تذكرة الفقهاء - ج ١٦

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ١٦

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-437-x
الصفحات: ٤١٨

حُكم للحالف به من غير يمينٍ أُخرى.

ولو حلف الثاني على النصف بعد أن حلف الأوّل على الجميع والتماس الحاكم من الثاني الحلف على الجميع أيضاً ، احتُمل عدمُ الاعتداد بهذه اليمين ؛ حيث إنّه حلف على ما لم يحلّفه الحاكم عليه. والاعتدادُ ؛ حيث إنّ طلب الحلف على الجميع يستلزم طلب الحلف على أبعاضه ، فإن قلنا : يُعتدّ بها ، كان النصف بينهما ، مع احتمال أنّه للثاني خاصّةً.

وإن التمس الحاكم من الثاني الحلفَ على الجميع ، فقال : أنا لا أحلف إلاّ على النصف ، كان في الحقيقة مدّعياً للنصف.

تذنيب : كلّ مَنْ قُضي له بالحائط إمّا بالبيّنة أو باليمين أو بشاهد الحال فإنّه يُحكم له بالأساس الذي تحته.

مسألة ١٠٩٦ : إذا لم يكن الحائط متّصلاً ببناء أحدهما أو كان متّصلاً بهما معاً وكان لأحدهما عليه بناء‌ كحائطٍ مبنيّ عليه ويعتمد عليه وتداعياه ، حُكم به لصاحب البناء ـ وبه قال الشافعي (١) ـ لأنّ وضع البناء عليه بمنزلة اليد الثابتة عليه ، وهو نوعٌ من التصرّف فيه ، فأشبه الحمل على الدابّة والزرع في الأرض ، ولأنّ الظاهر أنّ الإنسان لا يُمكِّن غيرَه من البناء على حائطه ، وكذا لو كانت له سترة على الحائط ؛ قضاءً للتصرّف الدالّ بالظاهر على الملك.

مسألة ١٠٩٧ : لو كان لأحدهما على هذا الجدار المحلول عنهما أو المتّصل بهما جذوعٌ دون صاحبه‌ ، قال الشيخ رحمه‌الله في الخلاف : لا يُحكم بالحائط لصاحب الجذوع ؛ لأنّه لا دلالة عليه (٢) ، وبه قال الشافعي (٣) ، ولأنّ‌

__________________

(١) المغني ٥ : ٤٣ ، الشرح الكبير ١٢ : ١٦٨.

(٢) الخلاف ٣ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، المسألة ٤ من كتاب الصلح.

(٣) الأُمّ ٣ : ٢٢٥ ، مختصر المزني : ١٠٦ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٨٩ ، المهذّب

١٠١

العادة السماح بذلك للجار ، وقد ورد النهي عن المنع منه (١).

وعند مالك (٢) وأحمد أنّه حقٌّ على مالك الجدار ، ويجب التمكين منه ، فلم تترجّح به الدعوى كإسناد متاعه إليه وتجصيصه وتزويقه (٣).

والوجه عندي : الحكم به لصاحب الجذوع ـ وبه قال أبو حنيفة (٤) ـ لما تقدّم من دلالة الاختصاص بالتصرّف على الاختصاص بالملكيّة ، ولأنّهما لو تنازعا في العرصة والجدار لأحدهما ، حُكم بها لصاحبه.

والنهي لو ثبت صحّته عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكان محمولاً على الكراهة ؛

__________________

ـ للشيرازي ـ ٢ : ٣١٧ ، الوسيط ٤ : ٦٤ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦ ، و ٨ : ٢١٠ ، البيان ١٣ : ١٩٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٨ ، مختصر الخلافيّات ٣ : ٢١٥ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٥٩٧ / ١٠٠٤ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ١ : ٣١٨ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٥٣ / ١١٦٦ ، المغني ٥ : ٤٣ ، الشرح الكبير ١٢ : ١٦٨.

(١) صحيح البخاري ٣ : ١٧٣ ، صحيح مسلم ٣ : ١٢٣٠ / ١٣٦ ، الموطّأ ٢ : ٧٤٥ / ٣٢ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٣١٤ ـ ٣١٥ / ٣٦٣٤ ، سنن الترمذي ٣ : ٦٣٥ / ١٣٥٣ ، سنن البيهقي ٦ : ٦٨ ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ١٤ : ٢٢٢ / ١٨١٥٧ ، مسند أحمد ٣ : ١٠٧ / ٨٩٠٠.

(٢) في المصادر التي تأتي الإشارة إليها ذيلاً : إنّ رأي مالك هو أنّه تترجّح الدعوى بوضع الجذوع ويُحكم بالجدار لصاحب الجذوع ، راجع : الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٥٩٧ / ١٠٠٤ ، وعيون المجالس ٤ : ١٦٥٢ ـ ١٦٥٣ / ١١٦٦ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢١ ، والإفصاح عن معاني الصحاح ١ : ٣١٨ ، والمغني ٥ : ٤٣ ، والشرح الكبير ١٢ : ١٦٨.

(٣) المغني ٥ : ٤٣ ، الشرح الكبير ١٢ : ١٦٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢١ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ١ : ٣١٨.

(٤) الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ١٧٤ ، تحفة الفقهاء ٣ : ١٩٠ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٨٩ ، الوسيط ٤ : ٦٤ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ١ : ٣١٨ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٥٢ ـ ١٦٥٣ / ١١٦٦ ، مختصر الخلافيّات ٣ : ٢١٥ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٥٩٧ / ١٠٠٤ ، حلية العلماء ٨ : ٢١٠.

١٠٢

لأصالة البراءة ، على أنّ النهي عن المنع منه لا يمنع كونه دليلاً على الاستحقاق ؛ لأنّا نستدلّ بوضعه على كون الوضع مستحقّاً على الدوام حتى لو زالت جازت إعادتها.

ولأنّ كونه مستحقّاً مشروطٌ له الحاجة إلى وضعه ، ففيما لا حاجة إليه له منعه من وضعه ، وأكثر الناس لا يتسامحون به ، ولهذا لمّا روى أبو هريرة الحديثَ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طأطئوا رءوسهم كراهةً لذلك ، فقال : مالي أراكم عنها معرضين ، والله لأرمينّ بها بين أكتافكم (١) ، وأكثر العلماء منعوا من التمكّن من هذا (٢).

ولأنّ الأزج يرجّح به فكذا هذا ؛ لجامع الاشتراك في التصرّف.

ولأنّهما لو تنازعا في الحائط وثبت بالبيّنة لأحدهما ، حُكم بالأساس [ له ] (٣) ؛ لأنّه صار صاحب يدٍ فيه ، فإذا [ اقتضى ] (٤) الجدار على الأساس الترجيحَ في الأساس ، وجب أن [ تقتضي ] ٥ الجذوع على الجدار الترجيحَ في الجدار.

تذنيب : لا فرق بين الجذع الواحد في ذلك وما زاد عليه‌ عند عامّة أهل العلم في الدلالة على الاختصاص والمنع منها.

ورجّح مالك بالجذع الواحد (٦) ، كقولنا.

وفرّق أبو حنيفة بين الجذع الواحد والجذعين فما زاد ، فرجّح بما زاد على الواحد ؛ لأنّ الحائط يبنى لوضع الجذوع عليه ، فرجّح به الدعوى ،

__________________

(١) راجع الهامش (١) من ص ١٠٢.

(٢) راجع المغني ٥ : ٤٤ ، والشرح الكبير ١٢ : ١٦٩.

(٣) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٤ و ٥) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « قضى ... يقضي ».

(٦) حلية العلماء ٥ : ٢٦ ، البيان ١٣ : ١٩٣ ، وراجع أيضاً الهامش (٢) من ص ١٠٢.

١٠٣

كبناء الأزج ، بخلاف الجذع الواحد ؛ لأنّ الحائط لا يبنى له في العادة (١).

وهو ممنوع ؛ لأنّ الوضع يتبع الحاجة ، وقد تدعو إلى وضع الواحد ، وإنّما استدللنا باختصاص التصرّف ، وهو ثابت في الواحد كثبوته في الأزيد.

مسألة ١٠٩٨ : ولا يُحكم بالحائط المحلول عنهما أو المتّصل بهما [ بالخوارج ] (٢) وهي الصُّور والكتابات المتّخذة في ظاهر الجدار بلَبِناتٍ تخرج أو بجصٍّ أو آجرٍ أو خشبٍ ، ولا بالدواخل ، وهي الطاقات والمحاريب في باطن الجدار ، ولا بأنصاف اللَّبِن ، وذلك لأنّ الجدار من لَبِنات مقطعة ، فتُجعل الأطراف الصحاح إلى جانبٍ ، ومواضع الكسر إلى جانبٍ ، أو أنصاف اللَّبِن من أحد الجانبين ومن الآخَر الشكيك (٣) والمدر ـ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة (٤) ـ لأنّه لا بدّ وأن يكون وجه الحائط إلى أحدهما وإن كانا [ شريكين ] (٥) فيه ، ولا يمكن أن يكون إليهما ، فبطلت دلالته ، وجرى مجرى تزويق الحائط.

وقال مالك وأبو يوسف : يُحكم به لمن إليه وجه الحائط ؛ لأنّ العرف‌

__________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٢٦ ، البيان ١٣ : ١٩٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٢ ، المغني ٥ : ٤٤ ، الشرح الكبير ١٢ : ١٦٩ ، وراجع أيضاً الهامش (٤) من ص ١٠٢.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « بالدواخل ». والمثبت هو الصحيح.

(٣) لم نجده في اللغة.

(٤) الأُم ٣ : ٢٢٥ ، مختصر المزني : ١٠٦ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٨٨ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٥٦ ، البيان ١٣ : ١٩٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٠ ـ ١٢١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٨ ، روضة القضاة ٢ : ٧٧٣ / ٥٢٠٦ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٥٩٧ / ١٠٠٣ ، المعونة ٢ : ١٢٠٠ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ١ : ٣١٨ ، المغني ٥ : ٤٤ ، الشرح الكبير ١٢ : ١٦ (٩).

(٥) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « شركاء ».

١٠٤

والعادة قاضيان بأنّ مَنْ بنى حائطاً فإنّه يجعل وجه الحائط إليه (١).

وهو ممنوع ؛ فإنّ العادة جارية بأنّ وجه الحائط يُجعل إلى خارج الدار ليشاهده الناس ، فلا يكون في كون وجهه إلى أحدهما دليلٌ.

مسألة ١٠٩٩ : لو كان الحاجز بين الدارين أو السطحين خُصّاً فتنازعا فيه‌ ، فعند علمائنا أنّه يُحكم به لمن إليه معاقد القِمْط التي تكون في الجدران المتّخذة من القصب وشبهه ، وأغلب ما يكون ذلك في السور بين السطوح ، فتُشدّ بحبال أو بخيوط ، وربما جعل عليها خشبة معترضة ، ويكون العقد من جانبٍ والوجه المستوي من جانبٍ ـ قال ابن بابويه رحمه‌الله : الخُصّ الطُّنّ (٢) الذي يكون في السواد بين الدور ، والقِمْط هو شدّ الحبل (٣) ـ وبه قال مالك وأبو يوسف (٤).

واختلف النقل عن الشافعي.

فقال بعض أصحابه عنه : إنّ معاقد القِمْط مرجّحة ، يُحكم بالخُصّ لمن المعاقد إليه ـ كما قلناه ـ لأنّه إذا كانت المعاقد إليه فالظاهر أنّه وقف في ملكه وعقد (٥).

ولما رواه العامّة عن جارية التميمي أنّ قوماً اختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خُصٍّ ، فبعث حذيفة بن اليمان ليحكم بينهم ، فحكم به لمن تليه معاقد‌

__________________

(١) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٥٩٧ / ١٠٠٣ ، التلقين : ٤٣٣ ، المعونة ٢ : ١٢٠٠ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٨٨ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦ ـ ٢٧ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٥٦ ، البيان ١٣ : ١٩٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢١ ، روضة القضاة ٢ : ٧٧٣ / ٥٢٠٦ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ١ : ٣١٨ ، المغني ٥ : ٤٤ ، الشرح الكبير ١٢ : ١٦٩.

(٢) الطُّنّ ـ بالضمّ ـ : الحزمة من الحطب والقصب. لسان العرب ١٣ : ٢٦٩ « طنن ».

(٣) الفقيه ٣ : ٥٧ ، ذيل ح ١٩٧.

(٤) البيان ١٣ : ١٩٣ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٨٨ ، المغني ٥ : ٤٤ ، الشرح الكبير ١٢ : ١٦٩.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢١.

١٠٥

القِمْط ، ثمّ رجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره ، فقال : « أصبتَ وأحسنتَ » (١).

ومن طريق الخاصّة : ما رواه جابر عن الباقر عليه‌السلام عن أبيه عن جدّه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام أنّه قضى في رجلين اختصما [ إليه ] في خُصٍّ ، فقال : « إنّ الخُصّ للّذي إليه القِمْط » (٢).

وسأل منصور بن حازم الصادقَ عليه‌السلام عن حظيرة بين دارين ، فذكر أنّ عليّاً عليه‌السلام قضى [ بها ] لصاحب الدار الذي من قِبَله القماط (٣).

والقول الثاني للشافعي : إنّه يرجّح من الوجه المستوي مَن المعاقد تليه ، لا مَنْ إليه المعاقد (٤).

وليس بمشهورٍ ، والقول المشهور عنه ـ وبه قال أبو حنيفة ـ أنّه لا ترجيح لأحدهما على الآخَر ؛ لأنّ كونه حائلاً بين الملكين علامةٌ قويّة في الاشتراك (٥).

وهو ممنوع.

تذنيبان :

الأوّل : لو كان الأزج مبنيّاً على رأس الجدار ، رُجّح به‌ ؛ لأنّه تصرّفٌ من صاحبه في الجدار ، فيقضى له بملكيّته.

وقال الشافعي : لا يقضى له بذلك ؛ لاحتمال بناء الأزج بعد تمام الجدار (٦).

__________________

(١) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٨٥ / ٢٣٤٣.

(٢) الفقيه ٣ : ٥٧ / ١٩٧ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٣) الفقيه ٣ : ٥٦ / ١٩٦ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢١.

(٥) الأُمّ ٣ : ٢٢٥ ، مختصر المزني : ١٠٦ ، حلية العلماء ٥ : ٢٥ ، البيان ١٣ : ١٩٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٠ ـ ١٢١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٨.

(٦) الحاوي الكبير ٦ : ٣٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٢.

١٠٦

الثاني : قد بيّنّا أنّه يُرجّح بالجذوع الموضوعة عليه.

وقال الشافعي : لا يُرجّح بذلك ، والجدار في أيديهما معاً ، فيحلفان ويكون الجدار بينهما ، ولا تُرفع الجذوع عنه ، بل تُترك بحالها ؛ لاحتمال أنّها وُضعت بحقٍّ (١).

مسألة ١١٠٠ : لو تنازع صاحب العلوّ والسُّفْل في السقف المتوسّط بين علوّ أحدهما وسُفْل الآخَر‌ ، فإن لم يمكن إحداثه بعد بناء العلوّ ـ كالأزج الذي لا يمكن عقده على وسط الجدار بعد امتداده في العلوّ ـ جُعل لصاحب السُّفْل ؛ لاتّصاله ببنائه على سبيل الترصيف.

وإن أمكن إحداثه بعد بناء العلوّ بأن يكون السقف عالياً فيثقب وسط الجدار وتوضع رءوس الجذوع في الثقب فيصير السقف بينهما ، قال الشيخ رحمه‌الله في الخلاف : يُقرع بين صاحب العلوّ وصاحب السُّفْل فيه إذا لم تكن هناك بيّنة ، فمَنْ خرج اسمه حلف لصاحبه ، وحُكم له به ؛ لإجماع الفرقة على أنّ كلّ مجهولٍ تُستعمل فيه القرعة. ثمّ قال : وإن قلنا : يُقسم بين صاحب البيت وصاحب الغرفة ، كان جائزاً (٢).

وقال الشافعي : يُحكم به بينهما ؛ لأنّه في يدهما معاً ، فالقول قول صاحب البيت في نصفه مع يمينه ، وقول صاحب الغرفة مع يمينه في نصفه ؛ لأنّه حاجز بين ملكيهما غير متّصلٍ ببناء أحدهما اتّصالَ البنيان ، فكان بينهما ، كالحائط بين الملكين ، وكلّ واحدٍ منهما ينتفع به ، فإنّه سماء لصاحب السُّفْل يظلّه ، وأرض لصاحب الغرفة تُقلّه ، فاستويا فيه. وبه قال‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٩ ، وراجع أيضاً الهامش (٣) من ص ١٠١.

(٢) الخلاف ٣ : ٢٩٨ ، المسألة ٨ من كتاب الصلح.

١٠٧

أحمد (١).

وقال أبو حنيفة : يُحكم به لصاحب السُّفْل ؛ لأنّ السقف على ملك صاحب السُّفْل ، فكان القولُ قولَه فيه ، كما لو تنازعا سرجاً على دابّة أحدهما ، فإنّ القولَ قولُ صاحب الدابّة (٢).

ويبطل بحيطان الغرفة ، ولا يشبه السرج ؛ لأنّه لا ينتفع به غير صاحب الدابّة ، فكان في يده ، وهنا السقف ينتفع به كلاهما على ما تقدّم.

وهذا القول حكاه أصحاب مالك مذهباً له عنه (٣).

وحكى الشافعيّة عن مالك أنّه لصاحب العلوّ (٤).

ولا بأس به عندي ؛ لأنّه ينتفع به ، دون صاحب السُّفْل ، وينفرد بالتصرّف فيه ، فإنّه أرض غرفته ويجلس عليه ويضع عليه متاعه ، ويمكن‌

__________________

(١) الأُمّ ٣ : ٢٢٦ ، مختصر المزني : ١٠٦ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٩٨ ـ ٣٩٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٣١٧ ، الوسيط ٤ : ٦٤ ، حلية العلماء ٥ : ٢٢ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٥٨ ، البيان ١٣ : ١٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٢ ـ ١٢٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٩ ، المغني ٥ : ٤٥ ، الشرح الكبير ١٢ : ١٧١ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ١ : ٣١٨ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٥٩٨ / ١٠٠٦ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٥٥ / ١١٦٩ ، المعونة ٢ : ١١٩٩ ، روضة القُضاة ٢ : ٧٧٣ / ٥٢٠٨.

(٢) روضة القُضاة ٢ : ٧٧٣ / ٥٢٠٧ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٩٨ ، حلية العلماء ٥ : ٢٢ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٥٩ ، البيان ١٣ : ١٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٣ ، المغني ٥ : ٤٥ ، الشرح الكبير ١٢ : ١٧١ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ١ : ٣١٨.

(٣) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٥٩٨ / ١٠٠٦ ، التلقين : ٤٣٣ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٥٥ / ١١٦٩ ، المعونة ٢ : ١١٩٩ ، حلية العلماء ٥ : ٢٢ ، البيان ١٣ : ١٩٤ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ١ : ٣١٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٣ ، المغني ٥ : ٤٥ ، الشرح الكبير ١٢ : ١٧١.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٣٩٨ ، حلية العلماء ٥ : ٢٢ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٥٩ ، البيان ١٣ : ١٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٣ ، وأيضاً في المغني ٥ : ٤٥ ، والشرح الكبير ١٢ : ١٧١.

١٠٨

وجود بيتٍ لا سقف له ، ولا يمكن وجود ملكٍ لا أرض له.

مسألة ١١٠١ : لو تنازع صاحب البيت والغرفة في جدران البيت ، حُكم بها لصاحب البيت مع يمينه‌ ؛ لأنّ الحيطان في يده ، وهو المنتفع بها.

وإن تنازعا في جدران الغرفة ، فهي لمن الغرفة في يده.

والأوّل لا يخلو من إشكالٍ ؛ لمشاركة صاحب الغرفة له في الانتفاع والتصرّف معاً ، بل تصرّفه وانتفاعه أكثر.

مسألة ١١٠٢ : لو تنازع صاحب علوّ الخان وصاحب سُفْله ، أو صاحب علوّ الدار وصاحب سُفْلها في العرصة أو الدهليز‌ ، فإن كانت الدرجة وشبهها في صدر الخان أو الدار أو في الدهليز ، جُعلت العرصة والدهليز بينهما ؛ لأنّ لكلّ واحدٍ منهما فيهما يداً وتصرّفاً من الممرّ ووضع الأمتعة وغيرهما.

قال الجويني : ولا يبعد أن يقال : ليس لصاحب العلوّ إلاّ حقّ الممرّ ، وتُجعل الرقبة لصاحب السُّفْل (١).

ولكن لم يصر إليه أحد من الشافعيّة (٢).

وإن كانت الدرجة في دهليز الخان أو في الوسط ، فمن أوّل الباب إلى المرقى بينهما ؛ لأنّه في تصرّفهما.

وفيما وراء ذلك للشافعيّة وجهان :

أصحّهما : إنّه لصاحب السُّفْل ؛ لانقطاع الآخَر عنه ، واختصاص صاحب السُّفْل باليد والتصرّف.

والثاني : إنّه يُجعل بينهما ؛ لأنّه قد ينتفع به صاحب العلوّ بإلقاء الأمتعة فيه وطرح القمامات (٣).

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٩.

(٢) كما في المصدرين في الهامش السابق.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٤ ، بحر المذهب ٨ : ٤٦ ، حلية العلماء ٨ : ٢١١ ،

١٠٩

والمعتمد عندي : الأوّل.

وإن كانت الدرجة خارجةً عن خطّة الخان والدار ، فالعرصة بأجمعها لصاحب السُّفْل ، ولا تعلّق [ لصاحب العلوّ ] (١) بها بحالٍ.

قالت الشافعيّة : ومثال ما إذا كانت الدرجة في وسط الخان لا في صدره ولا خارجة عنه الزقاقُ المنقطع إذا كان فيه بابان لرجلين ، أحدهما في وسطه والآخَر في صدره ، فمن أوّله إلى الباب الأوّل بينهما ، وما جاوزه إذا تداعياه فعلى الوجهين (٢).

وقد عرفت مذهبنا فيه فيما تقدّم (٣).

مسألة ١١٠٣ : إذا تنازع صاحب العلوّ وصاحب السُّفْل في الدَرَج‌ (٤) فادّعاها كلٌّ منهما ، فإن كانت دكّة غير معقودةٍ أو كانت سُلّماً ، حُكم بها لصاحب العلوّ ؛ لأنّها في انتفاعه خاصّةً.

وإن كانت معقودةً تحتها موضع ينتفع به صاحب السُّفْل ، فالأقرب : إنّها لصاحب العلوّ أيضاً ؛ لأنّ الدرجة إنّما تُبنى للارتقاء بها إلى العلوّ ، ولا تُبنى لما تحتها بالعادة ، بل القصد بها السلوك إلى فوق ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : إنّها بينهما ؛ لأنّ صاحب السُّفْل ينتفع بها [ بظلّها ] (٥) وصاحب العلوّ ينتفع بها ويرتقي عليها ، فهي كالسقف يتنازعه صاحب العلوّ‌

__________________

التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٥٩ ، البيان ١٣ : ١٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٩ ـ ٤٦٠.

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « للعلوّ ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) بحر المذهب ٨ : ٤٦ ، البيان ١٣ : ١٩٤.

(٣) راجع ص ٥١ وما بعدها.

(٤) الدَرَج : مصطلح يطلق على الآلة التي يستعان بها للصعود.

(٥) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « بظلّه ». والصحيح ما أثبتناه.

١١٠

والسُّفْل (١).

وقد سبق (٢) كلامنا في السقف ، وأنّ الأولى الحكم به لصاحب العلوّ ، مع قيام الفرق بينهما ؛ لأنّ السقف يُبنى للبيت وإن لم يكن له غرفة ، بخلاف الدرجة.

وبعضهم فصّل فقال : إن كان تحتها بيت يقصد بنيانها عليه كانت بينهما ، وإن كان تحتها عقد صغير يوضع فيه الحُبّ أو شبهه فوجهان (٣).

ولو تنازعا في السُّلَّم وهو غير خارجٍ عن الخان ، فإن كان منقولاً ـ كالسلاليم التي تُوضع وتُرفع ـ فإن كان في بيتٍ لصاحب السُّفْل فهو في يده ، وإن كان في غرفةٍ لصاحب العلوّ فهو في يده ، فيُحكم به في الحالين لكلّ مَنْ هو في يده.

وإن كان منصوباً في المرقى ، فهو لصاحب العلوّ ؛ لعود منفعته إليه وظهور تصرّفه فيه ، دون الآخَر ، وهو قول أكثر الشافعيّة (٤).

وقال بعضهم : إنّه لصاحب السُّفْل ، كسائر المنقولات (٥).

وهو المعتمد عندي ، ولهذا لا يندرج السُّلَّم الذي لم يُسمر تحت بيع الدار.

ولو كان السُّلَّم مسمراً في موضع المرقى ، فهو لصاحب العلوّ ؛ لعود‌

__________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٥ ، بحر المذهب ٨ : ٤٧ ، البيان ١٣ : ١٩٥.

(٢) في ص ١٠٧ وما بعدها ، المسألة ١١٠٠.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٥ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٣١٧ ـ ٣١٨ ، بحر المذهب ٨ : ٤٧ ، حلية العلماء ٨ : ٢١١ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٥٩ ، البيان ١٣ : ١٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٠.

(٤) المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٣١٨ ، البيان ١٣ : ١٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٣ ـ ١٢٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٠.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٠.

١١١

فائدته إليه ، وكذا الأخشاب المعقودة في المرقى ، وكذا إن كان مبنيّاً من لَبِن أو آجر أو شبههما إذا لم يكن تحته بيت.

ولو تنازعا في البيت الذي تحت الدرجة ، احتُمل اختصاص صاحبِ السُّفْل به كسائر البيوت ، وصاحبِ العلوّ ؛ لأنّ ملك الهواء يستتبع ملك القرار والشركة فيه.

ولو تنازعا في السقف الأعلى للغرفة ، فهو لصاحب الغرفة ؛ لاختصاصه بالانتفاع به ، دون صاحب السُّفْل.

* * *

١١٢

الفصل الخامس : في اللواحق‌

مسألة ١١٠٤ : قد بيّنّا أنّ الصلح يصحّ عن الإنكار كما يصحّ عن الإقرار.

وخالف فيه الشافعي ومَنَع من صحّة الصلح عن الإنكار (١). وقد سلف (٢) دليله وضعفه.

وربما احتجّ بعضهم : بقوله عليه‌السلام : « الصلح بين المسلمين جائز إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً » (٣) وهذا الصلح قد أحلّ الحرام ؛ لأنّه لم يكن له أن يأخذ من مال المدّعى عليه وقد حلّ بالصلح (٤).

وهو ضعيف ؛ لأنّ المعنى الذي ذكروه آتٍ في الصلح بمعنى البيع ؛ لأنّه يحلّ لكلّ واحدٍ منهما ما كان محرَّماً عليه ، وكذا الصلح بمعنى الهبة ، فإنّه يحلّ للموهوب له ما كان محرَّماً عليه ، والإسقاط يحلّ له ترك أداء ما كان واجباً عليه.

ولأنّ الصلح الصحيح هو الذي يحلّل ما كان حراماً لولاه ، كغيره من العقود ، والصلح الفاسد لا يحلّ به الحرام ، والمراد المنع من صلحٍ يتوصّل به إلى تناول المحرَّم مع بقائه بعد الصلح على تحريمه ، كما لو صالحه على استرقاق حُرٍّ أو شرب خمرٍ ، أو إذا كان المدّعي كاذباً في دعواه أو المنكر في إنكاره ، ويتوصّل الكاذب إلى أخذ المال بالصلح من غير رضا الآخَر باطناً ، فإنّه صلحٌ باطل.

__________________

(١) راجع الهامش (١) من ص ٢٦.

(٢) في ص ٢٦.

(٣) تقدّم تخريجه في الهامش (٣) من ص ٥.

(٤) راجع المغني والشرح الكبير ٥ : ١٠ ، والبيان ٦ : ٢٢٦.

١١٣

ولأنّه يباح لمن له حقٌّ يجحده غريمه أن يأخذ من ماله بقدره أو دونه ، وإذا حلّ له ذلك من غير اختياره ولا علمه ، فلأن يحلّ برضاه وبذله أولى.

ولأنّه يحلّ مع اعتراف الغريم ، فلأن يحلّ به مع جحده وعجزه عن الوصول إلى حقّه إلاّ بذلك أولى.

ولأنّ المدّعي هنا يأخذ عوض حقّه الثابت له ، والمدّعى عليه يدفعه لدفع الشرّ عنه وقطع الخصومة ، وليس في الشرع ما يدلّ على تحريم ذلك في موضعٍ.

ولأنّ الصلح مع الإنكار يصحّ مع الأجنبيّ ، فصحّ مع الغريم ، كالصلح مع الإقرار ، بل هو أولى ؛ لأنّه إذا صحّ مع الأجنبيّ مع غناه ، فلأن يصحّ مع الخصم مع حاجته إليه أولى.

واحتجاجهم بأنّه معاوضة (١) ، قلنا : إن أردتم أنّه معاوضة في حقّهما فهو ممنوع ، وإن أردتم أنّه معاوضة في حقّ أحدهما فمسلَّم ؛ لأنّ المدّعي يأخذ عوض حقّه من المنكر ؛ لعلمه بثبوت حقّه عنده ، فهو معاوضة في حقّه ، والمنكر يعتقد أنّه يدفع المال المدفوع لدفع الخصومة والمنازعة وتخليصه من شرّ المدّعي ، فهو إبراء في حقّه ، وغير ممتنعٍ ثبوت المعاوضة في حقّ أحد المتعاقدين دون الآخَر ، كما لو اشترى عبداً شهد بحُرّيّته ، فإنّه يصحّ ، ويكون معاوضةً في حقّ البائع ، واستنقاذاً في حقّ المشتري.

إذا ثبت هذا ، فإنّما يصحّ الصلح لو اعتقد المدّعي حقّيّة دعواه ، والمدّعى عليه يعتقد براءة ذمّته ، وأنّه لا شي‌ء عليه للمدّعي ، فيدفع إلى المدّعي شيئاً ليدفع عنه اليمين ويقطع الخصومة ويصون نفسه عن التبذّل وحضور مجلس الحكم ، فإنّ أرباب النفوس الشريفة والمروءات‌

__________________

(١) راجع المغني والشرح الكبير ٥ : ١٠ ، والبيان ٦ : ٢٢٦.

١١٤

والمناصب الجليلة يترفّعون عن ذلك ، ويصعب عليهم الحضور للمنازعة ، ويرون دفع ذلك عنهم من أعظم مصالحهم ، والشرع لا يمنع من وقاية النفس وصيانتها ودفع الشرّ عنها ببذل الأموال ، والمدّعي يأخذ ذلك عوضاً عن حقّه الثابت له في زعمه ، ولا يمنعه الشرع من ذلك أيضاً.

ولا فرق بين أن يكون المأخوذ من جنس حقّه أو من غير جنسه ، ولا بين أن يكون بقدر حقّه أو أقلّ ، فإن أخذ من جنس حقّه بقدره فهو مستوفٍ لحقّه ، وإن أخذ دونه فقد استوفى بعض حقّه وترك البعض.

وإن أخذ من غير جنس حقّه ، فقد أخذ عوضه ، فيجوز أن يأخذ أزيد حينئذٍ.

وإن أخذ من جنس حقّه أزيد ، فالأقرب : الجواز.

ومَنَع منه بعضُ الجمهور ؛ بناءً على أنّ الزائد لا عوض له ، فيكون ظالماً (١).

وهو غلط إذا رضي الدافع باطناً وظاهراً ، وقد سبق (٢).

مسألة ١١٠٥ : إذا ادّعى على غيره مالَ الأمانة ، فأنكر أو اعترف‌ ، ثمّ صالح عنه إمّا بجنسه أو بغير جنسه ، جاز ، كالمضمون ؛ عملاً بعموم قوله تعالى : ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (٣).

وقوله عليه‌السلام : « الصلح جائز بين المسلمين » (٤).

فلو ادّعى على رجلٍ وديعةً أو قراضاً أو لقطةً أو غيرها من الأمانات ، أو ادّعى تفريطاً في وديعةٍ أو في قراضٍ أو غير ذلك فصالح ، جاز ؛ لما‌

__________________

(١) المغني ٥ : ١١ ـ ١٢ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢.

(٢) في ص ٣٧ ـ ٣٨ ، المسألة ١٠٤٥.

(٣) النساء : ١٢٨.

(٤) تقدّم تخريجه في الهامش (٣) من ص ٢٠.

١١٥

تقدّم.

مسألة ١١٠٦ : قد ذكرنا أنّه يصحّ الصلح من الأجنبيّ عن المنكر أو المعترف‌ ، سواء اعترف الأجنبيّ للمدّعي بصحّة دعواه أو لم يعترف ، وسواء كان بإذنه أو بغير إذنه.

وقال أصحاب الشافعي : إنّما يصحّ إذا اعترف للمدّعي بصحّة دعواه (١).

وهو بناءً على أنّ الصلح عن الإنكار باطل ، وقد بيّنّا بطلانه.

ثمّ إن كان الصلح عن دَيْنٍ ، صحّ ، سواء كان بإذن المنكر أو بغير إذنه ؛ لأنّ قضاء الدَّيْن عن غيره جائز بإذنه وبغير إذنه ؛ فإنّ عليّاً عليه‌السلام وأبا قتادة قضيا عن الميّت ، فأجازه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وإن كان الصلح عن عينٍ بإذن المنكر فهو كالصلح منه ؛ لأنّ الوكيل يقوم مقام الموكّل ، وإن كان بغير إذنه فهو افتداء للمنكر من الخصومة واعتياض للمدّعي (٣) ، وهو جائز في الموضعين.

وإذا صالح عنه بغير إذنه ، لم يرجع عليه بشي‌ءٍ ؛ لأنّه أدّى عنه ما لا يلزمه أداؤه ، ولأنّه لم يثبت وجوبه على المنكر ولا يلزمه أداؤه إلى المدّعي ، فكيف يلزمه أداؤه إلى غيره!؟ ولأنّه متبرّع بأدائه غير ما يجب عليه.

وقال بعض الحنابلة : يرجع. ويجعله كالمدّعي (٤).

__________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٧٣ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٤٠ ، الوجيز ١ : ١٧٨ ، الوسيط ٤ : ٥٢ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٤٥ ، البيان ٦ : ٢٢٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣٥ ـ ٤٣٦ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ١٣.

(٢) مرّ تخريجه في ج ١٤ ، ص ٢٨١ ، الهامش ( ٥ و ٦ ) وص ٢٨٢ ، الهامش (١).

(٣) في النسخ الخطّيّة : « من المدّعي » بدل « للمدّعي ».

(٤) المغني والشرح الكبير ٥ : ١٤.

١١٦

وهو غلط ؛ لأنّه يجعله كالمدّعي في الدعوى على المنكر ، أمّا أنّه يجب له الرجوع بما أدّاه فلا وجه له أصلاً ، وأكثر ما يجب لمن قضى دَيْن غيره أن يقوم مقام صاحب الدَّيْن ، وصاحب الدَّيْن هنا لم يجب له حقٌّ ، ولا يلزم الأداء إليه ، ولا يثبت له أكثر من جواز الدعوى ، فكذلك هنا.

ويشترط في جواز الدعوى أن يعلم صدق المدّعي ، فإن لم يعلم لم يجز له دعوى شي‌ءٍ لا يعلم ثبوته.

وإذا صالح عنه بإذنه ، فهو وكيله ، والتوكيل في ذلك جائز.

ثمّ إن أدّى عنه بإذنه رجع عليه ، وهذا قول الشافعي (١) ، وإن أدّى عنه بغير إذنه متبرّعاً لم يرجع بشي‌ءٍ.

وإن قضاه محتسباً بالرجوع ، احتُمل الرجوع ؛ لأنّه قد وجب عليه أداؤه بعقد الصلح ، بخلاف ما إذا صالح وقضى بغير إذنه ، فإنّه قضى ما لا يجب على المنكر قضاؤه.

مسألة ١١٠٧ : إذا صالحه على سكنى دارٍ أو خدمة عبدٍ ونحوه من المنافع المتعلّقة بالأعيان ، صحّ‌ بشرط ضبط المدّة ، ولا يكون ذلك إجارةً ، بل عقداً مستقلاًّ بنفسه ، خلافاً للشافعي (٢).

فإن تلفت الدار أو العبد قبل استيفاء شي‌ءٍ من المنفعة ، انفسخ الصلح ، ورجع بما صالح عنه.

وإن تلف بعد استيفاء بعض المنفعة ، انفسخ فيما بقي من المدّة ، ورجع بقسط ما بقي.

ولو صالحه على أن يزوّجه جاريته ، لم يصح ؛ لأنّ البُضْع لا يقع في‌

__________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٧٣ ، البيان ٦ : ٢٢٨ ، المغني ٥ : ١٤.

(٢) التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٤٣ ، البيان ٦ : ٢٢٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٨.

١١٧

مقابله شي‌ء.

وقال بعض الجمهور : يصحّ ، ويكون المصالَح عنه صداقها (١).

وليس بشي‌ءٍ.

فإن انفسخ النكاح قبل الدخول بأمرٍ يُسقط الصداقَ ، رجع الزوج بما صالَح عنه. فإن [ طلّقها ] (٢) قبل الدخول ، رجع بنصفه.

وإن كان المعترف امرأةً فصالحت المدّعي على أن تزوّجه نفسها على أن يكون بُضْعها عوضاً ، لم يصح ، خلافاً لبعض الحنابلة (٣).

وكذا لو كان الصلح عن عيبٍ في مبيعها فصالحته على نكاحها ، قال : فإن زال العيب رجعت بأرشه ؛ لأنّ ذلك صداقها ، فرجعت به ، لا بمهر مثلها ، وإن لم يزل العيب لكن انفسخ نكاحها بما يُسقط صداقَها ، رجع عليها بأرشه (٤).

وهو مبنيّ على جواز جَعْل البُضْع عوضاً في الصلح.

مسألة ١١٠٨ : قد بيّنّا أنّه يصحّ الصلح عن الدَّيْن ببعضه مع الرضا الباطن‌ ؛ لأنّ كعباً تقاضى ابن أبي حدْرد دَيْناً ـ كان له عليه ـ في المسجد ، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج إليهما ثمّ نادى : « يا كعب » قال : لبّيك ، فأشار إليه أن ضَع الشطر من دَيْنك ، قال : قد فعلتُ يا رسول الله (٥).

__________________

(١) المغني ٥ : ١٨.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « طالب ». والمثبت هو الصحيح.

(٣) المغني ٥ : ١٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٧.

(٤) المغني ٥ : ١٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٧ ـ ٨.

(٥) صحيح البخاري ٣ : ٢٤٦ ، صحيح مسلم ٣ : ١١٩٢ / ١٥٥٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٦٤ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١٩ : ٦٧ ـ ٦٨ / ١٢٨.

١١٨

وفي الذي أُصيب في حديقته فمرّ به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ملزوم ، فأشار إلى غرمائه بالنصف ، فأخذوا منه (١).

وهذا يدلّ على تسويغه مع الرضا الباطن.

ولو قال : على أن توفيني ما بقي ، صحّ أيضاً عندنا.

ومَنَعه الحنابلة ؛ لأنّه ما أبرأه عن بعض الحقّ إلاّ ليوفيه بقيّته ، فكأنّه عاوض بعض حقّه ببعضٍ (٢). وهو ممنوع.

ولو كان له في يد غيره عيناً ، فقال : قد وهبتك نصفها فأعطني نصفها ، صحّ ، واعتُبر في ذلك شروط الهبة.

ولو أخرجه مخرج الشرط ، صحّ عندنا.

خلافاً للشافعي وأحمد ؛ لأنّه إذا شرط الهبة في الوفاء ، جَعَل الهبة عوضاً عن الوفاء ، فكأنّه عاوض بعض حقّه ببعضٍ (٣).

وهذا ليس بشي‌ءٍ.

ولو قال : صالحني بنصف دَيْنك علَيَّ أو بنصف دارك هذه ، فيقول : صالحتك بذلك ، صحّ عندنا ، وهو قول أكثر الشافعيّة (٤) ـ ومَنَع منه بعض الشافعيّة والحنابلة (٥) ـ لأنّه إذا لم يجز بلفظ الصلح خرج عن أن يكون صلحاً ، ولا يبقى له تعلّقٌ به ، فلا يُسمّى صلحاً ، وأمّا إذا كان بلفظ الصلح سُمّي صلحاً ؛ لوجود اللفظ و [ إن تخلّف ] (٦) المعنى ، كالهبة بشرط الثواب ، وإنّما يقتضي لفظ الصلح المعاوضةَ إذا كان هناك عوضٌ ، أمّا مع عدمه فلا ، وإنّما معنى الصلح الرضا والاتّفاق ، وقد يحصل من غير عوضٍ ، كالتمليك‌

__________________

(١ و ٢) المغني ٥ : ١٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٤.

(٣ ـ ٥) المغني ٥ : ١٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٤‌

(٦) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لم يختلف ». والمثبت هو الصحيح.

١١٩

إذا كان بعوضٍ سُمّي بيعاً ، وإن خلا عن العوض سُمّي هبةً.

ولو ادّعى على رجلٍ بيتاً ، فصالحه على بعضه أو على بناء غرفةٍ فوقَه أو على أن يُسكنه سنةً ، صحّ عندنا ـ خلافاً للحنابلة (١) ـ للأصل.

احتجّوا بأنّه يصالحه عن ملكه ببعضه أو منفعته (٢).

ونمنع عدم جوازه.

ولو صالحه بخدمة عبده سنةً ، صحّ عندنا وعندهم (٣).

فإن باع العبد في السنة ، صحّ البيع ، ويكون للمشتري مسلوبَ المنفعة بقيّة السنة ، وللمُصالح منفعته إلى انقضاء السنة.

ولو لم يعلم المشتري بذلك ، كان له الفسخ ؛ لأنّه عيبٌ.

وإن أعتق العبدَ في أثناء المدّة ، صحّ العتق ؛ لأنّه مملوكه يصحّ بيعه فيصحّ عتقه ، وللمُصالح استيفاء منفعته في المدّة ؛ لأنّه أعتقه بعد أن مَلَك منفعته ، فأشبه ما لو أعتق الأمة المزوّجة بحُرٍّ.

ولا يرجع العبد على سيّده بشي‌ءٍ ؛ لأنّه ما زال ملكه بالعتق إلاّ عن الرقبة ، فالمنافع حينئذٍ مملوكة لغيره فلم تتلف منافعه بالعتق فلا يرجع بشي‌ءٍ.

ولو أعتق مسلوبَ المنفعة ـ كمقطوع اليدين ، أو الأمة المزوّجة ـ لم يرجع عليه بشي‌ءٍ.

وقال الشافعي : يرجع على سيّده بأُجرة مثله ؛ لأنّ العتق اقتضى إزالة ملكه عن الرقبة والمنفعة جميعاً ، فلمّا لم تحصل المنفعة للعبد هنا فكأنّه حالَ بينه وبين منفعته (٤).

ونمنع اقتضاء العتق زوالَ الملك عن المنفعة ؛ لأنّ اقتضاءه إنّما يكون‌

__________________

(١) المغني ٥ : ١٩ ـ ٢٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٦.

(٢) المغني ٥ : ٢٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٦.

(٣ و ٤) المغني ٥ : ٢٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٨.

١٢٠