بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

الصحيح (في نظره) ، وأضاف اليه أقوال الصحابة والتابعين وفتاواهم ورتّبه على أبواب الفقه. ويعتبر الموطأ ثروة فقهية خاصة ، فكانت بمثابة قانون شرعي لا يحيد عنه ، ولهذا اعتبر ـ بحق ـ إمام السُنّة في عهده ـ كما يقول الشاطبي.

وقد توخّى مالك في الموطأ ، ايراد القوي من حديث أهل الحجاز ، كما نقل ما ثبت لديه من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين ، وهو أول كتاب في الحديث والفقه ظهر في الاسلام ، وقد وافقه على ما فيه سبعون عالماً من معاصريه من علماء الحجاز.

ولمّا سُئل الامام مالك لِمَ سمّيت كتابك الموطّأ؟ قال : عرضت كتابي هذا على سبعين فقيهاً من فقهاء المدينة ، فكلهم واطأني عليه ، فسميته الموطّأ (١).

ويقول ابن خلدون بأن ما ثبت عند مالك هو ما في الموطّأ فقط ، روى مائة ألف حديث ، اختار منها في الموطأ عشرة آلاف ، ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسُنّة العملية حتى رجعت الى ٥٠٠ حديث مُسند ، بقدر ما يرى انه أصلح للمسلمين وأمثل في الدين.

الامام مالك عند أقرانه واتباعه

يقول الشافعي بأن مالك بن أنس معلّمي ، وعنه أخذت العلم ، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم ، وما أحد آمن علي من مالك بن أنس ، فاذا جاءك الحديث من مالك فشدّ به يديك ، كان مالك إذا شك في الحديث طرح كله ، فمالك حجّة الله على خلقه ، وما رأينا مثل مالك فكيف نرى مثله (٢)؟ وأوصى أحمد بن حنبل رجلاً يريد أن يحفظ

__________________

(١) الموطأ ـ الامام مالك ـ المقدمة ١ : ٤ ؛ تنوير الحوالك ـ السيوطي : ٦.

(٢) تهذيب التهذيب ـ ابن حجر ١٠ : ٨.

٦١

حديث رجل واحد بعينه : بأن عليه أن يحفظ حديث مالك (١).

مالك بن أنس والسلطة العباسية

المعروف عن الامام مالك بأنه كان يتهرب من حكّام زمانه من العباسيين ، كما انه لم يشهد الجماعة خمساً وعشرين سنة ، مخافة أن يرى منكراً ، فيحتاج أن يغيّره ، وهو متعذّر في عهد الجور هذا ، كما يذكر ذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء.

وفي عذر مالك : ان الصلاة خلف الفاسق باطلة عنده ، وأمراء ذلك العهد الذين كانوا يؤمّون الناس في صلواتهم أيضاً ، أكثرهم كانوا فسّاقاً وفجّاراً ، وعزلهم عن الامامة ما لا يقدر عليه الامام مالك ، فلذا كان لا يحضر الصلوات (٢).

وقد تأثر قلب الامام مالك بحوادث الزمان ، وشرور سلاطين العهد العباسي الى درجة ان ترك الاختلاط مع الأنام ، قائلاً : ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره (٣).

وبعض تلامذة مالك ، ساروا على خطاه ، فإن ابن القاسم كان يقول : ليس في قرب الولاة ، ولا في الدنو منهم خير (٤).

وقد غلب على الحجاز مذهب مالك ، ومنها انتشر في المغرب والاندلس ، فأهل المغرب جميعاً مقلّدون لمالك ، خاصة وان تلميذ الامام مالك (ابن وهب) قد تولّى قضاء القيروان ونشر (المدوّنة) فيها (٥).

__________________

(١) أدب الاختلاف في الاسلام : ١٢٩.

(٢) الامام مالك بن أنس ـ الشيخ سليم الله الموقر مجلة الفاروق ـ العدد (٨٧) ـ سنة ٢٠٠٦ م ـ باكستان.

(٣) وفيات الاعيان ـ ابن خلكان ٤ : ١٣٦ ؛ تذكرة الحفاظ ـ الذهبي ١ : ٢١١.

(٤) سير أعلام النبلاء ٩ : ١٢١ ؛ تأريخ الاسلام ـ الذهبي ١٣ : ٢٧٦.

(٥) المذاهب الفقهية : ٧٨.

٦٢

المذهب الشافعي (ناصر السُنّة)

المذهب الشافعي ، ثالث المذاهب السُنّية الأربعة المعتبرة لدى جمهور المسلمين ومؤسس المذهب هو الامام محمد بن إدريس الشافعي المولود عام ١٥٠ هـ والمتوفى عام ٢٠٤ للهجرة.

كان الشافعي في أول أمره من أصحاب الامام مالك ، كثير الاعتماد على الحديث ، ولا يحكم في القضايا بالرأي ، فلما نزل في بغداد ، ولقي أصحاب الامام أبي حنيفة ، مال الى الرأي ونقّح مذهبه على أساس ذلك ، ثم لما نزل في مصر ، ووجد حال مصر مختلفة عن حال الحجاز وحال العراق ، نقّح مذهبه للمرّة الثانية (١).

وكان الشافعي قد ارتحل الى العراق سنة ١٩٥ ، وأخذ عن محمد بن الحسن الشيباني ، تلميذ ابي حنيفة ، وتعلّم منه أسلوب الاجتهاد في الرأي ، وعاد الى مكة ، حيث اشتهر مذهبه ، ورجع الى بغداد وفيها كتب فقهه القديم الذي يمثله كتابه «الحجّة» ثم رحل الى مصر سنة ١٩٩ وفيها صنّف كتبه التي خططت الفقه وأصوله ، كان من أهمها : (الرسالة) في الأصول و(الأم) في الفقه (٢).

جمع الشافعي بين طريقة الحجازيين في الفقه ، وطريقة العراقيين فيه. وقد حدّث عن ابن حنبل ، وأبي ثور ، والمزني ، والربيع بن سليمان وغيرهم ، ووثقة الامام أحمد (٣).

__________________

(١) انظر : المذاهب الفقهية : ٨٢ ـ ٨٣.

(٢) انظر : المذاهب الفقهية : ٨٢ ـ ٨٣.

(٣) المصدر السابق : ٨٣.

٦٣

وما عدول الشافعي عن مذهبه القديم في العراق الى مذهبه الجديد في مصر ، إلا بسبب تغيّر البيئة والعرف في هذين القطرين ، في أغلب المسائل المعدول عنها .. وهذا من أسباب مرونة الفقه الاسلامي ومسايرته التطوّر.

الشافعي والحديث النبوي

الامام الشافعي يرى ان القرآن والسُنّة سواء في التشريع ، ولا يشترط شهرة الحديث ، كما اشترط ذلك الامام أبو حنيفة ، ولم يشترط عدم مخالفة الحديث لعمل أهل المدينة كما اشترط ذلك مالك ، بل وأنكر الاحتجاج بعملهم.

ويقول الشافعي : لقد ضلّ من ترك قول رسول الله لقول من بعده. ولا يشترط الشافعي في الحديث ما شرط الحنفية من كونه غير مخالف للأقيسة الظاهرة العامة في الشريعة ، الا أن يكون الراوي معروفاً بالفقه والاجتهاد كالخلفاء الراشدين ، وأطال في كتاب الأم ردّه على الاحتجاج بعمل أهل المدينة ، ودافع في رسالته دفاعاً قوياً مطوّلاً عن العمل بخبر الواحد كلما كان صحيحاً متّصلاً ، وبذلك كسب ثقة المحدّثين ، حتى سمّاه البغداديون : (ناصر السُنّة) ، بل ويعترف الشافعي نفسه بذلك ، حيث يقول : سُمّيت ببغداد (ناصر الحديث). ويُقال ان أصحاب الحديث كانوا رقوداً ، حتى جاء الشافعي ، فأيقظهم ، فتيقظوا.

وعموماً ان الشافعي ركّز على الحديث الصحيح أو الحسن ، وذهب إلى أن ليس لأحد حجّة مع رسول الله (١).

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ٩٠ ـ ٩١.

٦٤

الشافعي ورأي الصحابة

يخالف الشافعي مالكاً في الأخذ بقول الصحابي ، وذلك لأن الصحابي لمّا لم يرفع قوله الى النبي لا يحمل على السماع ، وهو كسائر المسلمين سواء في الاجتهاد. فهو يقول : كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته؟ ولكنه مع ذلك يعرف لهم قدرهم (١).

وبالتالي لا يحتج الشافعي بأقوال الصحابة ، لاحتمال كونها عن اجتهاد ، فيجوز عليها الخطأ ، ولم يذهب مذهب أبي حنيفة في التخيّر منها (٢).

وخالف الشافعي أيضاً الصحابي الذي يعمل بخلاف ما رواه ، فهو يعمل بالحديث المروي ، ويترك عمل الراوي بخلاف ما رواه ، إذ قد يكون عن اجتهاد ، او سهو ، أو نحو ذلك (٣).

الشافعي والقياس والاستحسان والاجماع ونحوه

يؤكد الشافعي ان الأصل هو القرآن والسُنّة ، فإن لم يكن فقياس عليهما ، ويعمل بالقياس بشرط ان يكون له أصل في الكتاب أو السُنّة ، وبالتالي فقد انكر الاحتجاج بقياس لا يقوم على علّة منضبطة ظاهرة ، أو بأن تكون علته منضبطة ، ولا يعمل

__________________

(١) المصدر السابق : ٦٨.

(٢) المذاهب الفقهية : ٦٨.

(٣) المصدر السابق : ٩٠.

٦٥

بالاستحسان إذ لا ضابط له ، وكتب كتاباً في إبطال الاستحسان اسماه : «إبطال الاستحسان» وشاع قوله : (من استحسن فقد شرّع) ، وبذلك خالف أبا حنيفة الذي كان من أبطال الاستحسان (١).

وعندما انكر الشافعي الاحتجاج بالاستحسان ، فقد خالف المالكية والحنفية معاً ، كما ردّ الشافعي «المصالح المرسلة» وأنكر حجّيتها ، فهو لا يعمل بالمصالح المرسلة التي يتوسّع فيها المالكيون ، كما نفى الشافعي الاستصلاح واستدل بايمانهم بكمال الشريعة واستيفائها لحاجات الناس : «ولو كانت مصالح الناس تحتاج الى أكثر مما شرعه ومما أرشد الى الاهتداء به لبيّنه ولم يتركه ، لانه سبحانه قال على سبيل الاستنكار : أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (٢).

أما الاجماع فقد استدل الامام الشافعي على حجيته بقوله تعالى : وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٣) ، وبالتالي فالاجماع عنده أكبر من الخبر المفرد (٤).

الشافعي لدى معاصريه

ينقل أهل السُنّة والجماعة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : أكرموا قريشاً فإن عالمها يملأ

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ٨٩ ـ ٩٠.

(٢) القيامة ٣٦.

(٣) النساء ١١٥.

(٤) أدب الاخلاق في الاسلام : ٤٠.

٦٦

طباق الأرض علماً (١).

أما تلميذه أحمد بن حنبل فيقول بأنه إذا سُئل في مسألة لا يعرف فيها خبراً ، قال فيها : يقول الشافعي لانه إمام عالم من قريش (٢).

ويقول الجمهور المسلمين عنه بأنه إمام الدنيا ، وعالم الأرض ، شرقاً وغرباً ، جمع الله له من العلوم والمفاخر ما لم يجمع لامام قبله وبعده ، وانتشر له من الذكر ما لم ينشر لأحد سواه (٣).

وينفرد الشافعي من بين أصحاب المذاهب السُنّية الأخرى بميزة ليست لسواه من أقرانه ، وهو انه استطاع أن يكتب بنفسه كتبه ، فترك لمن بعده مذهباً مُدوّناً ، قديمه في «المحجّة» وهو الذي أملاه على تلاميذه في العراق ، وحديثه «الأمّ» وهو مطبوع في سبعة مجلدات (٤).

__________________

(١) تأريخ مدينة دمشق ٥١ : ٣٢٦ ؛ تهذيب الكمال ـ المزي ٢٤ : ٣٦٤ ؛ انظر ؛ تأريخ بغداد ٢ : ٥٩.

(٢) كشف الخفاء ـ العجلوني ٢ : ٥٣ ؛ تأريخ مدينة دمشق ٥١ : ٣٣٩.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المذاهب الفقهية : ٩٢.

٦٧

المذهب الحنبلي و(التمسك بآثار السلف)

المذهب الرابع والأخير من المذاهب السُنّة لدى جمهور المسلمين ، هو المذهب الحنبلي الذي أسسه وأنشأه الامام أحمد بن حنبل ، حسب رؤية أهل السُنّة والجماعة ، وذلك في أواخر القرن الثاني للهجرة وبداية القرن الثالث.

أحمد بن حنبل ، عالم العراق ، عالم السُنّة ، كان جدّه حنبل والياً للأمويين على سرخس ، تلقى جانباً من العلم عن أبي يوسف ، وكتب أولاً كتب الرأي وحفظها ، ثم لم يلتفت إليها ، بل مال الى طلب الحديث ، فجمعه من الأٌقاليم ، وسافر مرّة من بغداد الى الشام ليسمع من محدّث مشهور هناك حديثاً واحداً (١).

غلب على ابن حنبل أنه لم يصنّف كتباً في الفقه ، وان تلاميذه وأصحابه قد جمعوا أقواله وقيّدوه.

من أقوال احمد بن حنبل : من لم يجمع علم الحديث وطرقه المختلفة ، لا يحلّ له الحكم على الحديث (٢).

مسند أحمد بن حنبل

لم يؤلف أحمد بن حنبل في موضوع غير الحديث والسُنّة ، وأبرز ما كتبه هو

__________________

(١) الامام ابن حنبل ـ الشيخ محمد حسن شمس : ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) المستدرك ـ ابن تيمية ٢ : ٢٧٥ ؛ البحر المحيط ـ الزركشي ٤ : ٤٩٠.

٦٨

«المُسند» الذي ضمّ أربعين ألف حديث ، وقد تأصّل المذهب الحنبلي في المُسند ، والأحاديث فيه مرويّة عن سبعمائة صحابي ، وقد رُتّب على أسماء الرواة ، لا على أبواب الفقه ، وهو المنهل الأول للفقه الحنبلي. ولم يرو أحمد فيه إلا عمّن ثبت عنده صدقه وديانته ، إذ يقول في المقدمة : ان هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من ٧٥٠ ألف حديث ، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله فإرجعوا إليه ، فإن وجدتموه وإلا فليس بحجّة (١).

أصول المذهب الحنبلي

١ ـ نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي المرفووع ، فإذا وُجد الحديث الصحيح المرفوع ، أفتى بموجبه ، ولم يلتفت الى ما يخالفه ، ولو كان من كبار الصحابة. ولم يكن يقدّم على الحديث الصحيح عملاً ولا رأياً ولا قياساً ، ولا قول صحابي ، ولا عدم العلم بالمخالف (الاجماع) فيقدمونه على الحديث الصحيح (٢).

٢ ـ فتاوى الصحابة عند عدم النص. فإذا وُجد لأحدهم فتوى ، ولا يعرف لها مُخالفاً من الصحابة ، لم يعد الى غيرها ، ثم لا يُقدّم عليها رأياً ولا قياساً ولا عملاً لأهل المدينة (٣).

٣ ـ إذا اختلف الصحابة في المسألة ، اختار أقرب أقوالهم الى الكتاب والسُنّة ، فإن لم يتبيّن له الأقرب ، حكى الأقوال المختلفة ، ولم يخرج عنها ، ولم يجزم بقول (٤).

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ١١٣.

(٢) أدب الاختلاف في الاسلام : ٩٨ ـ ٩٩.

(٣) المصدر السابق : ٩٩.

(٤) المصدر السابق.

٦٩

٤ ـ ويأخذ أحياناً بالقياس والاجماع ان وقع ، والمصالح المرسلة ، واذا لم يجد أثراً في السُنّة يقول بالتحليل أو التحريم ، يبقى الشيء على حلّه ، وكان يأخذ بالحديث المرسل والضعيف بشرط ان لا يتعارض مع قاعدة من قواعد الدين ، ولا أصلٍ من أصوله ، ولا حكم ثابتٍ بسُنّة صحيحة ، او قول الصحابي او إجماعٍ يخالفه ، ويقدّمه على القياس (١).

٥ ـ القياس عنده دليل ضرورة يلجأ إليها حين لا يجد واحداً من الأدلة المتقدمة ، وربما توقف في الفتوى ، وربما قال : لا أدري ، وكان يقول : لا يستغني أحد عن القياس (٢).

٦ ـ يقول أحمد : من ادّعى الاجماع فهو كاذب (٣).

٧ ـ تحفّظ أحمد على الاستحسان ، وقد أنكره فيما لا سند له ، والإستصحاب وسد الذرائع والمصالح المرسلة ، وكان المتأخرون من أهل الأصول والجدل من أصحاب الامام أحمد لم يجوزوا بناء الأحكام على المصالح المرسلة.

لقد قام المذهب الحنبلي على التمسك بآثار السلف وأقوال الصحابة والتابعين وفتاواهم ، فاصطبغت فتاوى احمد بالحديث.

وكان شديد الكراهة والمنع للافتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف ، كما قال لبعض أصحابه : إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام (٤).

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المذاهب الفقهية : ١٠٩.

(٣) الفتاوى الكبرى ـ ابن تيمية ٦ : ٢٨٦ ؛ المحلى ـ ابن حزم ١٠ : ٤٢٢.

(٤) سير أعلام النبلاء ١١ : ٢٩٦ ؛ الفتاوى الكبرى ـ ابن تيمية ٥ : ٢٧٧.

٧٠

مناقب أحمد في رأي أقرانه ومعاصريه

كان أحمد بن حنبل كغيره من أصحاب المذاهب الاسلامية الأخرى ، قد حظي باهتمام وتبجيل المعاصرين له من تلاميذه والسائرين على نهجه المذهبي وغيرهم.

فهذا ابن المديني يقول : بأن الله أعزّ الاسلام برجلين ، أبي بكر يوم الردّة ، وابن حنبل يوم المحنة. أما بشر الحافي فاعتبر ان أحمد قام مقام الانبياء (١).

وهذا أستاذه الامام الشافعي يقول بأنه خرج من بغداد ، وما خلّف فيها أحداً أتقى ولا أورع ولا أفقه ، ولا أعلم من أحمد من حنبل. ومدحه أيضا أبو زرعة الذي قال بأن أحمد كان يحفظ ألف ألف حديث. بينما يعتقد اسحاق بن راهويه بان ابن حنبل حجّة بين الله وبين عبده في أرضه ، فيما قال ابراهيم الخرقى بأنه رأى أحمد بن حنبل كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف ، يقول ما يشاء ، ويمسك ما يشاء (٢).

ابن حنبل ومحنة خلق القرآن

اُمتحن أحمد بن حنبل ، فأُريد منه القول بخلق القرآن ، بالسجن والتعذيب ، زمن المأمون والمعتصم والواثق ، فما وهن لذلك ، ولا استسلم ، وأصرّ على ان القرآن كلام الله غير مخلوق ، بل هو قديم ، كما ان كلام الله قديم ... وبذلك ثبّت عقيدة أهل السُنّة والجماعة.

فالقول بخلق القرآن حسب فهم ابن حنبل يعني انه حادث غير قديم ، لأن كل

__________________

(١) العلل ـ الامام أحمد بن حنبل ١ : ٥٣ ؛ تأريخ بغداد ٥ : ١٨٤ ؛ المغني ـ عبد الله بن قدامة ١ : ٥ ؛ الجرح والتعديل ـ ابن أبي حاتم الرازي ١ : ٣١٠.

(٢) المذاهب الفقهية : ١٠٥ ـ ١٠٦.

٧١

مخلوق حادث ، وهو أمر غير مقبول أبداً لأنه وحسب قول الامام أحمد : «الرحمن ، علّم القرآن ، خلق الانسان ، علّمه البيان» ، فأخبر تعالى ان القرآن من علمه ـ فالقرآن من علم الله ، ولذا فالقرآن كلام الله غير مخلوق. ويصرّ الامام ابن حنبل في هذا النطاق على ان من زعم ان القرآن كلام الله ووقف ، ولم يقل ليس بمخلوق ، فهو أخبث من القول الأول ، أي أخبث من القول بخلق القرآن نفسه. وفي رأيه ان طائفة قالت : القرآن كلام الله وسكتت ، وهي الواقفة الملعونة (١).

ابن حنبل وصفات الله تعالى

يعتقد الامام أحمد ، بأن النصوص الواردة في القرآن الكريم والحديث النبوي حول الاستواء والفوقية والنزول والعلو ، وفي الوجه والعين واليد والقدم ، غير معلومة الكُنْه والحقيقة ، ومذهبه فيها مذهب السلف ، وهو الايمان بها ، كما ورد في النصوص ، وانها صفات الله ، بلا تأويل ولا تعطيل ، مع كمال التنزيه المولى عن سمات الحدوث ، ومشابهة المخلوقات. وهذا مذهبه واعتقاده ، خلافاً لمن يتّهمه ويتّهم أتْباعه بالحلول والتجسيم والجهة ، حاشاه من ذلك ، وأحمد أرفع ديناً وأرسخ إيماناً ، من اعتقاد التشبيه في ذات المولى سبحانه وتعالى (٢).

وفاة الامام ابن حنبل

توفي الامام أحمد ابن حنبل سنة ٢١٤ من الهجرة ، وحرر أبو زرعة كُتُب أحمد يوم مات ، فكانت اثنى عشر حملاً وعدلاً ، وكل ذلك يحفظه عن ظهر قلب.

__________________

(١) طبقات الحنابلة ـ محمد بن أبي يعلى ١ : ٣٤٣.

(٢) المذاهب الفقهية : ١٠٧.

٧٢

على انّ تلامذة الامام وتلاميذهم ومن بعدهم ، دوّنوا الفقه الحنبلي في كتب كثيرة مشهورة بالرغم من انّ الامام نفسه كان يكره أن يُكتب شيء من رأيه أو فتواه ، ويقول لمن كتب من فقهه : «لا تكتب شيئاً فإني أكره أن أكتب رأيي».

٧٣

صحيح البخاري : (أصح الكتب وأثبتها)

محمد بن إسماعيل البخاري الفارسي (١٩٤ ـ ت ٢٥٦) ـ لدى الجمهور ـ ابتدأ في كتابة أبواب كتابه بالحرم الشريف ، ولبث في تصنيفه ١٦ سنة بالبصرة وغيرها ، حتى أتمّه ببخارى. خرّج البخاري صحيحه من ٦٠٠ ألف حديث (١).

وهبه الله تعالى قوة في الحفظ ، وضبطاً في النقل ، وقدرة في فهم العلل ، والتمييز بين الصحيح والسقيم ، وكتابه الجامع الصحيح الذي اتفق عليه جمهور علماء المسلمين ، بأنه أصحّ كتاب بعد كتاب رب العالمين ، دلالة صدق على ذلك (٢).

وكيف لا يكون كذلك ، وهو الحجة الثبت ، والحافظ الاعظم لسُنّة رسول الله ، قولاً وفعلاً وتقريراً ، والذي لا يستطيع أحد أن يجاريه في الضبط والاتقان ، سنداً ومتناً.

لقي البخاري أكثر من ألف رجل من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر ... ولا يُحصى كم دخل الكوفة وبغداد مع محدّثي خراسان. وخرّج كتابه (الصحيح) من زهاء ستمائة ألف حديث ، وما وضع حديثاً إلا اغتسل وصلى ركعتين ... صنّفه في ست عشرة سنة ، وسمعه منه تسعون ألف رجل.

لما بلغ السادسة عشرة ، كان يحفظ ٧٠٠٠٠ حديث ، من شيوخه : أحمد بن حنبل ، إسحاق بن راهويه (٣).

__________________

(١) مقدمة فتح الباري ـ ابن حجر : ٥ ؛ اضواء على السنة المحمدية ـ محمود ابو رية : ٢٩٩.

(٢) مقدمة فتح الباري ـ ابن حجر العسقلاني : ٦ ؛ كشف الظنون ١ : ٥٤١ ؛ اضواء على السنة المحمدية ـ محمود ابو رية : ٣٠٦.

(٣) مقدمة فتح الباري ـ ابن حجر العسقلاني : ٤٨٤ ؛ شرح صحيح مسلم ـ النووي ١ : ٢١.

٧٤

ـ عدد أحاديث (الصحيح) ٧٣٩٧ حديثاً.

قال محمد الأزهر السجستاني : كنت في مجلس سليمان بن حرب ، والبخاري معنا يسمع ولا يكتب ، فقيل لبعضهم ، ما له لا يكتب ، فقال : يرجع الى بخارى ، ويكتب من حفظه (١).

تميّز البخاري بذكاء وقّاد وذاكرة عجيبة ، وقوة حافظة ، فلم يُذكر لغيره ما ذُكر له ، فكان فرداً في ذلك. وقد كانت مصنفاته من الحديث ، نحو مئتي الف حديث مسنده (٢).

ولقد أثنى العلماء على البخاري في حفظه وتبحّره في العلم وتفقد الحديث والرواة وسير الأخبار وكشف العلل.

قال مسلم عنه : يا أستاذ الاستاذين وسيد المحدّثين ، وطبيب الحديث في عِلله ... أشهد أن ليس في الدنيا مثلك (٣).

أما أحمد بن حنبل ، فقال عنه : ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل (٤).

في حين قال شيخه نعيم بن حمّاد : إسماعيل فقيه هذه الأمّة (٥).

__________________

(١) مقدمة فتح الباري ـ ابن حجر العسقلاني : ٤٧٩ ؛ تغليق التعليق ٥ : ٣٩١.

(٢) سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ١٢ : ٤١١ ؛ اضواء على السنّة المحمدية : ١٤٤.

(٣) تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٥٢ : ٦٨ ـ ٧٠ ؛ البداية والنهاية ـ ابن كثير ١١ : ٣٢ ؛ مقدمة فتح الباري ـ ابن حجر العسقلاني : ٤٨٩.

(٤) تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ٢١ : ٢ ؛ مقدمة فتح الباري ـ ابن حجر العسقلاني : ٤٨٣ ؛ تهذيب الكمال ـ المزي ٢٤ : ٤٥٦ ؛ سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ١٢ : ٤٢١.

(٥) مقدمة فتح الباري ـ ابن حجر العسقلاني : ٤٨٣ ؛ سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ١٢ : ٤١٩ ؛ تأريخ الاسلام ـ الذهبي ١٩ : ٢٥٥ ؛ البداية والنهاية ـ ابن كثير ١١ : ٣١.

٧٥

صحيح مسلم : (مدار أهل الحديث)

هو مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ، ولد عام ٢٠٤ هـ ، وتوفي عام ٢٦١ هـ صنّف صحيحه من ٣٠٠ ألف حديث مسموع ، أما عدد أحاديث كتابه فأربعة ألف حديث دون المكرر (١).

صنّف صحيحه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه ، فكان يتحرّز ي الالفاظ ، ويتحرّى في السياق ، جمع الطرق كلها في مكان واحد ، واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات إلا في بعض المواضيع (٢).

فاق مسلم ، البخاري في جمع الطرق وحسن الترتيب ، وجعل لكل حديث ، موضعاً واحداً ، جمع فيه طرقه التي ارتضاها ، وأورد فيه أسانيده المتعدّدة وألفاظه المختلفة ، وكان لا يروي بالمعنى بخلاف البخاري.

يقول مسلم القشيري : صنّفت كتابي هذا من ثلاثمائة ألف حديث مسموع ، ولو اجتمع أهل الحديث وكتبوا فيه مئتي سنة فمدارهم على هذا السند ، وعدد ما فيه أربعة آلاف حديث (٣).

__________________

(١) شرح صحيح مسلم ـ النووي ١ : ٢١ ؛ تهذيب الكمال ـ المزي ٢٦ : ٦٢٧ ؛ تاريخ الاسلام ـ الذهبي ٣٤١ : ١٩.

(٢) مقدمة فتح الباري ـ ابن حجر العسقلاني : ١٠.

(٣) صحيح مسلم ـ مسلم بن الحجاج القشيري ٨ : ٢٥٤ ؛ شرح صحيح مسلم ـ النووي ١ : ١٥ ؛ تأريخ الاسلام ـ الذهبي ٢٠ : ١٨٦.

٧٦

ومسلم بالنسبة الى قلّة تكراره ، وحسن وضعه فهو يستوفي الوارد في الموضوع ثم لا يعود له بخلاف البخاري : ولكن جمهور الحفاظ وأهل الإتقان والغوص في أسرار الحديث على إن البخاري أفضل.

يقول الحاكم : ما تحت أديم السماء اصحّ من كتاب مسلم ، ووافقه علماء المغرب (١).

الاختلاف عند الجمهور : سائغ ومقبول

الخصومة في الدين ـ عند اهل السُنّة والجماعة ـ غير الاختلاف في فروعه التي لم يُنص عليها ، إذ ان الاختلاف ينشأ من الانبعاث الفكري ، والخصومة تنبعث من التعصّب ، فالاختلاف المخلص ينمّي العلم ، والخصومة تضيّعة.

وان الاختلاف الذي وقع في سلف هذه الأمّة ـ ولا يزال واقعاً ـ جزء من هذه الظاهرة الطبيعية ، فإن لم يتجاوز الاختلاف حدوده ، وإلتزمت آدابه ، كان ظاهرة إيجابية كثيرة الفوائد.

والآية الكريمة التي يعتمدها الجمهور السُنّي في مشروعية الاختلاف المذهبي ، قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ (٢).

وبعض فوائد الاختلاف المقبول لدى أهل السُنّة والجماعة : رياضة للأذهان وتلاقح للآراء ، تعدّد الحلول أمام صاحب كل واقعة ليهتدي الى الحل المناسب. التعرّف على

__________________

(١) صحيح مسلم ـ مسلم بن الحجاج القشيري ٨ : ٢٥٢ ؛ مقدمة فتح الباري ـ ابن حجر العسقلاني : ٨ ؛ تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ١٣ : ١٠٢ ؛ تذكرة الحفاظ ٥٨٩ : ٢.

(٢) هود ١١٨ ـ ١١٩.

٧٧

جميع الاحتمالات التي يمكن أن يكون الدليل رمى إليها بوجه من وجوه الأدلة ، تلك الفوائد وغيرها يمكن أن تتحقق إذا بقي الاختلاف ضمن الحدود والآداب التي يجب الحرص عليها ومراعاتها ، ولكنه إذا جاوز حدوده ... فيتحول الاختلاف من ظاهرة بناء الى معاول للهدم (١).

ان ما يذكره علماء أهل السُنّة والجماعة من اختلافات كان شأن جماهير الأمّة وغالبيتها العظمى ، حيث لا تتعدى الاختلافات ، القضايا الفقهية التي تضمحل وتزول حين يحتكم الى النصوص التي تعلو الشبهات من كتاب وسُنّة ، فيذعن الجميع للحق في ظل أدب نبوي ، كريم ، لأن سبب الخلاف لا يعدو أن يكون ، عدم وصول سُنّة في الأمر لأحدهم ، ووصولها للآخر ، أو اختلافاً في فهم النص أو في لفظه.

ولعل من فضل الله تعالى ـ حسب قول أهل السُنّة ـ أن جعل الجانب الفقهي في دائرة ما يجوز فيه الاختلاف ، وان أهل العلم أهل سعة وما برح المفتون يختلفون ، فيحلّل هذا ، ويحرّم هذا (٢).

وعليه فإن هذا يدلّنا على فقه عظيم وهو : ان الخلاف حاصل وواقع لاشك فيه ولا مندوحة عنه ، وقد صنّفت تصانيف لأسباب اختلاف الأئمة في الفروع ، طبق الآية الكريمة السابقة من سورة هود.

والاختلاف بين البشر ، أمر لا مفرّ منه ، وأسبابه متعدّدة ، وهو سُنّة كونية خلقها الباري تعالى لحكمة بالغة ، لذلك فإننا لا نستطيع أن نقضي على الاختلاف بين الناس قضاء كاملاً ، بل غاية ما يمكن أن نبلغه هو أن نضيّق من شقة الخلاف والعمل على

__________________

(١) أدب الاختلاف في الاسلام ـ الدكتور طه جابر العلواني : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) المصدر السابق. ٧٧.

٧٨

التقارب بقدر المستطاع.

وهذه الاسباب القائمة على الخلاف الفقهي والعقائدي ، لم تكن من أصول الشرع ولا من أركان العقيدة الاسلامية التي يكفّر منكرها أو منكر أصل منها ، كما لم تكن من نصوص الشرع القطعية في ثبوتها أو دلالتها ، التي لا اجتهاد فيها ولا خلاف.

ولا ريب ان اختلاف الفقهاء في مجرّد الفروع والاجتهادات المدنية الفقهية ، لا في الأصول والعقائد. ولم يسجّل في تأريخ السلام اختلاف أدى الى صدام مسلّح هدّد وحدة المسلمين ، لانه اختلاف جزئي لا يضرّ.

لقد اختلف الأئمة في كثير من الأمور الاجتهادية ، كما اختلف الصحابة والتابعون قبلهم ، وهم جميعاً على الهدى ، مادام الاختلاف لم ينجم عن هوى أو شهوة أو رغبة في الشقاق ... ولذلك فإن أهل العلم كانوا يقبلون فتاوى المفتين ، فيصوّبون المصيب ، ويستغفرون للمخطئ ، ويحسنون الظن بالجميع.

أسباب الاختلافات الفقهية في عصر الفقهاء :

١ ـ أسباب تعود الى القواعد الأصولية وضوابط الاستنباط : وهذه القواعد والضوابط اختلفت مذاهب المجتهدين فهيا : فنجم عن الاختلاف فيها ، اختلاف في المذاهب الفقهية التي يذهب كل منهم إليها ، فبعض الأئمة يذهب الى ان فتوى الصحابي إذا إشتهرت ولم يكن لها مخالف من الصحابة انفهسم ـ حجّة ، لأن الثقة بعدالة الصحابة تشعر بأن الصحابي ما أفتى به الا بناءً على دليل ، أو فهم دليل ، أو سماع من رسول الله «صلوات الله عليه» لم يشتهر ولم يصل إلينا.

وبعضهم لا يرى في مذهب الصحابي هذا الرأي ، ويعتبر الحجّة فيما يرويه الصحابي عن رسول الله فيما يراه ، فتختلف مذاهب الفقهاء بناء على ذلك.

٧٩

وبعض المجتهدين يأخذ ب«المصالح المرسلة» ، باعتبار أن الشارع ما شرع شرح الاحكام الا لتحقيق مصالح العباد. وهناك آخرون لا يأخذون بهذا ولا يعتبرونه أمراً تستفاد منه الأحكام ، فتختلف أقوالهم في الوقائع بناء على ذلك ، وهناك أمور أخرى ، من هذا النوع ـ اختلف المجتهدون فيها ، وتعرف في كتب أصول الفقه ب«الأدلة المختلف فيها» كالاستحسان والعرف والعادة ووغيرها. كما ان هناك اختلافاً في بعض الأمور المتعلقة بدلالات النصوص ، وطرق تلك الدلالات ، وما يحتج به منها (١).

الخلاف المعتبر : هو الخلاف السائغ ، ووجوده بين الأمة ظاهرة طبيعية لابأس فيها ولا توجب فرقة ولا تناقضاً ولا تحزّباً ولا معاداة ، فهو اختلاف النوع كما يعبّر عنه محققو العلماء.

وهو مَعْلم من معالم كمال الشريعة وصلاحها لكل انسان ولكل زمان. وهو الخلاف المبني على موارد الاجتهاد المعتبر ، وهي : ما ترددت بين طرفين واضحين وأصلين شرعيين ، الحق متردد بينهما ، وبه حصل الاشكال والخلاف (الموافقات للشاطبي ٤ / ٥٥ ـ ١٦٠).

وشيخ الاسلام «ابن تيمية» حين ذكر اختلاف التنوع ، أورد أنه على وجوه : (ملخصاً من الاقتصاد ومجموع الفتاوى) :

١ ـ منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين مشروعاً ، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة ، فزجرهم رسول الله «صلوات الله عليه» عن الاختلاف وقال : (كلاكما محسن) رواه البخاري ، ومثله الاختلاف في صفة الأذان والإقامة والتشهّد والاستفتاح.

__________________

(١) أدب الاختلاف في الاسلام ـ الدكتور طه جابر العلواني : ١١٦.

٨٠