل خاصّةً دون الأوّل ؛ لأنّ الضرر إنّما حصل بالثاني وإن كان لو لا الأوّل لم يحصل.

مسألة ١٠٥٢ : إذا أخرج جناحاً أو روشناً في الشارع النافذ ، فقد بيّنّا أنّه ليس لأحدٍ منعه مع عدم التضرّر به‌ ، فلو تضرّر جاره بالإشراف عليه ، فالأقرب : إنّ له المنعَ ؛ لأنّه قد حصل به الضرر ، بخلاف ما لو كان الوضع في ملكه أو ما له محلّ على جاره ، فإنّه لا يُمنع وإن حصل معه الإشراف ؛ لأنّ للإنسان التصرّفَ في ملكه كيف شاء ، بخلاف الروشن الموضوع على شرط عدم تضرّر الغير به ، فإذا فرض تضرّر شخصٍ ما به ، لم يجز وضعه ، ويُمنع في الملك من الإشراف على الجار ، لا من التعلية المقتضية لإمكانه.

ولسْتُ أعرف في هذه المسألة بالخصوصيّة نصّاً من الخاصّة ولا من العامّة ، وإنّما صِرتُ إلى ما قلتُ عن اجتهادٍ ، ولعلّ غيري يقف عليه أو يجتهد فيؤدّيه اجتهاده إلى خلاف ذلك.

مسألة ١٠٥٣ : لو وضع جناحاً لا ضرر فيه أو روشناً كذلك فانهدم‌ أو هدمه المالك أو جاره قهراً وتعدّياً ثمّ وضع الجار روشناً أو جناحاً في محاذاته ومدّه إلى مكان روشن الأوّل ، جاز ، وصار أحقَّ به ؛ لأنّ الأوّل كان يستحقّ ذلك بسبقه إليه ، فإذا زال وسبقه الثاني إلى مكانه ، كان أولى ، كرجلٍ جلس في مكانٍ مباح ـ كمسجدٍ أو دربٍ نافذ ـ ثمّ قام عنه أو أُقيم ، فإنّه يزول حقّه من الجلوس ، ويكون لغيره الجلوسُ في مكانه ، وليس للأوّل إزعاجه وإن أُزعج الأوّل ، فكذا هنا.

ومَنَع منه بعض الشافعيّة ؛ لأنّ الجالس في الطريق المسلوك الواسع إذا ارتفق بالقعود لمعاملة الناس لا يبطل حقّه بمجرّد الزوال عن ذلك‌

٤٥

الموضع ، وإنّما يبطل بالسفر والإعراض عن الحرفة على ما يأتي ، فقياسه أن لا يبطل بمجرّد الانهدام والهدم ، بل يعتبر إعراضه عن ذلك الجناح ورغبته عن إعادته (١).

ونحن نمنع الحكم في الأصل ، ونمنع أولويّته على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

مسألة ١٠٥٤ : لا يجوز لأحدٍ بناء دكّةٍ ولا غرس شجرةٍ في الطريق المسلوك إن ضيّق الطريق وضرّ بالمارّة إجماعاً‌ ؛ لقوله عليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار (٢) » (٣).

وإن كان متّسعاً لا يضرّ بالمارّة وَضْعُه ، فالأولى المنع أيضاً ، إلاّ فيما زاد على حدّ الطريق النافذ ؛ لأنّ ذلك يوجب اختصاصاً له فيما هو مشترك وشرعٌ بين الناس ، ولأنّ المكان المشغول بالبناء والشجر لا يتأتّى فيه السلوك والاستطراق ، وقد يزدحم المارّة ويعسر عليهم السلوك فيه ، فيتعثّرون بها ، ولأنّه ربما طالت المدّة ، فأشبه مكان البناء والغراس بالأملاك ، فانقطع أثر استحقاق السلوك فيه ، بخلاف الأجنحة والرواشن ، وهو أحد قولَي الشافعيّة.

والثاني : إنّه يجوز ذلك ، كوضع الجناح أو الروشن اللَّذَيْن لا يضرّان‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٧ ـ ٩٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٠.

(٢) في « ج ، ر » : « إضرار ».

(٣) الكافي ٥ : ٢٨٠ / ٤ ، و ٢٩٢ ـ ٢٩٤ / ٢ و ٨ ، الفقيه ٣ : ٤٥ / ١٥٤ ، و ١٤٧ / ٦٤٨ ، التهذيب ٧ : ١٤٦ ـ ١٤٧ / ٦٥١ ، و ١٦٤ / ٧٢٧ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٨٤ / ٢٣٤٠ و ٢٣٤١ ، سنن الدارقطني ٣ : ٧٧ / ٢٨٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٦٩ و ٧٠ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ٥٧ ـ ٥٨ ، مسند أحمد ٦ : ٤٤٧ / ٢٢٢٧٢.

٤٦

بالمارّة (١).

وقد عرفت الفرق.

مسألة ١٠٥٥ : حدّ الطريق المتّخذ في الأرض المباحة إذا تشاحّ أهله في وضعه وسعته وضيقه سبعُ أذرع‌ ؛ لأنّ ذلك قدر ما تدعو الحاجة إليه ، ولا يزيد عليه ؛ لما رواه مسمع بن عبد الملك عن الصادق عليه‌السلام قال : « والطريق إذا تشاحّ عليه أهله فحدّه سبع أذرع » (٢) ومثله روى السكوني عن الصادق عليه‌السلام (٣) ، والخبران موثّقان.

إذا تقرّر هذا ، فهذا الحدّ حدٌّ مع تشاحّ أهل ذلك الدرب ، المتقابلة دُورهم فيه ، ولا عبرة بغيرهم.

ولو اتّفقوا على وضع أضيق منه في الابتداء جاز ، ولم يكن لأحدٍ الاعتراضُ وطلبُ التوسعة فيه.

وإذا وضعوه على حدّ السبع ، لم يكن لهم بعد ذلك تضييقه.

ولو وضعوه أوسع من السبع ، فالأقرب : إنّ لهم ولغيرهم الاختصاصَ ببعضه إلى حيث يبلغ هذا الحدّ ، فلا يجوز بعد ذلك النقصُ عنه.

مسألة ١٠٥٦ : الشوارع لا يجري عليها ملك أحدٍ ، ولا يختصّ بها شخص من الأشخاص‌ ، بل هي بين الناس كافّةً شرعٌ سواء بلا خلافٍ.

ولا فرق في ذلك بين الجوادّ الممتدّة في الصحاري والبلاد.

وإنّما يصير الموضع شارعاً بأُمور : أن يجعل الإنسان ملكه شارعاً وسبيلاً مسبَّلاً ، ويسلك فيه شخصٌ ما ، أو يُحيي جماعةٌ أرضَ قريةٍ أو بلدةٍ‌

__________________

(١) الوسيط ٤ : ٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣٩.

(٢) الكافي ٥ : ٢٩٥ / ٢ ، التهذيب ٧ : ١٤٥ / ٦٤٢.

(٣) الكافي ٥ : ٢٩٦ / ٨ ، التهذيب ٧ : ١٤٥ / ٦٤٣.

٤٧

ويتركوا مسلكاً نافذاً بين الدور والمساكن ، ويفتحوا إليه الأبواب ، أو يصير موضع من الموات جادّةً يسلكه الناس ، فلا يجوز تغييره ، وكلّ مواتٍ يجوز استطراقه ، لكن لا يُمنع أحد من إحيائه وصرف الممرّ عليه ، فليس له حكم الشوارع.

الثاني : الطرق التي لا تنفذ‌ ، كالسكّة المسدودة المنتهية إلى ملك الغير ، ولا منفذ لها إلى المباح ، وتلك مِلْكٌ لأرباب الأبواب فيها.

وهذه الطرق لا يجوز لأحدٍ إشراع جناحٍ فيها ولا روشن ولا ساباط ، إلاّ بإذن أرباب الدرب بأسرهم ، سواء كانوا من أهل الدرب أو من غيرهم ، وسواء أضرّ بالباقين أو لا ؛ لأنّ أربابه محصورون ومُلاّكه معدودون ، فإذا تخصّص به أحد منع الباقين منه ، فلم يجز ، وهو أحد قولَي الشافعيّة.

والثاني : إنّه لا يجوز لغير أهل السكّة مطلقاً ، وأمّا أهل السكّة فيجوز لكلّ واحدٍ منهم إشراع الجناح والروشن وغيرهما إذا لم يضرّ بالمارّة ؛ لأنّ لكلّ واحدٍ منهم الارتفاقَ بقرارها ، فليكن الارتفاق بهوائها كذلك ، كالشوارع (١).

وهو ممنوع ؛ لأنّ السكّة مخصوصة بهم ، فلا يتصرّف فيها أحد دون رضاهم ، كما أنّه لا يجوز إشراع الجناح إلى دار الغير بغير رضاه ، سواء تضرّر أو لا ؛ إذ لا اعتبار بالتضرّر مع إذن المتضرّر.

وبمثل ما قلناه قال أبو حنيفة (٢).

__________________

(١) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٤١ ، حلية العلماء ٥ : ١٣ ، البيان ٦ : ٢٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤١ ـ ٤٤٢ ، المغني ٥ : ٣٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٣١.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٩.

٤٨

مسألة ١٠٥٧ : لو صالَح واضع الروشن أو الجناح أو الساباط أربابَ الدرب وأصحابَ السكّة على وضعه‌ ، جاز على الأظهر عندنا ، لكنّ الأولى اشتراط زمانٍ معيّن ؛ لأنّه حقٌّ ماليٌّ متعيّن المالك ، فجاز الصلح عليه وأخذ العوض عنه ، كما في القرار.

ومَنَع منه الشافعيّة ؛ بناءً منهم على أنّ الهواء تابع ، فلا يُفرد بالمال صلحاً ، كما لا يُفرد به بيعاً (١).

ويُمنع مانعيّة التبعيّة من الانفراد بالصلح ، بخلاف البيع ؛ لأنّه يتناول الأعيان ، والصلح هنا وقع عن الوضع مدّةً.

وكذا الحكم في صلح مالك الدار عن الجناح المشرع إليها من الجواز عندنا ، والمنع عندهم (٢).

مسألة ١٠٥٨ : نعني بأرباب الدرب المقطوع وأصحاب السكّة كلّ مَنْ له بابٌ نافذ إلى تلك السكّة‌ ، دون مَنْ يلاصق حدّ داره السكّة ويكون حائطه إليها من غير نفوذ بابٍ له فيها.

وهل يشترك جميعهم في جميع السكّة فيكون الاستحقاق في جميعها لجميعهم ، أم شركة كلّ واحدٍ تختصّ بما بين رأس السكّة وباب داره ، ولا تتخطّى عنه؟ المشهور عندنا : اختصاص كلّ واحدٍ بما بين رأس السكّة وباب داره ؛ لأنّ محلّ تردّده هو ذلك المكان خاصّةً ومروره فيه ، دون باقي السكّة ، فحكم ما عدا ذلك حكم غير أهل السكّة ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة.

__________________

(١) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٤١ ، البيان ٦ : ٢٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٢.

٤٩

والثاني لهم : الأوّل ، وهو أنّ الاستحقاق في جميعها لجميعهم ؛ لأنّهم ربما احتاجوا إلى التردّد والارتفاق بجميع الصحن لطرح الأثقال ووضع الأحمال عند الإخراج والإدخال (١).

وتظهر الفائدة ـ على أصحّ قولَي الشافعي ـ في منع إشراع الجناح إلاّ برضاهم ، فعلى القول باشتراك الكلّ في الكلّ يجوز لكلّ واحدٍ من أهل السكّة المنع ، وعلى الثاني إنّما يجوز المنع لمَنْ موضعُ الجناح بين بابه ورأس السكّة ، دون مَنْ بابه بين موضع الجناح ورأس السكّة (٢).

إذا تقرّر هذا ، فعلى المشهور عندنا : إنّ الأدخل ينفرد بما بين البابين ، ويتشاركان في الطرفين ، ولكلٍّ منهما الخروج ببابه مع سدّ الأوّل وعدمه ، فإن سدّه فله العود إليه مع الثاني ، وليس لأحدهما الدخول ببابه.

ويحتمله ؛ لأنّه قد كان له ذلك في ابتداء الوضع فيستصحب ، وله رفع جميع الحائط فالباب أولى.

مسألة ١٠٥٩ : قد بيّنّا أنّ الدرب المقطوع لأربابه المحصورين ، دون الشوارع المسلوكة‌ ، فلهُم التصرّف فيه كيف شاءوا ؛ لأنّ للإنسان التصرّفَ في ملكه بسائر أنواع التصرّفات ، ولهُم سدّ باب السكّة ، وهو قول أكثر الشافعيّة (٣).

ومَنَع بعضهم من ذلك ؛ لأنّ أهل الشارع يفزعون إليها إذا عرض لهم سبب من زحمةٍ وشبهها (٤).

ولو امتنع بعضهم من سدّها ، لم يكن للباقين سدّها إجماعاً. ولو اتّفقوا على السدّ ، لم ينفرد بعضهم بالفتح. ولو اتّفقوا على قسمة صحن‌

__________________

(١ ـ ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٢.

٥٠

السكّة بينهم ، جاز.

ولو أراد أهل رأس السكّة قسمة رأس السكّة بينهم ، مُنعوا ؛ لحقّ مَنْ يليهم.

أمّا لو أراد أهل الأسفل قسمة الأسفل ، فإن قلنا باختصاصهم به ، كان لهم ذلك. وإن قلنا باشتراك الجميع في الأسفل ، لم يكن لهم ذلك ، إلاّ بإذن الباقين.

هذا كلّه ـ أعني سدّ الباب وقسمة الصحن ـ إنّما هو إذا لم يكن في السكّة مسجد ، فإن كان فيها مسجد قديم أو حديث ، فالمسلمون كلّهم يستحقّون الطروق إليه ، ولا يُمنعون منه.

وكذا لو جعل بعضهم داره رباطاً أو مسجداً أو مدرسةً أو مستراحاً ، لم يكن لأحدٍ منعه ، ولا منع مَنْ له الممرّ فيه ، وحينئذٍ لا يجوز لأحدٍ أن يشرع جناحاً ولا ساباطاً ولا روشناً عند التضرّر به وإن رضي أهل السكّة ؛ لحقّ سائر الناس.

مسألة ١٠٦٠ : قد بيّنّا أنّ الدرب إمّا نافذ وإمّا مقطوع.

أمّا النافذ : فلكلّ أحدٍ فتح بابٍ فيه ، سواء كان له ذلك بحقٍّ قديم أو لا.

وأمّا المقطوع : فليس لمن لا باب له فيه إحداث بابٍ إلاّ برضا أهل السكّة بأسرهم ؛ لتضرّرهم إمّا بمرور الفاتح عليهم ، أو بمرورهم على الفاتح.

ولو فتح باباً للاستضاءة دون الاستطراق ، أو قال : أفتحه وأسمره بمسمارٍ لا ينفتح بابه معه ، فالأقرب : منعه من ذلك ؛ لأنّ الباب يشعر بثبوت حقّ الاستطراق ، فربما استدلّ به على الاستحقاق ، وهو أحد قولَي‌

٥١

الشافعيّة (١).

ويمكن أن يُمكَّن منه ؛ لأنّه لو رفع جميع الجدار لم يكن لأحدٍ منعه ، فلأن يُمكَّن من رفع بعضه [ كان ] أولى.

وأمّا مَنْ له بابٌ في تلك السكّة لو أراد أن يفتح غيره ، نُظر إن كان [ ما ] يريد به الفتح أقربَ من بابه إلى رأس السكّة ، كان له ذلك ؛ لأنّ له الاستطراقَ فيه وهو شريك ، فإذا فتح باباً كان ذلك بعضَ حقّه.

وإن كان [ ما ] يريد [ به ] الفتح أقربَ من بابه إلى صدر السكّة ، لم يكن له ذلك ، وهو أظهر قولَي الشافعيّة. والثاني : له ذلك ؛ لأنّ له يداً في الدرب ، فكأنّ الجميع في أيديهما (٢).

إذا عرفت هذا ، فإن أراد أن يتقدّم ببابه إلى رأس السكّة ، فإن سدّ بابه الأوّل ، كان له ذلك قطعاً ؛ لأنّه ينقص حقّه.

وإن لم يسدّ بابه ، فكذلك عندنا.

وللشافعيّة فيه قولٌ بالمنع ؛ لأنّ الباب الثاني إذا انضمّ إلى الأوّل أورث زيادة زحمة الناس ووقوف الدوابّ في السكّة فيتضرّرون به (٣).

وإن أراد أن يتأخّر ببابه عن رأس السكّة ويقرب من صدرها ، فلصاحب الباب المفتوح بين رأس السكّة وداره المنعُ.

وهل لمَنْ دارُه بين الباب ورأس السكّة المنعُ؟ وجهان بناءً على كيفيّة الشركة.

ولهم طريقة أُخرى جازمة بأنّه لا منع للّذين يقع الباب المفتوح بين‌

__________________

(١) بحر المذهب ٨ : ٥١ ، البيان ٦ : ٢٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٣.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٣.

٥٢

دارهم ورأس السكّة ؛ لأنّ الفاتح لا يمرّ عليهم (١).

وتحويل الميزاب من موضعٍ إلى موضعٍ كفتح بابٍ وسدّ بابٍ.

فروع :

أ ـ لو كان لرجلين بابان في سدّةٍ أحدهما قريب من باب الزقاق ، وباب الآخَر في وسطه‌ ، فأراد كلّ واحدٍ منهما أن يقدّم بابه إلى أوّل الزقاق ، كان له ذلك ، على ما تقدّم ؛ لأنّ له استطراقَ ذلك ، فقد نقص من استطراقه. وإن أراد أن يؤخّر بابه إلى صدر الزقاق ، لم يكن له ذلك ، على ما سبق ـ وهو أظهر وجهي الشافعيّة (٢) ـ لأنّه يقدّم بابه إلى موضعٍ لا استطراق له فيه.

ب ـ لو كان لأحدهما بابٌ يلي باب الزقاق وللآخَر بابٌ في الصدر‌ ، فأراد الثاني أن يقدّم بابه إلى حدّ باب الأوّل ، فالأقرب : أنّ له ذلك ، على ما سبق.

وعند الشافعيّة يُبنى على الوجهين ، فإن قلنا : لصاحب الباب الذي يلي باب الزقاق أن يؤخّر بابه ، لم يكن له ذلك. وإن قلنا : ليس له ذلك ، كان لصاحب باب الصدر أن يقدّمه إلى باب الثاني. وينبغي أن يكون له أن يقدّمه في فنائه إلى فناء الثاني ؛ لأنّه إنّما يفتح الباب في فناء نفسه ، ولا حقّ له فيما جاوز ذلك (٣).

ج ـ لو كان له دار في دربٍ مقطوع فجَعَلها حجرتين وجَعَل لها بابين ، جاز ذلك إذا وضع البابين في موضع استطراقه‌. وإن أخّرهما أو‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٣.

(٢ و ٣) بحر المذهب ٨ : ٥٢ ، البيان ٦ : ٢٤٤.

٥٣

أحدهما لم يجز.

وللشافعيّة فيه الوجهان (١).

مسألة ١٠٦١ : لو كان له داران ينفذ باب إحداهما إلى الشارع وبابُ الأُخرى إلى سكّة منسدّة فأراد مالكهما فتْحَ بابٍ‌

في إحداهما إلى الأُخرى ، لم يكن لأهل السكّة منعه ؛ لأنّه يستحقّ المرور في السكّة ، ورفع الجدار الحائل بين الدارين تصرّفٌ منه مصادف للملك ، فلا يُمنع منه ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة.

والثاني : إنّ لهم المنعَ ؛ لأنّه يُثبت للدار الملاصقة للشارع ممرّاً في السكّة ويزيد فيما استحقّه من الانتفاع (٢).

وليس بشي‌ءٍ.

ولو كان له دار لها باب في زقاقٍ غير نافذٍ ولها حدٌّ في شارعٍ أو زقاقٍ نافذ وأراد أن يفتح في حدّه باباً إلى الشارع ، جاز له ؛ لأنّه يرتفق بما لم يتعيّن ملك أحدٍ عليه.

لا يقال : إنّ في ذلك إضراراً بأهل الدرب ؛ لأنّه كان منقطعاً وبفتح الباب يصير الدرب نافذاً مستطرقاً إليه من الشارع.

لأنّا نقول : إنّه بفتح الباب صيّر داره نافذةً ، وأمّا الدرب فإنّه على حاله غير نافذٍ ؛ إذ ليس لأحدٍ غيره استطراقُ داره.

ولو انعكس الحال فكانت بابه إلى الشارع وله حائط في المنقطع ، فأراد فتح بابٍ للاستطراق ، فقد بيّنّا أنّه ليس له ذلك ؛ إذ لا حقّ له في دربٍ قد تعيّن عليه ملك أربابه ، فلم يكن له الانتفاع به بغير إذنهم.

__________________

(١) لم نعثر عليه في المصادر التي بأيدينا ، وانظر بحر المذهب ٨ : ٥٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٤.

٥٤

ولو كان له داران متلاصقتان باب كلّ واحدةٍ منهما في زقاقٍ غير نافذٍ ، فأراد صاحبهما رفع الحاجز بينهما بالكلّيّة وجَعْلهما داراً واحدة ، جاز قولاً واحداً.

وإن أراد فتح بابٍ من إحداهما إلى الأُخرى ، جاز عندنا أيضاً.

وللشافعيّة قولان :

أحدهما : المنع ؛ لأنّ ذلك يُثبت له حقَّ الاستطراق من الدرب الذي لا ينفذ إلى دارٍ لم يكن لها طريقٌ منه ، ولأنّ ذلك ربما أدّى إلى إثبات الشفعة في قول مَنْ يُثبتها بالطريق لكلّ واحدةٍ من الدارين في زقاق الأُخرى. وهذا قول أكثرهم (١).

وهو غلط ؛ لأنّ له رفعَ الحاجز بالكلّيّة ، فرفع بعضه أولى ، والمحذور لازمٌ فيما لو رفع الحائط ، مع أنّه لا يبطل به حقّ الشفعة.

والثاني : إنّ له ذلك ـ كما اخترناه ـ لأنّ له رفعَ الحاجز بالكلّيّة ، ففتح الباب أولى (٢).

وقال بعضهم : موضع القولين ما إذا سدّ باب إحدى الدارين وفتح الباب بينهما لغرض الاستطراق ، أمّا إذا قصد اتّساع ملكه أو نحوه ، فلا منع (٣).

مسألة ١٠٦٢ : لو صالح الممنوع من فتح الباب في الدرب المقطوع أربابه على مالٍ ليفتح الباب ، جاز عندنا‌ ، وبه قال الشافعي (٤) ، بخلاف‌

__________________

(١ و ٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٤٣ ، بحر المذهب ٨ : ٥١ ـ ٥٢ ، حلية العلماء ٥ : ١٧ ، البيان ٦ : ٢٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٤.

٥٥

الصلح عن إشراع الأجنحة والساباطات والرواشن ، فإنّهم خالفوا فيه ، وعلّلوا بأنّه بَذْل مالٍ في مقابلة الهواء المجرّد (١).

قال بعضهم : إن قدّروا مدّةً معيّنة ، كان الصلح إجارةً. وإن أطلقوا أو شرطوا التأبيد ، فهو بيع جزءٍ مشاع من السكّة ، وتنزيلٌ له منزلة أحدهم ، وكان ذلك بمنزلة ما لو صالح غيره عن إجراء نهرٍ في أرضه على مالٍ ، فإنّه يكون ذلك تمليكاً للنهر (٢).

ولو أراد فتح بابٍ من داره في دار غيره ، فصالحه عنه مالك الدار على مالٍ صحّ ، ويكون ذلك كالصلح عن إجراء الماء على السطح ، ولا يملك شيئاً من الدار والسطح ؛ لأنّ السكّة لا تراد إلاّ للاستطراق ، فإثبات الاستطراق فيها يكون نقلاً للملك ، والدار والسطح ليس القصد منهما الاستطراق وإجراء الماء.

مسألة ١٠٦٣ : يجوز فتح الأبواب ونصب الميازيب في الشوارع النافذة‌ ؛ لأنّ الناس بأسرهم اتّفقوا على وضع الميازيب ونصبها على سطوحهم قديماً وحديثاً من غير إنكار أحدٍ منهم ، فكان إجماعاً.

هذا إذا لم يتضرّر بوضعها أحدٌ ، فإن تضرّر أحد بوضع ميزابٍ في الدرب المسلوك وجب قلعه.

وأمّا الطرق الخاصّة الغير النافذة فليس لأحدٍ من أربابها (٣) وضع ميزابٍ يقذف فيها إلاّ بإذن كلّ مَنْ له حقٌّ فيها.

وليس للمتقدّم بابه في رأس الدرب المسدود منعُ المتأخّر بابه إلى صدر الدرب من وضع ميزابٍ إذا لم نقل بشركته أو لم يصل ضرره إليه.

__________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٤.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « أربابه ». والمثبت يقتضيه السياق.

٥٦

وكذا لا يجوز حفر بالوعةٍ فيها إلاّ بإذن أربابها وإن كانت أنفع لهم.

أمّا الطرق المسلوكة فكذلك لا يجوز إحداث بالوعةٍ فيها ، بل كلّ بالوعةٍ وُضعت في أصل وضع الدرب فإنّها تستمرّ ليس لأحدٍ إزالتها ، وكلّ بالوعةٍ استُحدثت فإنّ لكلّ أحدٍ من المسلمين إزالتها.

مسألة ١٠٦٤ : إذا كان له باب في شارعٍ وظَهْر داره إلى دربٍ غير نافذٍ ، فأراد أن يُخرج روشناً فيه ، لم يكن له ذلك‌ ؛ لأنّ الدرب مملوكٌ لقومٍ بأعيانهم ، وليس له حقٌّ معهم فيه.

ولو كان له فيه باب ، فكذلك عندنا لا يجوز له الإحداث إلاّ بإذن باقي أربابه.

وللشافعيّة قولان تقدّما (١).

وإذا أذن أرباب الدرب المختصّ بهم في وضع بابٍ أو نصب ميزابٍ أو إشراع جناحٍ أو روشنٍ أو ساباطٍ ، كان هذا الإذن عاريةً يجوز له الرجوع فيه متى شاء ، لكن مع الأرش ؛ لأنّه سبب في إتلاف مال الغير ، على إشكالٍ.

مسألة ١٠٦٥ : يجوز فتح الروازن والشبابيك في الحيطان التي في الدروب المسدودة‌ ، وليس لأحدٍ منعُ ذلك ، سواء كان لصاحب الحائط في ذلك الدرب بابٌ أو لم يكن ؛ لأنّ له رفعَ جميع الحائط وأن يضع مكانه شُبّاكاً فبعضه أولى ، وإنّما مُنع في الباب لمعنىً غير موجودٍ هنا.

وكذا له فتح روزنةٍ وشُبّاكٍ في حائطه الفاصل بينه وبين جاره وإن حرم عليه الاطّلاع إلى دار الغير ، بل ليستفيد الإضاءة في بيته. وللجار أن‌

__________________

(١) في ص ٤٨ ، « الثاني : الطرق غير النافذة ».

٥٧

يبني حائطاً في وجه شُبّاكه وروزنته وأن يمنع الضوء بذلك ، لا سدّ الروزنة والشُّبّاك.

مسألة ١٠٦٦ : يجوز لكلّ أحدٍ الاستطراقُ في الطرق النافذة على أيّ حالٍ شاء‌

من سرعةٍ وبطءٍ وركوبٍ وترجّلٍ ، ولا فرق في ذلك بين المسلم والكافر ؛ لأنّها موضوعة لذلك.

وأمّا الطرق المقطوعة : فكذلك مع إذن أربابها.

ولو منع واحد أو منعوا بأسرهم ، فالأقرب : عدم المنع ؛ لأنّ لكلّ أحدٍ دخولَ هذا الزقاق ، كدخول الدرب النافذ.

وفيه إشكال أقربه : إنّ جواز دخولها من قبيل الإباحات المستندة إلى قرائن الأحوال ، فإذا عارضه نصّ المنع عُمل به.

وأمّا الجلوس بها وإدخال الدوابّ إليها فالأقوى : المنع ، إلاّ مع إذن الجميع فيه.

ولو كان بين داريه طريقٌ نافذ فحفر تحته سرداباً من إحداهما إلى الأُخرى وأحكم الأزج ، قال بعض الشافعيّة : لم يُمنع (١).

وهو جيّد إن لم يتضرّر به أحد من المارّة.

وليس له أن يحفر على وجه الأرض ثمّ يعمل الأزج.

وكذا لا يجوز عمل السرداب في الطريق المسدود ـ إلاّ بإذن أربابه ـ وإن أحكم الأزج وحفر تحت الأرض ؛ لأنّ أربابه محصورون ، وسواء حصل لهم ضرر بذلك أو لا ، خلافاً لبعض الشافعيّة (٢).

ولا يجوز وضع ساقيةٍ مبتكرة في دربٍ مسلوك ، سواء تضرّر بها‌

__________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٥.

٥٨

السائرون فيها ، أو لا ، ولو حفرها كان لكلّ أحدٍ إزالتها.

ولو وضع عليها أزجاً محكماً ، فالأقرب : جواز إزالته لكلّ أحدٍ.

ولو سدّ الطريق النافذ ، كان لكلّ أحدٍ إنفاذه كما كان ، وإزالة السدّ وإعادته كما كان.

ولو جعل الطريق المقطوع مسلوكاً بأن جعل الاستطراق في ملكه ورفع الحاجز ، فإن كان سبّله مؤبّداً وسلك فيه أحد لم يكن له بعد ذلك قطعه ، ولو لم يرد تسبيله كان كالعارية يجوز له الرجوع فيه.

ولو غصب ملك غيره فجعله طريقاً ، كان للمالك الرجوعُ إلى عين ملكه وقطع السلوك منه.

البحث الثاني : الجدران‌.

والنظر في أُمور ثلاثة :

الأوّل : التصرّف.

الجدار بين الملكين إمّا أن يكون مختصّاً بمالكٍ واحد ، أو يكون مشتركاً بين صاحبي الملكين.

فإن كان مختصّاً بمالكٍ واحد ، كان له التصرّف فيه كيف شاء بهدمٍ وبناءٍ وغير ذلك ، وليس للآخَر وضع خشبةٍ ولا جذعٍ عليه إلاّ بإذن مالكه ، عند علمائنا أجمع ـ وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الجديد (١) ـ لقوله عليه‌السلام :

__________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٩١ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٤٢ ، الوسيط ٤ : ٥٦ ، الوجيز ١ : ١٧٩ ، حلية العلماء ٥ : ١٦ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٥١ ، البيان ٦ : ٢٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٦ ، المغني ٥ : ٣٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٧ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٥٣ ـ ١٦٥٤ / ١١٦٧.

٥٩

« لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسٍ منه » (١) ولأنّ العقل قاضٍ بقبح تصرّف الغير في مال الغير بغير إذنه.

وقال مالك وأحمد : إنّ للجار أن يضع الجذوع على جدار جاره ، فإن امتنع المالك أُجبر على ذلك ، وهو قول الشافعي في القديم (٢) ؛ لما رواه أبو هريرة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لا يمنع أحدكم جارَه أن يضع خُشبه على جداره » قال : فنكّس القوم رءوسهم ، فقال أبو هريرة : مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمينّها ـ أي لأضعنّ هذه السنّة ـ بين أظهركم (٣).

ولو سُلّم الحديث لحُمل على الاستحباب ؛ لما تقدّم من الحديث الأوّل.

إذا عرفت هذا ، فقد شرط الشافعي في قوله القديم أُموراً ثلاثة :

أ : أن لا يحتاج مالك الجدار إلى وضع الجذوع عليه.

ب : أن لا يزيد الجار في ارتفاع الجدار ، ولا يبني عليه أزجاً ، ولا يضع عليه ما لا يحتمله الجدار ، ويضرّ به.

ج : أن لا يملك شيئاً من جدران البقعة التي يريد تسقيفها ، أو‌

__________________

(١) سنن الدارقطني ٣ : ٢٦ / ٩١ ، مسند أحمد ٦ : ٦٩ / ٢٠١٧٢ بتفاوت يسير.

(٢) المنتقى ـ للباجي ـ ٦ : ٤٣ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٥٩٧ ـ ٥٩٨ / ١٠٠٥ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٥٤ / ١١٦٧ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٩١ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٤٢ ، الوسيط ٤ : ٥٦ ، حلية العلماء ٥ : ١٥ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٥١ ، البيان ٦ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٦ ، المغني ٥ : ٣٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٣ (٧).

(٣) صحيح البخاري ٣ : ١٧٣ ، صحيح مسلم ٣ : ١٢٣٠ / ١٦٠٩ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٨٣ / ٢٣٣٥ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٣١٤ ـ ٣١٥ / ٣٦٣٤ ، سنن الترمذي ٣ : ٦٣٥ / ١٣٥٣ ، سنن البيهقي ٦ : ٦٨ ، الموطّأ ٢ : ٧٤٥ / ٣٢ ، مسند أحمد ٣ : ١٠٧ / ٨٩٠٠.

٦٠