تذكرة الفقهاء - ج ١٦

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ١٦

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-437-x
الصفحات: ٤١٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كتاب الأمانات وتوابعها‌

وفيه مقاصد :

الأوّل : الوديعة‌

وفيه فصول :

الأوّل : الماهيّة‌

الوديعة مشتقّة من « ودع ، يدع » إذا استقرّ وسكن ، من قولهم : « يدع كذا » أي يتركه ، والوديعة متروكة مستقرّة عند المستودع.

وقيل : إنّها مشتقّة من الدعة ، وهي الخفض والراحة ، يقال : ودع الرجل فهو وديع ووادع ، لأنّها في دعة عند المُودَع لا تتبدّل ولا تستعمل (١).

والوديعة تُطلق في العرف على المال الموضوع عند الغير ليحفظه ، والجمع : الودائع. واستودعه الوديعة ، أي : استحفظه إيّاها.

وعن الكسائي : يقال : أودعته كذا : إذا دفعت إليه الوديعة. وأودعته كذا : إذا دفع إليك الوديعة فقبلتها ، وهو من الأضداد (٢).

والمشهور في الاستعمال المعنى الأوّل.

وهي جائزة بالكتاب والسنّة والإجماع.

قال الله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) (٣)

__________________

(١) البيان ٦ : ٤٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

(٢) كما في العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٦.

(٣) النساء : ٥٨.

١٤١

وقال تعالى : ( فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ ) (١).

وما رواه العامّة عن أُبي بن كعب أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك ، ولا تَخُنْ مَنْ خانَك » (٢).

وروي أنّه عليه‌السلام كان عنده ودائع ، فلمّا أراد الهجرة أودعها عند أُمّ أيمن ، وأمر عليّاً عليه‌السلام بردّها على أهلها (٣).

ومن طريق الخاصّة : ما رواه ابن أخي الفضيل بن يسار قال : كنتُ عند الصادق عليه‌السلام ودخلَتْ امرأة وكنتُ أقربَ القوم إليها ، فقالت لي : اسأله ، فقلت : عمّا ذا؟ فقالت : إنّ أبي مات وترك مالاً كان في يد أخي فأتلفه ثمّ أفاد مالاً فأودعنيه ، فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شي‌ء؟ فأخبرتُه بذلك ، فقال : « لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنك ، ولا تخُنْ مَنْ خانَك » (٤).

وعن حسين بن مصعب قال : سمعتُ الصادقَ عليه‌السلام يقول : « ثلاثة لا عذر فيها لأحدٍ : أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر ، وبرّ الوالدين برَّيْن كانا أو فاجرَيْن ، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر » (٥).

وعن محمّد بن علي الحلبي قال : استودعني رجل من موالي‌

__________________

(١) البقرة : ٢٨٣.

(٢) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٠ / ٣٥٣٤ ، سنن الدارقطني ٣ : ٣٥ / ١٤١ ، سنن البيهقي ١٠ : ٢٧٠ ، مسند أحمد ٤ : ٤٢٣ / ١٤٩٩٨.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٣٥٥ ـ ٣٥٦ ، البيان ٦ : ٤٢٢ ، المغني ٧ : ٢٨٠ ، سنن البيهقي ٦ : ٢٨٩.

(٤) التهذيب ٦ : ٣٤٨ / ٩٨١ ، الاستبصار ٣ : ٥٢ ـ ٥٣ / ١٧٢.

(٥) التهذيب ٦ : ٣٥٠ / ٩٨٨ ، وفي الكافي ٥ : ١٣٢ / ١ بتقديمٍ وتأخير في بعض الجملات.

١٤٢

بني مروان ألف دينار فغاب فلم أدْر ما أصنع بالدنانير ، فأتيت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام فذكرت ذلك له وقلت : أنت أحقّ بها ، فقال : « لا ، لأنّ أبي كان يقول : إنّما نحن فيهم بمنزلة هدنة نؤدّي أمانتهم ونردّ ضالّتهم ونقيم الشهادة لهم وعليهم ، فإذا تفرّقت الأهواء لم يسع أحدٌ المقام » (١).

وقال الصادق عليه‌السلام : « كان أبي يقول : أربع مَنْ كُنّ فيه كمل إيمانه ، ولو كان ما بين قرنه إلى قدمه ذنوب لم ينتقصه ذلك » قال : « وهي الصدق وأداء الأمانة والحياء وحسن الخلق » (٢).

وقال الكاظم عليه‌السلام : « أهل الأرض مرحومون ما يخافون وأدّوا الأمانة وعملوا بالحقّ » (٣).

وقال الحسين الشيباني للصادق عليه‌السلام : إنّ رجلاً من مواليك يستحلّ مال بني أُميّة ودماءهم ، وإنّه وقع لهم عنده وديعة ، فقال عليه‌السلام : « أدّوا الأمانات إلى أهلها وإن كانوا مجوساً (٤) ، فإنّ ذلك لا يكون حتى يقوم قائمنا فيحلّ ويحرّم » (٥).

وقال الصادق عليه‌السلام : « اتّقوا الله وعليكم بأداء الأمانة إلى مَن ائتمنكم ، فلو أنّ قاتل عليٍّ ائتمنني على أداء الأمانة لأدّيتُها إليه » (٦).

وقد أجمع المسلمون كافّةً على جوازها ، وتواترت الأخبار بذلك.

ولأنّ الحكمة تقتضي تسويغها ، فإنّ الحاجة قد تدعو إليها لاحتياج‌

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٥٠ / ٩٨٩.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٥٠ / ٩٩٠.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٥٠ / ٩٩١.

(٤) في « خ » والكافي : « مجوسيّاً ».

(٥) الكافي ٥ : ١٣٢ ـ ١٣٣ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٥١ / ٩٩٣.

(٦) الكافي ٥ : ١٣٣ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٣٥١ / ٩٩٥.

١٤٣

الناس إلى حفظ أموالهم ، وربما تعذّر ذلك عليهم بأنفسهم إمّا لخوفٍ أو سفرٍ أو عدم حرزٍ ، فلو لم يشرع الاستيداع لزم الحرج المنفيّ بقوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١) ولأنّه نفعٌ لا ضرر فيه ، فكان مشروعاً.

مسألة ١ : إذا عرفتَ الوديعة في عرف اللغة ، فهي في عرف الفقهاء عبارة عن عقدٍ يفيد الاستنابة في الحفظ‌ ، لكن قد عرفت أنّ العرف اللغوي يقتضي أن تكون هي المال ، وكذا العرف العامّي ، والإيداع هو العقد.

وهي جائزة من الطرفين بالإجماع ، لكلٍّ منهما فسخه.

ولا بدّ فيها من إيجابٍ وقبولٍ.

فالإيجاب هو كلّ لفظٍ دالٍّ على الاستنابة بأيّ عبارةٍ كان ، ولا ينحصر في لغةٍ دون أُخرى ، ولا في عبارةٍ دون عبارةٍ ، ولا يفتقر إلى التصريح ، بل يكفي التلويح والإشارة والاستعطاء.

والقبول قد يكون بالقول ، وهو كلّ لفظٍ يدلّ على الرضا بالنيابة في الحفظ بأيّ عبارةٍ كان ، وقد يكون بالفعل.

وهل الوديعة عقد برأسه ، أو إذن مجرّد؟ الأقرب : الأوّل.

مسألة ٢ : إذا دفع الإنسان إلى غيره وديعةً وكان المدفوع إليه عاجزاً عن حفظها‌ ، لم يجز له قبولها ؛ لما فيه من إضاعة مال الغير ، وقد نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه (٢).

وإن كان قادراً لكنّه غير واثقٍ من نفسه بالأمانة ، لم يجز له القبول ؛

__________________

(١) الحجّ : ٧٨.

(٢) صحيح البخاري ٢ : ١٣٩ ، و ٩ : ١١٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٦٣ ، سنن الدارمي ٢ : ٣١١ ، مسند أحمد ٥ : ٣٠٥ و ٣١٢ / ١٧٧٢٧ و ١٧٧٦٨.

١٤٤

لما فيه من التعريض للتفريط في مال الغير ، وهو محرَّم ، وهو أحد قولَي الشافعيّة. والثاني لهم : إنّه يكره (١).

ولو كان قادراً على الحفظ واثقاً بأمانة نفسه ، استحبّ له القبول ؛ لما فيه من المعاونة على البرّ وقضاء حوائج الإخوان.

ولو لم يكن هناك غيره ، فالأقوى : إنّه يجب عليه القبول ؛ لأنّه من المصالح العامّة. وبالجملة ، فالقبول واجب على الكفاية.

ولو تضمّن القبول ضرراً في نفسه أو ماله أو خاف على بعض المؤمنين أو تضمّن إتلاف منفعة نفسه أو حرزه في الحفظ من غير عوضٍ ، لم يجب القبول.

مسألة ٣ : الألفاظ المتداولة بين الناس من الإيجاب الذي يتضمّنه عقد الوديعة : استودعتك هذا المال‌ ، أو : أودعتك ، أو : استحفظتك ، أو : أنبتك في حفظه ، أو : استنبتك فيه ، أو : احفظه ، أو : هو وديعة عندك ، وما في معناه من الصيغ الصادرة من جهة المودِع ، الدالّة على الاستحفاظ.

ولا يعتبر القبول لفظاً كما تقدّم (٢) ، بل يكفي القبض [ بكيفيّته ] (٣) في العقار والمنقول ، وهو قول بعض الشافعيّة (٤).

وقال بعضهم : لا يكفي القبض ، بل لا بدّ من لفظٍ دالٍّ على القبول (٥).

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

(٢) في ص ١٤٤ ، ذيل المسألة ١.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « يكفيه ». والمثبت هو الصحيح.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

(٥) التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

١٤٥

وقال بعضهم : إن كان المودِع قد قال : أودعتُك ، وشبهه ممّا هو على صيغ العقود ، وجب القبول لفظاً ، وإن قال : احفظه ، أو : هو وديعة عندك ، لم يفتقر إلى لفظٍ يدلّ على القبول ، كما تقدّم في الوكالة (١).

مسألة ٤ : لا بدّ من التنجيز‌ ، فلو قال : إذا جاء رأس الشهر فقد أودعتك مالي معه (٢) ، لم يصح الإيداع ـ وهو قول بعض الشافعيّة (٣) ـ لأصالة العدم.

وقال بعضهم : يصحّ (٤).

وقال آخَرون منهم : القياس تخريجه على الخلاف في تعليق الوكالة (٥).

وقيل : الإيداع عبارة عن الاستنابة في الحفظ ، وهو توكيلٌ خاصٌّ ، و [ الوكيل والموكّل ] يُسمَّيان في هذا التوكيل المُودِع والمُودَع (٦).

ولو جاء بماله ووضعه بين يدي غيره ولم يتلفّظ بشي‌ءٍ لم يحصل الإيداع ، فإن قبضه الموضوع عنده ضمنه.

وكذا لو كان قد قال من قبلُ : إنّي أُريد أن أُودعك ، ثمّ جاء بالمال.

ولو قال : هذه وديعتي عندك فاحفظه ، ووضعه بين يديه ، فإن أخذه الموضوع عنده تمّت الوديعة ؛ لأنّا لا نعتبر القبول اللفظي ، وإن لم يأخذه فإن لم يتلفّظ بشي‌ءٍ لم يكن وديعةً ، حتى لو ذهب وتركه فلا ضمان عليه ، لكن يأثم إن كان ذهابه بعد ما غاب المالك.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

(٢) في النسخ الخطّيّة : « بعدُ » بدل « معه ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

١٤٦

وإن قال : قبلت ، أو : ضَعْ ، فوضعه ، كان إيداعاً ، كما لو أخذه بيده ، وبه قال بعض الشافعيّة (١).

وقال بعضهم : لا يكون إيداعاً ما لم يقبض (٢).

وقال آخَرون بالتفصيل ، فإن كان الموضع في يده ، فقال : ضَعْه ، دخل المال في يده ؛ لحصوله في الموضع الذي هو في يده. وإن لم يكن كما لو قال : انظر إلى متاعي في دكّاني ، فقال : نعم ، لم يكن وديعةً (٣).

وعلى ما اخترناه من أنّه وديعة مطلقاً لو ذهب الموضوع عنده وتركه ، فإن كان المالك حاضراً بَعْدُ فهو ردٌّ للوديعة ، وإن غاب المالك ضمنه.

مسألة ٥ : قد ذكرنا أنّ الوديعة من العقود الجائزة من الطرفين لكلٍّ منهما فسخها إجماعاً‌ ، وقد تقدّم (٤) أنّه توكيلٌ خاصّ ، والوكالة جائزة من الطرفين ، فإذا أراد المالك الاستردادَ لم يكن للمُستودِع المنعُ ، ووجب عليه الدفع ، ولو أراد المستودع الردَّ لم يكن للمودِع أن يمتنع من القبول ؛ لأنّه متبرّع بالحفظ.

ولو عزل المستودع نفسه ، ارتفعت الوديعة ، وبقي المال أمانةً مطلقة شرعيّة في يده ، كالثوب الطائر بالهواء إلى داره ، وكاللقطة في يد الملتقط بعد ما عرف المالك ، وهو أحد قولَي الشافعيّة. والثاني : إنّ العزل لغو.

والأصل في هذا الخلاف مبنيّ على أنّ الوديعة مجرّد إذنٍ ، أم عقد؟

إن قلنا : إنّها مجرّد إذنٍ ، فالعزل لغو ، كما لو أذن في تناول طعامه للضيفان ،

__________________

(١) التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٧.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٧.

(٤) في ص ١٤٦ ، ضمن المسألة ٤.

١٤٧

فقال بعضهم : عزلت نفسي ، يلغو قوله ، ويكون له الأكل بالإذن السابق ، فعلى هذا تبقى الوديعة بحالها. وإن قلنا : إنّها عقد ، ارتفعت الوديعة ، وبقي المال أمانةً مجرّدة ، وعليه الردّ عند التمكّن وإن لم يطالب المالك ـ وهو أظهر وجهي الشافعيّة ـ ولو لم يفعل ضمن (١).

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩١ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٩.

١٤٨

الفصل الثاني : في المتعاقدين‌

مسألة ٦ : يشترط في المستودع والمُودِع التكليف‌ ، فلا يصحّ الإيداع إلاّ من مكلّفٍ ، فلو أودع الصبي أو المجنون غيرَه شيئاً ، لم يجز له قبوله منهما ، فإن قَبِله وأخذه من أحدهما ضمن.

ولا يزول الضمان إلاّ بالردّ إلى الناظر في أمرهما ، ولو ردّه إليهما لم يبرأ من الضمان ؛ لأنّهما محجور عليهما.

ولو خاف هلاكه فأخذه منهما إرفاقاً لهما ونظراً في مصلحتهما على وجه الحسبة صوناً له ، فالأقرب : عدم الضمان ؛ لأنّه محسن إليهما ، وقد قال تعالى : ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (١) وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني : إنّه [ ضامن ] (٢) كالوجهين ـ عندهم ـ فيما إذا أخذ المُحْرم صيداً من جارحةٍ [ ليتعهّده ] (٣). والظاهر عندهم : عدم الضمان (٤).

مسألة ٧ : كما أنّ التكليف شرط في المودِع كذا هو شرط في المستودع‌ ، فلا يصحّ الإيداع إلاّ عند مكلّفٍ ؛ لأنّه استحفاظ ، والصبي‌

__________________

(١) التوبة : ٩١.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لا ضمان عليه ». والمثبت يقتضيه السياق.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ليتعهّدها ». والمثبت هو الصحيح.

(٤) الحاوي الكبير ٨ : ٣٨٤ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٦٦ ، الوجيز ١ : ٢٨٤ ، حلية العلماء ٥ : ١٦٧ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١١٦ ، البيان ٦ : ٤٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٧.

١٤٩

والمجنون ليسا من أهل الحفظ ، فلو أودع مالاً عند صبيٍّ أو مجنونٍ فتلف فلا ضمان عليهما ؛ إذ ليس على أحدهما حفظه ، فأشبه ما لو تركه عند بالغٍ من غير استحفاظٍ فتلف.

ولو أتلفه الصبي أو المجنون ، فالأقرب عندي : إنّ عليهما الضمان ؛ لأنّهما أتلفا مال الغير بالأكل أو غيره فضمناه ، كغير الوديعة ، وبه قال أحمد والشافعي في أظهر القولين.

والثاني : إنّهما لا يضمنان ؛ لأنّ المالك سلّطهما عليه ، فصار كما لو أقرضه أو باعه منه وأقبضه فأتلفه ، لم يكن عليه ضمان ، ألا ترى أنّه لو دفع إلى صغيرٍ سكّيناً فوقع عليها فتلف ، كان ضمانه على عاقلة الدافع ، وبه قال أبو حنيفة (١).

وهو ممنوع ؛ للفرق بين الإيداع ، والبيع والإقراض ؛ لأنّ ذلك تمليك وتسليط على التصرّف ، والإيداع تسليط على الحفظ دون الإتلاف والتصرّف ، ويخالف دفع السكّين ؛ لأنّه سبب في الإتلاف ، ودفع الوديعة ليس سبباً في إتلافها.

ولو أودع ماله عند عبدٍ ، فإن تلف عنده من غير تفريطٍ فلا ضمان عليه ، وإن تلف بتفريطه أو أتلفه ضمن ، وكان المال متعلّقاً بذمّته لا برقبته ، كما لو أتلف ابتداءً.

ولا فرق بين أن يأذن له سيّده في الاستيداع أو يمنعه ، ويتبع ذلك‌

__________________

(١) المغني ٧ : ٢٩٦ ، الشرح الكبير ٧ : ٣١٢ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٦٦ ، الوجيز ١ : ٢٨٤ ، حلية العلماء ٥ : ١٦٧ ـ ١٦٨ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١١٦ ، البيان ٦ : ٤٢٤ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٩ ـ ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٧ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ١١ : ١١٨ ، طريقة الخلاف بين الأسلاف : ٣٠٣.

١٥٠

بعد العتق ، فإن مات عبداً سقط المال ، ولم يتعلّق بالسيّد شي‌ء منه وإن أذن له ؛ لأنّه إنّما أذن له في الاحتفاظ لا في الإتلاف.

وللشافعيّة قولان :

أحدهما : إنّ الضمان يتعلّق برقبته ، كما لو أتلف ابتداءً (١).

والأصل عندنا ممنوع.

والثاني : إنّه يتعلّق بذمّته دون رقبته ـ كما قلناه ـ كما لو باع منه ، فيه الخلاف المذكور في الصبي (٢).

وإيداع السفيه والإيداع عنده كإيداع الصبي والإيداع عنده.

مسألة ٨ : ولا بُدّ في المتعاقدين من جواز التصرّف‌ ، فلا يصحّ من المحجور عليه للسفه وللفلس الإيداع والاستيداع ، على إشكالٍ في استيداع المفلس ، والأقرب عندي : جوازه.

ولو جنّ المودِع أو المستودِع أو مات أحدهما أو أُغمي عليه ، ارتفعت الوديعة ؛ لأنّها إن كانت مجرّدَ إذنٍ في الحفظ فالمودِع بعرضة التغيّر ، وهذه الأحوال تُبطل إذنه ، والمستودع يخرج عن أهليّة الحفظ ، وإن كانت عقداً فقد سبق (٣) أنّها توكيلٌ خاصّ ، والوكالة جائزة فلا تبقى بعد هذه العوارض.

ولو حُجر على المُودِع لسفهٍ ، كان على المُودَع ردّ الوديعة إلى وليّه وهو الحاكم ؛ لأنّ إذنه في الإيداع بطل بذلك ، والناظر عليه الحاكم ، فوجب دفعها إليه.

مسألة ٩ : إن قلنا : إنّ الوديعة عقدٌ برأسه ، لم يضمنه الصبي‌ ،

__________________

(١ و ٢) الوجيز ١ : ٢٨٤ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١١٦ ، البيان ٦ : ٤٢٤ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٨.

(٣) في ص ١٤٦ ، ضمن المسألة ٤.

١٥١

ولم يتعلّق برقبة العبد ، وهو قول بعض الشافعيّة (١).

وإن قلنا : إنّها إذن مجرّد ، ضمنه الصبي ، وتعلّق برقبة العبد ، وهو قول باقي الشافعيّة (٢).

لكنّا بيّنّا أنّ الحقَّ الأوّلُ ، وأنّ الصبي لا يضمن إلاّ بالإتلاف على إشكالٍ ، وأمّا العبد فإنّ الوديعة مع التفريط تتعلّق بذمّته.

إذا عرفت هذا ، فولد الجارية المُودَعة ونتاج الدابّة المُودَعة وديعة كالأُمّ.

وقال الشافعيّة : إن جعلنا الوديعة عقداً فالولد كالأُمّ يكون وديعةً ، وإلاّ لم يكن وديعةً ، بل أمانة شرعيّة مردودة في الحال ، حتى لو لم يردّ مع التمكّن ضمن على أظهر الوجهين عندهم (٣).

وقال بعض الشافعيّة : إن جعلنا الوديعة عقداً ، لم يكن الولد وديعةً ، بل أمانة ؛ اعتباراً بعقد الرهن والإجارة ، وإلاّ فيتعدّى حكم الأُمّ إلى الولد كما في الوصيّة (٤) ، أو لا يتعدّى كما في العارية؟ للشافعيّة وجهان (٥).

وعلى الأصل المذكور خرّج بعضُ الشافعيّة اعتبارَ القبول لفظاً ، إن جعلناها عقداً اعتبرناها ، وإلاّ اكتفينا بالفعل (٦).

والموافق لإطلاق العامّة كون الوديعة عقداً ، وذكروها من العقود الجائزة (٧).

__________________

(١ ـ ٣) التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٨.

(٤) في المصدر : « الضحيّة » بدل « الوصيّة ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٨.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٠.

(٧) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٨.

١٥٢

الفصل الثالث : في موجبات الضمان‌

اعلم أنّ الوديعة تستتبع أمرين : الضمان عند التلف ، والردّ عند البقاء ، لكنّ الضمان لا يجب على الإطلاق ، بل إنّما يجب عند وجود أحد أسبابه ، وينظمها شي‌ء واحد هو : التقصير ، ولو انتفى التقصير فلا ضمان ؛ لأنّ الأصل في الوديعة أنّها أمانة محضة لا تُضمن بدون التعدّي أو التفريط ؛ لما رواه العامّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « ليس على المستودع ضمان » (١).

وقال عليه‌السلام : « مَنْ أُودع وديعة فلا ضمان عليه » (٢)

ومن طريق الخاصّة : ما رواه إسحاق بن عمّار أنّه سأل الكاظمَ عليه‌السلام عن رجلٍ استودع رجلاً ألف درهم فضاعت ، فقال الرجل : كانت عندي وديعة ، وقال الآخَر : إنّما كانت عليك قرضاً ، قال : « المال لازم له إلاّ أن يقيم البيّنة أنّها كانت وديعة » (٣) والاستثناء يقتضي التناقض بين المستثنى والمستثنى منه ، ولمّا حكم في الأوّل بالضمان ثبت في الاستثناء عدمه.

وعن زرارة ـ في الحسن ـ أنّه سأل الصادقَ عليه‌السلام عن وديعة الذهب والفضّة ، قال : فقال : « كلّما كان من وديعةٍ ولم تكن مضمونةً فلا تلزم » (٤).

وفي الحسن عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : « صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان » (٥).

__________________

(١) سنن البيهقي ٦ : ٩١ ، سنن الدارقطني ٣ : ٤١ / ١٦٨ ، المغني ٧ : ٢٨١.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٢ / ٢٤٠١.

(٣) الكافي ٥ : ٢٣٩ / ٨ ، التهذيب ٧ : ١٧٩ / ٧٨٨.

(٤) الكافي ٥ : ٢٣٩ / ٧ ، التهذيب ٧ : ١٧٩ / ٧٨٩.

(٥) الكافي ٥ : ٢٣٨ / ١ ، التهذيب ٧ : ١٧٩ / ٧٩٠.

١٥٣

ولأنّ الله تعالى سمّاها أمانةً (١) ، والضمان ينافي الأمانة.

وهذا الحكم منقول عن عليٍّ عليه‌السلام وعن أبي بكر وعمر وابن مسعود وجابر (٢) ، ولم يظهر لهم مخالف ، فكان إجماعاً.

لا يقال : قد روي أنّه كان عند أنس وديعة فذهبت فرفع إلى عمر ، فقال : هل ذهب معها شي‌ء من مالك؟ قال : لا ، قال : اغرمها (٣).

لأنّا نقول : قول عمر ليس حجّةً ، وربما قال ذلك عند تفريط المستودع في حفظها.

ولأنّ المستودع إنّما يحفظها لصاحبها متبرّعاً بذلك ، فلو ألزمناه الضمان أدّى إلى الامتناع عن قبولها ، وفي ذلك ضرر عظيم ؛ لما بيّنّاه من الحاجة إليها ، ولأنّ يد المستودع يد المالك.

وإذا عرفت أنّ السبب الجامع لموجبات الضمان هو التقصير ، فلا بُدّ من الإشارة إلى ما به يصير المستودع مقصّراً ، وهي سبعة تنظمها مباحث نذكر لكلّ سببٍ بحثاً.

البحث الأوّل : في الانتفاع.

مسألة ١٠ : من الأسباب الموجبة للضمان الانتفاعُ بالوديعة‌ ، فلو استودع ثوباً فلبسه ، أو دابّةً فركبها ، أو جاريةً فاستخدمها ، أو كتاباً فنظر فيه‌

__________________

(١) النساء : ٨٥.

(٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٦٦ ، البيان ٦ : ٤٢٥ ـ ٤٢٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٢ ، المغني ٧ : ٢٨٠ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٨٢ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٥١ ـ ٢٥٢ / ٤٠٥.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٣٥٦ ، وفي المصنّف ـ لعبد الرزّاق ـ ٨ : ١٨٢ / ١٤٧٩٩ ، وسنن البيهقي ٦ : ٢٨٩ و ٢٩٠ باختصارٍ.

١٥٤

أو نسخ منه ، أو خاتماً فوضعه في إصبعه للتزيّن به لا للحفظ ، فكلّ ذلك وما أشبهه خيانة توجب التضمين عند فقهاء الإسلام لا نعلم فيه خلافاً.

هذا إذا انتفى السبب المبيح للاستعمال ، أمّا إذا وُجد السبب المبيح للاستعمال لم يجب الضمان ، وذلك بأن يلبس الثوب الصوف ـ الذي يفسده الدود ـ للحفظ ، فإنّ مثل هذه الثياب يجب على المستودع نشرها وتعريضها للريح ، بل يجب لُبْسها إن لم يندفع إلاّ بأن يلبسها وتعبق (١) بها رائحة الآدمي.

ولو لم يفعل ففسدت ، كان عليه الضمان ، سواء أذن المالك أو سكت ؛ لأنّ الحفظ واجب عليه ، ولا يتمّ الحفظ إلاّ بالاستعمال ، فيكون الاستعمال واجباً ؛ لأنّ ما لا يتمّ الواجب المطلق إلاّ به وكان مقدوراً للمكلّف فإنّه يكون واجباً.

أمّا لو نهاه المالك عن الاستعمال للحفظ فامتنع حتى فسدت ، لم يكن ضامناً ، وهو أظهر قولَي الشافعيّة (٢).

ولهم قولٌ آخَر : إنّه يكون ضامناً (٣).

والمعتمد : الأوّل.

وهل يكون قد فَعَل حراماً؟ إشكال ، أقربه ذلك ؛ لأنّ إضاعة المال منهيّ عنها (٤).

وعند الشافعيّة يكره (٥).

ولو كان الثوب في صندوقٍ مقفلٍ ففتح القفل ليخرجه وينشره ،

__________________

(١) أي : تبقى. لسان العرب ١٠ : ٢٣٤ « عبق ».

(٢ و ٣ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ١٤٤ ، الهامش (٢).

١٥٥

فالوجه : إنّه لا يضمن ؛ لأنّه لم يقصد إلاّ الحفظ المأمور به ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة (١).

ولهم وجهٌ آخَر : إنّه يضمن (٢).

هذا إذا علم المستودع ، أمّا لو لم يعلم بأن كان في صندوقٍ أو كيسٍ مشدود ولم يُعْلمه المالك به ، فلا ضمان على المستودع إجماعاً.

مسألة ١١ : قد بيّنّا أنّ ركوب الدابّة خيانة لا مطلقاً‌ ، ولكن مع عدم احتياج الحفظ إليه ، فلو احتاج حفظ الدابّة المودَعة إلى أن يركبها المستودع إمّا أن يخرج بها إلى السقي أو الرعي وكانت لا تنقاد إلاّ بالركوب ، فلا ضمان ؛ لعدم التعدّي والتفريط حينئذٍ.

ولو كانت الدابّة تنقاد بغير ركوبٍ فركب ضمن ، إلاّ مع عجزه عن سقيها أو رعيها بدون ركوبها فإنّه يجوز ، ولا ضمان.

مسألة ١٢ : لو أخذ المستودع الدراهم المودَعة عنده ليصرفها إلى حاجته‌ ، أو أخذ الثوب ليلبسه ، أو أخرج الدابّة من مكانها ليركبها ثمّ لم يستعمل ، ضمن ـ وبه قال الشافعي (٣) ـ لأنّ الإخراج على هذا القصد خيانة.

وقال أبو حنيفة : لا يضمن حتى يستعمل (٤).

ولو نوى الأخذ ولم يأخذ أو نوى الاستعمال ولم يستعمل ، ففي‌

__________________

(١ و ٢) التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٣) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٦٨ ، البيان ٦ : ٤٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧ ، المغني ٧ : ٢٩١ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٢٠ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢١٣.

(٤) بدائع الصنائع ٦ : ٢١٣ ، البيان ٦ : ٤٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، المغني ٧ : ٢٩١ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٢٠.

١٥٦

الضمان إشكال ينشأ : من أنّه لم يُحدث في الوديعة قولاً ولا فعلاً ، فلم يضمن ، كما لو لم يَنْو ، وهو قول أكثر الشافعيّة (١) ، ومن أنّه ممسك لها بحكم نيّته ، كما أنّ الملتقط إذا نوى إمساك اللقطة لصاحبها ، كانت أمانةً ، وإن نوى الإمساك لنفسه ، كانت مضمونةً ، وهو قول ابن سريج من الشافعيّة (٢).

وفرّق المذكورون بين الوديعة واللقطة بأنّه في الوديعة لم يُحدث فعلاً مع قصد الخيانة ، وفي اللقطة أحدث الأخذ مع قصد الخيانة ، ولأنّ سبب أمانته في اللقطة مجرّد نيّته ، فضمن بمجرّد النيّة ، بخلاف الوديعة (٣).

فروع :

أ ـ لو أخذ الوديعة على قصد الخيانة ، فالأقوى : الضمان‌ ؛ لأنّه (٤) لم يقبضها على سبيل الأمانة ، بل على سبيل الخيانة.

وللشافعيّة وجهان (٥).

ب ـ قياس ابن سريج في الضمان إذا نوى المستودع الأخذَ والتصرّفَ ولم يفعل على ما إذا أخذ الوديعة من مالكها على قصد الخيانة (٦) (٧) غير تامٍّ.

__________________

(١ و ٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٦٩ ، البيان ٦ : ٤٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٣) الوجيز ١ : ٢٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لأنّها ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤.

(٦) في النسخ الخطّيّة والحجريّة زيادة : « في الضمان ». وهي متكرّرة.

(٧) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤.

١٥٧

أمّا أوّلاً : فلأنّ جماعةً من الشافعيّة (١) لم يوافقوه على هذا الأصل.

وأمّا ثانياً : فللفرق ، وهو أنّ الأخذ فعلٌ أحدثه مع قصد الخيانة.

ج ـ لو نوى أن لا يردّ الوديعة بعد طلب المالك ، ففي الضمان للشافعيّة الوجهان‌ (٢).

وعندي فيه التردّد السابق مع أولويّة عدم الضمان هنا إذا لم يطلب المالك ، وثبوته إذا طلب.

وبعض الشافعيّة قال : إذا نوى الأخذ ولم يأخذ لم يضمن ، وإذا نوى عدم الردّ ضمن قطعاً ؛ لأنّه إذا نوى أن لا يردّ صار ممسكاً لنفسه ، وبنيّة الأخذ لا يصير ممسكاً لنفسه (٣).

مسألة ١٣ : لو كان الثوب المودَع في صندوق مالك الوديعة فرفع المستودع رأسه ليأخذ الثوب‌

ويتصرّف فيه ثمّ بدا له ، فلا يخلو الصندوق إمّا أن يكون مفتوحاً لا قفل عليه ولا ختم له ، أو يكون عليه شي‌ء من ذلك ، فإن كان لا ختم عليه ولا قفل ، فالأقرب : عدم الضمان ؛ لأنّه لم يُحدث في الثوب فعلاً ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني لهم : إنّه يضمن (٤).

وإن كان الصندوق مقفلاً أو الكيس مختوماً ففتح القفلَ وفضّ الختمَ ولم يأخذ ما فيه ، فالأقوى : الضمان لما فيه من الثياب والدراهم ـ وهو‌ أصحّ وجهي الشافعيّة (١) ـ لأنّه هتك الحرز.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٤) التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

١٥٨

والثاني للشافعيّة : إنّه لا يضمن ما في الصندوق والكيس ، بل يضمن الختم الذي تصرّف فيه ، وبه قال أبو حنيفة (٢).

وعلى الوجه الأوّل فهل يضمن الصندوق والكيس؟ الأقرب : العدم ؛ لأنّه لم يقصد الخيانة في الظرف.

وللشافعيّة وجهان (٣).

ولو خرق الكيس فإن كان الخرق تحت موضع الختم فهو كفضّ الختم ، وإن كان فوقه لم يضمن إلاّ نقصان الخرق.

فروع :

أ ـ لو أودعه شيئاً مدفوناً فنبشه ، فهو بمنزلة فضّ الختم‌ ، إن قلنا : يضمن هناك ، ضمن هنا ، وإلاّ فلا.

ب ـ لو حلّ الخيط الذي شدّ به رأس الكيس أو رِزْمة الثياب (٤) لم يضمن ما في الكيس والرِّزْمة‌ وإن فَعَل ذلك للأخذ ، بخلاف فضّ الختم وفتح القفل ؛ لأنّ القصد منه المنع من الانتشار ، ولم يقصد به الكتمان عنه.

ج ـ لو كان عنده دراهم وديعة أو ثياب فوزن الدراهم أو عدّها أو عدّ الثياب أو ذرعها ليعرف طولها وعرضها ، ففي الضمان إشكال‌ ينشأ : من أنّه تصرّف في الوديعة ، ومن أنّه لم يقصد الخيانة.

وللشافعيّة وجهان (٥) ، وكذا الوجهان فيما لو حلّ الشدّ (٦).

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٤) الرِّزمة من الثياب : ما شدّ في ثوبٍ واحد. لسان العرب ١٢ : ٢٣٩ « رزم ».

(٥) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

١٥٩

مسألة ١٤ : إذا صارت الوديعة مضمونةً على المستودع‌ إمّا بنقل الوديعة أو إخراجها من الحرز أو باستعمالها كركوب الدابّة ولُبْس الثوب أو بغيرها من أسباب الضمان ثمّ إنّه ترك الخيانة وردّ الوديعة إلى مكانها وخلع الثوب ، لم يبرأ بذلك عند علمائنا أجمع ، ولم يزل عنه الضمان ، ولم تَعُدْ أمانته ـ وبه قال الشافعي (١) ـ لأنّه ضمن الوديعة بعدوان ، فوجب أن يبطل الاستئمان ، كما لو جحد الوديعة ثمّ أقرّ بها.

وقال أبو حنيفة : يزول عنه الضمان ؛ لأنّه إذا ردّها فهو ماسك لها بأمر صاحبها ، فلم يكن عليه ضمانها ، كما لو لم يخرجها (٢).

والفرق ظاهر ؛ فإنّه إذا لم يخرجها لم يضمنها بعدوان ، بخلاف صورة النزاع.

ثمّ يُنقض على أبي حنيفة بما سلّمه من أنّه إذا جحد الوديعة وضمنها بالجحود ثمّ أقرّ بها ، فإنّه لا يبرأ ، وبالقياس على السارق ، فإنّه لو ردّ المسروق إلى موضعه ، لم يبرأ (٣) ، فكذا هنا.

فروع :

أ ـ لو ردّ الوديعة ـ بعد أن تعلّق ضمانها به إمّا بالإخراج من الحرز أو بالتصرّف أو بغيرهما من الأسباب‌ ـ إلى المالك وأعادها عليه ثمّ إنّ المالك‌

__________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٣ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٨ ، المغني ٧ : ٢٩٦ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٥ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢١٦.

(٢) الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢١٦ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٣ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، المغني ٧ : ٢٩٦ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥.

١٦٠