بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

٢ ـ ومنه ما يكون كل من القولين في معنى القول الآخر ، لكن العبارتين مختلفتان ... ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد المقالتين وذم الأخرى.

٣ ـ ومنه ما يكون المعنيان غريبين ، لكن لا يتنافيان ، فهذا قول صحيح ، وهذا قول صحيح ، وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر ، وهذا كثير في المنازعات جداً.

٤ ـ ومنه ما يكون طريقتين مشروعتين ، قوم قد سلكوا هذا الطريق ، وآخرون قد سلكوا الأخرى ، وكلاهما حسن في الدين ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم أحدهما أو تفضيله بقصد صالح ، أو بلا علم أو بلا علم ولا نية.

٥ ـ الكل يستقي من أدب النبوة (١).

٦ ـ الحرص على تجنّب الفتيا خوفاً من الوقوع في الخطأ (٢).

٧ ـ كان الصحابة والتابعون يقولون عن آرائهم : ان كانت حقاً فمن الهام الله وتوفيقه ، وان كانت باطلاً فمنهم ومن الشيطان (٣). يقولون : رأينا صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب.

__________________

(١) أدب الاختلاف في الاسلام ـ الدكتور طه جابر العلواني : ١٢٦.

(٢) المصدر السابق.

(٣) الخصومة في الدين وأثرها ـ الشيخ محمد أبو زهرة ـ مجلة البلاد ـ عدد ٣١٩ ـ ص ٥٤.

٨١

مناقشة هادئة لمدرسة الجمهور السُنّي

(مدرسة الخلفاء)

قمنا ـ عن قرب ـ بتحليل مقتضب حول النظرية السُنّية وموقفها من الوقائع والأحداث التي جرت بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكيف تبلورت مدرسة أهل السُنّة والجماعة ، لتتشكل منها مذاهب متعدّدة ، تقلّصت الى أربعة مذاهب قائمة الى يومنا هذا؟

وقد أقام أصحاب هذه المدرسة رؤيتهم العقائدية والفقهية على أسس ومقدّمات أدرجوها في كتبهم وتصانيفهم الكثيرة ، والتي اعتمدت على روايات وأحاديث مدوّنة في بطون الكتب والآثار التأريخية خلال قرون من الزمان.

وسنناقش الآن هذه المباني والمسلّمات والقناعات لنعرف مدى صدْقها وانطباقها على الواقع التأريخي ، وهل تُمثّل الإمتداد الحقيقي الصادق للرسالة الاسلامية والاهداف النبوية التي بُعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من أجلها أم انها بالعكس من ذلك لم تجسّد الطموح المطلوب؟

ومهما يكن من شيء ، سنحاول الاجابة عن الأسئلة التالية :

ـ ماذا تعني الصحبة؟ وهل الصحابة هم كل أولئك الذين رأوا الرسول واحتكوا به ولازموه وصاحبوه واستمدوا من إشراقاته وفيوضه المقدسة ، ورافقوه فترة ليست بالقصيرة أم ان الصحبة تشمل حتى الرؤية الخاطفة والسريعة ، أو المُعاصَرة للرسول ، دون رؤيته والسماع منه فضلاً عن مرافقته؟

٨٢

ـ هل صحيح ان الصحابة تلقّفوا كل ما تفوّه به الرسول ، وحفظوه واستوعبوا جلّ الأحاديث النبوية وجسّدوها في حياتهم وسلوكهم خير تجسيد أم لم يكن ذلك صحيحاً؟

ـ هل ان الصحابة كانوا على درجة كبيرة من الايمان والاخلاص ، لأنهم لازموا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعايشوا معه واستوحوا من نور النبوة وأشعّة الوحي المباركة؟

ـ هل امتلك الصحابة ـ جميعاً ـ حصانة ضد الكذب على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وثبتت عدالتهم أجمعين ، وقام القرآن الكريم والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بتزكيتهم ، باستثناء المرتدين والمنافقين؟

ـ هل كانت الروابط بين الصحابة على درجة كبيرة من الاحترام المتبادل لكونهم استقوا من معين الرسول العذب؟

ـ هل حذّر الرسول الأكرم «عليه الصلاة والسلام» من سب الصحابة ولعنهم ونقدهم ، لأن ذلك يمثّل مساساً بنزاهتهم وقداستهم ، وهم الذين أعدّهم الله لحمل الرسالة ونقل الحديث النبوي الى الأجيال اللاحقة؟

ـ هل الصحابة ـ كما يقول أهل السُنّة والجماعة ـ عًصموا من الاقتحام في الذنب ، ولذا كانوا ـ كلهم ـ أسوة في الدين والزهد والمجاهدة؟

ـ هل ان جميع الصحابة لا يتطرّق اليهم الجرح ، ومن انتقص أحدهم فهو من الزنادقة؟

ـ هل ان الصحابة كافة ، أفضل من جميع الذين يجيئون من بعدهم؟

ـ هل على كل مسلم تزكية جميع الصحابة ، والكفّ عن الطعن فيهم ، ووجوب الثناء عليهم؟

٨٣

ـ هل الصحابة بريئون من كل نقص ، وان عدالتهم ثابتة معلومة لكل مسلم كتاباً وسنّة واجماعاً؟

ـ هل ان الله اختار أصحاب النبي الهادي صلى‌الله‌عليه‌وآله على جميع العالمين سوى الانبياء والمرسلين؟

ـ هل لا يحق لأحد أن يذكر شيئاً من مساوئ الصحابة وإلا ينبغي تأديبه ومعاقبته؟

ـ هل كان الصحابة ، متابعين ـ بشدة ـ للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد أخذوا أنفسهم بالعمل على سُنّته مع حمايته ونصرته؟

ـ هل ان آراء الصحابة وفتاويهم ، سُنّة يرجع اليها ويعمل بها؟

ـ هل أكرمَ الله تعالى الصحابة وزكّاهم ومدحهم في القرآن الكريم؟

ـ هل كان الصحابة ، خلفاء الرسول في جميع أعماله إلا النبوة والوحي؟ وهل هو مما معلوم من الدين بالضرورة عدالة الصحابة وعلو مكانتهم ، وإن هذه من مسائل العقيدة القطعية التي لا يختلف عليها إثنان؟

ـ هل فضيلة الصُحبة لا يعدلها عمل ، فقد اصطفاهم واختارهم الله لصحبة نبيه ، وقد ربّاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على مائدة القرآن والسنّة النبوية؟

موقف القرآن الكريم من الصحابة : بين المدح والذم

ـ تحذير إلهي للمؤمنين من اتّباع خطوات الشيطان ، ومن الزلل بعد مجيء البينات (١).

__________________

(١) البقرة ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

٨٤

ـ تبشير الله تعالى للرسول والمؤمنين بالنصر القريب (١).

ـ هناك مؤمنون لم يكسبوا في إيمانهم خيراً (٢).

ـ يحذّر الله المؤمنين اذا لقوا الكفّار في الزحف أن يولّوهم الأدبار (٣).

ـ ان الله أيّد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بنصره وبالمؤمنين (٤).

ـ والمؤمنون الذين جاهدوا مع الرسول بأموالهم وانفسهم هم المفلحون (٥).

ـ وهناك مؤمنون عندما جاءهم الاعداء ، زاغت أبصارهم وبلغت قلوبهم الحناجر وظنوا بالله الظنون ، واُبتلوا وزلزلوا زلزالاً شديداً (٦).

ـ وهناك مؤمنون يعصون الله والرسول ، ولذا فقد ضلوا ضلالاً مبيناً (٧).

ـ والمؤمنون الذين إن ينصروا الله ينصرهم ويثبّت اقدامهم (٨).

ـ وهناك مؤمنون في قلوبهم مرض ، إذا ذُكر القتال ينظرون الى الرسول نظر المغشي عليهم من الموت (٩).

ـ وهناك مؤمنون يرفعون اصواتهم فوق صوت النبي ويجهرون له بالقول كجهر

__________________

(١) البقرة ٢١٤.

(٢) المائدة ١٥٨.

(٣) الأنقال ١٥.

(٤) الأنقال ٦٢.

(٥) التوبة ٨٨.

(٦) الأحزاب ٩ ـ ١١.

(٧) الأحزاب ١٦.

(٨) محمد ٧.

(٩) محمد ٢٠.

٨٥

بعضهم لبعض ، فتحبط أعمالهم وهم لا يشعرون ، أما الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله ، فهم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، ولهم مغفرة وأجر عظيم ، والمؤمنون الذين ينادون الرسول من وراء الحجرات ، أكثرهم لا يعقلون (١).

ـ ومن المؤمنين من يحاول أن يعلّم الله بدينه ويمنّ على النبي «صلوات الله عليه» بإسلامه ، مع إن الله هو الذي هداهم للايمان إن كانوا صادقين (٢).

ـ وهناك مؤمنون لم تخشع قلوبهم لذكر الله ، وما نزل من الحق ، فقست قلوبهم ، وكثير منهم فاسقون (٣).

ـ ويحذّر الله المؤمنين من المناجاة بينهم بالاثم والعدوان ومعصية الرسول ، وانما ينبغي أن يتناجوا بالبر والتقوى (٤).

لاشك ان أي انسان مسلم يتوخى الحقيقة ، لابد وان يستنتج من خلال الآيات القرآنية السابقة التي تتمركز حول المؤمنين الذين عاصروا الدعوة الاسلامية في أبرز مراحلها الحساسة ، ولازموا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في حلّه وترحاله ، بأن المؤمنين ـ حسب مواقفهم من الأوامر الالهية والنبوية ، وسلوكهم العقائدي والاجتماعي والأخلاقي ، وتصرفاتهم الحياتية ـ لم يكونوا بذلك المستوى الايماني العميق والراسخ ، كما يتوهم البعض ، وإنما كان سلوكهم كسلوك الناس العاديين في كل العصور ، لا يفترقون عنهم بحال من الأحوال ، فهم يعصون الأوامر الالهية في أكثر الاحيان ، وتأتي الآيات القرآنية

__________________

(١) الحجرات ١ ـ ٤.

(٢) الحجرات ١٦ ـ ١٧.

(٣) الحديد ١٦.

(٤) المجادلة ٩.

٨٦

المتتابعة لتحذيرهم تارة أو لتوبيخهم وتهديدهم تارة أخرى ، من اتّباعهم لخطوات الشيطان ، ومن الشطط وممارسة الاعمال الشائنة كالربا ، وطالما حذّرهم الله من التمادي في إطاعة أهل الكتاب والكفار ، ابتغاء لعَرَض الحياة الدنيا ، أو اتخاذهم الكفار أولياء من دون المؤمنين ، أو تولية الأدبار عند لقاء الكفار والمشركين في الحروب ، أو الوقوع في الفتن ... وغير ذلك من ال تصرفات المنحرفة.

وأكثر هؤلاء المؤمنين ـ بالطبع ـ من الصحابة الملازمين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالرغم من أن الآيات القرآنية السابقة وصفتهم بالانحراف والزيغ عن الحق ، فإنها امتدحتهم في مواضع أخرى ، فاذا كان هؤلاء الصحابة ، محصّنين ضد الانحراف واقتراف السيئات ، وإذا كانوا ذوي تربية رفيعة ، فلِمَ كانوا يعصون الرسول ، ولا يحترمون وصاياه وأوامره ، ويتركونه حتى في الصلاة قائماً ، وينصرفون الى اللهو والتجارة؟ أهذه هي الأخلاق السامية التي يتمتعون بها كما تصوّرهم كتب الجمهور دائماً؟

الصحابة بين الايجابيات والسلبيات

صحيح ان بعض الصحابة كانوا مِثالاً يُحتذى به في الأخلاق والسلوك والنزاهة والتصرّف الرزين ، والطاعة لله ورسوله في كل المواقف ، ولكن هؤلاء ليس كل الصحابة بطبيعة الحال ، والقرآن الكريم حينما يصف المؤمنين ، سواء كانوا صحابة أو غير صحابة ، فهو يضع في نظر الاعتبار ، ظروف وأحوال المسلمين حين نزول الوحي على قلبه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، سواء كانوا في موضع مُناصر وايجابي من نبيهم ، أو بالعكس كان موقفهم متخاذلاً وسلبياً من أوامره صلى‌الله‌عليه‌وآله. وبتعبير آخر ، سواء كانوا في حالة طاعة أو معصية للرسول ، فلا يحق لنا والحال هذه أن ننتقي ما يروق لنا من ممارسات ومواقف المؤمنين أو الصحابة ، فندوّنها في كتبنا ومصنّفاتنا ، ونضع التحليلات والنظريات

٨٧

والقناعات والمسلّمات على أساسها ، ونتناسى كمّاً هائلاً من المواقف والممارسات السلبية والسيئة لعدد كبير من الصحابة او المؤمنين. والقرآن الكريم خير شاهد على ما نقول ، وليس من حقّنا أن نغضّ الطرف عن الموقف القرآني الجليّ من هؤلاء ، وندّعي ان الصحابة جميعاً ، كانوا نماذج رائعة ، لم تعص الله ورسوله طرفة عين أبداً ، وهم القدوة المثلى لكل المسلمين على مرّ التأريخ ، بينما يتخلّل مسيرتهم الكثير من الضعف والانكسار والتراجع وحتى الخيانة!!

وما نستشفّه من الآيات القرآنية الكريمة ، ان العديد من الذين يلتفون حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من المسلمين ، كانوا منافقين أو في قلوبهم مرض ، وليس شرطاً أن يكمنوا الكفر في أنفسهم ابتداءً ويُعلنوا إيمانهم ، وإنما قد يكونون مؤمنين بالدين ، ولكن لضعف إيمانهم ، تتزعزع العقيدة الدينية في نفوسهم بين آونة وأخرى ، فيعصون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويسخرون منه ، وينتقصونه تارة ، ويتخلّفون عن القتال ويولّون الأدبار تارة أخرى ، أو قد يكذّبون على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وينكثون عهودهم معه ، ويرغبون بأنفسهم عن نفسه ، وهؤلاء في الحقيقة ، ليسوا فقط من الأعراب المقيمين حول المدينة ، وإنما هم من أهل المدينة ، وربما من المقرّبين للرسول ، الى حد أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد يسمع لقولهم ويطمئن لهم ، وهؤلاء الذين مردوا على النفاق ، هم من الصحابة حتماً لأنهم من الذين يصحبون الرسول في حلّه وترحاله ، كما هو مفهوم من القرآن الكريم. وفي كل الأحوال تبقى الطاعة أو المعصية للرسول ، هما محوري إيمان الإنسان المسلم أو نفاقه ، سيما وان هناك مئات من الآيات القرآنية التي تؤكد عدم حصانة المؤمنين من الصحابة ضد الانحراف ، هذا فضلاً عن المسلمين الآخرين الذين يُعدّون صحابة بالرغم من نفاقهم أو كونهم ذوي قلوب مريضة.

٨٨

القرآن الكريم وعدالة الصحابة

بعد هذه الحقائق الغرّاء ، أليس من المفارقات العجيبة ، إدعاء أهل السُنّة والجماعة بوجود آيات قرآنية تثبت عدالة الصحابة جميعاً بالرغم من تعارضها مع الآيات السابقة؟

لنتعرّف على هذه الآيات التي يتشبث بها جمهور السنّة ويتخذونها دليلاً على عدالة الصحابة جميعاً وعصمتهم من الكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الآية الأولى :

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ (١).

ولسنا نعلم كيف يُستدل من هذه الآية المباركة على عدالة الصحابة وحصانتهم ضد الكذب على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فخيرية الأمّة الاسلامية المُخرجة للناس ، انما هي خيرية ابتداء ، بمعنى ان هذه ال أمة بما تمتلك من مقومات وتعاليم إلهية حقة ، هي خير الأمم بشرط أن تلازمها تلك الأسس والمقومات والمبادئ حتى آخر الشوط ، وأي توانٍ من تنفيذ واجباتها إزاء نفسها وإزاء الآخرين ، سيُفقدها تلك الخيرية بالتدريج ، ولذلك اشترط الله تعالى على هذه الأمّة ، اداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتُواصل خيريتها» وافضليتها على «الأمم السابقة» التي أُخرجت للناس قبل انحرافها عن تعاليم أنبيائها

ثم ان الله سبحانه وتعالى حين ذكر بأن الأمّة الاسلامية خير الأمم ، لم يتطرق الى عاقبة هذه الأمّة ، وهل ستبقى خيّرة وفاضلة ومتميزة الى النهاية أم انها تؤول الى الضعف والانكسار كالامم السابقة في هذه الآية بالذات والآيات التي أعقبتها ، وإنما

__________________

(١) آل عمران ١١٠.

٨٩

أشار الى انحراف ابنائها في آيات كثيرة أخرى كما سنؤكد ذلك في المستقبل.

ولا ننسى بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أكد مراراً بأن مصير الأمّة الاسلامية سيكون كمصير الأمم السابقة حذو النعل بالنعل (١).

ثم لا ندري ما العلاقة بين خيرية الأمّة وعدالة الصحابة كلهم أجمعين؟ ومن أين جاءت هذه الفكرة؟

ومن البديهي إذا امتدح أمّة أو مجتمعاً ما بأنه مجتمع نموذجي صالح ، فهل يعني انه يخلو من اللصوص والمخربين مثلاً؟ اللهم إلا إذا أحصى كل أفراد هذا المجتمع باسمائهم وشخوصهم فرداً فرداً ، ومثل هذه الخطوة تصلح في مجتمع صغير جداً لا يتجاوز العشرات ، ولكن يستحيل وصف مجتمع كبير جداً بأنه مثالي وخالٍ من أي شخص منحرف!!

والقرآن الكريم حين وصف الأمّة الاسلامية بالخيرية ، فانما وصفها بصورة إجمالية لا إستغراقية ، ولذلك فإن الآيات القرآنية جاءت بعد ذلك تترى لتصف حال وأوضاع المؤمنين والصحابة بشتى الأوصاف الايجابية والسلبية حسب المواقع والمجريات والمواقف لتثبت أن في الأمّة الاسلامية خلال البعثة المظفرة ، عصاة وخَوَنة ومتآمرين ، ومولّين للأدبار في الحروب ، الى غير ذلك من الاوصاف والنعوت ، فهل يحل لنا أن نكذّب سائر آيات القرآن الكريم لنتمسك بآية واحدة تصف الأمّة بالخيرية ، وندّعي بأن الصحابة الذين يشكّلون عمود الأمّة ومحورها ، ذوو عدالة مطلقة ولا يكذّبون أبداً؟ وإنّ حياتهم وسيرتهم مع الرسول ، ومع بعضهم البعض ، اتسمت بالصلاح والسداد والصدق

__________________

(١) سنن الترمذي ٤ : ١٣٥ ؛ المعجم الكبير ـ الطبراني ٦ : ٢٠٤ ؛ التمهيد ـ ابن عبد البر ٥ : ٤٥ ؛ الجامع الصغير ـ السيوطي ٢ : ٤٤٤.

٩٠

والنزاهة والاستقامة والاحترام المتبادل؟

هذا تكذيب للقرآن الكريم والوحي المقدّس!! ولا يحق لأي مسلم يتصف بالوعي والعقل السليم أن يتجرّأ على تجاوز هذه الحقائق القرآنية إلا إذا فقَدَ المنطق والعقلانية والموضوعية ليخبط خبط عشواء!!.

الآية الثانية :

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّـهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (٢).

هذه الآية تعني ان الله تعالى جعل الأمّة الاسلامية أمّة وسطاً بين الأمم الاخرى من خلال القرآن الكريم وتعاليم الاسلام التي حملها الهادي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ ان الامم السابقة هلكت بين الإفراط والتفريط في القيم الالهية ، وجاءت الأمة الخاتمة لتعيد الأمور الى نصابها الطبيعي ، وتكون شاهدة على كل الأمم السابقة ، ثم يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عليها شهيداً ... واللافت هنا كلمة (جعل) أي ان الله هو الذي جعل الأمّة الاسلامية وسطاً بين الامم ، وليس الأمّة هي التي اختارت الوسطية ، فما هي العلاقة بين هذه ال وسطية وبين الحصانة التي منحها أهل السُنّة والجماعة للصحابة أجمعين؟ ثم ان الله أشفع ذلك بأن جعل القبلة معياراً للدين يتبعون الرسول ويطيعونه ، من الذين ينقلبون على الاعقاب. وهذا دليل قاطع على إن هذه الأمّة الوسط ، لا تواصل ثباتها على الطريق الذي رسمه الله لها ، وانما ستتعرض للامتحان والافتتان في بدايتها ، وهناك من ينقلب على عقبيه بعد رحيل الرسول الى بارئه الاعلى ، لأن الذين يثبتون على هداهم

__________________

(١) البقرة ١٤٣.

٩١

واستقامتهم ، يجتازون اختباراً صعباً لا يطيقه إلا من أوتي حظاً عظيماً من التقوى والورع والايمان الراسخ وطاعة البشير النذير «صلوات الله عليه».

الآية الثالثة :

وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١).

الآية واضحة بأن الذين يطمح الله أن يكونوا دعاة الناس الى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، انما هم جزء من الأمّة ، أي من الصحابة الملتفين حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليسوا كلهم ، مع ان الآية لم تشر الى أية حصانة في الأمر سوى ن هؤلاء الصحابة من الثقاة الذين عليهم الاعتماد في نقل الحديث النبوي للآخرين ، بالطبع فهؤلاء حتماً ـ قمّة في طاعة الرسول واتِّباع نهجه ، والسير على خطاه ، ولذلك سيكون مصيرهم الفلاح في الآخرة.

الآية الرابعة والخامسة :

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (٢).

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٣).

الآية الكريمة تصف المهاجرين والانصار ، وصفاً حميداً ، مشترطة على المهاجرين ،

__________________

(١) آل عمران ١٠٤.

(٢) انفال ٧٢.

(٣) انفال ٧٤.

٩٢

الهجرة والجهاد بالأموال والانفس في سبيل الله ، أي عدم خذلان الرسول «عليه الصلاة والسلام» أو عصيانه خصوصاً في مسألة قتال الكفار والمشركين ، وأما الانصار فهم الذين آووا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمهاجرين ، ونصروا نبيهم ، ولذلك ستكون الولاية والنصرة من بعضهم البعض أمراً حتمياً لامناص منه ...

وهذا المدح الالهي مشروط بالنُصرة للرسول وطاعته ، وبالتالي يستثني كل العصاة والمتخاذلين من المؤمنين ، وليس هناك أي إشارة الى عدالة الصحابة أو حصانتهم في هذا الخصوص ، اللهم إلا نصرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ونصرة المهاجرين والانصار بعضهم البعض. وبالتالي فإن هؤلاء هم المؤمنون حقاً دون سواهم. وهم مع ذلك موضع ثقة الرسول ولا يكذبون عليه «صلوات الله عليه» في نقل الحديث ، لكن هؤلاء ليسوا كل الصحابة والمؤمنين كما هو معلوم.

الآية السادسة :

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١).

الآية المباركة من سورة التوبة ، تتحدث عن السابقين الاولين من الصحابة والمؤمنين المهاجرين والانصار ومن اتّبعهم بإحسان ، اي ان الاداة (من) تبعيضية ، تختص ببعض المهاجرين والانصار ، ولم تشملهم جميعاً برضا الله عنهم وراضهم عنه ، والفوز في الآخرة ، ومن ثم ينسحب الرضا والفوز على بعض التابعين وهم التابعين بإحسان دون غيرهم.

ثم من هؤلاء السابقين الاولين الذين امتدحهم الله بهذا المدح ، وضَمَن لهم رضاه

__________________

(١) التوبة ١٠٠.

٩٣

والفوز في الآخرة؟ لابد انهم الصحابة الذين أطاعوا الله ورسوله في حلّه وترحاله ولم يعصوه أبداً ... هؤلاء النمط العظيم الذين أسلموا وجههم لله ، ولم يتخلّفوا عن رسول الله ، وسلّموا له تسليماً. وهؤلاء هم الصادقون الذين سيكونون نَقَلة ثقاة للسُنّة النبوية دون غيرهم من المهاجرين والأنصار ، وهذا يدل على ان الصحابة من المؤمنين ، ليسوا كلهم عدولاً كما يدّعي الجمهور المسلم.

الآية السابعة :

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١).

وهذه الآية المباركة ، لا ترمز الى الصحابة كلهم ، من قريب أو بعيد ، وإنما تشير الى فئة من المؤمنين من الصحابة الذين كانوا طوع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يكونوا يكذّبونه طرفة عين أبداً.

الآية الثامنة والتاسعة :

إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّـهَ يَدُ اللَّـهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّـهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (٢).

لَّقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (٣).

الآيتان المذكورتان آنفاً تشيران إلى بيعة الرضوان التي جرت بُعيْد صلح الحديبية ، حيث قام المهاجرون والانصار بمبايعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تحت الشجرة ، وبالرغم من أن جلّ

__________________

(١) الأنبياء ١٠١.

(٢) الفتح ١٠.

(٣) الفتح ١٨.

٩٤

المسلمين بايعوا رسول الله وبضمنهم المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، إلا ان القرآن وصف البيعة كما جرت ، مشترطاً عدم نكث البيعة مستقبلاً ، أي الذين يوفون بعهدهم وسيؤتيهم الله الأجر العظيم بعكس الذين ينكثون بيعتهم لرسول الله ، وهؤلاء الناكثون للبيعة ، ليسوا بمؤمنين ابداً ، وعليه فإن الله تعالى رضي عن المؤمنين بالذات ، الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة ، دون الذين بايعوا ثم نكثوا البيعة كما هو معلوم.

فهؤلاء إنما بايعوا بأيديهم ـ ظاهراً ـ دون قلوبهم ، ولم يوفوا بعهودهم منذ اليوم الأول لأنهم كانوا من المُرائين والمتستّرين بالايمان.

الآية العاشرة :

لَّقَد تَّابَ اللَّـهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (١).

الآية الشريفة تمتدح فئة من المهاجرين والانصار خاصة ، وهم الذين اتبعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأطاعوه في ساعة الشدة والعسرة حيث ينفضّ أهل الدعة والراحة الذين يخلدون الى الارض دائماً ، ويدعون الرسول ومعه نخبة من الصحابة الأجلاء ، كما يقول أحدنا : «لقد نجح الطلاب الذين درسوا كثيراً».

وهذه الجملة تعني ان الطلاب الكسالى والمتخلّفين سيرسبون في الامتحان.

وهذا إن دلّ على شيء فانما يدلّ على ان المطيعين لرسول الله من المهاجرين والأنصار ، هم الذين تحيطهم الرعاية الالهية دون غيرهم.

بعد هذه اللمحة السريعة للآيات القرآنية التي يستدل بها جمهور أهل السُنّة

__________________

(١) التوبة ١١٧.

٩٥

والجماعة على اثبات عدالة الصحابة جميعهم دون استثناء ، ويزعمون أن لديهم «حصانة» ضد الكذب على رسول الله ، تدحض هذا الاستنتاج الذي يُعتبر من المسلّمات عند الجمهور السُنّي ، الآيات القرآنية نفسها ، إذ تثبت أن بعضاً من الصحابة والمؤمنين الذين ينزل الوحي وهم متحلّقون حول رسول الله ، كانوا بمستوى الايمان والتقوى والمسؤولية لحمل ونقل السُنّة النبوية لصدْقهم وأمانتهم ورعايتهم للعهود ، أما الآخرون فليس ما يثبت أو يدلّ على ثقة الرسول بهم ، بدليل ذمّهم من قبل الله ورسوله ، وان فيهم المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين والمشكّكين والضعفاء والعُصاة ، كما اتضح آنفاً ، وليس من حق أحد أن يمنحهم العدالة أو الحصانة ضد الكذب أو حتى العصمة كما يزعم البعض من أهل السُنّة والجماعة.

القرآن الكريم والاعتبار من الامم البائدة

ليس اعتباطاً ان يدعو الله تعالى المسلمين لأخذ العبرة من الأمم السالفة ، والسير في الأرض ، لينظروا كيف كان عاقبة المكذّبين؟ (١) وكيف أهلك الله تلك الأمم السابقة التي مكّنها في الأرض ، ثم أهلكها بذنوبها ، وأنشأ من بعدها أمماً أُخر (٢).

ولقد أهلك الله الامم المندثرة لمّا ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات ، ولكنهم لم يؤمنوا ... ثم جعل المسلمين خلائف لهم لينظر كيف يعملون؟ (٣)

ولولا كان من الامم السالفة ـ قبل مجيء الأمّة الاسلامية ـ قلّة ينهون عن الفساد في

__________________

(١) آل عمران ١٣٧ ؛ الأنعام ١١.

(٢) الأنعام ٦.

(٣) يونس ١٣ ـ ١٤.

٩٦

الأرض ، فأنجاهم الله دون الذين أترفوا وكانوا مجرمين (١).

ويقصّ الله على الرسول من أنباء الرُسُل ما يثبّت به فؤاده ، ولقد جاءه في هذه الانباء الحق وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (٢).

وهي سُنّة الله في الامم البائدة والسابقة للاسلام ، وليس لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا (٣).

ان هذا التأكيد القرآني لذكر الأمم البائدة ، وانه سُنّة في كل الأمم ، لا فرق بينها أبداً ، انما جاء ليحذّر الأمّة الاسلامية من مغبة عصيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومخالفة أوامره كيلا يصيب هذه الأمّة ما اصاب قبلها من الأمم الاخرى من عذاب شديد وليعتبر أولو الالباب.

ولو كانت هذه الأمّة مُحصّنة ضد الانحراف وعصيان أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لما اكد الله تعالى ان هذه السنن جارية حتى في الأمّة الاسلامية بعد ايمانها بالله ورسوله ، وليس فقط تنسحب على المشركين والكفار كما يعتقد المرء لأول وهلة ، وإلا لِمَ قال الله تعالى : لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (٤).

وسنفصّل هذه ال حقائق فيما يأتي ، ومهما يكن من أمر فإن كل مطّلع من ذوي الالباب والمنطق السليم ، عندما يتصفح القرآن الكريم ويبتعد عن روح التعصّب والأحكام المسبقة ، سيكتشف ان المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله (وأكثرهم ـ بالطبع ـ من الصحابة) ، لم يكونوا كلهم من أهل الطاعة والإتّباع المطلق لرسول الله حتى

__________________

(١) هود ١١٦.

(٢) هود ١٢٠.

(٣) الأحزاب ٦٢ ؛ الفتح ٢٣.

(٤) يونس ١٤.

٩٧

يُحمّلهم الله تعالى ، مهمة وأمانة حفظ وصيانة السُنّة النبوية ونقلها للأجيال اللاحقة ، اللهم إذا إذا توخّينا مناهضة الحقائق القرآنية الناصعة التي لا تقبل الجدل والمناقشة.

على انّ الصُحبة مع الرسول لو كانت تمتلك مقومات العدالة والنزاهة والحصانة ضد الانحراف ، لكون الصحابة ينهلون من نور النبوة وإشراقات الوحي ، فلِمَ هناك من الصحابة من يؤول مصيره الى الإرتداد عن الدين ، والكفر بالله ورسوله بعد الايمان وإعلان الشهادتين ، كما يشهد بذلك القرآن الكريم؟ إذ يقول تعالى في سوَرٍ عديدة عن ظاهرة الإرتداد : كَيْفَ يَهْدِي اللَّـهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَـٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّـهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١).

ونحن لو وصفنا الصحابة الكرام بأنهم اولئك الذين صحبوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولو لدقائق معدودة أو نظر اليهم أو نظروا إليه أو عاشوا في حياته ولم يروه ، بل وتنسحب الصُحبة حتى على الاطفال الصغار الذين كانوا في المهد ، بمعنى أنّ الصُحبة تشمل جميع أهل المدينة فضلاً عن المهاجرين والأنصار ، وهؤلاء كلهم على منزلة عظيمة من العدالة والعظمة والنزاهة التامة .. فإن ذلك يوجّه أكبر ضربة إلى القرآن الكريم في آياته المجملة والتفصيلية التي هي واضحة التعابير والمعاني بأن المؤمنين الذين كانوا يعيشون في مكة والمدينة ، وهم من الصحابة حتماً ، كان العديد منهم لا يحترم الرسول من قريب أو بعيد ، ويعصيه دائماً ولا يعير لأوامره أية أهمية.

__________________

(١) آل عمران ٨٦ ـ ٨٧.

٩٨

قضية التشبيه في الوجدان السُنّي

لو تمعنّا قليلاً في الموقف السُنّي من فكرة التشبيه والتجسيم ، لاستنتجنا بأن اهل السُنّة والجماعة ـ باستثناء الحنابلة وأصحاب الحديث ومنهم إبن تيمية ـ يدّعون أنهم من أهل التنزيه ، وليسوا مشبّهة ولا مجسّمة من الذين يشبّهون الخالق بالمخلوق.

فهم يقرّون بأن الصفات التي يذكرها القرآن لله تعالى هي بلا كيف ، أي انها لا تشبه أعضاء الانسان ، ولا نعلم كنهها ولا شكلها لان الله ليس كمثله شيء ، وانما نؤمن بها كما يطرحها القرآن الكريم ، أما الله سبحانه وتعالى فلا يُرى في الحياة الدنيا ، كما يزعم المشبّهة ، وانما يشاهده أهل الجنة في الآخرة.

ولنا ملاحظات عديدة حول الرؤية السُنّية لله تعالى :

١. إن الخطوة الاشعرية لتعديل المفهوم السُنّي عن الخالق عزّ وجل ، الى درجة إقرار أهل السُنّة والجماعة أنفسهم بأنهم قد نقّحوا أفكارهم من التشبيه واصبحوا من أهل التنزيه ، ما هي إلا خطوة غير موفّقة ، وان المشكلة بقيت تراوح في مكانها ، والتشبيه ظل متأصلاً في المفهوم السُنّي عن الله تعالى ، وإلا لو كان الله من المُحال ان يُرى في الحياة الدنيا ، فكيف سيُرى من قبل المؤمنين في الآخرة؟ والله هو الله!! والانسان هو الإنسان!! ولو كان لله اعضاء وجوارح من يدين ورجلين وكفين وأصابع ووجه وعينين ، وما إلى ذلك إلا إنها ليست كصفات الانسان ، وانما لها كنه لا تدركه أفهامنا وعقولنا؟ اي انها صفات حقيقية وليست مجازية.

٩٩

تُرى عندما يُقال لنا ، وجه أو عين أو يد او ساق أو كفّ فحسب ، فماذا يتراءى لنا في الحال؟ من المحتّم سوف تنطبع في أذهاننا ، عين أو يد أو ساق أو كفّ ، سواء كانت لإنسان أو حيوان ، لأن هذه ال صفات مشتركة بين الانسان والحيوان بل وحتى مع الجماد أيضاً ، لأن هناك يداً للكرسي أو الباب ، وكذلك ساقاً للمنضدة أو الكرسي أو السرير ، وعليه فسوف تنشأ صورة خيالية لهذه الصفات ، تشترك بين الأحياء والجمادات حتى تُضاف قرينة لتدل على كنه هذه اليد أو العين مثلاً .. وبالتالي فعندما نقول لله يد أو وجه أو ساق حقيقة ، فلابد وانها سوف تشغل حيزاً محدّداً في اذهاننا أو عقولنا ، وهي يد أو وجه أو ساق مماثلة أو مشابهة لليد أو الوجه أو الساق المتعارف عليها ، مما يمحي عنها الصفة المجهولة التي يؤكد عليها علماء السُنّة بقولهم : إن لله يداً ليست كأيدينا أو مجهولة الكيف ... وهكذا بالنسبة للعين أو الساق أو الوجه أو الكف وهكذا.

فهذه الاعضاء الالهية لابد وأن تشغل حيزاً من الوجود ، وبالتالي فهي مُحدثة طارئة ، واذا كانت تشغل حيزاً محدّداً من الفراغ ، فإن الجسم الالهي هذا سيتحدد في مكان معين ، ولا يملأ الوجود كله ، كما يفرضه المنطق والعقل الانساني.

إذ ان الله لا يخلو منه مكان في الارض ولا في السماء ، وهو مع الخلق أينما كانوا : «وهو معكم أينما كنتم» وهو أقرب إليهم من حبل الوريد ، وهو نور السماوات والأرض ، والآيات القرآنية الدالة على ذلك كثيرة جداً ، فكيف نحصره في جهة محدودة أو مكان معين ، كما هو حال المخلوقات والاشياء الحادثة؟

ثم لِمَ لا نتعامل مع التعبير القرآني في صفات الله تعالى من خلال قواعد البلاغة العربية اليت طالما تستخدم الاستعارة والمجاز في الابداع البلاغي حيث تمتلئ دواوين الشعر والنشر العربي بالكثير من صور الاستعارة في أشكال بيانية رائعة؟ فلِمَ نستثني القرآن وهو الكتاب الالهي الفصيح والبليغ من القواعد اللغوية والبلاغية ، ونُحكم على

١٠٠