الألفين الفارق بين الصّدق والمين - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

الألفين الفارق بين الصّدق والمين - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: المؤسسة الإسلامية للبحوث والمعلومات
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤسسة الإسلامية للبحوث والمعلومات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

٤١
٤٢

[مقدّمة المؤلّف]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله مظهر الحقّ بنصب الأدلّة الواضحة والبراهين القاطعة ، وموضح الإيمان عند أوليائه المخلصين ، ومنطق السنّة السنيّة بفساد اعتقاد المبطلين ، الذي شهد بوجوب وجوده الوجود عند الصدّيقين ، وأقرّ بقدرته فناء العالمين ، وتكافؤ كثير من الموجودات مع إبطال سائر الاعتقادات باليقين ، وأوضح عن [وحدانيته] (١) انتظام أحوال السماوات والأرضين ، ووجود الممكنات مع استحالة الترجيح بلا مرجّح وتكثير الفاعلين ، وأظهر استغناءه وعلمه [و] (٢) تمام حكمته ، فجلّ عن أوصاف الواصفين ، وتعالى عن إدراك كماله أبصار بصائر العارفين ، فظهر من ذلك عصمة الأنبياء والأئمّة الطاهرين.

وصلّى الله على سيّد المرسلين محمّد النبيّ وآله الطيّبين المعصومين ، خصوصا على نفسه بالوحي النازل إليه على لسان الروح الأمين ، عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين ، وعلى الأحد عشر الذين كلّ واحد منهم هو حبل الله المتين ، ومصباح

__________________

(١) في «أ» : (وحدانية) ، وما أثبتناه من «ب».

(٢) من «ب».

٤٣

الواصلين ، وبهم تجاب دعوة الداعين ، وتحصل النجاة لمحبّيهم المخلصين ، فمن أقرّ بحقّهم فهو في أعلى علّيّين ، ومن أنكر فضلهم فهو في أسفل السافلين ، صلاة دائمة متّصلة إلى يوم الدين.

أمّا بعد :

فإنّ أضعف عباد الله تعالى الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي يقول : أجبت سؤال ولدي العزيز عليّ محمّد ـ أصلح الله له أمر داريه كما هو بارّ بوالديه ، ورزقه أسباب السعادات الدنيويّة والأخروية كما أطاعني في استعمال قواه العقليّة والحسّية ، وأسعفه ببلوغ آماله كما أرضاني بأقواله وأفعاله ، وجمع له بين الرئاستين كما لم يعصني طرفة عين ـ من إملاء هذا الكتاب الموسوم ب : (كتاب الألفين الفارق بين الصدق والمين) ، فأوردت فيه من الأدلّة اليقينيّة والبراهين العقليّة والنقلية ألف دليل على إمامة سيّد الوصيّين عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وألف دليل أخرى على إبطال شبه الطاعنين ، وأوردت فيه من الأدلّة على [إمامة] (١) باقي الأئمّة عليهم‌السلام ما فيه كفاية للمسترشدين ، وجعلت ثوابه لولدي ، [وقاه الله] (٢) كلّ محذور ، وصرف عنه جميع الشرور ، وبلّغه جميع أمانيه ، وكفاه الله أمر (٣) معاديه وشانيه.

وقد رتّبته على مقدّمة ومقالتين وخاتمة.

* * *

__________________

(١) من «ب».

(٢) في «أ» : (وقاني) ، وفي «ب» : (وقاني الله عليه) ، وفي هامش «ب» : (وقاه) بدل : (وقاني) ، وما أثبتناه وفقا لما في «ب» وما في هامشها.

(٣) في هامش «ب» : (شرّ) بدل : (أمر).

٤٤

[المقدّمة]

أمّا المقدّمة ففيها مباحث :

البحث الأوّل : ما الإمام؟

الإمام هو الإنسان الذي له الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا بالأصالة في دار التكليف.

ونقض بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، فأجيب بوجهين :

الأوّل : التزام دخوله في الحدّ ؛ لقوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (٢).

الثاني : تبدّل قولنا : بالأصالة ، ب : نيابة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقيل : الإمامة عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في إقامة قوانين الشرع وحفظ حوزة الملّة على وجه يجب اتّباعه على الأمّة كافّة ، وجنسهما البعيد الإضافة (٣).

البحث الثاني : الإمامة لطف عامّ والنبوّة لطف خاصّ

لإمكان خلوّ الزمان من نبيّ حيّ بخلاف الإمام ؛ لما سيأتي (٤) ، وإنكار اللطف

__________________

(١) كذا في «أ» و «ب» أثبتت (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعد لفظة (النبي) في هذا المورد والذي بعده ، والظاهر أنّ المقصود فيهما طبيعيّ النبيّ لا شخص نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن كانت معظم بحوث الكتاب تختصّ بإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) البقرة : ١٢٤.

(٣) في هامش «ب» : (وجنسهما البعيد إضافة) خ ل.

(٤) سيأتي في الدليل السابع والستين من المائة الأولى.

٤٥

العامّ شرّ من إنكار اللطف الخاصّ ، وإلى هذا المعنى أشار الصادق عليه‌السلام بقوله عن منكر الإمامة أصلا ورأسا : «... وهو شرّهم» (١).

البحث الثالث : كلّ مسألة لا بدّ لها من موضوع ومحمول

فإن كانت كسبيّة احتاجت إلى وسط ليتمّ البرهان عليها ، ومن ثمّ وجبت المقدّمتان ، فإن كانتا ضروريتين فلا كلام ، وإن كانتا برهانيّتين فهما علم من العلوم ، ولا يبرهن عليهما ولا على شيء من مباديهما بتلك المسألة ، وإلّا دار.

وعلى الناظر فيها أن يسلّم المبادي التي عليها بناء المسألة ولا يعترض عليها ؛ لأنّ المنع منها والاعتراض عليها يتعلّقان بنظر آخر غير النظر الأوّل الذي هو ناظر به ، فإن اعتراه شكّ فليرجع إلى المواضع المخصوصة بها ويؤخّر النظر فيها إلى أن يحقّق المبادي التي هي كالقواعد ، فإنّ الباحث عن قدرة الصانع لا يتكلّم في حدوث الأجسام ، بل يكون ذلك مقرّرا عنده.

إذا تقرّر ذلك فنقول : موضوع هذه المسألة ومحمولها ظاهران ، وأمّا المبادي فهي ثمانية عشر :

الأوّل : أنّ العالم محدث ، والله تعالى محدثه.

الثاني : أنّه تعالى واجب الوجود لذاته أزلا وأبدا.

الثالث : أنّه قادر على كلّ المقدورات.

الرابع : أنّه عالم بجميع المعلومات.

الخامس : أنّه غنيّ عمّا سواه.

السادس : مريد للطاعات.

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ٣٣٩ ـ ٣٤٠ / ١. وقد ورد في الرواية : «... وإيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام ففيها يجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرّهم ...». وقريب منه في ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٤٦ / ١.

٤٦

السابع : كاره للمعاصي.

الثامن : لا يخلّ بالواجبات ، ولا يفعل المقبّحات ، ولا يريد ذلك.

التاسع : أنّه تعالى كلّف العباد مصالحهم بقدر وسعهم.

العاشر : أنّه تعالى يجب عليه الألطاف (١).

الحادي عشر : أنّه تعالى قام بالألطاف الواجبة عليه ممّا يتعلّق بتكاليفهم.

الثاني عشر : أنّه تعالى أزاح عللهم ، ليس غرضه في ذلك كلّه إلّا الإحسان إليهم ، وإفاضة النعم عليهم.

الثالث عشر : أنّه كلّفهم بالوجه الأفضل والبلوغ به إلى الثواب الأجزل.

الرابع عشر : أنّه تعالى أرسل محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله رسولا معصوما قائما بالحقّ قائلا بالصدق.

الخامس عشر : أنزل الله عليه الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، فنسخ بشريعته جميع الشرائع ، وبسنّته السنن ، وهي باقية إلى يوم الدين.

السادس عشر : أنّه معصوم من الزلل والخطأ والنسيان.

السابع عشر : أنّ اللطف في الواجبات واجب عليه تعالى إذا كان من فعله خاصّة (٢).

الثامن عشر : أنّه تعالى لم يجعل لكلّ الناس القوّة القدسيّة التي تكون علومهم معها فطرية القياس ، وتكون القوّة الوهميّة والشهويّة والغضبيّة مغلوبة دائما ، وهذا ظاهر ؛ فإنّه لم ينقل في عصر من الأعصار ذلك.

__________________

(١) النكت الاعتقادية (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٠ : ٣٥ ، ٣٩. الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد : ١٣٢. تجريد الاعتقاد : ٢٠٤. المسلك في أصول الدين : ١٠١ ـ ١٠٢. قواعد المرام في علم الكلام : ١١٧ ـ ١١٨. المغني في أبواب التوحيد والعدل (اللطف) : ٢٧.

(٢) الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد : ١٣٢. تجريد الاعتقاد : ٢٠٤. مناهج اليقين في أصول الدين : ٢٥٤.

٤٧

البحث الرابع : في أنّ نصب الإمام لطف

اعلم أنّ الإمام الذي حدّدناه إذا كان منصوبا يقرب المكلّف (١) بسببه من الطاعات ويبعد عن ارتكاب المقبّحات ، وإذا لم يكن كذلك كان الأمر بالعكس.

وهذا الحكم ظاهر لكلّ عاقل بالتجربة ، وضروري لا يتمكّن أحد من إنكاره ، فكلّ ما يقرّب المكلّفين إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعاصي يسمّى لطفا اصطلاحا (٢).

فظهر من ذلك أنّ كون الإمام منصوبا متمكّنا لطف في التكاليف الواجبة ، وما سيأتي في وجوب نصب الإمام يدلّ على أنّه لطف أيضا (٣).

البحث الخامس : لا يقوم غير الإمامة مقامها

لوجوه :

الوجه الأول : ما ذكره القدماء (٤) ، وهو : أنّ اتّفاق العقلاء في كلّ صقع وفي كلّ زمان على إقامة الرؤساء يدلّ على عدم قيام غيرها مقامها.

الوجه الثاني : أنّ الغالب على أكثر الناس القوّة (٥) الشهويّة [والغضبيّة] (٦) والوهميّة ، بحيث لا يستقبح كثير من الجهّال لذلك اختلال نظام النوع الإنساني في جنب تحصيل غاية القوّة الشهويّة له أو الغضبيّة ، ويظهر لذلك التغالب والتنازع

__________________

(١) في «ب» : (المكلّفين) بدل : (المكلّف).

(٢) النكت الاعتقادية (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٠ : ٣٥. الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد : ١٣٠. المسلك في اصول الدين : ١٠١. قواعد المرام في علم الكلام : ١١٧. المغني في أبواب التوحيد والعدل (اللطف) : ٩.

(٣) سيأتي في النظر الأوّل من البحث السادس من هذه المقدمة.

(٤) انظر : تقريب المعارف : ١٤٤. الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

(٥) في هامش «ب» : (قوى) خ ل.

(٦) من «ب».

٤٨

والفساد الكلّي ، فنحتاج إلى رادع لها ، وهو لطف يتوقّف فعل الواجبات وترك المحرّمات عليه ، فيجب.

وهو إمّا داخلي ، أو خارجي.

والأوّل ليس إلّا القوّة العقليّة ، وإلّا لكان الله تعالى مخلّا بالواجب في أكثر الناس ، وهذا محال.

ولأنّه إن امتنع معه الفعل [وكان من فعله تعالى كان إلجاء ، وهو ينافي التكليف ، وإن كان من فعل] (١) المكلّف نقلنا الكلام إليه.

وإن كان ممّا يختار معه المكلّف فعل الواجبات وترك المعاصي بحيث يوجب الداعي لذلك ويوجب الصارف عن ضدّه ، وإن (٢) جاز معه الفعل بالنظر إلى القدرة لا بالنظر إلى الداعي كما في العصمة ، فالتقدير خلاف ذلك في الأكثر ، والواقع ضدّ ذلك في غير المعصوم ، ولأنّ البحث على تقدير عدمه ؛ ولهذا أوجبنا الإمامة. ولأنّه يلزم إخلاله تعالى بالواجب.

وإن لم يكن كذلك لم نجد نفعا في ردعها ، وهو ظاهر ، والواقع يدلّ عليه.

والثاني إن كان من فعله تعالى بحيث كلّما أخلّ المكلّف بواجب أو فعل محرّما أرسل الله عليه عقابا أو مانعا ، أو في بعض الأوقات ، كان إلجاء ، وهو باطل.

وإن كان من فعله تعالى كتقرير الحدود ومن فعل غيره كإقامتها ، فهو المطلوب ؛ لأنّ ذلك الغير يجب أن يكون معصوما مطاعا ليتمّ له ذلك ، فلا يقوم مقامه غيره.

ولأنّه إن وجب وصوله كلّ وقت يجب أن يحتاج إليه لزم الجبر ، وإلّا فإمّا أن يكون من فعل الله تعالى بغير واسطة أحد من البشر بأن ينزل به العذاب إذا فعل أو آية عند عزمه ، والتقدير عدمه. أو بتوسّط البشر ، فهو مطلوبنا.

__________________

(١) من «ب».

(٢) في «أ» زيادة : (كان) بعد : (وإن) ، وما أثبتناه موافق لما في «ب».

٤٩

الوجه الثالث : أنّ تحصيل الأحكام الشرعية في جميع الوقائع من الكتاب والسنّة وحفظها لا بدّ له من نفس قدسيّة تكون العلوم الكسبيّة بالنسبة إليها كفطرية القياس معصومة من الخطأ ، ولا يقوم غيرها مقامها في ذلك ، إذ الوقائع غير متناهية والكتاب والسنّة متناهيان. ولا يمكن أن تكون هذه النفس لسائر الناس ، فتعيّن أن تكون لبعضهم ، وهو الإمام ، فلا يقوم غيره مقامه.

الوجه الرابع : المطلوب من الرئيس أشياء :

الأول : جمع الآراء على [الأمور] (١) الاجتماعية التي مناط [تكليف] (٢) الشارع فيها الاجتماع كالحروب والجماعات ، فإنّه من المستبعد ـ بل المحال ـ أن يجتمع آراء الخلق الكثير على أمر واحد وعلى مصلحة واحدة ، وأن يعرف الكلّ تلك المصلحة ويتّفقوا عليها ، وأن يجتمعوا من البلاد المتباعدة ، وأن يتّفق داعيهم (٣) في وقت واحد على الحرب ومدّته وجهته والمهاياة و [المصالحة] (٤) في جميع الأوقات ، فإنّ الاتّفاقي لا يكون دائما ولا أكثريا (٥). ولا يقوم غير الرئيس في ذلك مقام الرئيس ، وهو ظاهر.

الثاني : التقدّم في ما يحتاج فيه إلى الاجتماع ، فإنّ الناس لا يتّفقون على مقدّم ، فيؤدّي إلى الاختلاف ، وهو نقض للغرض ، فلا بدّ وأن يتميّز بأنّه من الله تعالى ، ويكون منزّها عن كلّ عيب ، ويكون معصوما ؛ لئلّا [ينفّر] (٦) الطباع عنه.

__________________

(١) في «أ» : (العلوم) ، وما أثبتناه من «ب».

(٢) في «أ» : (بتكليف) ، وما أثبتناه من «ب».

(٣) في هامش «ب» : (دواعيهم) خ ل.

(٤) في «أ» : (المصافحة) ، وما أثبتناه من «ب».

(٥) الشفاء (الطبيعيات) ١ : ٦٣.

(٦) في «أ» : (ينفوا) ، وما أثبتناه من «ب».

٥٠

الثالث : حفظ نظام النوع عن الاختلال ؛ لأنّ الإنسان مدني بالطبع لا يمكن أن يستقلّ وحده بأمور معاشه ؛ لاحتياجه إلى الغذاء والملبوس والمسكن وغير ذلك من ضروريّاته التي تخصّه ويشاركه غيره من أبناء نوعه فيها ، وهي صناعة لا يمكن أن يعيش الإنسان مدّة يصنعها ويستعملها ، فلا بدّ من الاجتماع على تلك الأفعال بحيث يحصل المعاون الموجب لتسهيل الفعل ، فيكون كلّ واحد يفعل لهم عملا [يستفيد] (١) منه الآخر ، لا يمكن النظام إلّا بذلك.

وقد يمتنع المجتمعون من بعضها ، فلا بدّ من قاهر يكون التخصيص منوطا بنظره ؛ لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، ولأنّه يؤدّي إلى التنازع.

الرابع : [الطبائع] (٢) البشرية مجبولة بالشهوة والغضب والتحاسد والتنازع ، والاجتماع مظنّة ذلك ، فيقع بسبب الاجتماع الهرج والمرج ويختلّ أمر النظام ، فلا بدّ من رئيس يقهر الظالم وينصر المظلوم ويمنع من التعدّي والقهر ، يستحيل عليه الميل والحيف ، وإنّما قصده الإنصاف ، ويخاف من عقوبته العاجلة ، فإنّ أكثر الناس لها أطوع من الآجلة ، لأنّا نبحث على هذا التقدير ، بحيث يقاوم خوفه شهوته وغضبه وحسده ، وغير الرئيس لا يقوم مقامه في ذلك ؛ لما تقدّم (٣). وأيضا فإنّه معلوم بالضرورة.

الخامس : الحدود لطف ، وقد أمر الشارع بها ، فلا بدّ لها من مقيم ، وغير الرئيس يؤدّي إلى الهرج والمرج والترجيح بلا مرجّح ، فلا يقوم غيره مقامه في ذلك.

السادس : الوقائع غير محصورة ، والحوادث غير مضبوطة ، والكتاب والسنّة لا يفيان بهما ، فلا بدّ من إمام منصوب من قبل الله تعالى ، معصوم من الزلل والخطأ ،

__________________

(١) في «أ» : (يستفيض) ، وفي «ب» : (يستغيض) ، وما أثبتناه للسياق.

(٢) من «ب».

(٣) تقدّم في الوجهين الأوّل والثاني من البحث الخامس.

٥١

يعرّفنا الأحكام [ويحفظ الشرع ؛ لئلّا يترك بعض الأحكام] (١) ، أو يزيد فيها عمدا أو سهوا ، أو يبدّلها. [وظاهر] (٢) أنّ غير المعصوم لا يقوم مقامه في ذلك.

السابع : تولية القضاة الذين يجب العمل بحكمهم في (٣) الدماء والأموال والفروج ، وسعاة الزكوات الأمناء على أموال الفقراء ، وأمراء الجيوش الواجبي الطاعة في الحروب وبذل النفس والقتل ، والولاة ، أمر ضروري لنظام النوع ، ولا بدّ أن يكون منوطا بنظر واحد ؛ لاستحالة الترجيح من غير مرجّح.

والواقع اختلاف الآراء وتضادّ الأهواء وغلبة الشهوات وتغاير [المرادات] (٤) ، فاتّفاق الخلق من أنفسهم ابتداء على واحد في هذه المناصب متعذّر بل متعسّر ، وفي كلّ زمان على شخص واحد بالشرائط التي يستحقّ معها ذلك ممتنع ، فإنّ الاتّفاقي يستحيل أن يكون أكثريّا أو دائميّا (٥).

وذلك الواحد الذي يناط تولية هؤلاء بنظره لا بدّ وأن يكون واجب الطاعة من قبل الله تعالى ، ويستحيل من الحكيم إيجاب طاعة غير المعصوم في مثل هذه الأمور الكلّية التي بها نظام النوع واختلاله ، وظاهر أنّ غيره لا يقوم مقامه على التقادير التي يبحث عنها.

الثامن : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لطف لا يقوم مقامه غيره ؛ لوجوبه من غير بدل ، فالأمر لطف واجب لا يقوم غيره مقامه ؛ لامتناع تحقّق الإضافة بدون

__________________

(١) من «ب».

(٢) في «أ» : (فظاهر) ، وما أثبتناه من «ب».

(٣) في «ب» زيادة : (الدين و) بعد : (في).

(٤) في «أ» : (الموجودات) ، وما أثبتناه من «ب».

(٥) الشفاء (الطبيعيات) ١ : ٦٣.

٥٢

تحقّق المضافين ، ولا بدّ وأن ينتهي إلى معصوم لا يجوز عليه الخطأ بوجه من الوجوه ولا السهو ، وإلّا لجاز أمره بالمنكر ونهيه [عن المعروف] (١) ، فلم يبق وثوق بقوله ، فانتفت فائدة التكليف به.

ولأنّه إمّا أن يكون كلّ واحد من الخلق مأمورا بأمر الآخر ونهيه من غير أن يكون هناك رئيس يأمر الكلّ وينهاهم ، أو مع رئيس.

والأوّل باطل ، وإلّا لوقع الهرج والمرج ، ولانتفى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ الغالب أن يرضى الواحد بترك تأليم غيره ليترك تأليمه ؛ لأنّا نبحث على تقدير غلبة القوّة الشهويّة والغضبيّة على القوّة العقليّة في أكثر الناس ، الذي يحصل بسبب تخليتهم على قوّتهم الشهويّة والغضبيّة ـ المقتضية لعدم التفاتهم إلى الشرائع ـ اختلال نظام النوع.

فتعيّن الثاني ، فلا يقوم غير الرئيس في ذلك مقامه.

ولا بدّ أن يكون ذلك الرئيس من قبل الله سبحانه وتعالى بحيث تجب طاعته وجوبا عامّا ، ولا بدّ أن يكون معصوما.

التاسع : العلم [بالأحكام] (٢) يقينا لا ظنّا بالاجتهاد ؛ لأنّ المصيب واحد على ما بيّناه في كتبنا الأصولية (٣) ، وقد تتعارض الأدلة و [تتساوى] (٤) الأمارات ويستحيل الترجيح بلا مرجّح ، وتتساوى أحوال العلماء بالنسبة إلى المقلّدين ، فلا بدّ من عالم بالأحكام يقينا [لا ظنّا بالأمارات ؛ ليرجع إليه من يطلب العلم ويطلب الصواب يقينا] (٥).

__________________

(١) في «أ» : (بالمعروف) ، وما أثبتناه من «ب».

(٢) من «ب».

(٣) مبادي الوصول إلى علم الأصول : ٢٤٤. تهذيب الوصول إلى علم الأصول : ٢٨٦.

(٤) في «أ» : (التساوي) ، وما أثبتناه من «ب».

(٥) من «ب».

٥٣

الوجه الخامس : أنّ نظام النوع لا يحصل إلّا بحفظ النفس ، والعقل ، والدين ، والنسب ، والمال.

فشرّع للأوّل القصاص ، وأشار إليه بقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (١).

و [للثاني] (٢) تحريم المسكر والحدّ عليه.

وشرّع للثالث قتل المرتدّ والجهاد.

و [للرابع] (٣) تحريم الزنا والحدّ عليه.

و [للخامس] (٤) قطع السارق وضمان المال.

وهذه أمور مهمّة يجب حكمها في كلّ شريعة في كلّ زمان ، ولا يتمّ إلّا بمتولّ لذلك يكون عارفا بكيفية إيجابها وكمّية الواجب ومحلّه وشرائطه ، ولا يقوم غيره مقامه في ذلك.

ولا بدّ أن يمتاز عن بني نوعه بنصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو معجزة ظاهرة ؛ لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، واجتماع جميع الآراء على غيره ؛ لاختلاف الأهواء. ولانّه لو لا ذلك لأدّى إلى الهرج والمرج.

الوجه السادس : أنّ قيام البدل مقامه لا يتصوّر إلّا في حال عدمه ، وقد تقرّر (٥) حصول العلم الضروري [بأنّ] (٦) التقريب والتبعيد عند عدم نصب الإمام أو تمكّنه على عكس ما ينبغي ، فيستحيل أن يكون له بدل.

__________________

(١) البقرة : ١٧٩.

(٢) في «أ» و «ب» : (الثاني) ، وما أثبتناه للسياق.

(٣) في «أ» و «ب» : (الرابع) ، وما أثبتناه للسياق.

(٤) في «أ» و «ب» : (الخامس) ، وما أثبتناه للسياق.

(٥) تقدّم تقريره في البحث الرابع من هذه المقدمة.

(٦) في «أ» و «ب» : (أنّ) ، وما أثبتناه للسياق.

٥٤

البحث السادس : في أنّ نصب الإمام واجب

والنظر في : الوجوب ، وكيفيّته ، وطريقه ، ومحلّه ، وإبطال كلام الخصم.

النظر الأوّل : في الوجوب

العقلاء كافة على الوجوب في الجملة ، خلافا للأزارقة (١) والصفرية (٢) وغيرهم من الخوارج (٣) (٤).

والدليل على الوجوب مطلقا أنّ الإمامة لطف ، وكلّ لطف واجب.

__________________

(١) الأزارقة : فرقة من فرق الخوارج اتّخذت اسمها من نافع بن الأزرق المكنّى بأبي راشد. ويزعمون أنّ دار مخالفيهم دار كفر ، وأنّ مخالفيهم من أهل القبلة مشركون ، وكلّ من لم يكن على مذهبهم فدمه ودم زوجته وولده حلال. ويعتقدون بأمور وبدع ثمان يطول الكلام فيها. مقالات الإسلاميين : ٨٦ ـ ٨٧ الفرق بين الفرق : ٨٢ ـ ٨٦ الملل والنحل ١ : ١١٨ ـ ١٢٢. اعتقادات فرق المسلمين والمشركين : ٢١.

(٢) الصفريّة : هم أتباع زياد بن الأصفر ، وقولهم ـ في الجملة ـ كقول الأزارقة في أنّ أصحاب الذنوب مشركون ، غير أنّ الصفريّة لا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم. وقد زعمت فرقة من الصفريّة أنّ ما كان من الأعمال عليه حدّ واقع لا يسمّى صاحبه إلّا بالاسم الموضوع له ، كزان ، وسارق ، وقاذف ، وقاتل عمد ، وليس صاحبه كافرا ولا مشركا ، وكلّ ذنب ليس فيه حدّ كترك الصلاة والصوم فهو كفر وصاحبه كافر. وفرقة أخرى قالت : إنّ صاحب الذنب لا يحكم عليه بالكفر حتّى يرفع إلى الوالي فيحدّه. وعليه صارت الصفريّة على ثلاث فرق. الفرق بين الفرق : ٩٠ ـ ٩١. الملل والنحل ١ : ١٣٧ ـ ١٣٨.

(٣) الخوارج : كلّ من خرج على الإمام الحقّ يسمّى خارجيا ، وأول ظهور للخوارج كان بعد مسألة التحكيم في زمن خلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، خرجوا ينادون : لا حكم إلّا لله. وقد افترقت الخوارج عشرين فرقة ، وكان يجمعهم تكفير عليّ وعثمان وأصحاب الجمل والحكمين ومن رضي بالتحكيم وصوّب الحكمين أو أحدهما. مقالات الإسلاميين : ٨٦ ـ ٨٧ ، الفرق بين الفرق : ٧٢ ـ ٧٤. الملل والنحل ١ : ١١٤ ـ ١١٥.

(٤) انظر : أوائل المقالات (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ٤ : ٣٩. المسلك في أصول الدين : ١٨٨. مقالات الإسلاميين : ١٢٥. كتاب المقالات والفرق : ٨ الفصل في الملل والأهواء والنحل ٤ : ١٤٩. الملل والنحل ١ : ١١٦. الأربعين في أصول الدين ٢ : ٢٥٦.

٥٥

والصغرى ضروريّة قد ذكرناها (١).

والكبرى مثبتة في علم الكلام (٢).

لا يقال : إنّما يجب اللطف عينا إذا لم يقم غيره مقامه ، أمّا إذا قام فلا.

سلّمنا ، لكنّ الوجوب لا يكفي فيه وجه المصلحة ما لم يعلم انتفاء جهات القبح بأسرها ، فلم لا يجوز أن تكون الإمامة قد اشتملت على نوع مفسدة لا نعلمه؟ فلا يصح الحكم بالوجوب ، وعدم العلم لا يدلّ على العدم ، ووجه الوجوب علينا كاف لا عليه تعالى.

ولأنّ في نصبه إثارة الفتن وقيام الحروب كما في زمن عليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام.

ولأنّ مع وجود الإمام يخاف المكلّف فيفعل الطاعة ويترك القبيح ؛ للخوف منه لا لكونه طاعة [أو] (٣) قبيحا ، وذلك من أعظم المفاسد.

ولأنّ فعل الطاعة وترك المعصية عند فقد الإمام أشدّ منهما عند وجوده ، فيكون الثواب عليهما في حال فقده أكثر منه في حال وجوده ، وذلك فساد عظيم.

سلّمنا كونها لطفا ، لكن لا نسلّم أنّها دائما كذلك ، فإنّه قد يكون في بعض الأزمنة من يستنكف عن اتّباع غيره ، فيكون نصب الإمام في ذلك الوقت قبيحا.

__________________

(١) ذكرها في البحث الرابع من هذه المقدمة.

(٢) انظر : النكت الاعتقادية (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٠ : ٣٩. أوائل المقالات (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ٤ : ٥٩. الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد : ١٣٥ ـ ١٣٦. تجريد الاعتقاد : ٢٠٤. المسلك في أصول الدين : ١٠١ ـ ١٠٢. الرسالة الماتعية (ضمن كتاب المسلك في أصول الدين) : ٣٠٦ ، ٣١١. وأشار المصنّف إلى ذلك في البحث الثالث من هذه المقدمة في المبدأ السابع عشر عند ذكره للمبادئ الثمانية عشر لمسألة ذلك البحث.

(٣) من «ب».

٥٦

سلّمنا ، لكن هنا لطف آخر فلا يتعيّن الإمامة للوجوب ؛ لأنّ الإمام معصوم ، فعصمته إن كانت لإمام آخر [تسلسل ، وإن كانت لا لإمام] (١) ثبت المطلوب ؛ لأنّ امتناع الإمام من المعصية وترك الواجب لا يتوقّف على الإمام ، بل له لطف آخر.

لا يقال : إنّا نعلم بالضرورة أنّ غير المعصوم احترازه عن فعل القبائح وفعله الطاعات عند وجود الإمام أتمّ.

لأنّا نقول : جاز أن يكون في بعض الأزمنة القوم بأسرهم معصومين فيه ، فلا يكون نصب الإمام هناك واجبا ؛ لقيام العصمة مقام الإمام في ذلك الوقت ، فجاز في كلّ وقت ، فلا يتعيّن وقت من الأوقات لوجوب نصب الإمام على التعيين.

ولأنّه جاز أن يكون غير العصمة سببا في الامتناع عن الإقدام على المعاصي.

سلّمنا ، لكنّ هاهنا ما يدلّ على أنّها ليست لطفا ؛ وذلك لأنّها إمّا أن تكون لطفا في أفعال الجوارح ، أو في أفعال القلوب ، والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل فعلى قسمين ؛ لأنّ القبائح منها ما يدلّ العقل عليها ، ومنها ما يدلّ السمع عليها. فإن جعلتم الإمام لطفا في الشرعيّات لم يلزم وجوبه مطلقا ؛ لأنّ الشرع لا يجب في كلّ زمان ، ووجوب اللطف تابع لوجوب الملطوف فيه.

وإن جعلتموه لطفا في العقليّات ، فنقول : القبائح العقليّة إن تركت لوجه وجوب تركها كان ذلك مصلحة دينيّة ، وإن تركت لا لذلك كان مصلحة دنيويّة ؛ لأنّ [في] (٢) ترك الظلم والكذب مصلحة دنيويّة ضرورة ؛ لاشتماله على مصلحة النظام.

لكن معنى ترك القبيح لقبحه هو أنّ الداعي إلى ترك الظلم هو كونه ظلما ، وذلك من صفات القلوب.

__________________

(١) من «ب».

(٢) من «ب».

٥٧

فإن جعلنا الإمام لطفا في ترك القبيح سواء كان [لوجه قبحه أو لا لوجه قبحه ، كان] (١) ذلك الترك مصلحة دنيويّة ، فيكون الإمام لطفا في المصالح الدنيويّة ، وذلك غير واجب بالاتّفاق على الله تعالى.

وإن جعلناه لطفا في ترك القبيح لوجه قبحه فقد جعلنا الإمام لطفا في صفات القلوب لا في أفعال الجوارح ، وذلك باطل ؛ لأنّ الإمام لا اطّلاع له على البواطن.

لا يقال : يحصل بسببه المواظبة على فعل الواجبات ، وهو يفيد استعدادا تامّا لخلوص الداعي في أنّ ذلك الفعل يفعل لوجه وجوبه ويترك لوجه قبحه ، وذلك مصلحة دينية.

لأنّا نقول : هذا يقتضي وجوب اللطف في المصالح الدنيويّة على الله تعالى ؛ لأنّ على ذلك التقدير يكون المصالح الدنيويّة والمواظبة عليها سببا لرعاية المصالح [الدينيّة] (٢) ، وذلك غير واجب اتّفاقا.

لأنّا نجيب : عن الأوّل : بأنّا قد بيّنا أنّ الإمام لطف لا يقوم غيره مقامه (٣).

ونزيد هاهنا فنقول : إنّ قيام البدل مقامه لا يتصوّر إلّا في حال عدمه ، وقد قلنا (٤) في صدر هذه المسألة : إنّا نعلم ضرورة أنّ التقريب والتبعيد عند عدم نصب الإمام أو تمكينه على عكس ما ينبغي ، فيستحيل أن يكون له بدل.

ولقوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ

__________________

(١) من «ب».

(٢) في «أ» : (الدنيوية) ، وما أثبتناه من «ب».

(٣) بيّنه في البحث الخامس من هذه المقدمة.

(٤) قاله في الوجه السادس من البحث الخامس من هذه المقدمة.

٥٨

وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (١) [حكم] (٢) بلزوم هذه المفاسد ؛ لانتفاء الرئيس ، فلو قام غيره مقامه لم تكن لازمة ؛ لانتفاء الرئيس.

ولقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣) جعل طاعة الرسول وطاعة أولي الأمر متساويتين ؛ لاقتضاء العطف المساواة في العامل ، وكما أنّ طاعة الرسول لا يقوم غيرها مقامها كذلك طاعة أولي الأمر ، فلا يقوم غيرها مقامها.

وأيضا فلأنّ الوجوب عند المعتزلة (٤) مشروط باشتمال الفعل على مصلحة أو وجه يقتضي وجوبه ، فإن قام غيره مقامه وكان مساويا له في الإمكان والقدرة عليه والمصالح والوجوه الموجبة للوجوب ، [بحيث] (٥) لا يشتمل أحدهما على وجه موجب للوجوب ويخلو الآخر عنه ، استحال إيجاب أحدهما عينا ووجب إيجابهما تخييرا ، [ولا شكّ في وجوب] (٦) الإمامة في الجملة ، فلو قام غيرها مقامها وكان

__________________

(١) الحج : ٤٠.

(٢) في «أ» : (حكيم) ، وما أثبتناه من «ب».

(٣) النساء : ٥٩.

(٤) المغني في أبواب العدل والتوحيد (العدل والتجوير) : ٧٢ ـ ٧٣.

المعتزلة : ويسمّون أصحاب العدل والتوحيد ، ويلقّبون بالقدرية والعدلية. وظهرت هذه الفرقة إلى عالم الوجود في زمن بني أميّة ، وجاءت كلمة (معتزلة) من قول الحسن البصري لتلميذه واصل بن عطاء عند ما اعتزل عن مجلسه إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد : اعتزل عنّا واصل. فسمّي هو وأصحابه ب : (المعتزلة). وتعدّ فرقة المعتزلة من الفرق الإسلامية الكبيرة ، وقد افترقت فيما بينها إلى عشرين فرقة ، كلّ واحدة تكفّر سائرها. الفرق بين الفرق : ١١٤ ـ ١١٦. الملل والنحل ١ : ٤٣ ـ ٤٦. موسوعة الفرق الإسلامية : ٤٧٤ ـ ٤٧٧.

(٥) من «ب».

(٦) في «أ» : (أو وجب) ، وما أثبتناه من «ب».

٥٩

مقدورا ممكنا استحال وجوبها عينا ، بل كان الله تعالى قد أوجب [أحدهما] (١) لا بعينه.

وهذا الدليل إنّما يتأتّى على قواعد المعتزلة [القائلين] (٢) بوجوب الإمامة سمعا (٣) ، ولا يتأتّى على قواعد الإمامية القائلين بوجوبها عقلا (٤) ولا على قواعد الأشاعرة (٥).

ولأنّه قد ثبت بالتواتر إجماع المسلمين في الصدر الأوّل أنّهم قالوا : يمتنع خلو الوقت عن خليفة (٦) ، ولو قام غير الإمامة مقامها لما امتنع ذلك.

[و] (٧) فيه نظر ، فإنّه يدلّ على ذلك الوقت ، والمدّعى في كلّ الوقت.

وعن الثاني بوجهين :

الأوّل : أنّ قرب المكلّفين من الطاعة وبعدهم عن المعصية ممّا يطابق غرض

__________________

(١) في «أ» : (لأحدهما) ، وما أثبتناه من «ب».

(٢) من «ب».

(٣) انظر : قواعد المرام في علم الكلام : ١٧٥. المغني (الإمامة ١) : ١٦ ، و ٤١ وما بعدها. كتاب المحصّل : ٥٧٤.

(٤) النكت الاعتقادية : ٣٩. الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد : ٢٩٦ ـ ٢٩٧. قواعد المرام في علم الكلام : ١٧٥. وانظر : كتاب المحصّل : ٥٧٣.

(٥) كتاب أصول الدين : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

الأشاعرة : هم أصحاب أبي الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعري ، كان معتزليا وأعلن تخلّيه عن المعتزلة في مسجد البصرة واعتنق مذهبا جديدا ، حيث جعل كلامه على أربعة أركان ، وكلّ ركن على عشرة أصول. كان هذا المذهب ضعيفا في بداية نشوئه ، وبمجرّد وصول الوزير نظام الملك إلى الوزارة قام بتوطيده وتقويته ، وأسّس المدرسة النظامية في بغداد لترويج ذلك المذهب. موسوعة الفرق الإسلامية : ١٠٩ ـ ١١٣.

(٦) انظر : الإمامة والتبصرة من الحيرة : ٢٥ ـ ٣٢. أوائل المقالات (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ٤ : ٣٩. المواقف في علم الكلام : ٣٩٥.

(٧) من «ب».

٦٠