تذكرة الفقهاء - ج ١٦

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ١٦

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-437-x
الصفحات: ٤١٨

أحرز منها فلا ضمان ، وإن كان دونها في الحرز ضمن (١).

وأطلق بعضهم : إنّه إذا كانت الظروف للمالك لا يضمن (٢).

وأطلق آخَرون منهم والحالة هذه : إنّه يضمن ، كما لو نقلها من بيته (٣).

وفصَّل آخَرون : إنّه إن لم يَجْر فتح قفلٍ ولا فضّ ختمٍ ولا خَلْط ولم يعيّن المالك ظرفاً ، فلا يضمن بمجرّد النقل ، سواء كانت الصناديق للمستودع أو للمالك ، وإذا كانت للمالك فحصولها في يد المُودَع قد يكون بجهة كونها وديعةً أيضاً إمّا فارغة أو مشغولة بالوديعة ، وقد يكون بجهة العارية ، وإن جرى شي‌ء من ذلك فأمّا الفضّ والفتح والخَلْط فإنّها مضمنة.

وأمّا إذا عيّن ظرفاً ، فإن كانت الظروف للمالك فوجهان :

أحدهما : إنّه يضمن ؛ لأنّ التفتيش عن المتاع الموضوع في الصندوق والتصرّف فيه بالنقل لا يليق بحال المستودع.

وأصحّهما : عدم المنع ؛ لأنّ الظرف والمظروف كلاهما وديعتان ، وليس فيه إلاّ حفظ أحدهما في حرزٍ والآخَر في غيره ، فعلى هذا إن نقل إلى المثل أو الأحرز فلا بأس ، وإن نقل إلى الأدون ضمن.

وإن كانت الظروف للمستودع ، فهي كالبيوت إجماعاً (٤).

مسألة ٤٧ : لو أمره بالحفظ في بيتٍ معيّن ونهاه عن أن يُدخل إليها أحداً وعن الاستعانة بالحارسين‌ ، فخالف ، فإن حصل التلف بسبب المخالفة بأن سرق الذين أدخلهم أو الحارسون ، ضمن قطعاً.

__________________

(١) راجع : البيان ٦ : ٤٣٧.

(٢) الوجيز ١ : ٢٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٢.

٢٠١

وإن حصل بغير ذلك السبب إمّا بحريقٍ أو بسرقة غير الداخلين أو نهب غير الحارسين وأشباه ذلك ، ففي الضمان إشكال ينشأ : من حصول التفريط بالمخالفة ، ولولاه لم يضمن لو تلف بذلك السبب ، ومن حصول التلف بغير سبب المخالفة. والأوّل أقوى.

وعند الشافعيّة أنّه لا يضمن على التقدير الثاني (١).

ولو قال : لا تُخبر بوديعتي أحداً ، فخالف وأخبر غيره فسرقها المُخْبَر أو مَنْ أخبره ، ضمن ؛ لإفضاء الإخبار إلى السرقة.

وإن تلفت بسببٍ آخَر ، قال بعض الشافعيّة : لا يضمن (٢).

وفيه إشكال أقربه : الضمان ؛ لحصول التفريط بالإخبار ، وإلاّ لم يضمن لو سرقه المُخْبَر.

قال بعض الشافعيّة : لو أنّ رجلاً من عرض الناس سأل المستودعَ : هل لفلان عندك وديعة؟ فأخبره بها ، ضمن ؛ لأنّ كتمانها من حفظها ، فإذا أخبره فقد ترك الحفظ (٣).

مسألة ٤٨ : لو أودعه خاتماً وأمره بجَعْله في خِنْصِره ، فجَعَله في البِنْصِر ، لم يضمن‌ ؛ لأنّه زاده حفظاً وحراسةً ، فإنّ البِنْصر أغلظ من الخِنْصِر ، والحفظ فيه أكثر.

ولو انكسر لغلظها ، ضمن.

وكذا يضمن لو ضاق عنها فوضعه في أنملته العليا من البِنْصِر ؛ لأنّه في أصل الخِنْصِر أحرز.

ولو قال : اجعله في البِنْصِر ، فجَعَله في الخِنْصِر ، فإن كان ضيّقاً لا ينتهي إلى أصل البِنْصِر لم يضمن ؛ لأنّ الذي فَعَله أحرز ، وإن كان ينتهي‌

__________________

(١) البيان ٦ : ٤٢٨ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١ ـ ٣١٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٢.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٣.

٢٠٢

إليه ضمن ؛ لأنّ ما يثبت في البِنْصِر إذا جُعل في الخِنْصِر كان في معرض السقوط.

ولو لم يعيّن المالك شيئاً ، فإن جَعَله في الخِنْصِر لم يضمن إن قصد الحفظ ؛ لأنّ الخِنْصِر حرز في مثل الخاتم ، وإن قصد الاستعمال والتزيّن به ضمن ، وهو أحد الاحتمالين عند الشافعيّة.

والثاني : إنّه يضمن ـ وبه قال أبو حنيفة ـ لأنّه استعمال (١).

وقال بعض الشافعيّة : إن جعل فَصَّه إلى ظهر الكفّ ضمن ، وإلاّ فلا ؛ لأنّه بجَعْله إلى ظهر الكفّ يكون قد قصد الاستعمال (٢).

لكن من آداب التختّم جَعْل الفَصّ إلى بطن الكفّ ، وهو يقدح في هذا التعليل.

ولو جعله في البِنْصِر أو غيره غير الخِنْصِر ، لم يضمن إذا انتهى إلى آخر الإصبع ، إلاّ أنّ المرأة قد تتختّم في غير الخِنْصِر ، فيكون غير الخِنْصِر في حقّها كالخِنْصِر.

مسألة ٤٩ : إذا عيّن المالك له موضعاً للحفظ ، لم يجز للمستودع التجاوز عنه‌ ، ويضمن لو نقل على ما تقدّم (٣).

ولو كان الحرز الذي عيّنه بعيداً عنه ، وجبت المبادرة إليه بما جرت العادة ، فإن أخّر متمكّناً ضمن.

ولو لم يعيّن موضعاً للحفظ ، وجب على المستودع حفظها في حرز مثلها ، ولا يضمن بالنقل عنه وإن كان إلى حرزٍ أدون.

__________________

(١) الوسيط ٤ : ٥١٠ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١٢٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٣ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ١١ : ١٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٣.

(٣) في ص ١٨٣ ، القسم الثاني من أقسام نقل الوديعة ، ضمن المسألة ٣٣.

٢٠٣

البحث السادس : في التضييع.

مسألة ٥٠ : من الأسباب المقتضية للتقصير التضييعُ‌ ، فإنّ المستودع مأمور بحفظ الوديعة في حرز مثلها بالتحرّز عن أسباب التلف ، فلو أخّر إحرازها مع الإمكان ضمن.

ولو جعلها في مضيعةٍ أو في غير حرز مثلها ، فكذلك.

ولو جعلها في حرزٍ أكبر من حرز مثلها ثمّ نقلها إلى حرز مثلها ، لم يضمن ؛ لأنّ الواجب هو الثاني ، والأوّل تبرّعٌ منه.

ولا فرق بين أن يكون التضييع بالنسيان أو غيره ، فلو استودع فضيّع الوديعة بالنسيان ضمن ؛ لأنّه فرّط في حفظها ، ولأنّ التضييع سبب التقصير ، فيستوي فيه الناسي وغيره ، كالإتلاف ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : إنّه لا يضمن ؛ لأنّ الناسي غير متعدٍّ ، والمستودع إنّما يضمن بالتعدّي (١).

والصغرى ممنوعة ، وحكم الخطأ حكم النسيان ، فلو استودع آنيةً فكسرها مخطئاً ضمن ، ولأنّ الناسي مفرّط ، ولهذا لو نسي الماء في رَحْله فتيمّم فصلّى ثمّ ذكر ، وجب عليه القضاء ، ولأنّه لو انتفع بالوديعة ثمّ ادّعى الغلط وقال : ظننته ملكي ، لم يُصدَّق ، مع أنّ هذا الاحتمال قريب ، فعُلم أنّ الغلط غير دافعٍ للضمان.

مسألة ٥١ : لو سعى المستودع بالوديعة إلى مَنْ يصادر المالك ويأخذ أمواله ، كان ضامناً‌ ؛ لأنّه فرّط في الحفظ ، بخلاف ما لو كانت السعاية من غير المستودع ، فإنّه لا يضمن ؛ لأنّه لم يلتزم بالحفظ.

__________________

(١) الوسيط ٤ : ٥١١ ، الوجيز ١ : ٢٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٣.

٢٠٤

ولو أخبر المستودعُ اللّصَّ بالوديعة فسرقها ، فإن عيّن له الموضعَ ضمن ؛ لأنّه فرّط في حفظها ، ولو لم يُعيّن المكانَ لم يضمن.

أمّا لو علم الظالم بالوديعة من غير إعلام المستودع فأخذها منه قهراً ، فإنّه لا يضمن ، كما لو سُرقت منه.

وإن أكرهه الظالم حتى دفعها بنفسه ، فكذلك لا ضمان عليه ؛ لانتفاء التفريط منه ، بل يُطالِب المالكُ الظالم بالضمان ، ولا رجوع له إذا غرم.

وهل للمالك مطالبة المستودع بالعين أو البدل؟ الأقرب ذلك ؛ لأنّه مباشر لتسليم مال الغير إلى غير مالكه ، فإذا رجع المالك عليه رجع هو على الظالم ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ، وفي الثاني : ليس له ذلك (١).

وهذان الوجهان كالوجهين في أنّ المُكرَه على إتلاف مال الغير هل يطالَب أم لا؟ (٢).

وعلى كلّ تقديرٍ فقرار الضمان على الظالم.

ومعنى القرار أن لا يرجع الشخص إذا غرم ، ويرجع عليه غيره إذا غرم.

مسألة ٥٢ : إذا خاف المستودع من الظالم إذا منعه من الوديعة وأمكنه مدافعته بالإنكار والاختفاء عنه والامتناع منه ، وجب عليه ذلك‌ على حسب ما يقدر عليه ، فإن ترك الدفع مع القدرة ضمن.

وإن أنكر المستودع الوديعةَ فطلب الظالم إحلافه ، جاز له أن يحلف لمصلحة حفظ الوديعة ، ويورّي إذا كان يُحسنها وجوباً.

ولا كفّارة عليه عندنا ، خلافاً للجمهور ، فإنّهم أوجبوا الكفّارة ؛ لأنّه‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٣ ـ ٣١٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٤.

٢٠٥

كاذب (١).

قال بعض الشافعيّة : وجوب الكفّارة مبنيٌّ على أنّ مَنْ أُكره ليطلّق إحدى امرأتيه فطلّقها ، هل يقع أم لا؟ إن قلنا : لا يقع ، لم تنعقد يمينه (٢).

ولو أُكره على أن يحلف بالطلاق أو العتاق ، حلف ، ولا يقع أحدهما وإن كان كاذباً ؛ لبطلان اليمين بأحدهما عندنا ، ولا يسلّم الوديعة إلى الظالم.

وقالت العامّة : حاصل هذا الإكراه التخيير بين الحلف وبين الاعتراف والتسليم ، فإن اعترف وسلّم ضمن ؛ لأنّه قد فدى زوجته بالوديعة ، وإن حلف بالطلاق طُلّقت زوجته ؛ لأنّه قدر على الخلاص بتسليم الوديعة ففدى الوديعة بالطلاق (٣).

وقال بعض الشافعيّة : إن قلنا : إنّ مَنْ أُكره على طلاق إحدى امرأتيه فطلّق لا يقع ، فهنا إن حلف بالطلاق لم يقع ، وإن اعترف بالوديعة وسلّمها كان كما لو سلّمها مكرهاً (٤).

البحث السابع : في الجحود‌.

مسألة ٥٣ : إذا طلب المالك الوديعةَ من المستودع فجحدها ، كان ضامناً ؛ لخيانته بالإنكار.

ولو كان الجحود لمصلحة الوديعة ، لم يضمن ؛ لأنّه محسن.

ولو لم يطلبها المالك لكن قال : لي عندك وديعة ، فإن سكت لم يضمن ؛ إذ لم يوجد منه تفريط ولا خيانة.

__________________

(١) الوسيط ٤ : ٥١٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٤.

٢٠٦

وان أنكر فالأقرب : عدم الضمان ؛ لأنّه لم يمسكها لنفسه ، بخلاف ما لو أنكر بعد الطلب ، وقد يعرض له في الإخفاء والإنكار غرض صحيح.

ويحتمل الضمان ، كما لو أنكر بعد الطلب.

وكلاهما للشافعيّة (١).

ولو قال بعد الجحود : كنتُ غلطتُ أو نسيتُ الوديعة ، فإن صدّقه المالك لم يضمن ، وإلاّ فالأقرب : الضمان.

مسألة ٥٤ : لو قال المستودع ابتداءً من غير سؤال المالك : لا وديعة عندي‌ ، أو قال ذلك في جواب سؤال غير المالك ، لم يضمن بمجرّد الجحود والإنكار ؛ لأنّه لغير المالك ، والوديعة يُسعى في إخفائها ، فإنّه أقرب للحفظ ، سواء كان المالك حاضراً أو غائباً ، ولا نعلم فيه خلافاً.

مسألة ٥٥ : لو ادّعي عليه وديعةٌ فأنكر قُدّم قوله مع اليمين‌ ، فإن أقرّ بعد ذلك بها أو قامت عليه بيّنة بها طُولب بها.

فإن ادّعى ردَّها أو تلفها قبل الجحود ، فإن كانت صورة جحوده إنكار أصل الإيداع لم يُصدَّق في دعوى الردّ ؛ لاشتمال كلاميه على التناقض ، وثبوت خيانته ، وأمّا في دعوى التلف فيُصدَّق أيضاً باليمين ، لكنّه يكون ضامناً ، كالغاصب.

والأقوى : إنّ له تحليف المالك على عدم دعواه ؛ لإمكان أن يكون قد نسي الوديعة فجحدها ثمّ ذكر فادّعى التلف لوقوعه ، أو كذب في جحوده ، ولأنّه لو صدّقه المالك في التالف بغير تفريطٍ أو في دعوى الردّ سقط حقّه ، وكان متمكّناً من إحلافه ومن إقامة البيّنة على دعوى الردّ أو التلف ، وهذا كما لو ادّعى حقّاً وقال : لا بيّنة لي ، ثمّ جاء بالبيّنة فإنّها تُسمع منه ، كذا هنا.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٤.

٢٠٧

وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني : المنع ؛ لأنّه لمّا أنكر أصل الإيداع كان مكذّباً لدعوى التلف ولبيّنة الردّ ؛ لتوقّفهما على الإيداع (١).

إذا تقرّر هذا ، فإن قامت البيّنة على الردّ أو على الهلاك قبل الجحود برئ المستودع من الضمان ، وإن قامت البيّنة على التلف بعد الجحود ضمن ؛ لخيانته بالجحود ، ومَنْعِ المالك عنها ، إلاّ إذا كان له عذر من خوفٍ عليه أو عليها لو اعترف.

هذا كلّه إذا كانت صورة الجحود إنكار أصل الإيداع ، وإن كانت صورة جحوده : إنّه لا يلزمني تسليم شي‌ءٍ إليك ، أو : ما لك عندي وديعة ، أو : ليس لك عندي شي‌ء ، فقامت البيّنة بالوديعة ، فادّعى الردَّ أو التلف قبل الجحود ، سُمعت دعواه ؛ لانتفاء التناقض بين كلاميه.

ولو اعترف أنّه كان باقياً يوم الجحود ، لم يُصدَّق في دعوى الردّ ، إلاّ ببيّنةٍ.

وإن ادّعى الهلاك ، فهو كالغاصب إذا ادّعاه ، وهو مصدَّق بيمينه في دعواه ، وضامن ؛ لخيانته ، وهو ظاهر مذهب الشافعي (٢).

__________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٥.

٢٠٨

الفصل الرابع : في وجوب الردّ عند البقاء‌

مسألة ٥٦ : إذا كانت الوديعة باقيةً وطلبها مالكها ، وجب على المستودع ردّها عليه في أوّل أوقات الإمكان‌ ، ولا تجب عليه مباشرة الردّ ولا تحمّل مئونته ، بل ذلك على المالك ، وإنّما يجب على المستودع رفع يده عنها والتخلية بين المالك والوديعة ، فإن أخّر المستودع ذلك مع إمكانه وطلب الردّ ، كان ضامناً ، وكان ذلك من أسباب التقصير ، السالفة.

ولو تعذّر الردّ ، لم يضمن ، وتجب عليه المبادرة في أوّل أوقات زوال العذر ، فلو طالبه بالردّ ليلاً والوديعة في صندوقٍ أو خزانةٍ لا يمكن فتحها في تلك الحال ، لم يكن مفرّطاً.

وكذا لو طالبه وهو مشغول بالصلاة أو بقضاء حاجةٍ أو طهارة أو في حمّامٍ أو على طعامٍ فأخّر حتى يفرغ ، أو كان ملازماً لغريمٍ يخاف فوته ، أو كان يجي‌ء المطر والوديعة في البيت وأخّر حتى ينقطع ويرجع إلى البيت وما أشبه ذلك ، فهو جائز.

ولا يُعدّ ذلك تقصيراً ولا يؤثّر ضماناً لو تلفت الوديعة في تلك الحال ، على إشكالٍ أقربه : التفصيل ، وهو : إنّ التأخير إن كان لتعذّر الوصول إلى الوديعة فلا ضمان ، وكذا لو كان في صلاة فَرْضٍ.

وإن كان لعُسْرٍ يلحقه وغرض يفوته أو كان في صلاة نَفْلٍ ، فالأقرب : إنّه يضمن ؛ لأنّ دفع الوديعة إلى المالك مع المطالبة واجب مضيَّق ، وهذه الأشياء ليست أعذاراً فيه.

وبعض الشافعيّة جوّز له التأخيرَ في هذه الأشياء بشرط التزام خطر‌

٢٠٩

الضمان (١).

مسألة ٥٧ : لو طلب المالك الوديعةَ ، فقال : لا أردّ إليك حتى تُشهد عليك بالقبض‌ ، فالأقرب : إنّ المالك إن كان وقت الدفع أشهد عليه بالإيداع فللمستودع ذلك ؛ ليدفع عن نفسه التهمة ، وإن لم يكن المالك أشهد عليه عند الإيداع لم يكن له ذلك ، ويكون ضامناً ، وهو أحد وجوه الشافعيّة.

والثاني : إنّه ليس للمستودع ذلك مطلقاً ؛ لأنّ قوله في الردّ مقبول ، فلا حاجة به إلى البيّنة.

والثالث : إنّ له الامتناعَ مطلقاً ؛ لئلاّ يحتاج إلى اليمين ، فإنّ الأُمناء يحترزون عنها ما أمكنهم.

والرابع : إنّه إن كان التوقّف إلى الإشهاد يورث تأخيراً وتعويقاً في التسليم ، لم يكن له الامتناع ، وإلاّ فله ذلك (٢).

مسألة ٥٨ : وإنّما يجب عليه الردّ عند الطلب لو كان المردود عليه أهلاً للقبض‌ ، فلو أودع ثمّ حجر الحاكم عليه للسفه لم يجب الدفع إليه ، بل يرفع أمره إلى الحاكم.

وكذا لو كان الحجر للفلس ؛ لتعلّق حقّ الغرماء بعين الوديعة.

ولو كان المالك نائماً فوضع المستودع الوديعةَ في يده ، كان ضامناً ؛ لعدم التكليف على النائم.

ولو كان المُودِع جماعةً وذكروا أنّ المال مشترك بينهم ، ثمّ جاء بعضهم يطلبه ، لم يكن للمستودع دفعه إليه ولا قسمته معه ، بل يرفع‌

__________________

(١) الغزالي في الوسيط ٤ : ٥١٤ ، والوجيز ١ : ٢٨٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ، و ٧ : ٣١٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٧٠ ، و ٥ : ٣٠٦.

٢١٠

الأمر (١) إلى الحاكم ، فيقسمه ويدفع إليه نصيبه ، ويجعل الباقي في يد المستودع.

مسألة ٥٩ : لو أمره المالك بدفع الوديعة إلى وكيله وردِّها عليه ، فطلبها الوكيلُ ، لم يكن للمستودع الامتناع ولا التأخير مع المكنة‌ ، فإن فَعَل أحدهما كان ضامناً ، وحكمه حكم ما لو طلب المالك فلم يردّ ، إلاّ أنّهما يفترقان في أنّ المستودع له التأخير هنا إلى أن يُشهد المدفوع إليه على القبض ؛ لأنّ المدفوع إليه ـ وهو الوكيل ـ لو أنكر الدفع صُدّق بيمينه ، وذلك يستلزم ضرر المستودع بالغرم.

مسألة ٦٠ : لو قال له المالك : ردّ الوديعةَ على فلان وكيلي ، فلم يطلب الوكيلُ الردَّ‌ ، فإن لم يتمكّن المستودع من الردّ فلا ضمان عليه قطعاً ؛ لعدم تقصيره.

وإن تمكّن من الردّ ، احتُمل الضمان ؛ لأنّه لمّا أمره بالدفع إلى وكيله فكأنّه عزله ، فيصير ما في يده كالأمانات الشرعيّة.

وللشافعيّة فيه وجهان جاريان في كلّ الأمانات الشرعيّة ، كالثوب تطيّره الريح إلى داره ، وفيه للشافعيّة وجهان :

أحدهما : إنّها تمتدّ إلى المطالبة ، كالودائع.

وأظهرهما : إنّها تنتهي بالتمكّن من الردّ (٢).

ويجري الوجهان في مَنْ وجد ضالّةً وهو يعرف مالكها (٣).

ولو قال المالك للمستودع : ردّ الوديعةَ على مَنْ قدرتَ عليه من‌ وكلائي ولا تؤخّر ، فقدر على الردّ على بعضهم وأخّر ليردّه على غيره ، فهو

__________________

(١) في « ث ، ج » : « أمره » بدل « الأمر ».

(٢) الوجيز ١ : ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٦.

٢١١

ضامن عاصٍ بالتأخير.

ولو لم يقل : ولا تؤخّر ، فأخّر ضمن بالتأخير.

وفي العصيان للشافعيّة وجهان (١).

مسألة ٦١ : لو أمره المالك بالدفع إلى وكيله ، أو أمره بالإيداع لمّا دفعه إليه ابتداءً‌ ، فالأقرب : إنّه لا يجب على المدفوع إليه الإشهاد على الإيداع ، بخلاف قضاء الدَّيْن ؛ لأنّ الوديعة أمانة ، وقول المستودع مقبول في الردّ والتلف ، فلا معنى للإشهاد ، ولأنّ الودائع حقّها الإخفاء ، بخلاف قضاء الدَّيْن ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة.

والثاني لهم : إنّه يلزمه الإشهاد ، كقضاء الدَّيْن (٢).

وقد بيّنّا الفرق.

وعلى القول الثاني الحكم فيه كما في الوكالة من أنّه إن دفع في غيبة المالك من غير إشهادٍ ضمن ، وإن دفع وهو حاضر لم يضمن.

مسألة ٦٢ : إذا طلب المالك من المستودع الردَّ فادّعى التلفَ ، فالقول قوله مع اليمين‌ عند علمائنا ، سواء ادّعى التلف بسببٍ ظاهرٍ أو خفيٍّ ؛ لأنّه أمين في كلّ حال ، فكان القولُ قولَه في كلّ حالٍ ، هو أمين فيها.

وقال الشافعي : إمّا أن يذكر المستودع سبب التلف ، أو لا ، فإن ذكر السبب فإن كان خفيّاً كالسرقة ، قُبِل قوله مع اليمين ؛ لأنّه قد ائتمنه ، فليصدّقه.

وإن كان سبباً ظاهراً ـ كالحريق والغارة والسيل ـ فإن لم يعرف ما يدّعيه بتلك البقعة لم يُقبل قوله ، بل يُطالَب بالبيّنة على ما يدّعيه ، ثمّ يُقبل قوله مع يمينه في حصول الهلاك به.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٧.

٢١٢

وإن عرف ما يدّعيه بالمشاهدة أو الاستفاضة ، فإن عرف عمومه صُدّق بغير يمينٍ ، وإن لم يعرف عمومه واحتمل أنّه لم يصب الوديعة صُدّق باليمين.

وإن لم يذكر سبب التلف صُدّق بيمينه ، ولا يكلَّف بيان سبب التلف ، وإن نكل المستودع عن اليمين حلف المالك على نفي العلم بالتلف واستحقّ (١).

ولا بأس بهذا القول عندي.

وهل يلحق موت الحيوان والغصب بالأسباب الظاهرة أو الخفيّة؟ إشكال.

مسألة ٦٣ : إذا ادّعى المستودع ردَّ الوديعة ، فإمّا أن يدّعي ردَّها على مَن ائتمنه أو على غيره.

فإن ادّعى ردَّها على مَن ائتمنه ـ وهو المالك ـ قُدّم قوله باليمين على إشكالٍ ينشأ : من أنّه أمين يُقبل قوله مع اليمين كالتلف ، ومن كونه مدّعياً فافتقر إلى البيّنة ، فإن قدّمنا قوله باليمين فإن مات قبل أن يحلف ، ناب عنه وارثه ، وانقطع الطلب عنه بحلفه.

وقال الشافعي : إنّه يُقدَّم قول المستودع مع اليمين كالتلف ، ولأنّه أمين له لا منفعة له في قبضه ، وبهذا خالف المرتهن ، فإنّه أمين مع أنّه لا يُقبل قوله ؛ لأنّه قبضه لمنفعته (٢).

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٧.

(٢) الأُمّ ٤ : ١٣٦ ، مختصر المزني : ١٤٧ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٥٤ / ٤١١ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٧١ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٦٩ ، الوجيز ١ : ٢٨٧ ، الوسيط ٤ : ٥١٥ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٥ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١٢٧ ، البيان ٦ : ٤٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٧ ، الإشراف.

٢١٣

وقال مالك : إنّه إن لم يُشهد عليه بالإيداع صُدّق في دعوى الردّ ، وإن أشهد عليه لم يُصدَّق (١).

وإن ادّعى [ الردَّ ] (٢) على غير مَن ائتمنه ، طُولب بالبيّنة ؛ لأنّ الأصل عدم الردّ ، وهو لم يأتمنه ، فلا يُكلّف تصديقه.

مسألة ٦٤ : لو طلب المالك الوديعةَ ، فقال المستودع : أودعتُها عند وكيلك فلان بإذنك‌ ، فإن أنكر المالك الإذنَ والوكالةَ صُدّق باليمين إذا لم تكن بيّنة ؛ لأنّه منكر.

فإذا حلف نُظر إن كان فلان مُقرّاً بالقبض والوديعة باقية ، رُدّت على المالك ، فإن غاب المدفوع إليه كان للمالك أن يغرم المستودع ، فإذا قدم الغائب أخذها المستودع وردّها على المالك واستردّ البدل الذي دفعه.

وإن كانت تالفةً ، فللمالك أن يغرم مَنْ شاء منهما ، وليس للغارم منهما أن يرجع على صاحبه ؛ لزعمه أنّ المالك ظالم بما أخذ.

وإن أنكر فلان القبضَ الذي ادّعاه المستودع ، قُدّم قوله مع اليمين وعدم البيّنة ، فحينئذٍ يختصّ الغرم بالمستودع.

وإن اعترف المالك بالإذن وأنكر الدفع إلى فلان ، احتُمل تصديقُ المستودع ، وكان دعوى الردّ على وكيل المالك كدعوى الردّ على المالك‌

__________________

على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٤ / ١٠٦٥ ، بداية المجتهد ٢ : ٣١٠ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٢٧ / ١٢١٤ ، المعونة ٢ : ١٢٠٤

(١) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٤ / ١٠٦٥ ، بداية المجتهد ٢ : ٣١٠ ، التفريع ٢ : ٢٧٠ ، التلقين : ٤٣٤ ـ ٤٣٥ ، الذخيرة ٩ : ١٤٥ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٢٧ / ١٢١٤ ، المعونة ٢ : ١٢٠٤ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٥٤ / ٤١١ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٧١ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٨ ـ ٣١٩.

(٢) إضافة يقتضيها السياق.

٢١٤

ـ وهو وجهٌ للشافعيّة وقول أبي حنيفة (١) ـ وتصديقُ المالك في عدم الدفع ؛ لأنّ المستودع يدّعي [ الردَّ ] (٢) على مَنْ لم يأتمنه ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة (٣).

ولو وافق فلان المدفوع إليه المستودعَ في الدفع وقال : إنّها تلفت في يدي ، لم يُقبل قوله على المالك ، بل يحلف ويضمن المستودع.

ولو اعترف المالك بالإذن والدفع معاً ، لكنّه قال : إنّك لم تُشهد عليه ، والمدفوع إليه ينكر ، كان مبنيّاً على الخلاف السابق في وجوب الإشهاد على الإيداع ، إن أوجبناه ضمن ، وإلاّ فلا.

ولو اتّفقوا جميعاً على الدفع إلى الأمين الثاني وادّعى الأمين الثاني الردَّ على المالك أو التلف في يده ، كان حكمه حكم المستودع الأوّل من أنّه يُصدَّق باليمين في دعوى التلف ، وأمّا في الردّ فإشكال.

هذا فيما إذا عيّن المالك الثاني ، فأمّا إذا أمره بأن يودع أميناً ولم يعيّن ، فادّعى الثاني التلفَ ، صُدّق باليمين.

وإن ادّعى الردَّ على المالك وأنكر المالك ، قُدّم قول المالك باليمين ؛ لأنّه يدّعي الردَّ هنا على غير مَن ائتمنه.

ويحتمل مساواته للمعيَّن ؛ لأنّ أمينَ أمينِه أمينُه ، كما يقال عند بعض الشافعيّة : وكيلُ وكيلِه وكيلُه (٤).

__________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٣٧٢ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١٢٨ ، البيان ٦ : ٤٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٠ ، روضة الطالبين ٧ : ٣٠٩.

(٢) إضافة يقتضيها السياق.

(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٥٤ / ٤١٢ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٧٢ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١٢٨ ، البيان ٦ : ٤٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٠ ، روضة الطالبين ٧ : ٣٠٩.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١٠.

٢١٥

مسألة ٦٥ : إذا أراد المستودع سفراً فأودعها أميناً ، فادّعى ذلك الأمين التلفَ ، قُبِل قوله مع اليمين.

ولو ادّعى الردَّ على المالك ، لم يُصدَّق إلاّ بالبيّنة ؛ لأنّه لم يأتمنه.

وإن ادّعى الردَّ على المستودع ، قُبِل قوله مع اليمين ؛ لأنّه ادّعى الردَّ على مَن ائتمنه إن قلنا بتقديم قول المستودع في الردّ.

ولو عاد المستودع الأوّل من سفره ، فهل له استعادتها من الثاني؟ فيه إشكال ينشأ : من أنّه المستودع بالأصالة ، ومن أنّه بري‌ء من الحفظ المأمور به.

ولا ريب في أنّ للمستودع الاستردادَ من الغاصب.

ولو كان المالك قد عيّن أميناً ، فقال للمستودع : إذا سافرتَ فاجعل الوديعةَ عند فلان ، ففَعَل ثمّ ادّعى فلان الردَّ على المالك ، صُدّق باليمين إن قدّمنا قول المستودع فيه ؛ لأنّه ادّعى [ الردَّ ] على مَن ائتمنه.

وإن ادّعى الردَّ على المستودع الأوّل ، لم يُقبل إلاّ بالبيّنة.

مسألة ٦٦ : إذا مات المالك ، وجب على المستودع ردّ الوديعة إلى ورثته ؛ لانتقال ملكها إليهم ، فإن أخَّر مع التمكّن من الردّ إليهم كان ضامناً‌ ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة (١).

ولو لم يجد الوارث ، دَفَعها إلى الحاكم ؛ لأنّه وليّ الغائب.

ولا فرق بين أن يعلم الورثة بالوديعة أو لا.

وقال بعض الشافعيّة : إنّما يجب عليه الدفع إلى الورثة أو إلى الحاكم لو لم يعلموا بالوديعة ، أمّا إذا علموا بها فلا يجب الدفع إلاّ بعد الطلب (٢).

__________________

(١) التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١٢٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٨.

٢١٦

ولا بأس به.

ولو طالبه الوارث ، فقال : رددت الوديعةَ إلى المالك ، أو تلفت في يدي حال حياته ، قُدّم قوله مع اليمين.

أمّا لو قال : رددتُها عليك ، فأنكر الوارث ، قُدّم قول الوارث مع اليمين قطعاً ؛ لأنّه ادّعى الردَّ على مَنْ لم يأتمنه.

وللشافعيّة وجهان ، هذا أحدهما ، والثاني : إنّ القول قول المستودع ؛ لأصالة براءة ذمّته (١).

مسألة ٦٧ : لو مات المستودع ، وجب على وارثه ردّ الوديعة إلى مالكها‌ ، فلو أخّر الدفع بعد التمكّن من الردّ فتلفت في يده ضمن ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة ، والثاني : لا يضمن ؛ لأنّه لم يطلب منه (٢).

ولو كان المالك غائباً ، سلّمها الوارث إلى الحاكم.

فإن اختلفا فادّعى وارث المستودع ردَّ مورّثه على المالك ، أو قال : تلفت في يده ، فالأقرب : تقديم قوله مع اليمين ؛ لأصالة براءة ذمّته ، وعدم حصولها في يده.

وللشافعيّة وجهان ، هذا أصحّهما ، والثاني : إنّه يُطالَب بالبيّنة ؛ لأنّ المالك لم يأتمنه حتى يصدّقه (٣).

وهو غلط ؛ لأنّ الضمان يترتّب على الاستيلاء ولم يثبت.

أمّا لو قال : أنا رددت عليك ، وأنكر المالك ؛ فإنّ القول قول المالك.

__________________

(١) التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٨ ، وفيها أنّ الوجهين فيما لو ادّعى المستودع تلف الوديعة في يده قبل تمكّنه من الردّ ، لا فيما إذا ادّعى الردّ على الوارث.

(٢) التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١٢٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٨.

٢١٧

ولو قال : تلفت في يدي قبل التمكّن ، احتُمل تقديمُ قوله ؛ لأنّه أمين ، وجرى مجرى الثوب تطيّره الريح إلى داره ، وتقديمُ قول المالك ؛ لقوله عليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي » (١).

ولو قال مَنْ طيَّر الريحُ الثوبَ إلى داره : رددت على المالك ، أو قال الملتقط : رددت على المالك ، لم يُصدَّقا إلاّ بالبيّنة.

مسألة ٦٨ : لو كان في يد رجلٍ مالٌ ، فادّعى رجلان الإيداع‌ ، فقال كلّ واحدٍ منهما : إنّ هذا المال لي وديعة عندك ، فإن كذّبهما معاً فالقول قوله مع اليمين ، فيحلف لكلّ واحدٍ منهما ، وتسقط دعواهما ، ويحلف لكلّ واحدٍ منهما أنّها له وملكه ، أو أنّه لا يلزمه تسليمه إليه.

ولو أقرّ به لأحدهما بعينه ، حُكم بها للمُقرّ له ، ودفع إليه ، ويحلف للآخَر ، فإذا حلف سقطت دعوى الآخَر ، وإن نكل حلف الآخَر ، وكان له إلزامه بالمثل إن كان مثليّاً ، وإلاّ فالقيمة وقت الحلف أو الإقرار؟ إشكال.

وللشافعيّة في إحلاف الآخَر قولان مبنيّان على أنّ مَنْ أقرّ بعينٍ في يده لزيدٍ ثمّ أقرّ بها لعمرو هل يغرم لعمرو أو لا؟ فإن قلنا : يغرم ، حلف ، وإن قلنا : لا يغرم ، فلا وجه لإحلافه ؛ لعدم الفائدة (٢).

وعلى القول بالإحلاف للآخَر للشافعيّة قولان في يمين المدّعي مع نكول المدّعى عليه.

أحدهما : إنّ ذلك يجري مجرى البيّنة.

والثاني : إنّه يجري مجرى الإقرار.

فخرّج أبو العباس ابن سريج من الشافعيّة في هذا الموضع ثلاثةَ أوجُه :

__________________

(١) تقدّم تخريجه في الهامش (١) من ص ١٦١.

(٢) البيان ٦ : ٤٤٧ ـ ٤٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢١ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١٠.

٢١٨

أحدها : إنّه يوقف المدّعى بينهما إلى أن يصطلحا ؛ لأنّ الإقرار للأوّل قد تقدّم ، وقد حصل هنا ما هو أقوى من الإقرار ، فاستويا.

والثاني : إنّه يُقسم بينهما ، كما لو أقرّ لهما.

والثالث ـ وهو المذهب المشهور عندهم ـ : إنّه يغرم للثاني ، كما لو اعترف له بعد الإقرار الأوّل (١) (٢).

وقال بعض الشافعيّة بعبارةٍ أُخرى : إذا أقرّ لأحدهما ، فهل للآخَر دعوى القيمة؟ يبنى على الخلاف في الغُرْم لو أقرّ للثاني ، إن قلنا : يغرم ، فنعم ، وإن قلنا : لا ، فيبنى على أنّ اليمين بعد النكول كالإقرار أو كالبيّنة؟ إن قلنا : كالإقرار ، لم يدّع القيمة ، وإن قلنا : كالبيّنة ، فله دعواها ، فإن حلف برئ ، وإن نكل حلف المدّعي وأخذها ، ولا تنزع العين من الأوّل ؛ لأنّها وإن كانت كالبيّنة فليست كالبيّنة في حقّ غير المتداعيين (٣).

وإن قال : هو لكما ، دُفع إليهما معاً ، ويكون بمنزلة مالٍ في يد شخصين يتداعيانه ، فإن حلف أحدهما قضي له بها ، ولا خصومة للآخَر مع المستودع ؛ لنكوله ، وإن نكلا جُعل بينهما ، وكذا لو حلفا ، ويكون حكم كلّ واحدٍ منهما في النصف كالحكم في الكلّ في حقّ غير المُقرّ له ، وقد تقدّم.

مسألة ٦٩ : لو قال : المال لأحدكما وقد نسيتُ عينه ، فإن قلنا : إنّ المستودع يضمن بالنسيان ، فهو ضامن.

وإن لم نضمّنه بالنسيان نُظر ، فإن صدّقاه في النسيان فلا خصومة لهما معه ، بل الخصومة بينهما ، فإن اصطلحا على شي‌ءٍ فذاك ، وإلاّ جُعل المال كأنّه في أيديهما يتداعيانه ؛ لأنّ صاحب اليد يقول : إنّ اليد لأحدهما ، وليس‌

__________________

(١) الظاهر : « للأوّل ».

(٢) البيان ٦ : ٤٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢١ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١٠.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢١.

٢١٩

أحدهما أولى من الآخَر.

ولبعض الشافعيّة وجهٌ آخَر : إنّه كمالٍ في يد ثالثٍ يتداعاه اثنان ؛ لأنّه لم يثبت لأحدهما يدٌ عليه (١).

فإن قلنا بالأوّل فإن أقام كلٌّ منهما بيّنةً أو حلفا أو نكلا فهو بينهما ، وإن أقام أحدهما البيّنةَ أو حلف ونكل صاحبه قُضي له.

وإن قلنا بالثاني لو أقام كلٌّ منهما بيّنةً ، فعلى الخلاف في تعارض البيّنتين ، وإن نكلا أو حلفا وُقف المال بينهما.

وسواء قلنا بالوجه الأوّل أو الثاني فإنّ المال يُترك في يد المدّعى عليه إلى أن تنفصل الحكومة بينهما على أحد قولَي الشافعيّة ؛ لأنّه لا بدّ من وضعه عند أمينٍ ، وهذا أمين لم تظهر منه خيانة ، والثاني : إنّه يُنزع منه ؛ لأنّ مطالبتهما بالردّ تتضمّن عزله (٢).

وهذان القولان للشافعيّة فيما إذا طلب أحدهما الانتزاعَ والآخَر التركَ ، فأمّا إن اتّفقا على أحد الأمرين فإنّ الحاكم يتبع رأيهما (٣).

ويمكن أن يكون هذا مبنيّاً على أنّه يجعل المال كأنّه في يدهما ، وإلاّ فيتبع الحاكم رأيه.

هذا إذا صدّقاه في النسيان ، وإن كذّباه فيه وادّعى كلّ واحدٍ منهما علمَه بأنّه المالك ، وقالا : إنّك تعلم لمَن الوديعة منّا ، فالقول قول المستودع مع يمينه ، ويحلف ؛ لأنّه لو أقرّ بها لأحدهما كانت له ، فإذا ادّعي عليه العلم سُمعت دعواه ، ويحلف.

__________________

(١) الوسيط ٤ : ٥١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١١.

(٢) حلية العلماء ٥ : ١٨٨ ، البيان ٦ : ٤٤٨ ـ ٤٤٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١١.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١١.

٢٢٠