تذكرة الفقهاء - ج ١٦

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ١٦

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-437-x
الصفحات: ٤١٨

مسألة ٨٥ : تجوز إعارة الغنم للانتفاع بلبنها وصوفها ، وهي المِنْحة ، وذلك لاقتضاء الحكمة إباحته ؛ لأنّ الحاجة قد تدعو إلى ذلك ، والضرورة تبيح مثل هذه الأعيان ، كما في استئجار الظئر.

وقد روى العامّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « المِنْحة مردودة » (١) والمِنْحة هي : الشاة.

ومن طريق الخاصّة : ما رواه الحلبي ـ في الحسن ـ عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يكون له الغنم يعطيها بضريبة سمناً شيئاً معلوماً أو دراهم معلومة من كلّ شاة كذا وكذا ، قال : « لا بأس بالدراهم ، ولستُ أُحبّ أن يكون بالسمن » (٢).

وفي الصحيح عن عبد الله بن سنان أنّه سأل الصادقَ عليه‌السلام عن رجلٍ دفع إلى رجلٍ غنمه للسمن ودراهم معلومة لكلّ شاة كذا وكذا في كلّ شهرٍ ، قال : « لا بأس بالدراهم ، فأمّا السمن فلا أُحبّ ذلك ، إلاّ أن تكون حوالب فلا بأس » (٣) وإذا جاز ذلك مع العوض فبدونه أولى.

واختلفت الشافعيّة على قولين :

أحدهما كما قلناه.

والثاني : المنع ، كما لا تجوز إجارتها (٤).

والفرق : إنّ الإجارة لا تستباح بها الأعيان.

__________________

٩ : ١٢ ، الوجيز ١ : ٢٣٠ ، الوسيط ٤ : ١٥٧ ، حلية العلماء ٥ : ٣٨٤ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٤٢٥ ، البيان ٧ : ٢٤٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٥٣ ، المغني ٤ : ٣٢٥.

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٣٣ ، الهامش (١).

(٢) الكافي ٥ : ٢٢٣ / ١ ، التهذيب ٧ : ١٢٧ / ٥٥٤ ، الاستبصار ٣ : ١٠٣ / ٣٥٩.

(٣) الكافي ٥ : ٢٢٤ / ٤ ، التهذيب ٧ : ١٢٧ / ٥٥٦ ، الاستبصار ٣ : ١٠٣ / ٣٦٢.

(٤) حلية العلماء ٥ : ٢٠٧ ، البيان ٦ : ٤٥٢.

٢٤١

وكذا في الشجر.

قال بعض الشافعيّة : إذا دفع شاةً إلى رجلٍ وقال : ملّكتُك دَرَّها ونسلها ، فهي هبة فاسدة ، وما حصل في يده من الدّرّ والنسل كالمقبوض بالهبة الفاسدة ، والشاة مضمونة عليه بالعارية الفاسدة.

ولو قال : أبحتُ لك دَرَّها ونسلها ، فهو كما لو قال : ملّكتُك ، على أحد الوجهين. والثاني : إنّه (١) إباحة صحيحة ، والشاة عارية صحيحة. وعلى هذا فقد تكون العارية لاستفادة عينٍ ، وليس من شرطها أن يكون المقصود مجرّد المنفعة ، بخلاف الإجارة.

ولو قال : ملّكتُك درَّها ، أو : أبحتُك على أن تعلفها ، فقد جعل العلف أُجرة الشاة وثمن الدّرّ والنسل ، فالشاة غير مضمونةٍ ؛ لأنّها مقبوضة بإجارةٍ فاسدة ، والدَّرّ والنسل مضمون عليه بالشراء الفاسد.

وكذا لو دفع فلساً إلى سقّاء وأخذ الكوز ليشرب فسقط من يده وانكسر ، ضمن الماء ؛ لأنّه مأخوذ بالشراء الفاسد ، ولا يضمن الكوز ؛ لأنّه في يده بإجارةٍ فاسدة ، وإن أخذه مجّاناً فالكوز عارية ، والماء كالمقبوض بالهبة الفاسدة (٢).

مسألة ٨٦ : تجوز إعارة الدراهم والدنانير‌ ـ وهو أحد وجهي الشافعيّة (٣) ـ لأنّ لها منفعةً حكميّةً تُفرض مطلوبةً للعقلاء ، فجاز التوصّل إليها بالإعارة والاستعارة ، من التزيّن بها ، وجذب قلوب الراغبين إلى معاملته وإقراضه ، وذلك فائدة عظيمة.

__________________

(١) الظاهر : « إنّها ».

(٢) التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٤ ـ ٧٥.

(٣) الوجيز ١ : ٢٠٣ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢٨٠ ، البيان ٦ : ٤٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧١ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٢.

٢٤٢

وأيضاً فقد يرغب إلى أن يطبع مثلها ، ويجوز رهنها ، والإجارة للارتهان سائغة ، فوجب أن تشرع إعارتها.

وأصحّ الوجهين عند الشافعيّة : المنع ؛ لأنّ هذه منفعة ضعيفة قلّما تُقصد ، ومعظم منفعتها في الإنفاق والإخراج (١).

قال الجويني : وما ذكر من المنفعة في الدراهم والدنانير يجري في استعارة الحنطة والشعير وما في معناهما (٢).

ويبطل ما ذكروه بما إذا صرّح في الإعارة بالمنفعة الضعيفة بأن استعارها للتزيّن بها ، فقد جعل هذه المنفعة مقصداً وإن ضعفت.

مسألة ٨٧ : إذا استعار الدراهم والدنانير ، كانت مضمونةً عليه‌ ، سواء شرط المالك ضمانها عليه أو لا ، وإن كانت العارية في غيرهما غير مضمونةٍ على ما سيأتي.

والعامّة أوجبوا الضمان في جميع العواريّ (٣).

وللشافعيّة وجهٌ في أنّ عارية الدراهم والدنانير خاصّةً غير مضمونةٍ وإن قالوا بالضمان في البواقي (٤).

لما رواه ابن مسكان ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام قال :

__________________

(١) الوجيز ١ : ٢٠٣ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢٨٠ ، البيان ٦ : ٤٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧١ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧١ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٢.

(٣) الأُم ٣ : ٢٤٤ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧١ / ٤٤١ ، الحاوي الكبير ٧ : ١١٨ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٧٠ ، بحر المذهب ٩ : ٦ ، الوجيز ١ : ٢٠٤ ، الوسيط ٣ : ٣٦٩ ـ ٣٧٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٨٩ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢٨٠ ، البيان ٦ : ٤٥٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٦ ، بداية المجتهد ٢ : ٣١٣ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ١٨٥ / ١٨٧٦ ، المغني ٥ : ٣٥٥.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٢.

٢٤٣

« لا تُضمن العارية إلاّ أن يكون اشترط فيها ضماناً ، إلاّ الدنانير فإنّها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضمان » (١).

وفي الحسن عن زرارة عن الصادق عليه‌السلام ، قال : قلت له : العارية مضمونة؟ قال : فقال : « جميع ما استعرته فتَوى (٢) فلا يلزمك تَواه إلاّ الذهب والفضّة فإنّهما يلزمان ، إلاّ أن يشترط أنّه متى تَوى لم يلزمك تَواه ، وكذلك جميع ما استعرت واشترط عليك لزمك ، والذهب والفضّة لازمان لك وإن لم يشترط عليك » (٣).

ولأنّ المنفعة فيهما ضعيفة لا يعتد بها في نظر الشرع ، والنفع المقصود بالذات فيهما الإنفاق ، فكانت مضمونةً ؛ عملاً بالغاية الذاتيّة.

احتجّ القائل بعدم ضمانها : بأنّ العارية ـ سواء صحّت أو فسدت ـ تعتمد منفعة معتبرة ، فإذا لم توجد فما جرى بينهما ليس بعاريةٍ ، لا أنّه عارية فاسدة ، ومَنْ قبض مال الغير بإذنه لا لمنفعةٍ كان أمانةً (٤).

احتجّ الآخَرون : بأنّ العارية الصحيحة مضمونة ، فكذا الفاسدة ؛ لأنّ كلّ عقدٍ يُضمن صحيحه يُضمن فاسده ، وعارية الدراهم والدنانير فاسدة (٥).

مسألة ٨٨ : ولا بدّ وأن تكون المنفعة مباحةً‌ ؛ لتحريم الإعانة على المحرَّم ، فلو استعار آنية الذهب والفضّة للأكل والشرب ، لم يجز.

ولو استعار كلباً للصيد لهواً وبطراً لم يجز ، وإن كان للقوت أو التجارة جاز.

وكذا تجوز إعارة كلب الماشية والحائط والزرع ؛ لإباحة هذه المنافع‌

__________________

(١) التهذيب ٧ : ١٨٣ / ٨٠٤.

(٢) راجع الهامش (١) من ص ٣٩.

(٣) الكافي ٥ : ٢٣٨ ( باب ضمان العارية والوديعة ) ح ٣ ، التهذيب ٧ : ١٨٣ / ٨٠٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٢.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧١ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٢.

٢٤٤

منها.

وكلّ عينٍ يُفرض لها منفعة مباحة ومحرَّمة فإنّه تجوز إعارتها لاستيفاء المنفعة المباحة دون المحرَّمة ، فإن استعارها لاستيفاء المحرَّمة ، لم تصح الإعارة ، ولا يستباح بها المنفعة المحلَّلة ، والإطلاق ينصرف إلى المباح منها.

ولو لم يُفرض لها منفعة مباحة محلَّلة البتّة ، حرم استعارتها.

مسألة ٨٩ : لا تجوز استعارة الجواري للاستمتاع على الأشهر‌ ؛ لعموم قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) (١) والبُضْع لا يستباح إلاّ بأحد الأسباب الآتية : الزوجيّة ، والملك ، والإباحة بلفظها أو بلفظ التحليل ، دون العارية والتمليك وشبهه.

وتجوز استعارتها للخدمة ، سواء كان المُستعير رجلاً أو امرأةً ، وسواء كانت الجارية شابّةً أو عجوزاً ، وسواء كانت قبيحةَ المنظر أو حسنته ، لكن تشتدّ كراهيّة إعارة الشابّة لمَن لا يوثق به.

ومَنَعه الشافعيّة ؛ خوفَ الفتنة (٢).

ولو أعارها من المَحْرم أو كانت صغيرةً لا تُشتهى أو قبيحةَ المنظر كذلك أو كبيرةً كذلك ، فلا كراهيّة.

وللشافعية وجهان : أحدهما : التحريم ، والثاني : الكراهيّة (٣).

وتكره استعارة أحد الأبوين للخدمة ؛ لأنّ استخدامهما مكروه ؛ لمنافاة التعظيم لهما والتوقير.

وتستحبّ استعارتهما للترفّه.

__________________

(١) المعارج : ٢٩ و ٣٠.

(٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٧٠ ، الوسيط ٣ : ٣٦٨ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢٨٠ ، البيان ٦ : ٤٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٣.

(٣) التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢٨٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٣.

٢٤٥

مسألة ٩٠ : لا يشترط تعيين العين المُستعارة عند الإعارة‌ ، فلو قال : أعرني دابّتك أو دابّةً ، فقال : ادخل الاصطبل فخُذْ ما شئت ، صحّت العارية ، بخلاف الإجارة ؛ لأنّ فيها عوضاً ، فلا يدخلها الغرر الذي لا يحتمل في المعاوضة.

الركن الرابع : الصيغة.

مسألة ٩١ : لمّا كان الأصل في الأموال العصمة ، لم يُبَحْ شي‌ء منها على غير مالكها‌ ، إلاّ بالرضا منه ، ولمّا كان الرضا من الأُمور الباطنة الخفيّة تعذّر التوصّل إليه قطعاً ، فاكتفي فيه بالظنّ المستفاد من العبارات والألفاظ وما يقوم مقامها.

ولا يختصّ لفظٌ بعينه ، بل المعتد به في هذا الباب كلّ لفظٍ يدلّ على الإذن في الانتفاع بالعين مع بقائها مطلقاً أو مدّة معيّنة ، كقوله : أعرتُك ، أو أذنتُ لك في الانتفاع به ، أو انتفع به ، أو خُذْه لتنتفع به ، وما أشبه ذلك.

ولا يشترط القبول نطقاً ، فلو قال : أعرتُك ، جاز له الانتفاع به وإن لم يتلفّظ بالقبول ؛ لأنّه عقد ضعيف ، لأنّه يثمر إباحة الانتفاع ، وهي قد تحصل بغير عقدٍ ، كما لو حسن ظنّه بصديقه ، كفى في الانتفاع عن العقد ، وكما في الضيف ، بخلاف العقود اللازمة ، فإنّها موقوفة على ألفاظٍ خاصّة اعتبرها الشرع.

مسألة ٩٢ : والأقرب عندي : إنّه لا تفتقر العارية إلى لفظٍ‌ ، بل تكفي قرينة الإذن بالانتفاع من غير لفظٍ دالٍّ على الإعارة أو الاستعارة ، لا من طرف المُعير ولا من طرف المُستعير ، كما لو رآه عارياً فدفع إليه قميصاً فلبسه ، تمّت العارية.

٢٤٦

وكذا لو فرش لضيفه فراشاً أو بساطاً أو مصلّىً أو حصيراً أو ألقى إليه وسادة فجلس عليها أو مخدّةً فاتّكأ عليها ، كان ذلك إعارةً ، بخلاف ما لو دخل فجلس على الفرش المبسوطة ؛ لأنّه لم يقصد بها انتفاع شخصٍ بعينه ـ وهو قول بعض الشافعيّة (١) ـ قضاءً بالظاهر ، وقد قال عليه‌السلام : « نحن نقضي بالظاهر » (٢).

وقال بعضهم : يعتبر اللفظ من جهة المُعير ، ولا يعتبر من جهة المُستعير ، وإنّما يعتبر منه القبول إمّا باللفظ أو بالفعل (٣).

وقال بعضهم : لا بدّ من اللفظ من أحد الطرفين ، ولا يشترط أحدهما عيناً ، بل إمّا لفظ المُعير أو المُستعير ، وفعل الآخَر ، فلو قال المالك :

أعرتُك ، أو : انتفع به ، إلى غير ذلك من الألفاظ ، فأخذه المُستعير ، تمّت العارية. ولو قال المُستعير : أعرني ، فسلّمه المالك إليه ، صحّت العارية ، وكان كما لو قال : خُذْه لتنتفع به ، وأخذه ؛ تشبيهاً للإعارة بإباحة الطعام (٤).

والأقرب : ما تقدّم.

وقد جرت العادة بالانتفاع بظرف الهديّة المبعوثة إليه واستعماله ، كأكل الطعام من القصعة المبعوث فيها ، فإنّه يكون عاريةً ؛ لأنّه منتفع بملك الغير بإذنه وإن لم يوجد لفظٌ يدلّ عليها ، بل شاهد الحال.

مسألة ٩٣ : لو قال : أعرتُك حماري لتعيرني فرسك ، فهي إجارة فاسدة‌ ، وعلى كلّ واحدٍ منهما أُجرة مثل دابّة الآخَر ، وكذا لو أعاره شيئاً‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٥.

(٢) المحصول ٢ : ٤٤٧ ، الإحكام في أُصول الأحكام ٢ : ٣٠٦.

(٣) الوسيط ٣ : ٣٦٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٥.

(٤) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٧٠ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢٨٠ ، البيان ٦ : ٤٥٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٥.

٢٤٧

بعوضٍ مجهول ، كما لو أعاره دابّته ليعلفها ، أو داره ليطيّن سطحها ، وكذا لو كان العوض معلوماً ولكن مدّة [ الإعارة ] (١) مجهولة ، كما لو قال : أعرتُك داري بعشرة دراهم ، أو لتعيرني ثوبك شهراً ، هكذا قاله بعض الشافعيّة (٢).

وليس بجيّدٍ ، بل هي عارية مشروط فيها استعارة أو نفع مجهول ، فتكون الأُولى صحيحةً له الانتفاع إذا فعل الشرط ، والثانية له الانتفاع بالإذن ، ولا تضرّ الجهالة في العوض ولا في المدّة ؛ لكونها من العقود الجائزة.

وقال بعض الشافعيّة : إنّها عارية فاسدة ، فتكون مضمونةً عليه ؛ بناءً منهم على أنّ العارية الصحيحة مضمونة ؛ نظراً إلى اللفظ ، وعلى القول بأنّها إجارة فاسدة لا تكون مضمونةً (٣).

ولو بيّن مدّة الإعارة وذكر عوضاً معلوماً ، فقال : أعرتُك هذه الدار شهراً من اليوم بعشرة دراهم ، أو لتعيرني ثوبك شهراً من اليوم ، ففي كونه إجارةً صحيحةً أو إعارةً فاسدةً للشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّ النظر إلى اللفظ أو المعنى؟ (٤).

ولو دفع دراهم إلى رجلٍ وقال : اجلس على هذا الحانوت واتّجر عليها لنفسك ، أو دفع إليه بذراً وقال : ازرع به هذه الأرض ، فهو مُعير للحانوت والأرض.

وأمّا الدراهم والبذر فإن كان قد قَبِلهما على سبيل الهبة حُكم بها ، وإلاّ فهو قرض.

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الإجارة ». والمثبت يقتضيه السياق وكما في المصدر.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٤ ـ ٣٧٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٦.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٦.

٢٤٨

وللشافعيّة قولان ، أحدهما : إنّه قرض ، والثاني : إنّه هبة (١).

مسألة ٩٤ : إذا قال : أعرتُك فرسي لتعيرني حمارك ، فقد بيّنّا أنّها عارية للفرس بشرط أن يعيره المُستعير ، لكن لا يجب على المُستعير للفرس إعارة حماره ؛ لأصالة عدم الوجوب ، فإن أعاره إيّاه استباح منفعة الفرس ، وإن لم يُعِرْه لم يُبَحْ له الانتفاع ، فإن انتفع به كان عليه الأُجرة ؛ إذ الإذن في الانتفاع لم يقع مطلقاً ، بل مع سلامة نفع الحمار ، فإذا لم يسلم كان له المطالبة بالعوض.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٦.

٢٤٩
٢٥٠

الفصل الثاني : في الأحكام‌

ومباحثه ثلاثة :

الأوّل : في التسلّط والرجوع.

مسألة ٩٥ : العارية عقد جائز من الطرفين بالإجماع‌ لكلٍّ منهما فسخه ، فللمالك الرجوعُ فيه متى شاء ، وكذا للمُستعير الردُّ متى أراد ؛ لأنّ العارية تبرّع وتفضّل بالمنفعة ، فلا يناسب الإلزام فيما يتعلّق بالمستقبل.

وليس للمالك المطالبةُ بعوضٍ عن المنفعة التي استوفاها المُستعير قبل علم الرجوع.

ولو رجع قبل أن يعلم المُستعير ، فالأقرب : إنّه كذلك لا عوض له.

ولو رجع وعلم المُستعير برجوعه ثمّ استعمل ، فهو غاصب عليه الأُجرة ، إلاّ إذا أعار لدفن ميّتٍ مسلمٍ ثمّ رجع بعد الدفن ، لم يصح رجوعه ، ولا قلع الميّت ولا نبش القبر ، إلاّ أن يندرس أثر الميّت ؛ لما فيه من هتك حرمة الميّت ، ولا نعلم فيه خلافاً.

أمّا لو رجع قبل الحفر أو بعده قبل وضع الميّت ، فإنّه يصحّ رجوعه ، ويحرم دفنه فيه.

ولو رجع بعد وضع الميّت في القبر وقبل أن يواريه في التراب ، فالأقرب : إنّ له الرجوعَ أيضاً ، ومئونة الحفر إذا رجع بعد الحفر وقبل الدفن لازمة لوليّ الميّت ، ولا يلزم وليّ الميّت الطمّ ؛ لأنّ الحفر مأذون فيه.

مسألة ٩٦ : لو نبتت في القبر شجرة ، كان لمالك الأرض سقيها‌ ، إلاّ أن يفضي السقي إلى ظهور شي‌ءٍ من الميّت فيحرم ؛ لأنّه نبشٌ في الحقيقة.

واعلم أنّ الدفن من جملة منافع الأرض ، كالبناء والغراس ، فإذا أطلق‌

٢٥١

إعارة الأرض لم يكن له الدفن فيها ؛ لأنّ مثل هذه المنفعة لا يكفي فيها إطلاق الإعارة ، بل يجب ذكرها بالنصوصيّة ، بخلاف سائر المنافع ؛ لأنّ هذه المنفعة تقتضي تسلّط المُستعير على المُعير بما فيه ضرر لازم ، ولو قدّر تسليطه عليه كان ذلك ذريعةً إلى إلزام إعارة الأرضين.

مسألة ٩٧ : لا تخلو العين التي تعلّقت بها العارية إمّا أن تكون جهة الانتفاع فيها واحدةً أو أكثر.

فإن كانت واحدةً لا ينتفع بالمُستعار به إلاّ بجهةٍ واحدة ، كالدراهم والدنانير التي لا ينتفع بها إلاّ بالتزيّن ، والبساط الذي لا ينتفع به إلاّ في فرشه ، والخيمة التي لا منفعة لها إلاّ الاكتنان ، والدار التي لا منفعة فيها إلاّ السكنى ، ومثل هذا لا يجب التعرّض للمنفعة ، ولا ذكر وجه الانتفاع بها ؛ لعدم الاحتياج إليه ؛ إذ المقتضي للتعيين في اللفظ حصر أسباب الانتفاع ، وهو في نفسه محصور ، فلا حاجة له إلى مائزٍ لفظيّ.

وإن تعدّدت الجهات التي يحصل بها الانتفاع ـ كالأرض التي تصلح للزراعة والغرس والبناء ، والدابّة التي تصلح للحمل والركوب ـ فلا يخلو إمّا أن يعمّم الإذن ، أو يخصّصه بوجهٍ واحد أو أزيد ، أو يطلق.

فإن عمّم ، جاز له الانتفاع بسائر وجوه الانتفاعات المباحة المتعلّقة بتلك العين ـ كما لو أعاره الأرض لينتفع بها في الزرع والغرس والبناء وغير ذلك ـ بلا خلاف.

وإن خصّص الوجه كأن يعيره الأرض للزرع أو البناء أو الغرس ، اختصّ التحليل بما خصّصه المُعير ، وبما ساواه أو قصر عنه في الضرر ما لم ينصّ على التخصيص ، ويُمنع من التخطّي إلى غيره ، فلا يجوز له التجاوز قطعاً.

٢٥٢

وإن أطلق ، فالأقوى : إنّ حكمه حكم التعميم ؛ لأنّ إطلاق الإذن في الانتفاع يُشعر بعمومه والرضا بجميع وجوهه ؛ إذ لا وجه من الوجوه أولى بجواز التصرّف من الآخَر ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : إنّه تبطل العارية ؛ لأنّهم اختلفوا في أنّه هل يشترط في العارية التعرّض لجهة الانتفاع؟ فشرطه بعضهم ؛ لأنّ الإعارة معونة شرعيّة جُوّزت للحاجة ، فلتكن على حسب الحاجة ، ولا حاجة إلى الإعارة المرسلة.

وبعضهم لم يشترط ، بخلاف الإجارة ؛ لأنّ الجهالة في الإعارة غير مُضرّةٍ ، بخلاف الإجارة ؛ لأنّه يحتمل في العارية ما لا يحتمل في الإجارة ، ولأنّ الجهالة إنّما تؤثّر في العقود اللازمة ، والإعارة إباحة ، فجاز فيها الإطلاق ، كإباحة الطعام (١).

فإذا أعاره أرضاً مطلقاً ، كان له أن ينتفع بها بسائر وجوه الانتفاعات ، وجميع ما العين معدّة له في الانتفاع مع بقاء العين ، كالزرع والغرس والبناء ، ويفعل فيها كلّ ما هي مستعدّة له من الانتفاع.

وليس للمُستعير أن يُعير ولا أن يؤجّر ؛ لأنّها رخصة وُضعت للحاجة ، وهي منفيّة هنا.

وكذا ليس له أن يبيع ؛ لأنّه غير داخلٍ في مفهوم الإعارة.

والأقرب : إنّ له أن يرهن مع التعميم ، دون الإطلاق.

مسألة ٩٨ : وحكم جزئيّات المأذون فيه بالخصوصيّة حكم جزئيّات مطلق الانتفاع ، فلو أذن له في الزرع وأطلق ، استباح المُستعير زرع ما شاء‌

__________________

(١) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٧١ ، الوجيز ١ : ٢٠٤ ، الوسيط ٣ : ٣٧٢ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢٨٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨١ ـ ٣٨٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨١.

٢٥٣

من أصناف الزرع ، كالحنطة والشعير والدخن والذرّة والقطن والفوّه (١) وما يبقى زمناً طويلاً وقصيراً وسائر أصناف الخضر وجميع ما يطلق عليه اسم الزرع.

وليس له البناء ولا الغراس ؛ لأنّ ضررهما أكثر من ضرر الزرع ، والقصد منهما الدوام ، والإذن في القليل لا يستلزم الإذن في الكثير ، بخلاف العكس ، إلاّ مع التنصيص ، فلو استعارها للبناء أو الغراس كان له أن يزرع ؛ لقصور ضرره عنهما ، فكأنّه استوفى بعض المنفعة التي أذن فيها ، ولو مَنَعه لم يَسُغْ له الزرع.

ولو أعارها للغراس ، لم يكن له البناء ، وبالعكس ؛ لأنّ ضررهما مختلف ؛ فإنّ ضرر الغراس في باطن الأرض ؛ لانتشار العروق فيها ، وضرر البناء في ظاهرها ، ولأنّ البناء يكون على موضعٍ واحد ، والغرس تنتشر عروقه في الأرض ، فلم يكن الإذن في أحدهما إذناً في الآخَر ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة.

والثاني : إنّه إذا أذن له في أحدهما ، استباح به الآخَر ؛ لتقارب ضررهما ، فإنّ كلاًّ منهما للدوام ، والأرض تُتّخذ للبناء وللغراس (٢).

وليس بجيّدٍ ؛ للاختلاف ، كما قلناه.

مسألة ٩٩ : إذا أذن له في الزرع ، فإمّا أن يطلق أو يعمّم أو يخصّص‌ ، ولا بحث في الأخيرين ، وأمّا الأوّل فإنّه يصحّ عندنا ، ويستبيح المُستعير جميعَ أصناف الزرع ، اختلف ضررها أو اتّفق ـ وهو أصحّ وجهي الشافعيّة ـ

__________________

(١) الفوّه : عروق يُصبغ بها. لسان العرب ١٣ : ٥٣٠ « فوه ».

(٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٧١ ، الوسيط ٣ : ٣٧٣ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٦ ، البيان ٦ : ٤٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨١.

٢٥٤

عملاً بإطلاق اللفظ.

والثاني : إنّه لا يستبيح شيئاً بهذه العارية ، وتكون عاريةً باطلة (١).

وقال بعضهم : تصحّ الإعارة ، ولا يزرع إلاّ أقلّ الأنواع ضرراً ؛ لأصالة عصمة مال الغير (٢). ولا بأس به.

ولو قال : أعرتُك كذا لتفعل به ما بدا لك ، أو لتنتفع به كيف شئت ، صحّ عندنا ، وكان له أن ينتفع به كيف شاء ؛ لإطلاق الإذن ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني : البطلان (٣).

وقال بعضهم : ينتفع به بما هو العادة (٤).

وهو حسن ، فلو أعاره الأرض ، كان له البناء والغرس والزرع ، دون الرهن والوقف والإجارة والبيع.

ولو قال : أعرتُكها لزرع الحنطة ، ولم ينه عن غيرها ، كان له زرع ما هو أقلّ ضرراً من الحنطة ؛ عملاً بشاهد الحال ، كالشعير والباقلاّء. وكذا له زرع ما ساوى ضرره ضرر الحنطة ، وليس له زرع ما ضرره أكثر من ضرر الحنطة ، كالذرّة والقطن.

ولو نهاه عن زرع غير الحنطة ، لم يكن له زراعة غيرها ؛ اقتصاراً على المأذون فيه.

تذنيب : إذا عيّن المزروع فزرع غيره ، كان لصاحب الأرض قلعه‌

__________________

(١) الوسيط ٣ : ٣٧٢ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢٨٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨١.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨١.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٢.

(٤) الحاوي الكبير ٧ : ١٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٢.

٢٥٥

مجّاناً ؛ لأنّه ظالم ، وقال عليه‌السلام : « ليس لعِرْق ظالمٍ حقٌّ » (١).

مسألة ١٠٠ : تنقسم العارية باعتبار الزمان إلى ثلاثة‌ ، كما انقسمت باعتبار المنافع إليها ؛ لأنّ المُعير قد يُطلق العارية من غير تقييدٍ بزمانٍ ، وقد يوقّت بمدّةٍ ، وقد يُعمّم الزمانَ ، كقوله : أعرتُك هذه الأرض ، ولا يقرن لفظه بوقتٍ وزمانٍ ، أو : أعرتُك هذه الأرض سنةً أو شهراً ، أو : أعرتُك هذه الأرض دائماً.

وإنّما جاز الإطلاق فيها بخلاف الإجارة ؛ لأنّ العارية جائزة ، وله الرجوع فيها متى شاء ، فتقديرها لا يفيد شيئاً ، وإنّما جاز تقييدها ؛ لأنّ إطلاقها جائز ، فتقييدها أولى.

مسألة ١٠١ : إذا أطلق العارية ، كان له الرجوع فيها متى شاء‌ ، ولا يجوز للمُستعير التصرّف بعد الرجوع ، فإن تصرّف ضمن العين والأُجرة ، إلاّ في إعارة الدفن ، فلا يجوز الرجوع بعده ، ولا مع دفع شي‌ءٍ ، ولا في إعارة الحائط للتسقيف وشبهه ، فلا يجوز الرجوع قبل الخراب إلاّ مع دفع (٢) الأرش ، وما عداهما يجوز الرجوع قبل التصرّف وبعده ، سواء كانت العارية موقّتةً أو لا ـ وفائدة الرجوع بعد التصرّف المطالبةُ بالأُجرة فيما يستقبل ، لا فيما مضى ـ عند علمائنا ـ وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد (٣) ـ لأنّ‌

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٩٢ ، الهامش (٣).

(٢) في الطبعة الحجريّة : « بدفع » بدل « مع الدفع ».

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ١٧٩ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢١٦ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ١٨٧ ـ ١٨٨ / ١٨٧٧ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٣٥ / ٣١٦٩ ، الفقه النافع ٣ : ٩٤٧ / ٦٧١ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٤ / ٤٤٦ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٢٨ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٧٠ ، بحر المهذب ٩ : ٦ ، الوجيز ١ : ٢٠٤ ، الوسيط ٣ : ٣٧٣ ،

٢٥٦

المُستعير استباح المنافع بالإذن ، فإذا رجع عن الإذن لم يجز له فعله ؛ لأنّه تصرّف في مال الغير بغير إذنه ، فكان غصباً ، ولأنّ المنافع المستقبلة لم تحصل في يد المُستعير فلا يملكها بالإعارة ، كما لو لم تحصل العين في يده.

وقال مالك : إذا كانت العارية موقّتةً لم يكن للمُعير الرجوع فيها ، وإن لم يكن موقّتةً لزمه تركه مدّة ينتفع [ بها ] (١) في مثلها ؛ لأنّ المُعير قد ملّكه المنفعة مدّةً معلومة ، وصارت العين في يده بعقدٍ مباح ، فلم يكن له الرجوع فيها بغير اختيار المالك ، كالعبد الموصى بخدمته (٢).

والفرق : إنّ العبد الموصى بخدمته ليس للورثة الرجوع فيه ؛ لأنّ المتبرّع غيرهم ، وأمّا الموصي المتبرّع فله أن يرجع متى شاء.

مسألة ١٠٢ : إذا أعاره أرضاً للبناء أو الغراس (٣) أو الزرع ، أو أطلق له الانتفاع ، كان للمُستعير الانتفاع فيما أذن له فيه ما لم يمنعه.

فإن قدّر له المدّة ، كان له أن يبني ويغرس وينتفع بهما حسبما أذن ما لم يرجع عن إذنه أو تنقضي المدّة ، فإن رجع عن إذنه قبل انقضاء المدّة أو لم يرجع ولكن انقضت المدّة المأذون فيها ، لم يكن له استحداث شي‌ءٍ‌

__________________

حلية العلماء ٥ : ١٩٤ ، البيان ٦ : ٤٥٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٣ ، المغني ٥ : ٣٦٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٥٧ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٣ / ١٠٦٢.

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « به ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٣ / ١٠٦٢ ، بداية المجتهد ٢ : ٣١٣ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٤ / ٤٤٦. بحر المذهب ٩ : ٦ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٥ ، البيان ٦ : ٤٥٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٢ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ١٨٨ / ١٨٧٧ ، المغني ٥ : ٣٦٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٥٧.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « الغرس ».

٢٥٧

من ذلك ، فإن استحدث شيئاً من ذلك بعد علمه بالرجوع ، وجب عليه قلعه مجّاناً ؛ لقوله عليه‌السلام : « ليس لعِرْق ظالمٍ حقٌّ » (١) وتجب عليه أُجرة ما استوفاه من منفعة الأرض على وجه التعدّي وطمّ الحُفَر التي حدثت لقلع ما غرسه ، كالغاصب.

وإن كان جاهلاً بالرجوع ، فالأقوى : إنّ له القلعَ مع الأرش ، كما لو لم يرجع ؛ لأنّه غير مفرّطٍ ولا غاصبٍ.

وللشافعيّة وجهان ، كالوجهين فيما لو حمل السيل نواةً إلى أرضه فنبتت ، وقد يشبه بالخلاف في تصرّف الوكيل جاهلاً بالعزل (٢).

وأمّا ما بناه وغرسه قبل الرجوع : إن أمكن رفعه من غير نقصٍ يدخله ، رفع.

وإن لم يمكن إلاّ مع نقصٍ وعيبٍ يدخل على المُستعير ، نُظر إن كان قد شرط عليه القلع مجّاناً عند رجوعه وتسوية الحُفَر ، أُلزم ذلك ؛ عملاً بمقتضى الشرط وقد قال عليه‌السلام : « المسلمون (٣) عند شروطهم » (٤) فإن امتنع ، قَلَعه المُعير مجّاناً.

وإن كان قد شرط القلع دون التسوية ، لم يكن على المُستعير‌

__________________

(١) تقدّم تخريجه في الهامش (٣) من ص ٩٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٣.

(٣) في « ث ، ر » : « المؤمنون ».

(٤) صحيح البخاري ٣ : ١٢٠ ، سنن الدارقطني ٣ : ٢٧ / ٩٨ و ٩٩ ، سنن البيهقي ٧ : ٢٤٩ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ٤٩ و ٥٠ ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ٦ : ٥٦٨ / ٢٠٦٤ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ٤ : ٢٧٥ / ٤٤٠٤ ، وفي التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، والاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، والجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣ : « المؤمنون ... ».

٢٥٨

التسوية ؛ لأنّ شرط القلع رضا بالحفر.

وإن لم يشرط القلع أصلاً ، نُظر إن أراد المُستعير القلع مُكّن منه ؛ لأنّه ملكه ، فله نقله عنه.

وإذا قلع فهل عليه التسوية؟ الأقوى : ذلك ؛ لأنّه قلع باختياره لتخليص ماله ، فكان عليه أرش ما نقصه الحفر ، كما لو أراد إخراج دابّته من دار الغير ولا يمكن إلاّ بحفر الباب (١) ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة ، والثاني : إنّه ليس عليه التسوية ؛ لأنّ الإعارة مع العلم بأنّ للمُستعير أن يقلع رضا بما يحدث من القلع (٢).

وإن لم يختر المُستعير القلع ، لم يكن للمُعير قلعه مجّاناً ؛ لأنّه بناء محترم صدر بالإذن ، ولكنّه يتخيّر بين أن يقلعه ويضمن الأرش ـ وهو قدر التفاوت بين قيمته مثبتاً ومقلوعاً ـ وبين إبقائه بأُجرة المثل يأخذها ، وبين أن يتملّكه بقيمته.

فإن اختار القلع وبذل أرش النقص ، فله ذلك ، ويُجبر المُستعير عليه ، وليس له الامتناع عنه.

وإن اختار أحد الأمرين الآخَرين ، افتقر إلى رضا المُستعير فيه ؛ لأنّ أحدهما بيع ، والآخَر إجارة ، وكلاهما يتوقّفان (٣) على رضا المتعاقدين معاً ،

__________________

(١) كذا قوله : « بحفر الباب » في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، والظاهر : « بهدم الباب » أو « بنقض الباب ».

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ١٢٨ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٧١ ، الوسيط ٣ : ٣٧٥ ، الوجيز ١ : ٢٠٥ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٧ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢٨٢ ـ ٢٨٣ ، البيان ٦ : ٤٦٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٤ ، المغني ٥ : ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

(٣) في « ث ، ج ، ر » : « موقوفان ».

٢٥٩

وهو أحد قولَي الشافعي ، والثاني : إنّه لا يعتبر رضا المُستعير فيه ، بل يُجبر على ما يختاره المُعير منهما (١).

وله قولان آخَران :

أحدهما : إنّ المُعير إن طلب التملّك بالقيمة أُجبر المُستعير عليه ، كتملّك الشفيع الشقصَ قهراً ، وإن طلب الإبقاء بالأُجرة اعتبر رضا المُستعير فيه.

والثاني : إنّ المُعير يتخيّر بين أمرين خاصّة ، أحدهما : القلع مع ضمان الأرش ، والثاني : التملّك بالقيمة (٢).

والأصل فيه : إنّ العارية مكرمة ومبرّة ، فلا يليق بها منع المُعير من الرجوع ولا تضييع مال المُستعير ، فأثبتنا الرجوع على وجهٍ لا يتضرّر به المُستعير ، وجعلنا الأمر منوطاً باختيار المُعير ؛ لأنّه الذي صدرت منه هذه المكرمة ، ولأنّ ملكه الأرض وهي أصل ، وأمّا البناء والغراس فإنّهما تابعان لها ، ولذلك (٣) يتبعانها في البيع (٤).

ولو طلب المُستعير تملّك الأرض وقال : أنا أدفع قيمة الأرض إلى المُعير ليبقى البناء والغراس ، لم يُجبر المُعير على ذلك ، والفرق بينه وبين المُستعير ما تقدّم من كون البناء والغرس تابعين (٥) ، وكون الأرض متبوعةً ، فلهذا أُجيب المالك إلى ما طلبه من تملّك البناء والغرس بالقيمة وما طلبه‌ المُستعير من تملّك الأرض بالقيمة.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٥ ـ ٣٨٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٦.

(٣) في الطبعة الحجريّة و « العزيز شرح الوجيز » : « كذلك ».

(٤) راجع : العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٦.

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « تابعان ». والمثبت هو الصحيح.

٢٦٠