الألفين الفارق بين الصّدق والمين - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

الألفين الفارق بين الصّدق والمين - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: المؤسسة الإسلامية للبحوث والمعلومات
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤسسة الإسلامية العامة للتبليغ والإرشاد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١
الجزء ١ الجزء ٢

ونصب إمام معصوم [ممكن] (١) ، والله تعالى قادر على كلّ مقدور ، فلا يحسن من الحكيم نصب غير المعصوم والأمر باتّباعه طلبا للهداية مع مساواتها ضدّها وعدمها في نفس الأمر وعند المكلّف مع قدرته على المعصوم.

الثامن والتسعون : قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٢).

وجه الاستدلال : أنّ اطمئنان القلب أمر مطلوب في الأمور الدينية الكلّية ، ولا ريب أنّ الإمامة من الأمور الدينية الكلّية ؛ لأنّ المكلّف يقتل ويقتل ، ويأخذ الأموال ، ويضرب الحدود ، ويفعل العبادات ، ويصحّ المعاملات بقوله وبأمره وإشاراته ، وهذه الأمور كلّية.

ولأنّ الإمامة [نيابة] (٣) النبوّة في كلّ الأمور ، فيكون اطمئنان القلب فيها أمرا مهمّا مطلوبا ، ولا يحصل إلّا بعصمة الإمام ، فيجب أن يكون الإمام معصوما.

التاسع والتسعون : الله تعالى لطيف بعباده رحيم في غاية اللطف والرحمة ، والإمام المعصوم طريق أمن للمكلّف من الخوف ، والإمام غير المعصوم طريق خوف ، وهو ظاهر.

فلا يناسب نصب الإمام غير المعصوم لطف الله ورحمته [بعباده] (٤) وإرادته إسلامهم وهدايتهم ، والمناسب للّطف (٥) والرحمة الإمام المعصوم ، فتعيّن نصبه.

المائة : الإمام مرشد دائما ، [ولا شيء من غير المعصوم بمرشد دائما] (٦) ، فلا شيء من غير المعصوم بإمام.

__________________

(١) من «ب».

(٢) البقرة : ٢٦٠.

(٣) في «أ» : (نباة) ، وما أثبتناه من «ب».

(٤) في «أ» : (بعبادته) ، وما أثبتناه من «ب».

(٥) في «ب» : (اللطف) بدل : (للّطف).

(٦) من «ب».

٦١
٦٢

بسم الله الرحمن الرحيم

المائة الثامنة من الأدلّة

الدالّة على وجوب

عصمة الإمام عليه‌السلام

٦٣
٦٤

الأوّل : قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١).

والتقوى ركوب طريق الصواب واجتناب ما فيه شبهة أو يتوهّم [منه] (٢) لزوم محذور.

وبالجملة ، فالمتّقون هم الذين لا يخلّون بما يحتمل وجوبه ، ولا يفعلون إلّا ما يعلمون أنّه مباح ، ويجتنبون ما يحتمل تحريمه.

فعلم أنّ هذه [درجة] (٣) مطلوبة لله تعالى من الناس كافة في جميع ما أمر به ونهى عنه ؛ لأنّ تخصيص بعض الناس أو بعض الأحكام به ترجيح من غير مرجّح ، ولأنّه مخالف لعموم الآية.

ونصب إمام معصوم في أقواله وأفعاله وأوامره ونواهيه ، عالم بمجمل الآيات ومتشابهها يقينا ، وعلومه إلهامية من [قبيل] (٤) العلوم فطرية القياس ، طريق صالح لذلك ، فيجب إتماما لغرضه إمّا هو ، أو ما يقوم [مقامه] (٥).

و [الثاني] (٦) منتف بالوجدان والإجماع.

فتعيّن الأوّل ، وهو المطلوب.

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) من «ب».

(٣) في «أ» : (ووجه) ، وما أثبتناه من «ب».

(٤) في «أ» و «ب» : (قبل) ، وما أثبتناه للسياق.

(٥) من «ب».

(٦) في «أ» : (التالي) ، وما أثبتناه من «ب».

٦٥

الثاني : قوله تعالى في الآية المتقدّمة (يبيّن آياته) جمع مضاف ، فيعمّ لما تقرّر في الأصول (١) أنّ الجمع المضاف [للعموم] (٢). ولأنّ سياق الآية يدلّ عليه ، فإنّ المراد [ببيان الآيات] (٣) التقوى ، ولا يتمّ إلّا بعموم البيان لما يحتاج [المكلّف] (٤) إليه من الواجب ليأتي به ، والحرام ليجتنبه ، والمباح ليكون مخيّرا فيه ، ولا يتمّ إلّا مع العموم.

وقوله تعالى : (لِلنَّاسِ) جمع محلّى بلام الجنس ، فيعمّ أيضا (٥).

والمراد بالبيان ما لا يحتمل غير المعنى ، بحيث يكون نصّا صريحا.

وكأنّ التقوى اجتناب [المشتبه] (٦) وركوب طريق اليقين ، ولا يحصل إلّا بالبيان المذكور ، ولا يمكن لكلّ الناس أخذ ذلك من القرآن ، وهو ظاهر ؛ لأنّ بعض دلالته بالعموم وهو ظنّي ، [و] (٧) لاشتماله على المجمل والمتشابه. والسنّة كذلك.

وليس للناس كلّهم ـ المطلوب منهم التقوى ـ [علم] (٨) بذلك كلّه من طريق الإلهام ، فلا بدّ من ولي [لله] (٩) يعلم ذلك يقينا ، ولا بدّ وأن يكون قوله متيقّن الصحة ، وليس ذلك إلّا المعصوم ، فيجب القول به ؛ لأنّه لو لا ذلك لزم أن يكون الله تعالى ناقضا لغرضه ، وهو محال.

__________________

(١) معارج الأصول : ٨٥ مبادئ الوصول إلى علم الأصول : ١٢٢. المعتمد في أصول الفقه ١ : ١٩٢. روضة الناظر وجنّة المناظر ٢ : ١٢٣.

(٢) في «أ» : (العموم) ، وما أثبتناه من «ب».

(٣) من «ب».

(٤) في «أ» و «ب» : (التكليف) ، وما أثبتناه من هامش «ب».

(٥) العدّة في أصول الفقه ١ : ٢٩١ ـ ٢٩٢. تهذيب الوصول إلى علم الأصول : ١٢٧ ـ ١٢٨. المحصول في علم أصول الفقه ٢ : ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

(٦) في «أ» : (المشبّهة) ، وما أثبتناه من «ب».

(٧) من «ب».

(٨) في «أ» و «ب» : (علوم) ، وما أثبتناه من هامش «ب».

(٩) في «أ» : (الله) ، وما أثبتناه من «ب».

٦٦

الثالث : قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١).

التقوى لا تتمّ إلّا بمعرفة الأحكام كما هي في نفس الأمر ، والعمل بما به يعلم ، والإخلاص.

والأوّل إمّا أن يحصل بالعقل ، أو بالنقل.

والأوّل عند أهل السنّة (٢) ليس بطريق صالح لشيء من الأحكام الشرعية (٣) ، وعند العدلية (٤) لا يعلم منه كلّ الأحكام ، بل القليل منها.

فلا بدّ من الثاني ؛ إمّا في الجميع على الرأي الأوّل ، أو في الأكثر على الرأي الثاني.

ولا بدّ وأن يكون ذلك النقل ممّا يفيد العلم اليقيني ، ولا يحصل لكثير من الناس من القرآن والسنّة ، وهو ظاهر متّفق عليه. فلا بدّ من مبيّن لذلك وللآيات المتشابهة ، ويكون عنده ظاهرها نصّا ، وكذا السنّة.

ولا يكفي ذلك ، بل لا بدّ وأن يتيقّن المكلّف صحة قوله وفعله ، وذلك لا يتحقّق إلّا [من] (٥) المعصوم.

والثاني وهو العمل بما يعلم (٦) الإمام لطف فيه ، فإنّه (٧) المقرّب إلى الطاعة والمبعّد عن المعصية ، فيتعيّن نصب الإمام المعصوم ، وإلّا لزم نقض الغرض ، فإنّ الحكيم إذا أراد شيئا فإن لم يفعل ما يتوقّف عليه ذلك الشيء إذا كان

__________________

(١) البقرة : ١٨٩.

(٢) في «أ» زيادة : (و) بعد : (السنّة) ، وما أثبتناه موافق لما في «ب».

(٣) انظر : كتاب أصول الدين : ٢٠٥. اللمع في أصول الفقه : ١٢٩. ميزان الأصول ١ : ١٠٥ ـ ١٠٧. المحصول في علم أصول الفقه ١ : ١٦٧.

(٤) انظر : الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٨٢٤ ـ ٨٢٦ تقريب المعارف : ٩٧ ـ ٩٨. الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد : ٨٦ العدّة في أصول الفقه ٢ : ٧٥٩ ـ ٧٦٢.

(٥) من «ب».

(٦) في «ب» : (يعمل) بدل : (يعلم).

(٧) في «ب» : (لأنّه) بدل : (فإنّه).

٦٧

من فعله خاصّة مع قدرته وعلمه فإنّه يكون ناقضا لغرضه ومناقضا (١) لإرادته ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

لا يقال : هذا كلّه مبني على أنّ الإمامة لا يقوم غيرها مقامها ، فيحتاج إلى بيان ذلك (٢) ، ولم [يبيّنوه] (٣).

لأنّا نقول : انحصار الدليل الموصل في العقل والنقل قطعي ، وانتفاء الثاني في أكثر الأحكام ممّا اتّفق عليه الكلّ ، وانحصار النقلي في نصّ بيّن أو إمام أو إجماع ـ [إذ] (٤) غير ذلك لا يفيد اليقين ـ معلوم و [ممّا] (٥) اتّفق عليه الكلّ.

والأوّل لا يفي بكلّ الأحكام ، فتعيّن الثاني ، ولا يحصل العلم به إلّا إذا كان من معصوم ، وهو ظاهر.

الرابع : قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٦) ، أمر وتهديد على الترك.

[مقدّمة] (٧) : إيجاب ما لا يطاق مع العلم بأنّه ما لا يطاق قبيح [عقلا ، وكذا الأمر به على سبيل الندب ، وإباحته عبث ، والعبث من الحكيم العالم به قبيح] (٨).

مقدّمة أخرى : قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) إمّا على سبيل الوجوب ، أو الندب ، أو [الإباحة] (٩) ، لا يخلو عن هذه الأمور الثلاثة.

__________________

(١) لم ترد في «ب» : (لغرضه ومناقضا).

(٢) في «ب» : (شاف) بدل : (ذلك).

(٣) في «أ» بعد : (ولم) كلمة غير مقروءة ، وما أثبتناه من «ب».

(٤) في «أ» : (أو) ، وما أثبتناه من «ب».

(٥) في «أ» : (إنّما) ، وما أثبتناه من «ب».

(٦) البقرة : ٢٠٣.

(٧) في «أ» : (متقدمة) ، وما أثبتناه من «ب».

(٨) من «ب».

(٩) في «أ» : (الأوّل) ، وما أثبتناه من «ب».

٦٨

مقدّمة أخرى : هذه الآية حكمها ثابت بعد النبيّ عليه‌السلام إجماعا.

إذا تقرّر ذلك فنقول : أحد أمور ثلاثة لازم : إمّا الأمر بما لا يطاق ، أو ثبوت الإمام المعصوم ، [أو] (١) ما يقوم مقامه ؛ [لأنّه قد ظهر فيما مرّ (٢) أنّ التقوى لا تحصل إلّا مع الإمام المعصوم أو ما يقوم مقامه] (٣). فلو أمر الله تعالى بالتقوى مع عدم إمام معصوم [أو] (٤) ما يقوم مقامه لزم الأمر بما لا يطاق ، فلا بدّ من أحدهما.

لكنّ الأوّل محال.

والثالث منتف ؛ لأنّه إمّا أن يكون عقليا ، أو نقليا. والأوّل منتف [في] (٥) أكثر الأحكام ، فتعيّن الثاني.

وبعد النبيّ عليه‌السلام لا يعلم اليقين إلّا من الإمام المعصوم ؛ لما تقدّم (٦). فتعيّن الثاني ، وهو نصب الإمام المعصوم.

الخامس : أمر الله تعالى بالتقوى وأمر بطاعة أولي الأمر ، وهو الإمام (٧).

فلا يخلو إمّا أن يحصل التقوى من طاعة الإمام ، أو لا.

والثاني محال ؛ لأنّه تعالى إذا أراد منّا شيئا وكان هو المقصود منّا ـ لأنّ جميع ما أوجب أو حرّم داخل في التقوى ـ ثمّ أمرنا بارتكاب طريقة ليست مقصودة لذاتها ، بل لأدائها إلى ذلك المقصود وهو [لا] (٨) يصلح للأداء ، كان ذلك نقضا للغرض ، بل هو إضلال ، وهو محال.

__________________

(١) في «أ» : (و) ، وما أثبتناه من «ب».

(٢) مرّ في الدليل الأوّل والثاني والثالث من هذه المائة.

(٣) من «ب».

(٤) في «أ» و «ب» : (و) ، وما أثبتناه للسياق.

(٥) في «أ» : (كما) ، وما أثبتناه من «ب».

(٦) تقدّم في الدليل الثالث من هذه المائة.

(٧) في «أ» زيادة : (المعصوم) بعد : (الإمام) ، وما أثبتناه موافق لما في «ب».

(٨) من «ب».

٦٩

فتعيّن الأوّل ، وهو أنّ التقوى [تحصل من متابعة الإمام. ولا يمكن إلّا اذا كان معصوما ، وهو ظاهر.

ولأنّ التقوى] (١) لا بدّ فيها من العلم اليقيني ، ولا يحصل من قول غير المعصوم قطعا ، فتعيّن أن يكون الإمام معصوما ، وهو المطلوب.

السادس : قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢).

اعلم أنّ الله تعالى جدّه (٣) قد بيّن في هذه الآية أمورا :

الأوّل : النهي عن اتّباع خطوات الشيطان ، وهو عامّ في الأصول والفروع إجماعا ، الصغائر والكبائر.

وبالجملة : فهذه تحذير عامّ لكلّ ما نهى عنه وترك ما أمر به.

والثاني : أنّه تحذير عن الزلل بعد مجيء البيّنات ، وهي مأخوذة من البيان ، وهو ما يفيد العلم لمن [نظر] (٤) فيه ، وهذا من رحمة الله تعالى لعباده أنّه لا يؤاخذ قبل مجيء البيّنات ، فلا يقوم مقامه [ما] (٥) يفيد الظنّ. ولا تحذير في المظنون ؛ لأنّه قبل مجيء البيّنات ، والتقدير أنّ التحذير بعده.

والثالث : أنّه مطابق للنهي عن اتّباع الخطوات ، فكما أنّ ذلك عامّ فهذا أيضا عامّ في كلّ ما دخل تحت التحذير ، وهو ظاهر ، ولاستحالة الترجيح من غير مرجّح.

والرابع : أنّ مجيء البيّنات ليس من المكلّف ، بل النظر فيها والطاعة لها والانقياد إليها ، وسياق الكلام يدلّ عليه.

__________________

(١) من «ب».

(٢) البقرة : ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٣) الجدّ : العظمة. وفي التنزيل العزيز : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) ، قيل : جدّه عظمته ، وقيل : غناه. وقال مجاهد : جدّ ربّنا جلال ربّنا. لسان العرب ٢ : ١٩٩ ـ جدد.

(٤) في «أ» : (نظنّ) ، وما أثبتناه من «ب».

(٥) في «أ» : (لا) ، وما أثبتناه من «ب».

٧٠

والخامس : أنّه يدلّ على مجيء البيّنات ، وإلّا لم يكن فيه فائدة ، وهو ظاهر أيضا.

والبيّنة العامّة وهي الدلالة المفيدة لليقين التي يمكن تحصيل العلم بها في كلّ الأحكام [هي] (١) الإمام المعصوم في كلّ زمان ؛ لأنّه إذا علم منه أنّه يمتنع عليه الخطأ والصغائر والكبائر ، ومعلوم صواب قوله وفعله وتركه ، حصل منه اليقين ، فيكون الله تعالى قد نصبه ، والتقصير من المكلّفين ، وهو المطلوب.

لا يقال : هذه الأدلّة كلّها مبنية على أنّ غير الإمام لا يقوم مقامه ، وهو ممنوع.

لأنّا نقول : الجواب من وجهين :

الأوّل : أنّ البحث إنّما هو في عصمة الإمام ، فإذا كان الإمام هو المؤدّي للأحكام لا يقوم غير عصمته مقامها ؛ لأنّ العلم بصحة أدائه وقوله إمّا أن يكون من العقل ، أو النقل.

فإن كان من العقل ، فإمّا بالضرورة ، أو بالنظر.

والأوّل لم يحصل في كلّ الناس ؛ لأنّ التقدير خلافه ، فلا بدّ من أحد (٢) الآخرين.

والنظر لا بدّ فيه من مقدّمة هي صدقه ، وإنّما يعلم بعد العلم [بعصمته] (٣) ، وهو ظاهر.

وأمّا النقل ، فإمّا أن يكون منه ، أو من إمام آخر.

والأوّل يستلزم الدور.

والثاني يستلزم التسلسل.

الثاني : أنّ المراد من الإمام إعلام الأحكام باليقين كما بيّنّا (٤) ، والإمارة

__________________

(١) في «أ» و «ب» : (وهو) ، وما أثبتناه للسياق.

(٢) في «أ» زيادة : (السؤال أمور من) بعد (أحد) ، وما أثبتناه موافق لما في «ب».

(٣) في «أ» : (بصحّته) ، وما أثبتناه من «ب».

(٤) بيّنه في الدليل الثالث من هذه المائة.

٧١

و [القيام] (١) في الأمر والنهي ، وإقامة الحدود ، ونصب [الولاة] (٢) والقضاة والسعاة وغير ذلك ، وإنفاذ الشرائع ، وكلّ ذلك نيابة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبأمر الله ونصبه.

ولا يقوم بذلك قياما عامّا في أمور الدين والدنيا على الوجه المذكور إلّا الإمام ؛ لأنّ كلّ من قام بهذه الصفات فهو الإمام ، ودلّ على أنّ غيره لا يقوم مقامه فيه.

ولأنّ الإعلام بالأحكام إنّما يقوم مقامه ما يفيد العلم ، وهو إمّا عقلي ، أو نقلي.

والأوّل محال ، أمّا عند المخالفين (٣) فهو ظاهر ؛ لأنّه لا مجال للعقل في الأحكام الشرعية ، خصوصا كلّ الأحكام لكلّ الناس. وأمّا عندنا ؛ فلأنّه خلاف الواقع ، فإنّ البحث إنّما هو على تقدير الخلاف.

والثاني إمّا من غير الإمام ، وهو ممّا ينفّر عن الإمام ويناقض الغرض في اتّباعه ، فإنّه إذا كان الإمام موجودا وقوله لا يفيد [العلم] (٤) وقول [غيره] (٥) حجّة فيكون ذلك الغير أولى بالإمامة ، ويحصل له النقص عند الناس.

وإذا لم يقم غير الإمام مقامه في الجزء لم يقم مقامه في الكلّ ، وهو ظاهر.

السابع : الآية المذكورة في الوجه الأوّل (٦) تدلّ على أنّه تعالى لم يجعل ولم يشرّع ولم يوجب شيئا يضادّه مجيء البيّنات ونصبها ، ولو كان الإمام غير معصوم لكان الله تعالى قد شرّع ما [يناقض] (٧) البيّنات ؛ [لأنّه] (٨) تعالى أمر باتّباع الإمام في أفعاله وأقواله وتروكه ، فإن وقع منه الخطأ ولا يعلم ، بل جوّز المكلّف عليه الخطأ مع أمرنا باتّباعه ، فهذا إضلال لا نصب بيّنات.

__________________

(١) في «أ» و «ب» : (القدم) ، وما أثبتناه للسياق.

(٢) في «أ» : (الإمام) ، وما أثبتناه من «ب».

(٣) كتاب أصول الدين : ٢٠٤. المحصول في علم أصول الفقه ١ : ١٦٧.

(٤) من «ب».

(٥) في «أ» : (غير) ، وما أثبتناه من «ب».

(٦) قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (البقرة : ١٨٧).

(٧) في «أ» و «ب» : (مناقض) ، وما أثبتناه للسياق.

(٨) من «ب».

٧٢

الثامن : الأدلّة النقلية الموجودة من الكتاب والسنّة لا تفيد العلم [بكلّ] (١) واحد واحد من الأحكام في كلّ واقعة واقعة لكلّ شخص شخص إلى انقراض العالم ، وهذا متّفق عليه بين الكلّ.

والتقدير : أنّ الخطاب عامّ ، وأنّ الله عزوجل نصب البيّنات لكلّ المكلّفين في الأحكام.

والتقدير : أنّه لم يحصل الإعلام للأحكام لكلّ مكلّف [بكلّ حكم] (٢) ، فإمّا أن يعلم من الإمام أو غيره ؛ إذ الأحكام كلّها عند الأشاعرة نقلية (٣) ، والأكثر عند المعتزلة (٤) ، وهو ظاهر.

ولم يوجد من الأوامر والأحكام ونصوص الكتاب والسنّة إيجاب اتّباع غير المعصوم اتّباعا عامّا ، بل إيجاب اتّباع الإمام ، وقد (٥) تقدّم (٦) في ذلك أدلّة كثيرة ، فكيف يحصل البيّنات من غيره ولم [يذكره] (٧) الله تعالى ، ومنه لا يحصل ويذكره ويأمر باتّباعه؟! هذا ضدّ البيّنات ، وهو محال.

التاسع : قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٨).

هذا يدلّ على أنّ أمر أولي الأمر من البيّنات ، كما أنّ أمر الرسول من البيّنات ، وهو ظاهر.

__________________

(١) في «أ» و «ب» : (وكلّ) ، وما أثبتناه للسياق.

(٢) في «أ» : (بحكم) ، وما أثبتناه من «ب».

(٣) انظر : كتاب أصول الدين : ٢٠٥. المحصول في علم أصول الفقه : ١٦٧.

(٤) المعتمد في أصول الفقه ١ : ٦ ـ ٧ ، ٢ : ٤٠٣. المحصول في علم أصول الفقه ١ : ١٦٧.

(٥) في «أ» زيادة : (قال) بعد : (قد) ، وما أثبتناه موافق لما في «ب».

(٦) تقدّم في الدليل الثالث والخمسين ، والدليل الخامس والخمسين ، والدليل السادس والخمسين ، والدليل السابع والخمسين وفي غيرها من المائة السابعة.

(٧) في «أ» : (يذكر) ، وما أثبتناه من «ب».

(٨) النساء : ٥٩.

٧٣

وإنّما يكون من البيّنات إذا كان معصوما ، فإنّ غير المعصوم لا يفيد قوله العلم ، [فلا يكون] (١) من البيّنات.

العاشر : لا شكّ أنّ المفسدة الناشئة من جواز خطأ حالة (٢) الناس ـ الرعية ـ أمر جزئي يتعلّق بنفسه ، وقد يتعدّى إلى بعض الناس. وأمّا المفسدة الحاصلة من خطأ الإمام في الأحكام والأفعال فساد كلّي ؛ [لأنّه] (٣) إنّما نصّب الإمام لقوانين كلّية. فاستدراك المفسدة الجزئية بإمام وإهمال المفسدة الكلّية ممّا لا يناسب حكمة الحكيم جلّ جلاله (٤).

فلو كان الإمام غير معصوم لزم أن يكون له إمام آخر وينتهي إلى المعصوم ، وهو المراد. أو لا ينتهي ، ويتسلسل ، هذا خلف.

الحادي عشر : رأفة الله تعالى ورحمته عامّة للعباد ؛ لقوله تعالى : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٥) ، واتّفق المسلمون على عمومه ، والعقل الصريح والحدس الصحيح يشهدان بذلك.

وقوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (٦).

وجه الاستدلال أن نقول : الله تعالى منّ على العالمين برأفته ورحمته ببعث النبيّين بالكتاب ، وعلّة البعثة الفاعلية اختلاف الناس في التأويل في الأحكام ،

__________________

(١) في «أ» : (فيكون) ، وما أثبتناه من «ب».

(٢) كذا في «أ» و «ب».

(٣) في «أ» : (فإنّه) ، وما أثبتناه من «ب».

(٤) في «ب» : (وعلا) بدل : (جلاله).

(٥) البقرة : ٢٠٧.

(٦) البقرة : ٢١٣.

٧٤

والغاية هو حصول الحقّ و [إزهاق] (١) الباطل ، والحاكم ليس الكتاب ، بل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لقوله : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ).

فإذا كان الاختلاف في نفس الكتاب وتأويله كان الحاكم هو الرسول ، [فعلم] (٢) من ذلك أنّ من أنعم (٣) الله تعالى وأعظمها إرسال الرسول لينذر ويبلّغ إلى الناس ما أوحى الله من الكتاب ، ثمّ يحكم بينهم بعد اختلافهم في تأويله.

وبعد النبيّ الاختلاف في التأويل أعظم ، فإن لم يكن من يقوم [مقام] (٤) النبيّ في كون قوله حجّة ، وفي وجوب اتّباعه وفي طريقته وفي علمه وإفادة [قوله اليقين] (٥) ، لزم حصول العلّة [الفاعلية] (٦) والغائية بدون الشيء مع القدرة والداعي ـ وهو الرأفة بالعباد ـ مع [عدم] (٧) المعلول ، وهو محال.

فلا بدّ من شخص بعد النبيّ يكون حاله ما ذكرنا ، وهذه الخصال المذكورة لا تحصل إلّا بالمعصوم ، فوجب القول بعصمة الإمام.

الثاني عشر : قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (٨).

وجه الاستدلال : أنّ قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) يدلّ على أنّ الاختلاف في التأويل لا التنزيل. وقوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) ليس

__________________

(١) في «أ» : (إزقاق) ، وما أثبتناه من «ب».

(٢) في «أ» : (فعله) ، وما أثبتناه من «ب».

(٣) في «ب» : (نعم) بدل : (أنعم).

(٤) في «أ» : (مقامه) ، وما أثبتناه من «ب».

(٥) في «أ» : (قول النبيين) ، وما أثبتناه من «ب».

(٦) من «ب».

(٧) في «أ» : (عدمهم) ، وما أثبتناه من «ب».

(٨) البقرة : ٢١٣.

٧٥

المراد [حصوله] (١) لهم بالفعل ، بل المراد نصب ما يصلح أن يفيد العلم في التأويل حتى يتحقّق مجيء البيّنات ، وأنّ الاختلاف [بعدها] (٢) يفيد العلم بكونه بغيا ، وهو إمّا عقلي أو نقلي.

والأوّل لا [يصلح] (٣) عند المخالفين (٤) مطلقا ، وأمّا عندنا ؛ فلأنّه ليس بعامّ في سائر الأحكام [والتأويلات (٥).

فتعيّن الثاني.

والكتاب البحث في تأويله.

والسنّة ليست شاملة للأحكام] (٦) التي لا تتناهى ، ولأنّها تحتاج إلى بيان تأويل لها ، فإنّ أكثرها مجملات وعمومات ومجازات وإضمارات.

فليس إلّا المعصوم ؛ لأنّ قول غيره لا يكون بيّنة ، ويكون الاختلاف بعده بغيا ؛ لأنّ البيّنة ما يفيد العلم اليقيني ، ولهذا جعل الاختلاف بعده بغيا.

الثالث عشر : قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ* وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ* وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٧).

__________________

(١) في «أ» : (حصول) ، وما أثبتناه من «ب».

(٢) في «أ» و «ب» : (بعد ما) ، وما أثبتناه للسياق.

(٣) في «أ» : (يصحّ) ، وما أثبتناه من «ب».

(٤) انظر : كتاب أصول الدين : ٢٠٥. اللمع في أصول الفقه : ١٢٩. ميزان الأصول ١ : ١٠٥ ـ ١٠٧. المحصول في علم أصول الفقه ١ : ١٦٧.

(٥) انظر : الذريعة الى أصول الشريعة ٢ : ٨٢٤ ـ ٨٢٦ تقريب المعارف : ٩٧ ـ ٩٨. الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد : ٨٦ العدّة في أصول الفقه ٢ : ٧٥٩ ـ ٧٦٢.

(٦) من «ب».

(٧) البقرة : ٢٠٤ ـ ٢٠٧.

٧٦

وجه الاستدلال : أنّه بيّن في هذه الآية أشياء :

الأوّل : أنّ إصلاح الظاهر ظاهرا يعجب الناس حاله ، ويكون في نفس الأمر في غاية فساد الباطن.

الثاني : أنّه لا يصلح للولاية ؛ لقوله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) ، فهذا تحذير من الله عن تولية هذا الموصوف بهذه الصفة.

الثالث : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) ، ومعناه أنّه في غاية صلاح الباطن ، [وأنّه] (١) لا يصدر منه معصية ؛ لأنّ شراء النفس من الشهوات المهلكة والإرادة المحرّمة إنّما يتحقّق بترك الصغائر والكبائر وفعل سائر [الواجبات] (٢).

[الرابع] : (٣) أنّ هذا مثل يصلح للولاية ؛ [لأنّ] (٤) ذكره عقيب النهي عن تولية الأوّل يدلّ على صحة تولية هذا.

الخامس : أنّ ذلك [لا] (٥) يعلم من صلاح الظاهر.

السادس : أنّ ذلك إنّما يعلمه الله ويعلمه غيره بتعليمه إيّاه.

إذا تقرّر ذلك فنقول : هذه الآية الكريمة المتقدّمة (٦) تدلّ على بطلان الاختيار ، وعلى أنّ الولاية من قبل الله تعالى ؛ لأنّه تعالى بيّن أنّ مانع الولاية ـ وهو الأوّل ـ قد لا يعلم ، وأنّه لا يجوز للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يولّيه إلّا بنصّ يوحى من الله تعالى ؛ لأنّه تعالى قد بيّن أنّ المانع قد يوجد [ولا يعلمه] (٧) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما يعلمه الله تعالى ، والشرط لذلك ألّا يعلمه [إلّا] (٨) الله عزوجل ، وهو كونه من القسم الثاني.

__________________

(١) من «ب».

(٢) في «أ» : (الشرائع) ، وما أثبتناه من «ب».

(٣) من «ب».

(٤) في «أ» و «ب» : (لأنّه) ، وما أثبتناه للسياق.

(٥) من «ب».

(٦) في «ب» : (المقدّسة) بدل : (المتقدّمة).

(٧) في «أ» : (إلّا بعلمه) ، وما أثبتناه من «ب».

(٨) من «ب».

٧٧

وإذا لم يكن للنبيّ عليه‌السلام أن يولّي إلّا بنصّ [من] (١) الله عزوجل لم يكن لغيره.

والذي يولّيه الله تعالى لا يمكن أن يكون من القسم الأوّل ، ويجب أن يكون من القسم الثاني ، ويجب أن يعلم المكلّفون بأنّه ممتنع أن يكون من القسم الأوّل وأنّه من القسم الثاني ، وذلك إنّما يتحقّق مع وجوب عصمة الإمام ، وهو المطلوب.

الرابع عشر : القرآن الكريم العظيم مشحون بآي التحذير ووجوب التفكّر في أمور الدنيا وهو إصلاح المعاش ، والآخرة وهو إصلاح أمر الآخرة. والمعاد إنّما جاء بعد أن نصب الله تعالى لكلّ [مخاطب] (٢) بذلك ما [يفيده العلم] (٣) إذا رجع إليه ، سواء كان في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده ؛ لقوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٤) في الدنيا والآخرة. ولقوله (٥) تعالى : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٦).

بمعنى أنّه عامّ [لجميع] (٧) المكلّفين في جميع الأزمنة و [في] (٨) جميع الأحكام إجماعا ؛ لأنّ ترجيح بعضها دون بعض ترجيح من غير مرجّح ، ولا يختصّ ذلك بالأصول ؛ لأنّ الأحكام المتعلّقة بأمور الدنيا ليست من الأصول.

وهو عقلي ، أو نقلي.

__________________

(١) من «ب».

(٢) في «أ» : (خاطب) ، وما أثبتناه من «ب».

(٣) في «أ» : (يفيد للعلم) ، وما أثبتناه من «ب».

(٤) البقرة : ٢١٩ و ٢٦٦.

(٥) في «ب» : (قوله) بدل : (لقوله).

(٦) البقرة : ٢٢١.

(٧) في «أ» و «ب» : (بجميع) ، وما أثبتناه للسياق.

(٨) في «أ» : (هي) ، وما أثبتناه من «ب».

٧٨

والأوّل لا مجال له في الأحكام عند [أهل السنّة] (١) (٢) ، ولا يفيد أكثر الأحكام عند المعتزلة (٣) والإمامية (٤).

فهو نقلي ، فتعيّن الثاني.

والكتاب والسنّة لا يفيدان اليقين في كلّ الأحكام لكلّ المكلّفين ، ولا يفيد ذلك إلّا قول المعصوم.

فتعيّن [وجود] (٥) معصوم يفيد قوله اليقين ، ويجب على كافة المكلّفين اتّباعه ، فلا يجوز أن يكون الإمام غيره ، فالإمام معصوم ، وهو المطلوب.

الخامس عشر : قوله تعالى : (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) (٦).

وجه الاستدلال : أنّه تعالى أمر بثلاثة أشياء :

الأوّل : البرّ.

الثاني : التقوى.

الثالث : الإصلاح بين الناس.

وتقديم الأوّلين عليه يدلّ على أنّه لا يكون إلّا بطريق يفيد العلم ؛ لأنّ البرّ والتقوى إنّما يتحقّقان بالعدول عن المظنون إلى المعلوم ، وهذا في الأمور الكلّية أولى بالثبوت (٧) من الأمور الجزئية ، وأنّ الإمامة أمر كلّي.

__________________

(١) في «أ» : (العقل) ، وما أثبتناه من «ب».

(٢) كتاب أصول الدين : ٢٠٥. اللمع في أصول الفقه : ١٢٩. ميزان الأصول ١ : ١٠٥ ـ ١٠٧. المحصول في علم أصول الفقه ١ : ١٦٧.

(٣) المعتمد في أصول الفقه ١ : ٦ ـ ٧ ، ٢ : ٤٠٣. المحصول في علم أصول الفقه ١ : ١٦٧.

(٤) انظر : الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٨٢٤ ـ ٨٢٦ تقريب المعارف : ٩٧ ـ ٩٨. الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد : ٨٦ العدّة في أصول الفقه ٢ : ٧٥٩ ـ ٧٦٢.

(٥) في «أ» : (وجوبه) ، وما أثبتناه من «ب».

(٦) البقرة : ٢٢٤.

(٧) في هامش «ب» : (بالقبول) خ ل ، بدل : (بالثبوت).

٧٩

إذا تقرّر ذلك فنقول : نصب غير المعصوم يمكن أن يكون فيه فساد ، بل الذي شوهد ووقع من خطأ غير المعصوم من الفساد ظاهر ، والبرّ والتقوى ينافيانه ، والعصمة لا يعلمها إلّا الله تعالى ، فدلّ على أنّ الإمامة لا تكون بالاختيار ، وإنّما تكون بعلم الله تعالى.

ولا يجوز من الله تعالى نصب غير المعصوم ، فإنّه يستحيل أن يحذّر عباده من شيء ويفعله هو بهم ، هذا محال.

السادس عشر : قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١).

وجه الاستدلال أن نقول : الله تعالى أمر بالتقوى أمرا مطلقا غير مشروط ، ولا يتمّ إلّا بوجود الإمام المعصوم ، وهو من فعل الله تعالى ، فتعيّن نصبه ، وإلّا لزم نقض الغرض ، وهو محال عليه تعالى.

وكلّ المقدّمات بيّنة لا تحتاج إلى برهان إلّا المقدّمة الثانية ، وهي قولنا : إنّ التقوى لا تتمّ إلّا بوجود إمام معصوم ، فإنّها مقدّمة استدلالية تحتاج إلى البيان.

فنقول : بيانها موقوف على مقدّمات :

الأولى : حقيقة التقوى ، وقد ذكر العلماء لها رسوما :

فقال بعضهم : هي الإتيان بالعبادات والاحتراز عن المحذورات (٢).

واختلف أهل هذا الرسم في أنّ اجتناب الصغائر هل هو داخل في التقوى ، أم لا؟

فقال بعضهم (٣) : يدخل كما يدخل الصغائر في الوعيد ، وتندرج تحت التحذير.

وقال بعضهم (٤) : لا يدخل ، وإلّا لم يستحقّ هذا الاسم إلّا المعصوم.

والحقّ الأوّل ؛ لأنّ الوقاية فرط الصيانة عن المؤذي.

وقيل : كلّ ذنب مؤذ سواء كان صغيرا أو كبيرا.

__________________

(١) البقرة : ٢٣١.

(٢) انظر : التفسير الكبير (الفخر الرازي) ٢ : ٢٠. و ٥ : ١٦٩.

(٣) انظر : التفسير الكبير (الفخر الرازي) ٢ : ٢٠. و ٥ : ١٦٩.

(٤) انظر : التفسير الكبير (الفخر الرازي) ٢ : ٢٠. و ٥ : ١٦٩.

٨٠