بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

الغرّ المحجّلين (١). ولا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي (٢) ، وأنت تبيّن لأمّتي ما اختلفوا فيه من بعدي (٣) ، وان حبي من بعدي حب عليّ ، وطاعته طاعتي ، ومخالفته مخالفتي (٤) ، وهذا عليّ مع القرآن ، والقرآن مع عليّ ، لا يفترقان حتى يردا على الحوض (٥) ، وأنا وعليّ ، حجة على أمّتي يوم القيامة (٦) ، وعنوان صحيفة المؤمن حب عليّ بن أبي طالب (٧) ، وهو راية الهدى ومنار الايمان ، إمام أوليائي ، ونور من أطاعني وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين (٨) ، وأوصى الله الى ابراهيم : إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا (٩) ، فقال ابراهيم : يا رب ومن ذريتي أئمة مثلي ، قال الله : لا أعطينك لظالم من ذريتك. قال ابراهيم : وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ ٣٥ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا

__________________

(١) المعجم الصغير ـ الطبراني ٢ : ٨٨ ؛ كنز العمال ـ المتقي الهندي ١١ : ٦١٩.

(٢) سنن النسائي ٨ : ١١٦ ؛ سنن الترمذي ٥ : ٣٠٦ ؛ مسند احمد ١ : ٩٥.

(٣) المستدرك ـ الحاكم النيسابوري ٣ : ١٢٢ ؛ كنز العمال ـ المتقي الهندي ١١ : ٦١٥.

(٤) مجمع ال زوائد ـ الهيثمي ١٠ : ٣٤٦ ؛ المجم الاوسط ـ الطبراني ٢ : ٣٤٨.

(٥) المستدرك ـ الحاكم النيسابوري ٣ : ١٢٤ ؛ المعجم الاوسط ـ الطبراني ٥ : ١٣٥ ؛ الجامع الصغير ـ السيوطي ٢ : ١٧٧ ـ الحديث ٥٥٩٤ ؛ كنز العمال ـ المتقي الهندي ١١ : ٦٠٣ ـ الحديث ٣٢٩١٢.

(٦) تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٤٢ : ٣٠٩ ؛ ميزان الاعتدال ـ الذهبي ٤ : ١٢٧ ؛ كنز العمال ـ المتقي الهندي ١١ : ٦٢٠ ـ الحديث ٣٣٠١٣.

(٧) الجامع الصغير ـ السيوطي ٢ : ١٨٢ ـ الحديث ٥٦٣٣ ؛ لسان الميزان ـ ابن حجر ٤ : ٤٧١.

كنز العمال ـ المتقي الهندي ١١ : ٦٠١ الحديث ٣٢٩٠٠.

(٨) تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ١٤ : ١٠٢ ؛ نظم درر السمطين ـ الزرندي الحنفي : ١١٤ ؛ ميزان الاعتدال ـ الذهبي ٤ : ٣٦٥.

(٩) البقرة ١٢٤.

٥٤١

مِّنَ النَّاسِ (١) ، قال النبي : فانتهت الدعوة إلي وإلي عليّ ، لم يسجد أحد منّا لصنم قط ، فاتخذني الله نبياً ، واتّخذ علياً وصياً (٢) ، وعليّ امام البررة ، وقاتل الفجَرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله (٣) ، وعليّ هو الصدّيق الأكبر ، وفاروق هذه الأمّة (٤) ، ومن ناصب علياً الخلافة بعدي فهو كافر ، وقد حارب الله ورسوله ، وعليّ بن أبي طالب خير من أخلف بعدي (٥) ، وانت خير أمّتي في الدنيا والآخرة (٦) ، وهو مبيّن لأمّتي ما أُرست به من بعدي (٧) ، ومن سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليتولّ علياً من بعدي ، وليوال وليه ، وليقتد بأهل بيتي من بعدي ، فإنهم عترتي ، خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهمي وعلمي ، فويل للمكذبين بفضلهم من أمّتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي ، ومن اراد ان يحيا حياتي ويموت ميتتي ، فليتول عليّ بن أبي طالب، فانه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم باب ضلالة (٨) ،

__________________

(١) إبراهيم ٣٥ ـ ٣٦.

(٢) شواهد التنزيل ـ الحاكم الحسكاني ١ : ٤١٢.

(٣) الجامع الصغير ـ السيوطي ٢ : ١٧٧ ـ الحديث ٥٥٩١ ؛ كنز العمال ـ المتقي الهندي ١١ : ٦٠٢ الحديث ٣٢٩٠٩.

(٤) مجمع الزوائد ـ الهيثمي ٩ : ١٠٢ ؛ الاستيعاب ـ ابن عبد البر ٤ : ١٧٤٤ ؛ المعجم الكبير ـ الطبراني ٦ : ٢٦٩.

(٥) شواهد التنزيل ـ الحاكم الحسكاني ١ : ٩٩ ؛ نظم درر السمطين ـ الزرندي الحنفي : ٩٨ ؛ مناقب علي بن ابي طالب ـ ابن مردويه : ١٠٢.

(٦) مناقب علي بن ابي طالب ـ ابن مردويه : ١١١.

(٧) كنز العمال ـ المتقي الهندي ١١ : ٦١٤ ـ الحديث ٣٢٩٨١.

(٨) المستدرك ـ الحاكم النيسابوري ٣ : ١٢٨ ؛ المعجم الكبير ـ الطبراني ٥ : ١٩٤ ؛ كنز العمال ـ المتقي الهندي ١١ : ٦١١.

٥٤٢

وعليّ مع الحق والحق مع علي ، اللهم أدر الحق مع عليّ حيث دار (١) ، وقال رسول الله في مرضه : ادعوا لي أخي ، فجاء أبو بكر فأعرض عنه ، ثم قال : ادعوا لي أخي ، فجاء عثمان ، فأعرض عنه ، ثم دعي عليّ ، فسترد بثوبه وأكبّ عليه ، فلما خرج من عنده ، قيل له : ما قال لك؟ قال : علّمني ألف باب ، كل باب يفتح له ألف باب (٢).

تساؤل وجيه وإجابة مقنعة

يتساءل أهل السُنّة والجماعة ، بإن فضائل عليّ ومناقبه التي تدلّ على عصمته وإنه الفيصل بين الحق والباطل ، والصواب والخطأ ، والهدى والضلال ، والايمان والنفاق ، ووجوب طاعته وعدم عصيانه ، ووجوب محبته وعدم بغضه ، ولا يحق لأحد بغضه لأن من أبغضه فإنما يبغض الله ورسوله ، وما إلى ذلك من الفضائل والمناقب ، هذه الفضائل والمناقب ، يوجد مثلها في حق الصحابة والخلفاء الأوائل ، وليس هو ينفرد بها دون الآخرين؟ فكما لأهل البيت وعليّ بالخصوص ، تلك المناقب الكبرى ، فإن للصحابة والخلفاء ، مناقب وفضائل على غرارها ، فلماذا هذا التأكيد من أتباع أهل البيت على عليّ دون سواه من الخلفاء والصحابة الآخرين؟

والجواب عن هذا التساؤل ، دعانا للتحرّي في هذه الاشكالية المطروحة ، والتوصّل الى النتيجة التالية :

لم يكن في عهد الخلفاء الاربعة المُسمى بالراشدين ، سوى أحاديث نبوية كثيرة في

__________________

(١) المستصفى ـ الغزالي : ١٧٠.

(٢) تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٤٢ : ٣٨٥ ؛ سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ٨ : ٢٤ ؛ البداية والنهاية ـ ابن كثير ٧ : ٣٩٦.

٥٤٣

إبراز مناقب وفضائل أهل البيت على المستوى العام ، وفي عليّ بن أبي طالب على المستوى الخاص ، مع أحاديث في فضائل بعض الصحابة كعمار بن ياسر وسلمان الفارسي وابي ذر الغفاري وغيرهم.

ولما مضى عهد الخلافة المسماة بالراشدة ، وجاء العهد الاموي باستيلاء معاوية بن أبي سفيان على سدّة الحكم ، وخلو الجو من منافسين ، نظر (اي معاوية) فلم يجد هناك أحاديث نبوية في مدح الخلفاء الثلاثة الاوائل ولا في الصحابة بوجه عام ، غير تلك الاحاديث الهائلة في إظهار قداسة ومكانة أهل البيت وعليّ بالذات.

ومعاوية يعدّ نفسه وريث الخلفاء الاوائل وتيار الخلافة التي أفرزتها السقيفة على حساب اهل البيت ، فلابد من تجذير لهذا التيار الغاصب للخلافة الحقيقية ، وبالمقابل تغييب دور اهل البيت الحقيقي والتشويش عليه ، من خلال إسباغ أدوار ومناقب مشابهة ومماثلة لأدوار ومناقب ومكانة أهل البيت على الصحابة والخلفاء الاوائل ، ليصبح الصحابة بدلاً عن اهل البيت وفي مكانتهم ، والخلفاء الثلاث الاوائل بدلاً عن علي ّ وفي مكانته أو أعلى شأناً منه.

وهذه الخطوة في الحقيقة تُضفي «شرعية» وهمية على التيار الذي استحوذ على موقع أهل البيت ، دون ان تكون له مقوّمات الخلافة وليس له مكانة أهل البيت ومواقعهم الدينية والعلمية والاجتماعية ، وليس له منزلة كمنزلتهم التي بوأهم لها رسول الله.

فأكثر الاحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة ، اُفتعلت في أيام بني أمية تقرّباً ، بما يظنون انهم يرغمون به أنوف بني هاشم (١) ، وكانوا يقومون بمعارضة فضائل عليّ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١١ : ٤٦.

٥٤٤

ونسبتها الى غيره.

ويروي التأريخ الصحيح ، ان معاوية بن أبي سفيان أمر الرواة الذين كانوا تحت أمره ، من أمثال أبي هريرة وسمرة بن جندب وعبد الله بن سلام وغيرهم ، بوضع الاحاديث على لسان النبي ، في مدح بني أميّة والخليفة الثالث عثمان بن عفان ، ولما تفشّت تلك الاحاديث وكثرت ، أمر معاوية بوضع أحاديث كثيرة أخرى في مدح وإختلاق فضائل للخليفة الاول والثاني ، بل وفي حق الصحابة جميعهم.

وطلب معاوية من الرواة معارضة كل الاحاديث النبوية الواردة في مكانة عليّ وأهل البيت ، باحاديث تسبغ تلك المكانة والمنزلة على الصحابة والخلفاء الثلاث الاوائل.

يقول المدائني في كتاب «الأحداث» : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة أن : «برئت الذمة ممن روى شيئاً في فضل أبي تراب وأهل بيته» فقامت الخطباء في كل كورة ، وعلى كلّ منبر يلعنون علياً ويبرأون نمه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته.

وكتب معاوية الى عماله في جميع الآفاق : أن لا يجيزوا لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم : أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه ، وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم وإكتبوا إليّ بكل ما يروي رجل منهم ، واسمه واسم أبيه وعشيرته ، ففعلوا ذلك حتى أكثرو في فضائل عثمان ومناقبه ، لِما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطايع ، فليس يجيء أحد من الناس عاملاً من عمال معاوية ، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقرّبه وشفّعه ، فلبثوا حيناً.

: ثم كتب إلى عمّاله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية. فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء

٥٤٥

الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحبّ إليّ واقرّ لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشدّ عليه من مناقب عثمان وفضله.

: فقُرئت كتبه على الناس فرُويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، وأُلقي على معلمي الكتاتيب ، فعلّموا صبيانهم وغلمانه من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلّمون القرآن ، وحتى علموه بناتهم ونساءهم ، وخدمهم ، حشمه».

: ثم كتب الى عماله نسخة الى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيّنة أنه يحب علياً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفع ذلك بنسخة أخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيما بالكوفة ، حتى أن الرجل من شيعة عليّ ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته ، فيلقي إليه سرّه ويخالف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ، ليكتمن عليهم ، فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاء والقضاة والولاة. وكان أعظم الناس في ذلك بليّة ، القرّاء المراؤون والمستضعفون الذين يُظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقدّروا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث الى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها ، وهم يظنون أنها حق ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها (١).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١١ : ٤٦.

٥٤٦

أئمة أهل البيت عند كبار أهل السُنّة

تُرى ما هي نظرة علماء أهل السُنّة الكبار في أئمة أهل البيت الاثني عشر؟ وكذلك موقف أصحاب المذاهب الفقهية والكلامية من أولئك الأئمة الذين ذكرهم رسول الله ـ مراراً ـ في أحاديثه ووصاياه؟

يقول الجاحظ ، تعليقاً على قول عليّ : بأنّا أهل بيت لا يُقاس بنا أحد : صدق عليّ ، كيف يُقاس بقوم منهم رسول الله والأطيبان علي وفاطمة ، والسبطان الحسن والحسين ، والشهيدان أسد الله حمزة وذو الجناحين جعفر ، وسيّد الوادي عبد المطلب ، وساقي الحجيج العبّاس ، وحكيم البطحاء والنجدة أبو طالب ، والخير فيهم ، والانصار أنصارهم ، والمهاجرين من هاجر اليهم ومعهم ، والصدّيق من صدّقهم ، والفاروق من فرّق بين الحق والباطل فيهم ، والحواري حواريهم ، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم ، ولا خير إلا فيهم ولهم ومنهم ومعهم.

وذكر رسول الله أهل بيته بقوله : إني تارك فيكم الخليفتين ، أحدهم أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، نبأني اللطيف الخبير ، انهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، ولو كانوا كغيرهم ، لما قال عمر لما طلب مصاهرة علي «عليه‌السلام» إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي (١).

__________________

(١) مجمع الزوائد ـ الهيثمي ٤ : ٢٧١ ـ ٢٧٢ ؛ السنن الكبرى ـ البيهقي ٧ : ٦٤ ؛ المعجم الكبير ـ الطبراني ١١ : ١٩٤.

٥٤٧

وهنا يخطأ الجاحظ ، إذ يخلط بين مفهوم أهل البيت الذين عناهم الحديث النبوي المذكور ، وهم أهل البيت بالمعنى الاخص ، أي خمسة أهل الكساء (رسول الله ، علي ، فاطمة ، الحسن والحسين) ويُلحق بهم الأئمة التسعة الآخرون كما أكّد رسول الله ، وبين آل البيت بالمعنى العام. ولاشك ان آية التطهير وحديث الخليفتين أو الثقلين إنما يعنيان أهل البيت بالمفهوم الخاص كما هو معلوم بداهة.

أما الذهبي ، فيقول : خاتمة الاثني عشر سيداً ، الذين تدّعي الامامية عصمتهم ، ومحمد هذا هو الذين يزعمون انه الخلف الحجّة ، وانه صاحب الزمان ، وأنه حي لا يموت حتى يخرج فيملأ الأرض ، عدلاً وقسطاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً. فوددنا ذلك ، والله ... فمولانا عليّ : من الخلفاء الراشدين ... وإبناء الحسن والحسين ، فسبطا رسول الله سيدا شباب أهل الجنة ، لو استخلفا لكانا أهلاً لذلك.

وزين العابدين : كبير القدر ، ومن سادة العلماء العاملين ، يصلح للامامة ، وكذلك إبنه الباقر : سيد إمام فقيه ، يصلح للخلافة. وكذا ولده جعفر الصادق ، كبير الشأن ، من أئمة العلم ، كان أولى بالأمر من أبي جعفر المنصور.

وكان ولده موسى كبير القدر ، جيد العلم ، وأولى بالخلافة من هارون.

وإبنه علي بن موسى الرضا : كبير الشأن ، له علم وبيان ، ووقْع في النفوس ، صيّره المأمون ولي عهده لجلالته. وإبنه محمد الجواد : من سادة قومه ، وكذلك ولده الملقب بالهادي : شريف جليل ، وكذلك إبنه الحسن بن علي العسكري رحمهم الله تعالى (١).

__________________

(١) سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ١٣ : ١٢١.

٥٤٨

الامام السجاد عليه‌السلام

وينقل الفقيه السُنّي الكبير (سفيان بن عيينة) عن الزهري قوله : ما رأيت هاشمياً أفضل من عليّ بن الحسين (السجاد) (١) ، فيما قال مالك بن أنس : لم يك في أهل البيت مثل عليّ بن الحسين (٢) ، ومثل ذلك قال أبو زرعة : ما رأيت أحداً كان أفقه منه (٣). أما التابعي والفقيه الكبير سعيد بن المسيب ، فيقول : ما رأيت أورع من (السجاد) (٤).

ويصفه ابن عساكر الشافعي ، قائلاً : كان عليّ بن الحسين ، ثقة مأموناً ، كثير الحديث ، عالياً رفيعاً ورعاً (٥) ، فيما ينعته ابن حجر الهيثمي في (الصواعق المحرقة) ، بالقول : وزين العابدين هذا هو الذي خلف أباه علماً وزهداً وعبادة ، وقال ابن حجر العسقلاني فيه : علي بن الحسين فقيه فاضل مشهور (٦). وللذهبي قول سامٍ في السجاد ، اذ يصفه : كانت له جلالة عجيب وحق له ولله ذلك ، فقد كان أهلاً للامامة العظمى لشرفه وسؤدده وعلمه وتألهه وكمال عقله (٧) ، وقال النووي في كتاب (تهذيب الاسماء واللغات) حول السجاد : وأجمعوا على جلالته في كل شيء ويصرّح المناوي في (الكواكب الدرية) ، قائلاً : زين العابدين إمام سَند اشتهرت أياديه ومكارمه ، كان

__________________

(١) مطالب السؤول ـ ابن طلحة الشافعي : ٤٤٧.

(٢) تهذيب الكمال ـ المزي ٢٠ : ٣٨٧ ؛ البداية والنهاية ـ ابن كثير ٩ ـ ١٢٢.

(٣) تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٤١ : ٣٧١.

(٤) تذكرة الحفاظ ـ الذهبي ١ : ٧٥ ؛ تهذيب التهذيب ـ ابن حجر ٧ : ٢٦٩ ؛ البداية والنهاية ـ ابن كثير ٩ : ١٣٤.

(٥) الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ٥ : ٢٢٢ ؛ تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٤١ : ٣٦٢.

(٦) تقريب التهذيب ـ ابن حجر ١ : ٦٩١.

(٧) سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ٤ : ٣٩٨.

٥٤٩

عظيم القدر ، رأساً لجسد الرئاسة ، مؤهلاً للايالة والسياسة. ويفصح محمد بن طلحة الشافعي في (مطالب السؤول) عن موقفه من إمام الشيعة عليّ بن الحسين بقوله : هذا زين العابدين وسيد المتقين وإمام المؤمنين .. وله من الخوارق والكرامات ما شوهدت بالأعين الباصرة ، وثبتت بالآثار المتواترة ، انه من ملوك الآخرة ويؤكد الشافعي صاحب المذهب المشهور : ان الامام عليّ بن الحسين أفقه أهل المدينة (١) ، ويقر العالم السُنّي ابن حجر الهيثمي بأن زين العابدين هو الذي خلف اباه علماً زهداً وعبادة (٢).

محمد بن سعد ، صاحب الطبقات : كان زين العابدين ثقة مأموناً كثير الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولم يكن من أهل البيت مثله (٣).

الامام الباقر عليه‌السلام

سأل سائل عبد الله بن عمر في مسجد الرسول ، فأشار إلى حيث يجلس الباقر ، وقال : «اذهب إلى هذا الغلام وسله واعلمني عما يجيبك» فلما عاد إليه بالجواب ، قال : (إنهم أهل بيت مُفهمون) (٤).

أما ابن العماد الحنبلي ، فيقول : محمد الباقر كان من فقهاء المدينة ، وقيل له الباقر لأنه بقر العلم ، اي شقّه ، وعرف اصله ، وتوسع فيه (٥).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن ابي الحديد المعتزلي ١٥ : ٢٧٤.

(٢) الصواعق المحرقة ـ ابن حجر الهيثمي : ٢٠٠.

(٣) الامام جعفر الصادق ـ عبد الحليم الجندي : ١٣٨ ـ المجلس الاعلى للشئون الاسلامية ـ القاهرة ـ ١٩٧٧ م.

(٤) الامام جعفر الصادق : ١٤٠.

(٥) شذرات الذهب ـ ابن العماد الحنبلي ١ : ١٤٩.

٥٥٠

بينما يؤكد ابن كثير ، قائلاً : ابو جعفر الباقر ، تابعي جليل كبير القدر ، احد اعلام هذه الأمّة علماً وعملاً ، وسيادة وشرفاً ، وسمي الباقر لبقره العلوم ، واستنباطه الحكم ، كان ذاكراً خاشعاً صابراً ، وكان من سلالة النبوة (١)؟

وفي هذا المقام ، يشدّد محمد بن طلحة الشافعي ، بأن : محمد بن علي الباقر ، هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ، ورافعه ، ومتفوق درّه وراضعه ، ومنمّق درره وراصعه ، صفا قلبه وزكا عمله (٢).

على ان محمد بن المنكدر ـ شيخ مالك بن انس ـ يقول في الامام الباقر : ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين يدع خلفاً يقاربه في الفضل حتى رأيت ابنه محمد الباقر (٣).

بُيد ان الحسن البصري أكثر صراحة ، حيث يقول : ذلك الذي يشبه كلامه كلام الانبياء (٤).

الامام الصادق عليه‌السلام

يصف الامام أبو حنيفة النعمان ، إمام الشيعة جعفر الصادق ، قائلاً : «ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد لما أقدمه المنصور ، بعث الي ، فقال : يا أبا حنيفة ان الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد ، فهيء له من المسائل الشداد ، فهيأت له أربعين مسألة ثم بعث إلي أبو جعفر وهو بالحيرة ، فأتيته فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه ، فلما

__________________

(١) البداية والنهاية ـ ابن كثير ٩ : ٣٣٨.

(٢) مطالب السؤول ـ ابن طلحة الشافعي : ٤٢٥.

(٣) الامام جعفر الصادق : ١٤٠.

(٤) الامام جعفر الصادق : ١٤١.

٥٥١

أبصرت به ، دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر ، فسلّمت عليه وأومأ إلي فجلست ثم التفت إليه ، فقال : يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة ، فقال : نعم.

ثم التفت إلي المنصور ، فقال : يا أبا حنيفة الق على أبي عبد الله من مسائلك ، فجعلت القي عليه فيجيبني ، فيقول : أنتم تقولون كذا ، وأهل المدينة يقولون كذا ، ونحن نقول كذا ، فربما تابعنا وربما تابعهم ، وربما خالفنا جميعاً حتى أتيت على الاربعين مسألة ثم قال أبو حنيفة : ألسنا روينا أن أعلم الناس ، أعلمهم بإختلاف الناس (١).

أما السيد ميرعلي في كتاب (تأريخ العرب) ، فيقول عن الصادق : ان الذي تزعّم الحركة العلمية في تلك الفترة التي كان فيها الصراع العقائدي على أشدّه ، هو حفيد الامام عليّ ، جعفر الصادق ، وهو رجل رحب افق التفكير ، بعيد أغوار العقل ، مُلمّ كل الإلمام بعلوم عصره ، ويعتبر في الواقع ، أول من أسّس المدارس الفلسفية المشهور في الاسلام ، ولم يكن يحضر حركته العلمية اولئك الذين أصبحوا مؤسسي المذاهب فحسب ، بل كان يحضرها طلّاب الفلسفة والمتفلسفون من جميع أنحاء العالم.

وسُئل ابن ابي ليلى : أكنت تاركاً قولاً أو قضاء لرأي أحد؟ أجاب : لا. إلا لرجل واحد ، هو جعفر بن محمد الصادق (٢).

ومرّة سمع الحسن بن زياد اللؤلؤي أبا حنيفة وقد سئل من أفقه الناس ممن رأيت ، فقال : جعفر بن محمد (٣).

__________________

(١) تهذيب الكمال ـ المزي ٥ : ٧٩ ـ ٨٠ ؛ سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ٦ : ٢٥٨.

(٢) الامام جعفر الصادق : ١٦١.

(٣) الامام جعفر الصادق : ١٦٣.

٥٥٢

الامام الكاظم عليه‌السلام

يشير محمد بن أحمد الذهبي الى امام الشيعة (موسى الكاظم) ، فيقول عنه : كان من اجود الحكماء ، ومن العباد الاتقياء (١) ، فيما يصفه كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي ، قائلاً : هو الامام الكبير القدر ، العظيم الشأن ، الكبير المجتهد الجاد في الاجتهاد (٢).

الامام الرضا عليه‌السلام

اما الامام علي بن موسى الرضا فيقول عنه الواقدي : كان ثقة ، وكان يفتي في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ابن نيف وعشرين سنة (٣).

الامام الهادي عليه‌السلام

يتحدث ابن الصباغ المالكي عن الامام الهادي ، قائلاً : واما مناقبه فقال الشيخ كمال الدين بن طلحة : وشهد لابي الحسن ان نفسه موصوفة بنفائس اوصافها ، وانه نازل في الدوحة النبوية في دار أشرافها (٤).

__________________

(١) ميزان الاعتدال ـ الذهبي ٤ : ٢٠٢.

(٢) مطالب السؤول ـ ابن طلحة الشافعي : ٤٤٧.

(٣) المنتظم في تأريخ الامم والملوك ـ ابن الجوزي ١٠ : ١١٩ ـ ١٢٠.

(٤) الفصول المهمة ـ ابن الصباغ المالكي ٢ : ١٠٦٥.

٥٥٣

فيما يصفه ابن العماد الحنبلي ، بالقول : أبو الحسن علي بن محمد بن الرضا بن الكاظم ، موسى بن جعفر الصادق ، العلوي الحسيني ، المعروف الهادي ، كان فقيهاً إمامياً متعبداً (١).

الامام العسكري عليه‌السلام

أما ابن الصباغ المالكي فحين يذكر الامام الحسن بن علي العسكري ، يقول عنه : فلا يشك في امامته احد ولا يمتري ، واحد زمانه من غير مدافع ، ونسيج وحده من غير منازع ، وسيد أهل عصره ، وإمام اهل دهره ، اقواله سديدة ، وافعاله حميدة (٢).

هذه الشهادات والانطباعات الصادرة عن نخبة من فقهاء وعلماء الجمهور السُنّي حول أئمة أهل البيت ، ما هي إلا نماذج محدودة من ارشيف ضخم نَقَشه التاريخ في ذاكرة الزمن على غفلة من سطوة الحكام الذين كانوا بالمرصاد لكل من تسوّل له نفسه الادلاء بحديث ولو مقتضب عن مناقب أئمة أهل البيت ودورهم الحقيقي الذي أوكلهم الله به في توجيه سفينة الامّة وصيانتها من الانحرافات العقائدية والفقهية لولا خيانة التيار الحاكم الذي حجمهم وسلبهم دورهم القيادي والديني ، وموقعهم الريادي في صفوف الامّة.

وهذه الاقوال التي ذكرناها آنفاً لبعض رموز أهل السُنّة والجماعة ، تفيد بأن أئمة أهل البيت النبوي :

١ ـ أهلٌ للاستخلاف والرئاسة والامامة العظمى ، لا يشك في امامتهم أحد.

__________________

(١) انظر : شذرات الذهب ـ ابن عماد الحنبلي ٢ : ١٤١ و١٥٠.

(٢) الفصول المهمة ـ ابن الصباغ المالكي ٢ : ١٠٩٣.

٥٥٤

٢ ـ أولى بالخلافة من حكّام عصرهم من امثال المنصور والرشيد.

٣ ـ علماء وفقهاء كبار وذوو شأن عظيم ، لهم علم وبيان ووقع في النفوس.

٤ ـ سادة قومهم ، وأهل عصرهم ، وأئمة أهل دهرهم ، أقوالهم سديدة ، وأفعالهم حميدة ، بل لا يرى أصحاب المذاهب أفقه ولا أعلم في الناس منهم.

٥ ـ مأمومون ، ثقا ، عبّاد ، أتقياء.

ويعلّق أحد المفكرين المعاصرين ، على هذه المواقف المنصفة ، والآراء الحاذقة ، الصادرة عن معاصري أئمة أهل البيت ، خاصة في حق الامام السادس (جعفر الصادق) ، إذ يشهد بامامته للفقهاء بلا إستثناء (١) ، وان أبا حنيفة إنقطع إلى مجالس الامام طوال عامين قضاها بالمدينة ، وفيهما يقول : (لولا العامان لهلك النعمان) ، وكان لا يخاطب صاحب المجلس إلا بقوله : «جعلت فداك يا ابن بنت رسول الله».

والصادق عليم بالاختلاف بين آراء الفقهاء ، أي بعلم المدينة وعلم الشام وعلم الكوفة ، وهو يروي عشرات الآلاف من الأحاديث (٢).

ولما استفتي أبو حنيفة في رجل أوصى «للامام» ، باطلاق الوصف ، قال : انها لجعفر بن محمد. فهذا اعلان لتفرّده بالامامة في عصره.

ان التلمذة للإمام الصادق قد سربلت بالمجد فقه المذاهب الاربعة لأهل المدينة.

أما الإمام الصادق فجده لا يقبل الزيادة ولا النقصان. فالإمام مبلّغ للناس كافة ، علم جدّه عليه‌السلام. والإمامة مرتبته ، وتلمذة أئمة السُنّة له ، تشرّف منهم لمُقاربة صاحب المرتبة (٣).

__________________

(١) الامام جعفر الصادق : ٥.

(٢) المصدر السابق : ١٦٢.

(٣) المصدر السابق : ١٦٣.

٥٥٥

انه الإمام الذي يوثقه أئمة المسلمين جميعاً ، ويستوي في ذلك من أهل السُنّة ، أئمة الرأي فهم تلاميذه ، وأئمة الحديث فهو في القمّة منهم ، وروايته للحديث يوثّقها واضع الاساس العلمي لقبول الحديث «الشافعي» ، وعلماء الجرح والتعديل كيحيى بن معين وابي حاتم والذهبي وابن حنبل والآخرين (١).

وإذا لاحظنا توثيق الشافعي ومالك وأبي حنيفة ويحيى بن معين وأبي حاتم والذهبي للإمام الصادق ـ وهم واضعو شروط المحدثين وقواعد قبول الرواية وصحة سند ـ فمن الحق التقرير بأن حسبنا أن نقتصر على التفتيش عن رواة السُنّة عن الإمام الصادق (٢).

والشافعي ويحيى بن معين متفقان على توثيقه (أي الصادق) ، وهو شيخ مالك. وليس بعد هؤلاء أدلّة على جواز طريقة الإمام جعفر مع علمه الضخم في كل باب (٣).

وعن قول الزهري : «ما رأيت أفقه من زين العابدين» ، يعلّق عبد الحليم الجندي ، قائلاً : وهذه الشهادة بالفقه من شيخ مالك بن أنس تعلن رأي جيل التابعين ، بل ان الزهري يعلن مكانة زين العابدين بين كل الاحياء بقوله : (ما رأيت قرشياً افضل منه).

والشافعي الذي يقول في ابن شهاب الزهري : (لولا الزهري لذهبت السُنن من المدينة) يضع زين العابدين في أعلى مكان ، فيعدّه أعلم أهل المدينة (٤).

ويبوح الاستاذ الجندي بحقيقة ينأى غيره عن البوح بها ، وهي انه : «لا مرية كان

__________________

(١) المصدر السابق : ١٨٧.

(٢) الامام جعفر الصادق : ٢٠٣.

(٣) أحمد بن حنبل إمام أهل السُنّة ـ عبد الحليم الجندي : ٢٦١ ـ الطبعة الاولى ـ طبعة المجلس الأعلى للشئون الاسلامية ـ القاهرة.

(٤) الامام جعفر الصادق : ١٣٨.

٥٥٦

منهج عليّ ومن تابعه في التدوين خيراً كبيراً للمسلمين ، مَنَع المساوئ المنسوبة إلى بعض الروايات ، وأقف الباب دون إفتراء الزنادقة والوضاعين ، فالسبق في التدوين فضيلة الشيعة» (١).

وهكذا تتضح معالم المؤامرة المحبوكة ضد أهل بيت النبوّة ، حيث تم تجريدهم من دورهم السياسي الممنوح لهم من قبل الله تعالى لقيادة سفينة الامّة ، وتحصينها ضد الانحراف والتشتت ، وهم الأوْلى من الحكام جميعاً في هذا المجال ، كما تم تطويق مهامهم الدينية وعدم السماح لهم بممارسة دورهم الحقيقي المقدس كأئمة معصومين يُعدّون طليعة الامّة وروّادها في العلم والفقه والعقيدة ، ليس أئمة مجتهدين كِواهم من العلماء والفقهاء الموجودين في الساحة ، كما يتوهّم علماء الجمهور ورموزهم ، وإلا إذا كان هؤلاء الأئمة الاثنا عشر أعلم الأئمة وأفقههم وأزكاهم وموضع ثقتهم ، فضلاً عن حاجة الكل إليهم ، فلِمَ اتجه الفقهاء المنضوون تحت لواء مدرسة الخلفاء ، إلى تشكيل مذاهب فقهية وعقائدية تخالف في توجهاتها ، الكثير من تعاليم أهل البيت ووصاياهم التي تمسّك بها الشيعة دون سائر أتباع المذاهب السُنّية؟

لقد آن الاوان لأبناء السُنّة للعودة إلى جادة الحق ، وإنتزاع التأثيرات التأريخية المنقوشة في أذهانهم ونفوسهم ، بفعل سياسات العهدين ، الاموي والعباسي ، اللذين كان لهما السهم الاوفر في تشكيل معالم المدرسة العقائدية والفقهية لأهل السُنّة والجماعة ، ومدّها بكل أسباب الدعم والبقاء والديمومة والانتشار ، على حساب مدرسة أهل البيت التي جوبهت بقمع وتحجيم شديدين من لدن الحكومات المتعاقبة.

__________________

(١) المصدر السابق : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٥٥٧

لماذا التشيع تهمة؟

بعد أن قام رسول الله بتعريف عليّ وشيعته ، وبيّن عاقبتهم الحسنة يوم القيامة في العديد من المناسبات ، لكي يتخذ المسلمون من عليّ وشيعته ، سنداً ومثلاً لهم في الحياة بعد تزكية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم ووصفهم بأنهم خير الخلق أجمعين ، بادر تيار الخلفاء ورموز اهل السُنّة بخيانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا المقام ، اذ أخذوا يُكيلون التهم والأكاذيب ـ جُزافاً ـ ضد الشيعة والتشيع ويصفونهم بمختلف الاوصاف المقيتة ، بُغية تنفير المسلمين منهم ، وبث الكراهية في نفوس الجمهور ازاءهم.

اصبح التشيع تهمة شنيعة ، ومُرادفاً للبدعة والفساد والكذب وعدم الثقة ، بل وغيّروا اسم التشيع ليصبح (الرفض) ، والشيعة ، (الرافضة والروافض) حتى يخدعوا أبناء الجمهور ويغرّروا بهم.

فينقل الجمهور ـ مثلاً ـ ان الشافعي اُبتلي ، كما اُبتلي من قبله ، فاُتهم بالتشيع ، فأشخص الى العراق ، وكادت تكون المحنة ثم ثبتت براءته (١) ، ويقول الذهبي عن الحسن بن حي الهمداني : فيه بدعة تشيع ، ويرى الخروج على الولاة الظلمة ، واذا كان الشخص من شيعة اهل البيت ، يقولون عنه : «سيء الرأي» ومن «غلاة الشيعة ورؤوس البدع» ، وإذا أثّر شخص على آخر بالتشيّع ، يقال «أفسده» ... ويتركون حديث الشيعي حتى وإن كان ثقة لتشيعه ، ونقل أبو إسحاق الهمداني الكوفي ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : عليّ كشجرة ، أنا أصلها وعلي فرعها والحسن والحسين ثمرها ، والشيعة ورقها.

__________________

(١) المذاهب الفقهية ، ٨٦.

٥٥٨

ولذا يعتبره الذهبي انّه من قوم لا يحمد الناس مذاهبهم (١).

ويرى آخرون ان التشيّع كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الاسلام لعداوة أو حقد ، ومن كان يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية ومجوسية وهندية.

وإن كثيرين من أعداء الاسلام ومُعتنقي المذاهب والأديان المختلفة ، وبخاصة اليهود دخلوا الشيعة وانتسبوا الى اهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بفصد الكيد للاسلام ، وأدخلوا على مذهب الشيعة ألواناً من الضلالات والانحرافات (٢). ويقولون عن ابان بن تغلب ، شيعي جلد ، لكنّه صدوق ، فلنا صدقه ، وعليه بدعته ، والأزدي الكوفي : صدوق لكنه رافضي (٣) ، وكان محمد بن فضيل ثقة صدوقاً كثير الحديث متشيعاً وبعضهم لا يحتج به (٤) ، وكان عبد الله بن عامر مكرماً لأبي الاسود ثم جفاه لما كان عليه من التشيع (٥) ، وقال ابن حجر عن الطبري : انه الامام الجليل المفسّر ، ثقة صادق ، فيه تشيّع يسير وموالاة لا تضرّ (٦).

وكان الصحابي الكبير (أبو الطفيل) قد صحب علياً في مشاهده كلها ، قدم يوماً على معاوية ، فقال له معاوية : كيف وجدك على خليلك أبي الحسن؟ قال : كوجد أم

__________________

(١) ميزان الاعتدال ـ الذهبي ٤ : ٣٦٦ ؛ ميزان الاعتدال ـ الذهبي ٢ : ٦٦.

(٢) كتاب «التأريخ ـ الدولة الاسلامية» ـ الدكتور محمد الشعفي ـ الدكتور حامد حلمي ـ الدكتور أسعد سليمان عبدة ـ الدكتور طه الفرا السعودية ـ المعارف.

(٣) سير أعلام النبلاء ـ الذهبي ١ : ٥.

(٤) الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ٦ : ٣٨٩.

(٥) الاغاني ـ ابو الفرج الاصفهاني ١٢ : ٥٠١.

(٦) لسان الميزان ـ ابن حجر ٥ : ١٠٠.

٥٥٩

موسى على موسى ، وأشكو الى الله التقصير ، ولهذا السبب عدَّه العالم والمؤرخ السُنّي الكبير (ابن قتيبة) في كتاب المعارف : في أول الغالية من الرافضة (١).

أما «ابن تيمية» فيذمّ في كتابه «منهاج السُنّة» الرافضة ، وينسب اليهم أموراً كثيرة من الدين ويشبههم باليهود ، ويصفه بالحمق. ويقول في «الرافضة» أضعاف ما ذكر. ويعدّ هذا الكلام معروفاً بالدليل الذي لا يحتاج فيه الى نقل وإسناد.

ويذهب الحقد على الشيعة عند «ابن تيمية» الى أقصى مداه ، حين يقول : ذهب من ذهب من الفقهاء الى ترك بعض المستحبات ، اذا صارت شعاراً للرافضة ، ليتميز السُنّي من الرافضي ، ومصلحة التمييز أعظم وأه من هذا المستحب.

ويقول ابن حجر في شأن «ابن تيمية» وكتابه «منهاج السُنّة» : ان ابن تيمية ردّ الكثير من الأحاديث الجياد ، وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي ، أدّته أحياناً الى تنقيص عليّ (٢).

ويقول ابن حجر ـ مستغرباً ـ : وقد كنت أستشكل توثيقهم الناصبي غالباً ، وتوهينهم الشيعة مطلقاً ، ولاسيما ان علياً ورد في حقه : لا يحبه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق (٣).

فكيف لا يكفّر الغلاة من أهل السُنّة والجماعة الشيعة وينتقصونهم وهم قد ورثوا هذا الحقد التأريخي المتأصل عند نفوس أتباع الخلفاء الظَلَمة على طول التأريخ ، وصاغوا فكرة وقناعة تسبغ على الشيعة كل صفات الانحراف والضلالة والدجل ، بحيث

__________________

(١) المعارف ـ ابن قتيبة الدينوري : ٦٢٤.

(٢) لسان الميزان ـ ابن حجر ٦ : ٣١٩ ـ ٣٢٠.

(٣) تهذيب التهذيب ـ ابن حجر ٨ : ٤١١.

٥٦٠