الألفين الفارق بين الصّدق والمين - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

الألفين الفارق بين الصّدق والمين - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: المؤسسة الإسلامية للبحوث والمعلومات
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤسسة الإسلامية للبحوث والمعلومات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

الحكيم من التكليف ويقرّب حصوله ، وعكسهما مما يناقضه ويبعّد حصوله ، [فلو ٩ كان فيما يطابق غرضه ويقرّب حصوله] (١) مفسدة لكان غرضه مفسدة ، وذلك باطل على ما ثبت في العدل أنّه لا يريد القبائح (٢).

الثاني : أنّ المفسدة يستحيل أن تكون راجعة إلى الحكيم ، إذ هو واجب الوجود لذاته ، غني عن غيره ، فلا يصحّ عليه جلب نفع ولا دفع ضرر ، فلو كانت لكانت راجعة إلى غيره ، والذي أثبتناه (٣) في وجوب نصب الإمام فيه المصلحة العامّة للمكلّفين ، فلو كانت فيه مفسدة راجعة إليهم لكان عين ما هو مصلحة لهم مفسدة لهم ، وهذا خلف.

وأيضا فإنّ المفاسد محصورة لنا معلومة ؛ لأنّا مكلّفون باجتنابها ، وتلك منفية عن الإمام.

لا يقال : إنّما نعلم المفاسد المشتملة عليها أفعالنا ؛ لأنّا مكلّفون بتركها ، أمّا التي لا يشتمل عليها أفعالنا بل أفعال غيرنا التي لا نقدر نحن عليها فلا يجب معرفتها ، والإمامة عندكم ليست من فعلنا على ما يأتي (٤) ، بل من فعل الله تعالى ، فلا يجب العلم بالمفسدة التي تشتمل عليها.

لأنّا نقول : لو كانت الإمامة مشتملة على مفسدة لما أوجبها الله تعالى على المكلّفين ، ولما أوجب على الناس طاعة الإمام.

وأيضا لو اشتملت على مفسدة لنهى الله تعالى عن نصب الإمام ، والتالي باطل قطعا ، فالمقدّم مثله ، والملازمة ظاهرة.

__________________

(١) من «ب».

(٢) النكت الاعتقادية (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٠ : ٣٢ ـ ٣٣.

(٣) أثبته في النظر الأوّل من البحث السادس من هذه المقدمة.

(٤) يأتي في النظر الرابع من البحث السادس من هذه المقدمة.

٦١

وعن الثالث : أنّه لو لا إمامة عليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام لظهر من الفتن ما هو أشدّ من ذلك.

ولأنّ الإمام ـ كعليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام ـ يدعو الناس إلى ما دعاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويخاصمهم على ما لو كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله موجودا لخاصم عليه كذلك ، فلو كان ذلك مانعا من [نصب الإمام لكان مانعا من نصب] (١) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولأنّ الحرب على الواجبات وترك المعاصي لو كانت مفسدة غير جائزة لامتنعت من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وعن الرابع : أنّ ذلك يقتضي قبح الإمامة مطلقا ، سواء وجبت بالعقل أو من الله تعالى ، وذلك باطل اتّفاقا.

ثمّ نقول : المكلّف إمّا مطيع أو عاص.

و [وجه] (٢) اللطف في الأوّل تقويته على (٣) فعل الطاعة.

وأمّا الثاني فلا نسلّم أنّ ترك المعصية منه لا لكونها معصية قبيح ، بل القبيح هو ذلك الاعتقاد ، وهو كون الترك لا لكونها معصية. ووجه اللطف فيه حصول الاستعداد الشديد بسبب التكرير والتذكير الموجب لفعل الطاعة لكونها طاعة ، ولترك المعصية لكونها معصية.

وعن الخامس : أنّه وارد في كلّ لطف ، مع أنّا قد بيّنا وجوبه فيما سلف (٤).

وعن السادس : أنّا لا نسلّم اتّفاق أهل زمان ما من الأزمنة التي وقع فيها التكليف على ذلك.

__________________

(١) من «ب».

(٢) في «أ» : (وجهه) ، وما أثبتناه من «ب».

(٣) في «ب» زيادة : (تقريب) بعد كلمة : (على).

(٤) بيّنه في البحث الثالث من هذه المقدمة في المبدأ العاشر والمبدأ السابع عشر عند ذكره للمبادىء الثمانية عشر لمسألة ذلك البحث. وكذلك في النظر الأوّل من البحث السادس من هذه المقدمة.

٦٢

نعم ، قد يكون البعض بهذه المثابة ، لكن لو نظر إلى ذلك البعض لكانت بعثة الأنبياء قبيحة ؛ لاستنكاف البعض منها.

وأيضا فإنّ هذا إنّما يكون بالنسبة إلى شخص معيّن ، أمّا مطلق الرئيس فلا ، ونحن الآن لا نتعرّض لتعيين ذلك الرئيس.

وأيضا فلأنّ المفسدة الحاصلة عند عدمه أغلب منها عند وجوده ، فيجب وجوده نظرا إلى حكمته.

وعن السابع : أنّ الإمامة لا شكّ في [كونها] (١) لطفا بالنسبة إلى غير المعصومين مع بقاء التكليف ، فيكون حينئذ واجبا. أمّا إذا افتقد أحد الشرطين ـ وهو جواز الخطأ على المكلّفين ، أو التكليف ـ لم نقل بوجوب الإمامة حينئذ ، وذلك لا يضرّنا.

لا يقال : مذهبكم وجوب الإمامة مع التكليف مطلقا.

لأنّا نقول : لا نسلّم ، بل مع شرط آخر ، وهو جواز الخطأ.

وعن الثامن : أنّها مصلحة فيهما ، والشرع لا يسلّم جواز انقطاعه مع بقاء التكليف.

وهذا المنع يتأتى من القائل (٢) بعدم جواز انفكاك التكليف العقلي عن [السمعي] (٣).

سلّمنا ، لكنّ ترك الظلم ليس مصلحة دنيويّة لا غير ، بل هو مصلحة دينيّة ودنيويّة ؛ لأنّ الإخلال به من التكاليف العقليّة والسمعية.

سلّمنا ، لكنّه يكون لطفا في أفعال القلوب ، فإنّ ترك القبيح لأجل الإمام ابتداء ممّا يؤثر استعدادا تامّا لتركه لقبحه.

__________________

(١) في «أ» و «ب» : (كونه) ، وما أثبتناه للسياق.

(٢) أوائل المقالات (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ٤ : ٤٤. وفيه : (إنّ القائل بذلك هم الإماميّة ووافقهم أصحاب الحديث. وخالفهم في ذلك المعتزلة والخوارج والزيديّة ، وزعموا أنّ العقول تعمل بمجرّدها من دون السمع).

(٣) في «أ» : (السمع) ، وما أثبتناه من «ب».

٦٣

النظر الثاني : في كيفية الوجوب

والحقّ عندنا أنّ وجوب نصب الإمام عامّ في كلّ وقت (١) ، وخالف في ذلك فريقان :

أحدهما : أبو بكر الأصم وأصحابه (٢) ، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ وجوبه مخصوص بزمان الخوف وظهور الفتن ، ولا يجب مع الأمن وإنصاف الناس بعضهم من بعض ؛ لعدم الحاجة إليه.

الفريق الثاني : الفوطي وأتباعه (٣) ، فإنّهم ذهبوا إلى عدم وجوبه مع الفتن ، فإنّه ربّما كان نصبه سببا لزيادة الفتن ، واستنكافهم عنه ، وإنّما يجب عند العدل والأمن ، إذ هو أقرب إلى شعائر الإسلام.

لنا : دلالة الأدلّة الدالّة على وجوبه على عمومه ، إذ مع الإنصاف والأمن يجوز الخطأ ، ويحتاج إلى حفظ الشرع وإقامة الحدود ، فيجب الإمام.

ومع ظهور الفتن الخطأ واقع ، فالمكلّف إلى اللطف يكون أحوج.

__________________

(١) الإمامة والتبصرة من الحيرة : ٢٥ ـ ٣٢. أوائل المقالات (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ٤ : ٣٩. الرسالة الماتعية (مع كتاب المسلك في أصول الدين) : ٣٠٦.

(٢) انظر : المسلك في أصول الدين : ١٨٨. مقالات الإسلاميين : ٤٦٠. كتاب أصول الدين : ٢٧١. كتاب المحصّل : ٥٧٤. الأربعين في أصول الدين ٢ : ٢٥٦.

أبو بكر الأصم : هو عبد الرحمن بن كيسان ، فقيه معتزلي ، مفسّر ، كان يخطّئ عليّا عليه‌السلام في كثير من الأفعال ، ويصوّب معاوية في بعض الأفعال. توفّي في سنة ٢٢٥ ه‍. وكان يزعم : أنّ الناس لو كفّوا عن التظالم لاستغنوا عن الإمام. كتاب أصول الدين : ٢٧١ ، الأعلام ٣ : ٣٢٣.

(٣) انظر : الفرق بين الفرق : ١٦٣. كتاب أصول الدين : ٢٧١. الملل والنحل ١ : ٧٢.

الفوطي : هو هشام بن عمرو من أصحاب أبي الهذيل ، كان من أهل البصرة ، وسافر إلى بلدان عديدة ، وكان من دعاة الاعتزال. توفّي سنة ٢٢٦ ه‍. وكان يزعم أنّ الأمّة إذا اجتمعت كلمتها على الحقّ احتاجت إلى الإمام ، وأمّا إذا عصت وفجرت وقتلت الإمام لم يجب حينئذ على أهل الحقّ إقامة إمام. مناهج اليقين في أصول الدين : ٢٨٩. كتاب أصول الدين : ٢٧١ ـ ٢٧٢. الملل والنحل ١ : ٧٢ ـ ٧٤.

٦٤

النظر الثالث : في طريق وجوبه

انحصر قول القائلين بالوجوب في ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّه واجب بالعقل لا بالأوامر السمعية ، وهو مذهب الإمامية (١) والإسماعيلية (٢).

وثانيها : القول بأنّ الوجوب سمعي ، وهو مذهب الأشاعرة (٣).

وثالثها : القول بالوجوب عقلا وسمعا ، وهو مذهب الجاحظ (٤) ، والكعبي (٥) ،

__________________

(١) النكت الاعتقادية (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٠ : ٣٩. الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد : ٢٩٧. قواعد العقائد : ١١٠. كشف المراد : ٣٨٨. وانظر : كتاب المحصّل : ٥٧٣.

الإماميّة : هو اسم عامّ للفرق التي تعتقد بإمامة الإمام عليّ عليه‌السلام نصّا ظاهرا وتعيينا صادقا ، ويعتقدون بأنّ الأرض لا تخلو من حجّة وهو الإمام. وقد افترقت الإمامية إلى عدّة فرق ، وكلّ فرقة لها معتقداتها الخاصّة بها. الفرق بين الفرق : ٥٣. الملل والنحل ١ : ١٦٢ ـ ١٧٢. موسوعة الفرق الإسلامية : ١٢١ ـ ١٢٩.

(٢) انظر : قواعد العقائد : ١١٠. قواعد المرام في علم الكلام : ١٧٥. المواقف في علم الكلام : ٣٩٥.

الإسماعيلية : هو اسم عامّ للفرق التي تعتقد بإمامة الابن الأكبر للإمام الصادق عليه‌السلام وهو إسماعيل ، أو إمامة نجله محمّد. وقد اختلفوا في موت إسماعيل حال حياة أبيه ، فمنهم من قال : لم يمت ، وقد أظهر أبوه موته تقية من خلفاء بني العبّاس ، ومنهم من قال : موته صحيح ، والإمامة تنتقل بالنصّ إلى ولده محمّد. وقد افترقت الإسماعيلية عدّة فرق. الفرق بين الفرق : ٦٢ ـ ٦٣. الملل والنحل ١ : ١٦٧ ـ ١٦٨. موسوعة الفرق الإسلامية : ١٠٢ ـ ١٠٨.

(٣) كتاب أصول الدين : ٢٧٢. الأحكام السلطانية ١ : ١٩. الأربعين في أصول الدين ٢ : ٢٥٥. كتاب المحصّل : ٥٧٤.

(٤) المنقذ من التقليد ٢ : ٢٣٩.

الجاحظ : هو عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي ، كبير أئمّة الأدب ، بديع التصانيف ، رئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة. ولد في البصرة سنة ١٦٣ ه‍ ، كان مشوّه الخلقة ، وفلج في آخر عمره ، وقيل له : الجاحظ ؛ لأنّ عينيه كانتا جاحظتين (والجحوظ : النتوء). له تصانيف كثيرة ، منها : كتاب (الحيوان) ، (البيان والتبيين) ، وله مقالات في أصول الدين. مات في البصرة سنة ٢٥٥ ه‍. تاريخ بغداد ١٢ : ٢١٢. وفيات الأعيان ٣ : ٤٧٠ ـ ٤٧٢ ، ميزان الاعتدال ٣ : ٢٤٧. الأعلام ٥ : ٧٤.

(٥) المنقذ من التقليد ٢ : ٢٣٩.

٦٥

وأبي الحسين البصري (١) ، وجماعة من المعتزلة (٢).

لنا : أنّ الوجوب هنا على الله تعالى ؛ لما يأتي (٣) ، فيستحيل أن يكون الوجوب سمعيّا.

ولأنّه لطف في الواجبات العقليّة ، فيقدّم عليها ، والشرع متأخّر عنها ، فلو وجب بالشرع دار.

ولأنّها غير موقوفة على الشرع ، فاللطف فيها كذلك ، والواجبات الشرعية موقوفة على الشرع.

ولأنّه لو وجب بالشرع لكان تعيينه إمّا من الله تعالى ، أو من المكلّفين.

والأوّل باطل على هذا التقدير إجماعا.

أمّا عندنا ؛ فلعدم الوجوب شرعا ، بل عقلا. وأمّا عند الباقين ؛ فلعدم تعيين الله تعالى إيّاه.

والثاني محال أيضا ؛ لاستلزامه الترجيح من غير مرجّح ، أو تكليف ما لا يطاق ، أو خرق الإجماع ، أو اجتماع الأضداد ، أو عدم وجوب نصب الإمام ، أو انتفاء فائدته. والكلّ محال.

__________________

الكعبي : هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي الخراساني ، ولد سنة ٣١٩ ه‍ ، أحد أئمّة المعتزلة ، وكان رئيس طائفة منهم يقال لها : (الكعبية). أقام ببغداد مدّة طويلة. انفرد بمقالات كثيرة في علم الكلام. وله مؤلّفات كثيرة. وفيات الأعيان ٣ : ٤٥. الأعلام ٤ : ٦٥.

(١) انظر : قواعد العقائد : ١١٠. المسلك في أصول الدين : ١٨٨. قواعد المرام في علم الكلام : ١٧٥.

كتاب المحصّل : ٥٧٤. الأربعين في أصول الدين ٢ : ٢٥٥. شرح المقاصد ٥ : ٢٣٥.

أبو الحسين البصري : هو محمّد بن عليّ الطيّب البصري ، ولد في البصرة وسكن ببغداد وتوفّي بها سنة ٤٣٦ ه‍ ، أحد أئمّة المعتزلة ، له تصانيف كثيرة في أصول الفقه والكلام. وفيات الأعيان ٤ : ٢٧١. الأعلام ٦ : ٢٧٥.

(٢) انظر : مناهج اليقين : ٢٩٠. كتاب المحصّل : ٥٧٤. شرح المقاصد ٥ : ٢٣٥.

(٣) سيأتي في النظر الرابع من البحث السادس من هذه المقدمة.

٦٦

أمّا الملازمة ؛ فلأنّه لو اختار قوم إماما وآخرون [آخر] (١) مع تساويهما في الصفات ، فإمّا أن يكون أحدهما بعينه هو الإمام ، أو لا بعينه ، أو لا يكون أحدهما ، أو يكون كلّ واحد منهما إماما.

والأوّل يستلزم الترجيح بلا مرجّح.

والثاني يستلزم تكليف ما لا يطاق ، وخرق الإجماع ، وانتفاء فائدته.

والثالث يستلزم اشتراط نصب الإمام باتّفاق الكلّ ، وقبله لا يجب ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق ، لكن اتّفاقهم على واحد مع اختلاف الأهواء وتشتّت الآراء وما بينهم من العداوة والشحناء لا يمكن.

و [الرابع] (٢) يستلزم اجتماع الضدّين والنقيضين ؛ لأنّه إذا أمر كلّ [بضدّ] (٣) أمر الآخر ، فإن وجب طاعتهما اجتمع الضدّان ، وإن لم يجب طاعة واحد منهما مع كونه إماما [يجب] (٤) طاعته اجتمع النقيضان ، وانتفت فائدته.

وإن وجب طاعة واحد منهما لزم الترجيح بلا مرجّح ، فكان هو الإمام واجتمع النقيضان أيضا.

ولأنّه من الواجبات بالاجتماع ، [والواجبات بالاجتماع] (٥) إنّما تتمّ بالإمام أو بالاجتماع ، فيدور أو يتسلسل.

ولأنّه إمّا أن يجب عليهم نصب المعصوم ، أو لا.

__________________

(١) من «ب».

(٢) في «أ» و «ب» : (الثاني) ، وما أثبتناه للسياق.

(٣) في «أ» : (ضدّ) ، وما أثبتناه من «ب».

(٤) في «أ» : (بحيث) ، وما أثبتناه من «ب».

(٥) من «ب».

٦٧

والثاني محال ؛ لما يأتي (١).

والأوّل يستلزم تكليف ما لا يطاق ؛ إذ العصمة أمر خفي لا يطّلع عليها إلّا الله تعالى ، فيلزم تكليف ما لا يطاق.

ولأنّ الواجبات الشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام : الأوّل : ما يختصّ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الثاني : ما يختصّ بالأئمّة عليهم‌السلام.

الثالث : ما يشترك بينهم.

فلو وجبت الإمامة بالشرع لكان إمّا من القسم الأوّل ، وهو على تقدير وجوبه سمعا باطل إجماعا.

وإمّا من الثاني ، وهو باطل أيضا ؛ لأنّ الإمام إنّما وجب لإلزام المكلّفين بالواجبات وترك المحرّمات ، وبه يحصل نظام النوع ، فهو أهمّ الواجبات ، فيستحيل إيجاب ملزم لهذه الواجبات ـ التي لا يعمّ نفعها ولا يشتمل من المصالح على ما يشتمل عليها الإمامة ـ من دون إيجاب ملزم لهذه الواجبات العظيمة ، واستحالة هذا من الحكيم ضروري ، فيلزم التسلسل.

ولأنّ الاتّفاق إمّا أن يكون شرطا ، أو لا.

والأوّل إمّا اتّفاق الكلّ ، أو البعض.

فإن كان الأوّل انتفى الوجوب ، إذ اتّفاق الكلّ مع اختلاف الأهواء وتشتّت الآراء ممّا يتعسّر ، بل يتعذّر ، بل يستحيل.

__________________

(١) سيأتي في النظر الخامس من البحث السادس من هذه المقدمة عند ذكره للتسعة والعشرين وجها التي تبطل مذهب الاختيار في ثبوت الإمامة وتثبت مذهب النصّ والتعيين.

٦٨

وإن كان الثاني فإمّا بعض معيّن ، [أو غير معيّن] (١).

والأوّل باطل ؛ لأنّه إمّا موصوف بصفة تميّزه عن غيره ، كأهل الحلّ والعقد أو العلماء أو الصحابة أو غير ما سمّيتم ، أو لا يكون كذلك.

والأوّل باطل ؛ لإمكان الاختلاف ، وتعذّر الاجتماع ، واستحالة الترجيح بلا مرجّح.

والثاني يستلزم تكليف ما لا يطاق.

[والثاني ـ وهو أن يكون غير معيّن ـ يستلزم تكليف ما لا يطاق] (٢) ووقوع الهرج والمرج والفساد.

وإن كان الثاني ـ وهو ألّا يكون الاتّفاق شرطا ـ يستلزم الهرج والمرج والفتن والترجيح بلا مرجّح ، أو اجتماع الأضداد.

وإمّا أن يكون من القسم الثالث ، فيلزم ألّا يخلّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله [به ، بل ينصّ] (٣) ، وإلّا لزم إخلاله بالواجب ، وهو محال.

النظر الرابع : في محلّ الوجوب

[والوجوب] (٤) هنا يتحقّق على الله سبحانه وتعالى ، ويدلّ عليه وجوه :

الأوّل : أنّ اللطف ينقسم قسمين :

أحدهما : ما يكون من فعل الله تعالى.

__________________

(١) من «ب».

(٢) من «ب».

(٣) من «ب».

(٤) من «ب».

٦٩

وثانيهما : ما يكون من فعل غيره.

وكلّ قسم ينقسم إلى قسمين : أحدهما : ما يكون لطفا في واجب.

وثانيهما : ما يكون لطفا في مندوب.

وقد بيّن في علم الكلام (١) أنّ كلّ ما هو لطف من فعله تعالى في واجب كلّف العبيد به على وجه لا يقوم غيره من أفعاله ولا أفعال غيره مقامه فيما هو لطف فيه [فهو] (٢) واجب على الله تعالى ، وإلّا لقبح التكليف بالملطوف فيه ، وانتقض غرضه.

ونصب الإمام فيما نحن فيه كذلك ، فثبت أنّ نصب الإمام ما دام التكليف باقيا واجب على الله تعالى.

فهذا الدليل مبنيّ على مقدّمات :

الأولى : أنّ نصب الإمام لطف في الواجبات ، وهذا بيّن ، وقد قرّرناه فيما مضى (٣).

الثانية : أنّه من فعل الله تعالى ، لأنّ الإمام يجب أن يكون معصوما ، فلا يمكن أن يكون نصبه من فعل غير الله ؛ لأنّ غير المطّلع على السرائر لا يكون مطّلعا على السرائر ، فلا يقدر أن يميّز الموصوف بامتناع وقوع المعصية [منه] (٤) عن غيره حتّى ينصّبه إماما.

الثالثة : أنّه لا يقوم غيره مقامه ، وقد تقرّر ذلك فيما مضى (٥).

__________________

(١) انظر : الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد : ١٣٢ ـ ١٣٣. تجريد الاعتقاد : ٢٠٤. قواعد المرام في علم الكلام : ١١٨. مناهج اليقين : ٢٥٤. كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٣٥١ ـ ٣٥٥٢.

(٢) من «ب».

(٣) قرّره في البحث الرابع من هذه المقدمة.

(٤) في «أ» و «ب» : (عنه) ، وما أثبتناه للسياق.

(٥) قرّره في البحث الخامس من هذه المقدمة.

٧٠

الرابعة : أنّ كلّ لطف شأنه ذلك فهو واجب على الله تعالى على ما قد بيّناه في علم الكلام (١).

الخامسة : أنّه تعالى لا يخلّ بالواجبات ، وهذا قد تقرّر وبيّن في باب العدل (٢).

الوجه الثاني : كلّما كان التكليف واجبا عليه تعالى فنصب الإمام واجب عليه تعالى ، لكنّ المقدّم حقّ ، فالتالي مثله.

بيان الملازمة من وجوه : الأوّل : أنّه لا يتمّ فائدته وغايته إلّا بنصب الإمام ، فيكون أولى بالوجوب.

الثاني (٣) : إنّما يجب التكليف السمعي لكونه لطفا في التكاليف [العقلية ، وهذا لطف في التكاليف] (٤) السمعية ، واللطف في اللطف (٥) في الشيء لطف في ذلك الشيء أيضا ، فيجب.

الثالث : إنّما وجب التكليف [لأنّه خلق فيهم القوى الشهوية والغضبية ، وخلق لهم قدرا ، فوجب من حيث الحكمة التكليف] (٦) ، وإلّا لزم الاختلال والفساد. وهذا بعينه آت في نصب الإمام ، ولا يتمّ إلّا بنصب الإمام ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، فيكون نصب الإمام واجبا على تقدير وجوب التكليف.

__________________

(١) انظر : مناهج اليقين : ٢٥٣ ـ ٢٥٤. الباب الحادي عشر : ٣٢. كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٣٥١ ـ ٣٥٢.

(٢) انظر : النكت الاعتقادية (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٠ : ٣٢ ـ ٣٣. نهج الحقّ وكشف الصدق : ٨٥.

(٣) في «ب» زيادة : (أنّه) بعد : (الثاني).

(٤) من «ب».

(٥) لم يرد في «ب» : (في اللطف).

(٦) من «ب».

٧١

وأمّا [حقّية المقدّم] (١) فقد تبيّن في علم الكلام (٢).

الوجه الثالث : أنّ وجوه وجوبه تتحقّق في الله تعالى ، وكلّما كان كذلك كان واجبا عليه.

ينتج : أنّ نصب الإمام واجب عليه تعالى.

أمّا الصغرى ؛ فلأنّ وجه وجوب التكليف يتحقّق هنا مع زيادة هي كونه لطفا فيه.

وأمّا الكبرى فظاهرة.

الوجه الرابع : أنّ الحسن على قسمين :

منه ما وجوبه لازم لحسنه بحيث كلّما حسن وجب.

ومنه ما ليس كذلك.

والإمامة من الأوّل إجماعا. ولأنّها تصرّف في الأموال والأنفس والفروج في العالم ، فلا يحسن إلّا عند ضرورة ملزمة بها يقتضي وجوبها ، كأكل طعام الغير في المخمصة وشرب مائه. ونصب الإمام حسن من الله تعالى قطعا ، فيكون واجبا.

النظر الخامس : في نقل مذهب الخصم وإبطاله

اعلم أنّ الناس اتّفقوا على [أنّ] (٣) الإمام لا يصير إماما بنفس الصلاحية للإمامة ، بل لا بدّ من أمر متجدّد ، وإلّا لزم أحد الأمرين :

إمّا المنع من مشاركة اثنين في الصلاحية لها ، وذلك بعيد قطعا.

أو كون إمامين في حالة واحدة ، وهو مجمع على خلافه.

__________________

(١) في «أ» : (حقيقة المكلّف) ، وما أثبتناه من «ب».

(٢) تجريد الاعتقاد : ٢٠٢. قواعد المرام في علم الكلام : ١١٥. مناهج اليقين : ٢٤٩.

(٣) زيادة اقتضاها السياق.

٧٢

ثمّ اتّفقت الأمّة بعد ذلك على أنّ نصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على شخص بأنّه إمام طريق له في كونه إماما ، وكذلك الإمام إذا نصّ على إنسان بعينه على أنّه إمام بعده (١).

ثمّ اختلفوا في أنّه هل غير النصّ طريق إليها ، أم لا؟

فقالت الامامية (٢) : لا طريق إليها إلّا النصّ ، إمّا بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الإمام المعلوم إمامته بالنصّ ، أو بخلق المعجز على يده.

وقال جماعة من المعتزلة (٣) والزيدية (٤) والصالحية (٥) والبترية (٦) وأصحاب

__________________

(١) انظر : النكت الاعتقادية (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٠ : ٤٠ ـ ٤٤. تقريب المعارف : ١٧٤ ، ١٨٢. الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد : ٣١٣. كتاب تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل : ٤٤٢. المغني في أبواب التوحيد والعدل (الإمامة ١) : ٩٩ ، ١١٢. كتاب أصول الدين : ٢٧٩. الأحكام السلطانية ١ : ٢٣ و ٢ : ٦.

(٢) النكت الاعتقادية (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٠ : ٤٠ ـ ٤٤. تقريب المعارف : ١٧٤ ، ١٨٢. الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد : ٣١٣. تجريد الاعتقاد : ٢٢٣. المسلك في أصول الدين : ٢١٠. قواعد المرام في علم الكلام : ١٨١.

(٣) المغني في أبواب التوحيد والعدل (الإمامة ١) : ٢٧٢ وما بعدها. وانظر : كتاب أصول الدين : ٢٧٩.

(٤) انظر : كتاب أصول الدين : ٢٨٠. الملل والنحل ١ : ١٥٩ ، ١٦١.

الزيدية : هي إحدى الفرق الشيعية المعروفة ، وأصحابها أتباع زيد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف ب : (زيد الشهيد). وقد ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة عليها‌السلام ولم يجوّزوا ثبوت الإمامة في غيرهم ، إلّا أنّهم جوّزوا أن يكون كلّ فاطمي عالم شجاع سخيّ خرج بالإمامة أن يكون إماما واجب الطاعة ، سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين عليهما‌السلام. وهم على ثلاثة أصناف : جارودية ، وسليمانية (الجريرية) ، وبترية ، والصالحية منهم والبترية على مذهب واحد. الفرق بين الفرق : ٢٢. الملل والنحل ١ : ١٥٤ ـ ١٥٧. موسوعة الفرق الإسلامية : ٢٦٦ ـ ٢٧١.

(٥) انظر : الملل والنحل ١ : ١٦١.

الصالحية : هم فرقة من فرق الزيدية ، أصحاب الحسن بن صالح بن حي الكوفي الثوري ، وهؤلاء كانوا يعظّمون أبا بكر وعمر ويتوقّفون في أمر عثمان. ورأيهم في عليّ عليه‌السلام أنّه أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولاهم في الإمامة بعده. ولهم عقائد في بحث الإمامة. الملل والنحل ١ : ١٦١ ـ ١٦٢. اعتقادات فرق المسلمين والمشركين : ٣٦. موسوعة الفرق الإسلامية : ٣٤٨.

(٦) انظر : كتاب أصول الدين : ٢٨٠. الملل والنحل ١ : ١٦١. كتاب المقالات والفرق : ٧.

٧٣

الحديث (١) والخوارج (٢) : الاختيار طريق إلى ثبوت الإمامة كالنصّ. وهو مذهب الأشاعرة (٣) ، [والسليمانية] (٤) (٥) ، وجميع أهل السنّة والجماعة (٦).

وقالت الزيدية (٧) غير الصالحية والبترية : الدعوة طريق إلى ثبوتها.

والدعوة : هو أن يباين الظلمة من أهل الإمامة ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويدعو إلى اتّباعه ، فإنّه يصير بذلك إماما عندهم.

__________________

البترية : فرقة من فرق الزيدية ، وكانوا يطلقون عليها (الصالحية) أيضا. وهم أتباع كثير النواء الذي يلقّب ب : (الأبتر). وعقيدتهم على حدّ سواء مع عقيدة فرقة الصالحية المتقدّمة. الفرق بين الفرق : ٣٣ ـ ٣٧. الملل والنحل : ١ : ١٦١ ـ ١٦٢. موسوعة الفرق الإسلامية : ٦٣ ـ ٦٤.

(١) انظر : الفرق بين الفرق : ٣٤٩.

أصحاب الحديث : وهم أهل الحجاز ، أصحاب مالك بن أنس ، ومحمّد بن إدريس الشافعي ، وسفيان الثوري ، وأحمد بن حنبل ، وداود بن عليّ بن محمّد الأصفهاني. وسمّوا (أصحاب الحديث) ؛ لأنّ عنايتهم بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص ، ولا يرجعون إلى القياس ما وجدوا خبرا أو أثرا. الفرق بين الفرق : ٣١٣ ـ ٣١٥. الملل والنحل ١ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

(٢) انظر : كتاب أصول الدين : ٢٧٩. الملل والنحل ١ : ١١٦.

(٣) الإبانة عن أصول الديانة : ١٧٠ ـ ١٧٨. تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل : ٤٤٢. كتاب أصول الدين : ٢٧٩ ـ ٢٨١. وانظر : المواقف في علم الكلام : ٣٩٩. شرح المقاصد ٥ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٤) من «ب».

(٥) انظر : الفرق بين الفرق : ٣٢. كتاب أصول الدين : ٢٨٠. الملل والنحل ١ : ١٥٩. كتاب المحصّل : ٥٩٤.

السليمانية : ويسمّون ب : (الجريرية) أيضا ، وهم فرقة من الزيدية أتباع سليمان بن جرير ، كانوا يعتقدون أنّ الإمامة شورى ، وأجازوا إمامة المفضول ، وتبرّءوا من عثمان وكفّروه ، وكلّ من حارب عليّا فهو كافر ، وقد طعنوا على الشيعة ؛ لقولهم بالبداء. الفرق بين الفرق : ٣٢ ـ ٣٣. الملل والنحل ١ : ١٥٩ ـ ١٦٠. اعتقادات فرق المسلمين والمشركين : ٣٦. موسوعة الفرق الإسلامية : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

(٦) انظر : الفرق بين الفرق : ٣٤٩.

(٧) انظر : قواعد العقائد : ١٢٦. المسلك في أصول الدين : ٢١٠. الملل والنحل ١ : ١٥٤ ـ ١٥٦.

٧٤

ثمّ اختلف القائلون بالاختيار في اشتراط الإجماع ، فذهب الأكثر إليه (١) ، خلافا للجويني (٢) ، فإنّه [جوّز] (٣) في إرشاده انعقاد الإمامة بواحد وإن لم يجتمع عليه أهل الحل والعقد ، واستدل بأنّ أبا بكر انتدب لإمضاء الأحكام الإسلامية ولم يتأنّ إلى انتشار الاختيار إلى من نأى من الصحابة في الأقطار.

فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة ، ولم يثبت عدد معدود وحدّ محدود جاز أنّ الإمامة تنعقد بعقد واحد من أهل الحلّ والعقد ، مثل ما قال أصحابنا.

ونقل عن أصحابه : منع عقد الإمامة لشخصين في طرفي العالم ، فإن اتّفق عقد عاقدين بالإمامة لشخصين كان بمنزلة تزويج امرأة من اثنين (٤).

ثمّ قال : والذي عندي أنّ عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمحال غير جائز إجماعا ، وإن بعد المدد فللاحتمال في ذلك مجال ، وهو خارج عن القطع.

وإذا انعقدت الإمامة لشخص لم يجز خلعه من غير حدث إجماعا ، وإن فسق فخرج عن سمة الأئمّة بفسقه فانخلاعه من غير خلع ممكن وإن لم يحكم بانخلاعه ، فجواز خلعه أو امتناع ذلك وتقويم أوده ممكن ما وجدنا إلى التقويم سبيلا.

__________________

(١) انظر : كتاب أصول الدين : ٢٧٩. الملل والنحل ١ : ٢٨.

(٢) كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الاعتقاد : ٣٥٧.

الجويني : هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمّد ، أبو المعالي ، الملقّب ب : (ضياء الدين) والمعروف ب : (إمام الحرمين) ، من أصحاب الشافعي. ولد في جوين ـ من نواحي نيسابور ـ سنة ٤١٩ ه‍ ، ورحل إلى بغداد ثمّ الحجاز ثمّ عاد إلى نيسابور ، فبنى له الوزير نظام الملك المدرسة النظامية. حضر درسه أكابر العلماء. توفي سنة ٤٧٨ ه‍. وفيات الأعيان ٣ : ١٦٧ ـ ١٧٠. الأعلام ٤ : ١٦٠.

(٣) في «أ» : (جزء) ، وما أثبتناه من «ب».

(٤) الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الاعتقاد : ٣٥٧ ـ ٣٥٨.

٧٥

كلّ ذلك من المجتهدات عندنا ، وخلع الإمام نفسه من غير سبب محتمل (١).

والحقّ مذهب الإمامية ، والذي يدلّ على [حقّيته] (٢) وإبطال مذهب المخالف لهم وجوه :

الأوّل : أنّ الإمامة عندنا (٣) من جملة ما هو أعظم أركان الدين ، وأنّ الإيمان لا يثبت بدونها ، وعندهم (٤) أنّها ليست من أركان الدين ، بل هي من فروع الدين ، لكنّها من المسائل الجليلة والمطالب العظيمة. فكيف يجوز استناد مثل هذا الحكم إلى اختيار المكلّف وإرادته؟! ولو جاز ذلك لجاز في ما هو أدون منه من أحكام الفروع.

الوجه الثاني : أنّ الشارع نصّ على عدم الخيرة ، فقال الله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٥).

فنقول : إمّا أن يكون الله تعالى قضى [بترك الإمامة فلا يجوز للأمّة الخيرة بإثباتها ، وإمّا أن يكون قضى] (٦) بها فتكون كغيرها من أحكام الشريعة التي نصّ الله تعالى عليها ولم [يهملها] (٧) ، وهو المطلوب.

الوجه الثالث : القول بالاختيار ونصب الإمام بقول المكلّفين تقديم بين يدي الله

__________________

(١) الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الاعتقاد : ٣٥٨.

(٢) في «أ» : (حقيقته) ، وما أثبتناه من «ب».

(٣) انظر : أوائل المقالات (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ٤ : ٥١ ، ٦٤ ، حيث ذكر في عنوان الباب : «باب وصف ما اجتبيته أنا من الأصول نظرا ووفاقا لما جاءت به الآثار عن أئمّة الهدى من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله».

مناهج اليقين في أصول الدين : ٢٨٩ ، حيث ذكر في عنوان الكتاب أصول الدين وأدرج منها الإمامة.

(٤) انظر : الفرق بين الفرق : ٣٤٥ ، ٣٤٩.

(٥) الأحزاب : ٣٦.

(٦) من «ب».

(٧) في «أ» : (يمهلها) ، وما أثبتناه من «ب».

٧٦

تعالى ورسوله ، وقد نهى الله تعالى عن ذلك ، فقال عزّ من قائل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) (١).

الوجه الرابع : الله سبحانه وتعالى في غاية الرحمة والشفقة على العباد والرأفة بهم ، فكيف يهمل الله تعالى أمر نصب الرئيس مع شدّة الحاجة إليه ووقوع النزاع العظيم مع تركه أو مع استناده إلى اختيار المكلّفين؟ فإنّ كلّ واحد منهم يختار رئيسا ، وذلك فتح باب عظيم للفساد ، ومناف للحكمة الإلهيّة ، تعالى الله عن ذلك.

الوجه الخامس : الله تعالى قد بيّن جميع أحكام [الشريعة] (٢) أجلّها وأدونها ، حتّى بيّن الله تعالى كيفيات الأكل والشرب ، وما ينبغي اعتماده في دخوله الخلاء والخروج منه ، والعلامات الجليلة والحقيرة ، فكيف يهمل مثل هذا الأصل العظيم ويجعل أمره إلى اختيار المكلّفين ، مع علمه تعالى باختلافهم ، وتباين آرائهم ، وتنافر طباعهم؟!

الوجه السادس : القول الذي حكيناه عن الجويني (٣) هذر ينافي مذهبهم (٤) من استناد الأفعال إلى [قضاء] (٥) الله وقدره ؛ لأنّه لا اختيار للعبد في أفعاله ، [بل هو يجبر عليها مقهور لا يتمكّن من ترك فعله] (٦).

__________________

(١) الحجرات : ١.

(٢) في «أ» : (الشرعية) ، وما أثبتناه من «ب».

(٣) حكاه في النظر الخامس من البحث السادس من هذه المقدمة.

(٤) أي مذهب الأشاعرة ، حيث ذهبوا إلى إثبات الجبر في الأفعال ، أي أنّ العباد مكتسبون لا خالقون ، وما وقع من أفعالهم ليس تحت اختيارهم. انظر : تقريب المعارف : ١٠٩. قواعد العقائد : ٧٤. قواعد المرام في علم الكلام : ١٠٧. مناهج اليقين في أصول الدين : ٢٣٥ ، ٢٤٠. كتاب تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل : ٣٤١ ـ ٣٤٢. كتاب أصول الدين : ١٣٣ ـ ١٣٤. كتاب المحصّل : ٤٥٥ ـ ٤٥٨.

(٥) من «ب».

(٦) من «ب».

٧٧

الوجه السابع : القول باستناد الإمامة إلى الاختيار مناقض للغرض ومناف للحكمة ؛ لأنّ القصد من نصب الإمام امتثال الخلق لأوامره ونواهيه والانقياد إلى طاعته ، وسكون نائرة الفتن ، وإزالة الهرج والمرج ، وإبطال التغلّب والمقاهرة ، وإنّما يتمّ هذا الغرض ويكمل المقصود (١) لو كان الناصب للإمام غير المكلّفين ؛ لأنّه لو استند إليهم الاختيار [لاختار] (٢) كلّ منهم من يميل طبعه إليه ، وفي ذلك توارث فتن عظيمة ووقوع هرج ومرج بين الناس ، فيكون نصب الإمام مناقضا للغرض من [نصبه] (٣) ، وهو باطل.

الوجه الثامن : وجوب طاعة الإمام حكم عظيم من أحكام الدين ، فلو جاز استناده إلى المكلّفين لجاز استناد جميع الأحكام إليهم ، وذلك يستلزم الاستغناء عن بعثة الأنبياء عليهم‌السلام ؛ لأنّهم إنّما بعثوا لنصب الأحكام ، فإذا كان أصلها مستغنيا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان غيره أولى.

الوجه التاسع : إمّا أن يشترط في الاختيار اتّفاق الأمّة عليه ، أو لا.

والأوّل باطل ؛ لعدم القائل به على ما [نقله] (٤) الجويني (٥).

وأثبت القاضي عبد الجبّار (٦) إمامة أبي بكر ؛ لأنّه بايعه واحد وهو عمر ، برضا

__________________

(١) في «أ» : زيادة : (و) بعد : (المقصود) ، وما أثبتناه موافق لما في «ب».

(٢) في «أ» و «ب» : (لاختيار) ، وما أثبتناه للسياق.

(٣) في «أ» : (نفسه) ، وما أثبتناه من «ب».

(٤) في «أ» : (قبله) ، وما أثبتناه من «ب».

(٥) الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الاعتقاد : ٣٥٧ ـ ٣٥٨. وأشار المصنّف إلى ذلك في النظر الخامس من البحث السادس من هذه المقدمة.

(٦) المغني في أبواب التوحيد والعدل (الإمامة ١) : ٢٥٦.

القاضي عبد الجبّار : هو أبو الحسين عبد الجبّار بن أحمد بن عبد الجبّار الهمذاني الأسدآبادي ، قاض أصولي ، كان شيخ المعتزلة في عصره ، تولّى القضاء بالري ، وتوفي فيها سنة ٤١٥ ه‍. له تصانيف كثيرة. الأعلام ٣ : ٢٧٣.

٧٨

أربعة : أبي عبيدة (١) ، وسالم مولى [أبي] (٢) حذيفة (٣) ، وأسيد بن [الحضير] (٤) (٥) ، وبشير بن سعد (٦).

ولأنّه من المعلوم بالضرورة امتناع (٧) [اتّفاق] (٨) الكلّ في لحظة واحدة على اختيار شخص واحد.

ثمّ من المعلوم امتناع معرفة الخلق كلّهم لشخص واحد ، ومعرفة اجتماع شرائط

__________________

(١) هو عامر بن عبد الله بن الجرّاح بن هلال الفهري القرشي ، يعرف ب : (أبي عبيدة بن الجرّاح) ، ولد سنة ٤٠ ق. ه ، وكان من السابقين إلى الإسلام ، هاجر إلى الحبشة ، وشهد بدرا وأحدا وجميع مشاهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولّاه عمر بن الخطّاب قيادة الجيش في الشام ففتح الديار الشامية. توفّي بطاعون عمواس سنة ١٨ ه‍. حلية الأولياء ١ : ١٠٠ ـ ١٠٢. أسد الغابة ٥ : ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

الإصابة ٤ : ١١ ـ ١٣. الأعلام ٣ : ٢٥٢.

(٢) زيادة اقتضاها السياق.

(٣) هو سالم بن معقل مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، من أهل فارس من اصطخر ، صحابي من كبار القرّاء ، يعدّ من المهاجرين. أعتقته مولاته ثبيتة الأنصارية زوجة أبي حذيفة ، فتولّاه أبو حذيفة وتبنّاه. هاجر إلى المدينة قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان يؤمّ المهاجرين بالمدينة. شهد بدرا ، وكان معه لواء المهاجرين في حرب اليمامة ، وقتل بعد أن قطعت يداه ، وكان ذلك سنة (١٢ ه‍). حلية الأولياء ١ : ٣٧٠. أسد الغابة ٢ : ١٥٥ ـ ١٥٦. الإصابة ٣ : ٥٦ ـ ٥٧. الأعلام ٣ : ٧٣.

(٤) في «أ» و «ب» : (حصين) ، وما أثبتناه موافق لما في كتب التراجم.

(٥) هو أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك الأوسي الأنصاري الأشهلي ، يكنّى أبا يحيى ، كان مقدّما في قبلية الأوس وكان فارسها في حروبها مع الخزرج ، يعدّ من عقلاء العرب وذوي الرأي منهم ، شهد العقبة الثانية وكان أحد النقباء الاثني عشر ، شهد أحدا وما بعدها من المشاهد مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بينه وبين زيد بن حارثة ، وكان حسن الصوت في تلاوة القرآن ، وله في بيعة أبي بكر أثر عظيم. توفّي سنة ٢٠ ه‍. أسد الغابة ١ : ١١١ ـ ١١٣. الإصابة ١ : ٤٨. الأعلام ١ : ٣٣٠.

(٦) هو بشير بن سعد بن ثعلبة بن جلاس الخزرجي الأنصاري البدري ، والد النعمان بن بشير ، شهد العقبة الثانية وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلّها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. يقال : إنّه أوّل من بايع أبا بكر يوم السقيفة من الأنصار. قتل يوم عين التمر مع خالد بن الوليد بعد انصرافه من اليمامة سنة ١٢ ه‍. أسد الغابة ١ : ٢٣١. الإصابة ١ : ١٦٣. الأعلام ٢ : ٥٦.

(٧) لم يرد في «ب» : (امتناع) ، وفي هامشها : (امتناع) خ ل.

(٨) من «ب».

٧٩

الإمامة فيه ؛ لأنّا نعلم تباعد أمكنة المكلّفين وتنائي مواضعهم ، ومثل هؤلاء يمتنع اتّفاقهم على ذلك.

وأمّا الثاني : فإمّا أن يشترط فيه العدد المعيّن ، أو لا.

والأوّل باطل ؛ لعدم الدليل عليه ، فإنّه لا عدد أولى (١) من عدد ، [و] (٢) من المعلوم أنّه لو نقص عن العدد المشترط واحد لم يؤثّر في وجوب طاعة المنصوب ، كما لو زاد لم يؤثّر زيادته.

وأيضا : لم كان قول بعض المكلّفين حجّة على أنفسهم وعلى غيرهم ، [بحيث] (٣) يحرم بعد ذلك مخالفته ويجب اتّباعه ، وأيّ دليل يدلّ على ذلك؟ فإنّ العقل غير دالّ عليه ، ولا وجد (٤) في النقل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يدلّ عليه.

والثاني أيضا باطل ؛ لأنّه إذا لم يشترط العدد جاز أن ينصّب شخص واحد إماما ، ويجب على الخلق كلّهم متابعته كما اختاره الجويني (٥) ، وهو معلوم البطلان.

ولأنّه لو جاز ذلك لجاز أن ينصّب الإنسان نفسه إماما ويأمر الخلق بوجوب اتّباعه.

ولأنّه لو كان كذلك لأدّى إلى وقوع الفتن ، وتكاثر الهرج والمرج ، وقيام النزاع ، ولما احتيج إلى المبايعة والاختيار عليه.

بيان الشرطية : أنّ المقتضي لوجوب قول الواحد في حقّ الغير ثابت في حقّ نفسه ؛ لأنّه مسلّم بشرائط الاجتهاد ، نصّ على من يستحقّ الرئاسة والإمامة واختاره لذلك ، فوجب انعقاد قوله كما في حقّ الغير ، إذ لا يشترط تغاير العاقد ولا المعقود

__________________

(١) في «أ» زيادة (والأوّل) بعد : (أولى) ، وما أثبتناه موافق لما في «ب».

(٢) من «ب».

(٣) في «أ» و «ب» : (فحيث) ، وما أثبتناه للسياق.

(٤) في هامش «ب» : (ولم يجدوا) ظ.

(٥) الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الاعتقاد : ٣٥٧ ـ ٣٥٨. وأشار المصنّف إلى ذلك في النظر الخامس من البحث السادس من هذه المقدمة.

٨٠