بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

الخليفة الثاني عند الجمهور المسلم :

«الشجاع .. المحدّث»

يؤمن أهل السُنّة والجماعة : «بأن عمر بن الخطاب ، كان أول من تسمّى بأمير المؤمنين من الخلفاء في الاسلام الذي كان ذليلاً فعزَّ بإسلام عمر ، فبادر المسلمون الاوائل الى الصلاة في المسجد الحرام جهراً ، إذ ان إسلام عمر كان نصراً عظيماً للمسلمين. ورافق عُمَر الرسول في جميع الغزوات والحروب. وكان الرسول يستظهر برأيه في كثير من القضايا والأمور» (١).

ولما توفي الرسول واختلف المسلمون فيما بينهم ، حسم عمر الخلاف بتقديم أبي بكر للخلافة ومبايعته (٢).

وفي أيام عمر فتح المسلمون العرب ، العراق وفارس والشام ومصر.

وكان عمر حازماً عادلاً حتى سُمّي «الفاروق» الذي يفرّق بين الحق والباطل. «وكان حكيماً في الادارة ، ما أصدر أمراً إلا بعد أن يكون قد إحتاط لجميع المشاكل التي يمكن أن تنشأ من جراء تنفيذه».

وإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حينما قال : «اللهم أعزّ الاسلام بعمر بن الخطاب ، غمرت

__________________

(١) تأريخ الادب العربي ـ الدكتور عمر فروخ ١ : ٢٨٠.

(٢) صحيح البخاري ٨ : ٢٧ ؛ السنن الكبرى ـ للبيهقي ٨ : ١٤٥.

٤١

الكآبة قريش ، وامتلأت نفوسهم خشية منه ، الى درجة أن صرّح الصحابي ابن مسعود ، قائلاً : ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر» (١).

ولطالما وافق عمر الوحي في الكثير من الشريعة الاسلامية كمسألة أسرى بدر ، ومسألة تحريم الخمر وقضية حجاب النساء ، ومقام إبراهيم (٢).

فعمر بن الخطاب ، الشجاع ، الحازم ، صاحب الفتوحات ، يُضرب بعدْله المثل. وفي أيامه تم فتح الشام والعراق والقدس والمدائن ومصر والجزيرة ، وهو أول من وضع للعرب التأريخ الهجري (٣).

وقال عنه النبي محمد «عليه الصلاة والسلام» : عمر سراج أهل الجنة. ولو كان بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله نبي لكان عمر بن الخطاب. وهو قرن من حديد لا تأخذه في الله لومة لائم. وهو يُكلّم من غير أن يكون نبياً ، كرجال بني اسرائيل المكلِّمين (٤).

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يستغني عن عمر ، فهو من الدين كالسمع والبصر وكان عمر محدَّثاً كما كان المحدَّثون في الأمم السابقة (٥).

ومن أحب عمر فقد أحب النبي ، ومن أبغض عمر فقد أبغضه. وان جبرائيل قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ان الاسلام يبكي بعد موته على موت عمر ، وان جبرائيل لو جلس مع

__________________

(١) انظر : صحيح البخاري ٤ : ١٩٩ ؛ سنن ابن ماجة ١ : ٣٩.

(٢) صحيح البخاري ١ : ١٠٥ ؛ صحيح مسلم ٧ : ١١٦.

(٣) تهذيب التهذيب ٧ : ٣٨٦.

(٤) مجمع الزوائد ٩ : ٦٥.

(٥) تفسير القرطبي ٩ : ١٩٣.

٤٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قدر ما لبث نوح لم يستطع أن يخبره بفضائل عمر وما له عند الله تعالى (١).

واذا كان عمر في نظر عبد الله بن مسعود قد ذهب بتسعة أعشار العلم ، فإن سعيد بن المسيب وهو التابعي الشهير فقد أكد بأنه ما يعلم أحداُ بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أعلم من عمر بن الخطاب. ونصح الشعبي المسلمين إذا اختلف الناس في شيء فليأخذوا بما قال عمر (٢).

وعندما جُرح عمر ، استأذن عائشة لدفنه مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأذنت له (٣).

وكيف لا تسمح عائشة بدفن عمر مع النبي وهو الذي وضع التشهد الثاني في الأذان فارتضاه النبي وجعله جزءاً منه ليبقى على مدى التأريخ دليلاً على فراسة الخليفة الثاني وعظمته (٤) ، كما هو اعتقاد أهل السُنّة والجماعة.

__________________

(١) تأريخ مدينة دمشق ٤٤ : ١٣٧.

(٢) أعلام الموقعين : ٦.

(٣) الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ٣ : ٣٦٣.

(٤) السيرة الحلبية ٢ : ٣٠٢.

٤٣

الخليفة الثالث عند الجمهور المسلم :

«العطوف .. الوصول للرحم»

اختارت هيئة الشورى التي عيّنها الخليفة عمر بن الخطاب ، والتي تشكّلت من ستّة من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عثمنا بن عفّان خليفة للمسلمين ، حيث يُعُدّ أهل السُنّة والجماعة ، عثمان ، الخليفة الراشد الثالث ، وهو «ذو النورين» الذي تستحي منه الملائكة (١).

وكان الخليفة عثمان ، عطوفاً ، ليّن الجانب ، كريم النفس ، سخيّ اليد ، يصل رحمه ، مما أثار غيظ الأمصار الاسلامية ، وخاصة مصر والكوفة ، فأقدموا على محاصرة دار الخلافة وقتل الخليفة عثمان بن عفّان وهو يقرأ القرآن ، وبذلك لُقّب بالخليفة المظلوم.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله ايضاً : ان الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحي من الله ورسوله (٢). وقال لي جبريل ان أردت أن تنظر ـ من الارض ـشبيه يوسف الصدّيق فانظر الى عثمان بن عفّان ، لتزوّجه بنتي رسول الله (٣).

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ : ٨.

(٢) الكامل ـ ابن عدي ١ : ٢٦٤ ؛ تأريخ مدينة دمشق ٣٩ : ٩١.

(٣) السيرة الحلبية ٢ : ٤.

٤٤

وقد قال الرسول الاكرم بحضور عائشة : ادعوا لي بعض أصحابي فقالت : أبو بكر؟ قال : لا ، قالت : ابن عمك علي؟ قال : لا ، قالت : عثمان؟ قال : نعم. فلما جاء ، قال لها : تنحي وجعل يساره ولون عثمان يتغير ، فلما كان يوم الدار ، وحُصر فيها ، قلنا : يا أمير المؤمنين ألا تقاتل! قال : قال رسول الله : عهد إلي عهداً وأنا صابر بنفسي عليه (١).

بل وقال الرسول لعثمان بأنه يُقتل وهو يقرأ سورة البقرة ، فتقع قطرة من ذلك على : فسيكفيكهم الله (٢).

وجمع عثمان القرآن ووزّعه في الأمصار ، ففي عهده ، أرسل عثمان الى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف ان يحرق.

وأرسل عثمان الى كل جند من أجناد المسلمين بمصحف نَسَخه من حفصة وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل له (٣).

وعن عائشة إن أبا بكر استأذن على رسول الله وهي معه في مرط أي ثوب واحد ، فأذن له فقضى إليه حاجته وهو معها في الثوب ثم خرج ، ثم فعل ذلك أيضاً مع عمر ، ثم استأذن عليه عثمان ، فأصلح ثيابه وجلس وقال لعائشة : اجمعي عليك ثيابك ، فقضى اليه حاجته ، وقال : إن عثمان رجل حيي ، ولو أذنت له على تلك الحال خشيت أن لا يقضي إلي حاجته ، ألا استحي من رجل والله ان الملائكة تستحي منه (٤).

__________________

(١) الاستيعاب ٣ : ١٠٤٣.

(٢) الدر المنثور ١ : ١٤٠.

(٣) تأريخ الاسلام ٣ : ٤٧٧.

(٤) صحيح مسلم ٧ : ١١٧ ؛ سنن البيهقي ٢ : ٢٣١.

٤٥

ولقد دام عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان اثني عشر عاماً وانتهت الفتنة بمقتله ، حيث قُتل وهو يتلو القرآن الكريم فجزعت عليه البلاد كلها ، وسرت لوعة الحزن من حضرموت الى جنديسابور. وكان معظم الذين ثاروا عليه غوغاء لا يقدّرون به من فضائل ، ولا يدركون أنّه واحد من مشاهير قلائل نصروا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في ساعة العسر.

هذه هي نظرة مدرسة الصحابة والخلفاء للخليفة الراشد الثالث «عثمان بن عفان» وقد دوّنتها مختصرة لأنّها تفي بالحاجة في هذه المرحلة من الحديث عن المدرسة السُنّية.

٤٦

الخليفة الرابع عند الجمهور المسلم :

«صاحب الفضائل الجمّة»

بعد اغتيال الخليفة الراشد عثمان بن عفان ، تقاطر المسلمون على علي بن أبي طالب وبايعوه بالخلافة ، فقبل على مضض ، وأصبح الخليفة الراشد الرابع حسب اعتقاد أهل السُنّة والجماعة ، إذ أقبل الناس على علي ليبايعوه ، فأبى عليهم ، فقالوا : بايعنا لا نجد غيرك ولا نرضى إلا بك.

ولعلي بن أبي طالب من الفضائل والمناقب ، الشيء الكثير على غرار الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل أو الصحابة الكرام.

فقد احتوت كتب الجمهور على عدد لا يُحصى من هذه الفضائل ، وألّف جملة من العلماء والمؤرخين والباحثين ، كتباً ومصنفات خاصة بفضائل ومناقب علي ، وما قال فيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والصحابة والسلف الصالح.

فهو ابن عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وربيبه وزوج ابنته فاطمة. تربى في أحضانه منذ اللحظات الاولى ، وهو صغير ناشئ ، وواكب انبثاق الرسالة الاسلامية ونزول الوحي الالهي على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قريبه وحاضنه في أيام يتمه الأولى.

وعلي فدى نفسه في سبيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما نام في فراشه للتمويه على قريش التي كانت قد صممت على قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هاجر خفية الى المدينة المنورة ، فنزلت في علي الآية الكريمة وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ

٤٧

رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (١) ، حيث سميت تلك الليلة بليلة المبيت.

وكان ابن عباس قد قال بأنه نزلت في علي وحده ثلاثمائة آية قرآنية (٢).

ومن أقوال الرسول «عليه الصلاة والسلام» في علي : لا يحب علياً منافق ، ولا يبغضه مؤمن .. (٣).

ـ اللهم اشهد .. اللهم قد بلغت هذا أخي وابن عمي ، وصهري ، وأبو ولدي ، اللهم كبَّ من عاداه في النار (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم خيبر : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، وأعطاها علياً دون الآخرين من الصحابة الكرام (٥).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً : أقضاكم علي ، وإن الله جعل لأخي علي فضائل لا تتُحصى (٦).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً : أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد العلم فليأت الباب (٧).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : عليّ مع الحق والحق مع عليّ ، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض

__________________

(١) البصرة ٢٠٧.

(٢) البداية والنهاية ٧ : ٣٩٥.

(٣) البداية والنهاية ٧ : ٣٩١.

(٤) المعجم الاوسط ـ للطبراني ٦ : ٣٠٠.

(٥) صحيح البخاري ٤ : ٥ ؛ صحيح مسلم ٥ : ١٩٥.

(٦) تأريخ ابن خلدون ١ : ١٩٧ ؛ لسان الميزان ٥ : ٦٢.

(٧) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢٦.

٤٨

يوم القيامة (١). ووصف صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً بأنه سيد المسلمين وإمام المتقين (٢). وفي رأي جمع من الصحابة : ان علياً كان أقدم القوم إيماناً وأولهم إسلاماً (٣).

وعن فضائل عليّ ومناقبه ، يقول الامام أحمد بن حنبل : ما ورد لأحد من أصحاب رسول الله من الفضائل ما ورد لعليّ (٤). فيما قال الذهبي : ومناقب هذا الامام حجّة أفردتها في مجلد سمّيته «فتح المطالب في مناقب علي بن أبي طالب» (٥).

أما القاضي إسماعيل النسائي ، وأبو علي النيسابوري وغيرهما ، فيقولون : لم يرد في حق أحد من الصحابة بالاسانيد الحسان ما جاء في علي (٦).

وأكد عبد الله بن عباس بأن لعلي أربع خصال ليست لأحد غيره ، وهو أول من صلّى مع رسول الله ، وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف ، وهو صبر معه يوم فرّ عنه غيره ، وهو الذي غسّله وأدخله قبره (٧).

وهكذا يعتقد جمهور أهل السُنّة والجماعة إن لعليّ بن أبي طالب فضائل ومناقب جمّة ربما تفوق فضائل الصحابة الآخرين بعد أن أفرد علماؤهم مصنّفات عديدة حول عليّ ومناقبه ، ومع ذلك يظل عليّ رابع الخلفاء الراشدين ، له مكانة مرموقة بين المسلمين ، وكان مجتهداً كغيره من الخلفاء والصحابة الكرام.

__________________

(١) تأريخ مدينة دمشق ٤٢ : ٤٤٩ ؛ تأريخ بغداد ١٤ : ٣٢٢.

(٢) أسد الغابة ١ : ٦٩.

(٣) الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ٤ : ٤٢.

(٤) تأريخ الاسلام ٣ : ٦٣٨.

(٥) سير أعلام النبلاء ١ : ٥٩.

(٦) انظر : الصواعق المحرقة : ٧٢ الفصل الثاني من الباب التاسع.

(٧) شواهد التنزيل ١ : ١١٨ حديث ١٢٨.

٤٩

وقامت في عهده حروب عديدة بينه وبين خصومه ، من أمثال أم المؤمنين عائشة ابنة أبي بكر وطلحة والزبير ومعاوية بن أبي سفيان ، وكان الكل مجتهداً يُؤجر إن أخطأ أو أصاب ، ولا يحق لأحد مهما كان مقامه العلمي والديني سامياً أن يمحّص الطرفين ليفرز المحق من المبطل ، والمعتدي من المعتدى عليه ، وانما الجميع مجتهدون متأوّلون أمرهم الى الله تعالى ، يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.

ثم قامت حركة الخوارج في عهد علي ، وأدت الى مقتله واعتلاء معاوية لسدّه الخلافة حيث تلقّب بأمير المؤمنين ، وإبتدأ العهد الأموي.

٥٠

تدوين الحديث النبوي عند أهل السُنّة والجماعة

يعتقد أهل السُنّة والجماعة بأن الصحابة لم يجمعوا سنن رسول الله في مصحف كما جمعوا القرآن الكريم ، لأن السنن انتشرت وخفي محفوظها من مدخولها ، فوكّل أهلها في نقلها الى حفظهم ، ولم يوكلوا من القرآن الى مثل ذلك ، وألفاظ السنن ، غير محروسة من الزيادة والنقصان ، كما حرس الله كتابه ببديع النظم الذي أعجز الخلق عن الاتيان بمثله ، فكانوا في الذي جمعوه من القرآن مجتمعين ، وفي حروف السنن ، ونقْل نظْم الكلام نصاً مختلفين ، فلم يصح تدوين ما اختلفوا فيه (١).

ولذلك لم يكن الصحابة ولا التابعون يدوّنون الاحاديث ، إنما كانوا يؤدونها لفظاً ويأخذونها حفظاً ، إلا كتّاب الصدقات ، والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء ، حتى خيف عليه الدروس ، وأسرع في العلماء الموت ، أمر عمر بن عبد العزيز ، أبا بكر الحزمي ، فيما كتب إليه : انظر ما كان من سنّة أو حديث فاكتبه (٢).

وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمر صحابته أن : لا تكتبوا عني شيئاً إلا القرآن ، فمن كتب غير القرآن فليمحه (٣).

وعلى خطاه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال عمر بن الخطاب : لا كتاب مع كتاب الله (٤).

__________________

(١) أضواء على السنّة المحمدية : ٢٥٩.

(٢) المصدر السابق.

(٣) سنن الدارمي ١ : ١١٩ ؛ مسند أحمد ٣ : ٢١ ؛ كنز العمال ـ المتقي الهندي ١٠ : ٢٢١.

(٤) جامع بيان العلم وفضله ـ ابن عبد البر ١ : ٦٤ ؛ كنز العمال ١٠ : ٢٩٢.

٥١

وقال عبد الله بن مسعود : إن هذه القلوب أوعية فإشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره (١).

ويُنقل عن (أبو سعيد الخدري) قوله : إستأذنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الكتابة فلم يأذنه لنا ، أتريدون أن تجعلوها مصاحف؟ إن نبيكم يحدّثنا فنحفظ (٢).

ويعلّل بعضهم عدم تدوين آثار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في عصر الصحابة وكبار التابعين في الجوامع لأمرين : أحدهما : إنّهم كانوا في إبتداء الحال قد نهوا عن ذلك ، وثانياً : لسعة حفظهم وسيلان أذهانهم (٣).

النبي ينهى عن كتابة الحديث

والنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله لدى الجمهور ، طالما أمر المسلمين أن لا يكتبوا عنه شيئاً سوى القرآن ، وإن من كتب شيئاً غير القرآن فليمحه (٤). وعندما استأذن أبو سعيد الخدري الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكتب الحديث ، أبى أن يأذن له ، قائلاً للمسلمين : أكتاباً غير كتاب الله تريدون؟ ما أضلّ الأمم من قبلكم إلا ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله (٥).

فإضطر أبو هريرة وغيره من الصحابة الى جمع ما كتبوه في صعيد واحد ، ثم أحرقوه في النار (٦).

__________________

(١) جامع بيان العلم وفضله ١ : ٦٦ ؛ الدر المنثور ـ السيوطي ٤ : ١٢٨.

(٢) جامع بيان العلم وفضله ١ : ٦٤ ؛ تأريخ مدينة دمشق ٢٠ : ٣٩٢ ؛ كنز العمال ١٠ : ٢٩٦.

(٣) مقدمة فتح الباري ـ ابن حجر : ٤.

(٤) سنن الدارمي ١ : ١١٩ ؛ السنن الكبرى ٥ : ١١ ؛ مسند احمد ٣ : ٢١.

(٥) تقييد العلم ـ الخطيب البغدادي : ٣٣.

(٦) انظر : المصدر السابق : ٣٤.

٥٢

ثم نصح الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله صحابته : نعم تحدّثوا عني ولا حرج ، ومن كذّب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار (١).

وفي إحدى المواقف ، وبّخ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله صحابته قائلاً لهم : ما هذه الكتب التي بلغني أنكم قد كتبتم ، إنما أنا بشر ، من كان عنده منها شيء فليأت به ، ناهياً ان يكتب أحد شيئاً من حديثه (٢).

وسار الخلفاء الراشدون على هذا النهج ، فمنعوا تدوين الحديث النبوي ، منهم الخليفة عمر بن الخطاب ، اذ قال : لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً (٣).

وجاء الحكم الأموي ، فسار على هذا المنوال ، حتى مجيء الخليفة الأموي (عمر بن عبد العزيز) ، فخاف اندراس الحديث بموت الصحابة والتابعين ، فأمر بجمع حديث رسول الله ، وهكذا كان ابتداء تدوين الحديث في نهاية القرن الأول الهجري (٤).

إذاً ، كانت الطبقة الاولى من التابعين قد كرهت كتابة الحديث ، وأجاز ذلك من جاء بعدهم ، وما حدث التصنيف إلا بعد موت الحسن البصري (٥).

وهكذا كانت الكتب والتصانيف محدثة ، ولم يكن شيء منها زمن الصحابة وصد التابعين ، وانما حدث بعد سنة (١٢٠) ، وبعد وفاة جميع الصحابة ، وخيار التابعين ، بل

__________________

(١) مجمع الزوائد ـ الهيثمي ١ : ١٥١ ؛ كنز العمال ١٠ : ٢٣١ الحديث ٢٩٢١٧ ؛ مسند احمد ٣ : ١٣.

(٢) تقييد العلم ـ الخطيب البغدادي : ٣٤.

(٣) المصنف ـ الصنعاني ١١ : ٢٥٨ ؛ تقييد العلم ـ الخطيب البغدادي : ٤٩ ؛ تنوير الحوالك ـ جلال الدين السيوطي : ٤.

(٤) انظر : فتح الباري ـ ابن حجر ١ : ١٧٤ ؛ عمدة القاري ـ العيني ٢ : ١٢٩.

(٥) انظر : إحياء علوم الدين ـ الغزالي ١ : ١٣٤.

٥٣

كان الأولون يكرهون كتابة الحديث وتصنيف الكتب (١).

وكان السبب الرئيسي في تدوين الحديث في أواخر عهد التابعين ، انتشار العلماء في الأمصار وكثرة الابتداع ، حيث شاعت الرواية ، وقلّت الثقة ببعض الرواة ، وظهور الكذب في الحديث عن رسول الله لاسباب سياسية أو مذهبية ، حيث بدأ التدوين بمعناه الحقيقي بين سنة ١٢٠ وسنة ١٥٠ هـ (٢).

عموماً .. في هذا العصر (١٤٣ هـ) شرع علماء الاسلام في تدوين الحديث ، والفقه والتفسير .. وكثُر تبويب العلم وتدوينه ، وقبل هذا العصر كان سائر العلماء يتكلمون من حفظهم ، ويروون العلم عن صحف غير مرتبة (٣).

وكانت قد دوّنت الآثار ممزوجة بأقوال الصحابة ، وفتاوى التابعين وغيرهم ، إلى أن رأى بعض الأئمة أن تُفرد أحاديث النبي خاصة ، وذلك على رأس المائتين ، فقلّ إمام من الحفّاظ إلا وصنّف حديثه على المسانيد أو على الأبواب والمسانيد (٤).

وكان من أقوى الاسباب في إقبال العلماء على التصنيف في هذا العصر ، حثّ الخليفة أبي جعفر المنصور عليه وتشجيع الأئمة الفقهاء على جمع الحديث والفقه ، وقد بذل في هذا السبيل أموالاً طائلة ، وهو الذي أشار على مالك بن أنس أن يضع كتاب «الموطأ». وصنّف مالك الموطأ وتوخّى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم (٥).

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) أضواء على السنة المحمدية : ٢٦١.

(٣) انظر : تأريخ الاسلام ـ الذهبي ٩ : ١٣.

(٤) انظر : مقدمة فتح الباري ـ ابن حجر : ٥.

(٥) الموطأ ـ الامام مالك ١ : ٤ : تنوير الحوالك ـ السيوطي : ٥.

٥٤

وقفة مع المذاهب الاربعة المشهورة

المذهب الحنفي : (مدرسة أهل الرأي والقياس)

وُلد أبو حنيفة في الكوفة عام ٨٠ هـ ، وتوفي عام ١٥٠ للهجرة. بلغ في الفقه منزلة لم يصل إليها أحد ممن عاصره ، فهو إمام أهل الرأي وهو الامام الأعظم ، من التابعين أو أتباع التابعين ، أخذ علمه عن التابعين ، من أمثال قتادة وعطاء بن أبي رباح ، ونافع مولى ابن عمر ، وحماد بن أبي سليمان (١).

وكان أبو حنيفة متحمساً للقياس ، ويراه من أفضل المصادر بعد كتاب الله ، كان يقدّم رأي الصحابة عليه إذا تعارضا في مورد من الموارد. فهو يقول : ان لم أجد في كتاب الله ، ولا سُنّة رسوله ، أخذت بقول أصحابه ، فإن اختلفت آراؤهم في حكم الواقعة ، آخذ بقول من شئت ، وأدع من شئت ، ولا أخرج من قولهم الى قول غيرهم من التابعين ، فإذا انتهى الأمر الى ابراهيم والشعبي وابن المسيب ، فلي أن أجتهد كما إجتهدوا (٢).

وقد صحّ عن أبي حنيفة وهو المتّهم دائماً بمخالفة الحديث أو تركه ، قوله : إذا صحّ الحديث فهو مذهبي؟ فأبو حنيفة أذاً ، استاذ مدرسة الرأي ، وهو الذي وضع طريقة

__________________

(١) انظر : سير أعلام النبلاء ٦ : ٣٩٠.

(٢) الانتقاء ـ ابن عبد البر : ١٤٢ ؛ تأريخ بغداد ١٣ : ٣٦٥.

٥٥

القياس وبدأ فيها ، وجاء بعده تلاميذه فزادوا ووسّعوا (١).

ومما اختص به أبو حنيفة في الاجتهاد ، أنه يأخذ بالرأي والقياس ، ويقول بالاستحسان حتى يُسمّى هو وأصحابه بأهل الرأي (٢).

تفقّه على أبي حنيفة كثير من الأئمة ، وانتفع باجتهاده وطريقته فيه كثيرون من أهل المذاهب ، فالشافعي انتفع بمحمد بن الحسن تلميذ الامام ، والامام أحمد تلميذ الشافعي (٣).

والأحناف منسوب إليهم انهم لا يقولون بالمصالح المرسلة ، ولا يعتبرونها دليلاً ، وهم يردّون الحديث إذا خالف الأقيسة الظاهرة ، إلا أن يكون الراوي معروفاً بالفقه والاجتهاد كالخلفاء الراشدين (٤).

وكان من ورع أبي حنيفة ، وزهده في الدنيا ، أن ابن هبيرة ، والي العراق من قبل بني أميّة ، أكرهه على قضاء الكوفة ، فأبى ، وضربه مائة سوط ، وعشرة أسواط ، فأبى وأصرّ ، فخلّى عندئذ سبيله (٥).

وقد يعلل رفضه القضاء ، لكيلا يكون موالياً للحاكم ، كما قد يعلل ضرب ابن هبيرة إيّاه بأنه لا يرى شرعية خلافة الحاكم ... وربما كان في نفسه لا يرى شيئاً من

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ٩٢.

(٢) المصدر السابق : ٣٨.

(٣) المصدر السابق : ٤٥.

(٤) المذاهب الفقهية : ٩٠.

(٥) انظر : شذرات الذهب ـ ابن العماد الحنبلي : ٢٨٨.

٥٦

ذلك ، سوى إن البعد عن الحاكم ، أسلم لدينه ، شأن اهل التقى والورع (١).

أما أبو جعفر المنصور ، فقد أرسل إلى أبي حنيفة بجائزة عشرة آلاف درهم وجارية ، فرفضها أبو حنيفة ... كما رفض هدية زوجة المنصور ، قائلاً بأنه ناضل عن دينه ، وقام بذلك المقام لله ، لم يرد بتلك تقرّباً إلى احد ولا إلتمس به دنيا.

فإمتنع عن القضاء ببغداد ، فحبسه الى أن مات سنة ١٥٠ هـ.

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ٣٥.

٥٧

المذهب المالكي وحجّية عمل أهل المدينة

يُعدّ المذهب المالكي الذي اسّسه تابع التابعين ، مالك بن أنس الذي ولد عام ٩٥ هـ ومات عام ١٧٩ هـ ، المذهب السُنّي الثاني من المذاهب الاربعة التي يتبعها الجمهور في عموم العالم الاسلامي.

وقد وُلد مالك في المدينة المنوّرة وعاش فيها حتى آخر لحظة من حياته ، والمدينة بنظر مالك وأصحابه ، معْقل الأحكام ، ومهْد الحديث ، ومدرسة العلماء ، ومجمع الفقهاء الذين روى عنهم مالك ، وأخذ عنهم ، من أمثال نافع والزهري (١).

ذاع صيت مالك ، وطبقت شهرته الآفاق ، وشغل به أهل الأمصار ، ورحل إليه الناس ، يروون عنه الحديث ، ويتفقّهون في الدين ، فهو بذلك يصفونه بإمام دار الهجرة ، وفقيه الأمّة (٢).

وقد أخذ مالك عن تسعمائة شيخ أو أكثر ، أبرزهم نافع والزهري وربيعة الرأي ، وروى عنه من شيوخه الذين أخذ هو عنهم : الزهي ، ربيعة الرأي ، يحيى بن سعيد الأنصاري ، موسى بن عقبة وهو إمام المغازي (٣).

كما روى عن مالك من تلاميذه : الامام الشافعي ، وابن المبارك ، ومحمد بن الحسن الشيباني ، ويُقال انه روى عنه ما يزيد على ألف وثلاثمائة من أعلام أهل العلم ، فضلاً عن

__________________

(١) المذاهب الفقهية ٥٧.

(٢) انظر : سير أعلام النبلاء ـ الذهبي ٨ : ٤٨ ـ ٤٩ ؛ تنوير الحوالك ـ السيوطي : ٣.

(٣) انظر : عمدة العيني ـ العيني ١ : ٣٦.

٥٨

تلاميذه الذين تفقهوا بمذهبه ، ودوّنوه له والتزموه ، وعكفوا عليه ونشروه (١).

وعموماً ، فإن قواعد المذهب المالكي : القرآن ، السُنّة ، الاجماع ، القياس ، عمل أهل المدينة ، الاستحسان ، الحكم بسد الذرائع ، المصالح المرسلة ، قول الصحابي (إن صحّ سنده وكان من الاعلام) ، الاستصحاب ، شرع من قبلنا (٢).

ولا يكاد مالك يقول بالاستحسان الذي يقول به الحنفية ، بل يقول بما يسمّى : المصالح المرسلة ، وهي التي لم يرد عن الشارع نص يوجب اعتبارها أو عدم اعتبارها ، وأما القياس فهو عند مالك ، تسعة أعشار العلم (٣).

الامام مالك وأهل المدينة

من أصول مالك المهمة التي خالف فيها أئمة أهل السُنّة الآخرين ، عمل أهل المدينة ، الذين أقام فيهم مالك حياته كلها ، فهو يرى ان عملهم بمنزلة روايتهم الحديث ، ورواية الجماعة اقوى من رواية الفرد ، ولا يظن بالذين توفي الرسول وهو بين ظهرانيهم ، انهم يخالفونه ، أو يتركون سُنّته ، بل عملهم هو استمرار واستمداد سُنّته فيهم ، ولهذا يشترط مالك في العمل بخبر الواحد ، عدم خالفته عمل أهل المدينة ، لأن عمل أهل المدينة بمثابة سُنّة مشهورة ، مأثورة ، وهي مُقدّمة عنده على خبر الآحاد ، ولذلك فإن عمل أهل المدينة عند مالك ، يجب اتباعه والأخذ به مطلقاً (٤).

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ٦٣.

(٢) أدب الاختلاف في الاسلام : ٩٦.

(٣) المذاهب الفقهية : ٦٥.

(٤) المصدر السابق.

٥٩

ويقول القاضي عياض عن حجّة مالك في عمل أهل المدينة : ان القرآن المشتمل على الشرائع ، وفقد الاسلام أنزل بها ، وأهلها هم أول من وجّه اليهم التكليف ، ومن خوطبوا بالامر والنهي ، وأجابوا داعي الله فيما أمر ، وأقاموا عمود الدين ، ثم قام فيهم من بعد النبي أتبع الناس له من أمّته : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، فنفذوا سُنّته بعد تحرّيها والبحث عنها مع حداثة العهد ، ثم كان التابعون من بعدهم ، يسلكون تلك السبل ، ويتبعون تلك السُنّة (١).

فالمدينة لهذا قد ورثت علم السُنّة ، وفقه الاسلام ، في عهد تابعي التابعين ، وهو العهد الذي رآها فيه مالك ، فاذا كان الأمر بها ظاهراً معمولاً به ، لم يجز لأحد خلافه ، للوراثة التي آلت اليهم ، ولا يجوز لأحد انتحالها لبعده ، ولا ادعاؤها له (٢).

مالك وتأليف الموطأ

بتوصية من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور ، ألّف الامام مالك في أواخر عهد المنصور (١٤٨ هـ) كتاب الموطأ الذي يعدّه أهل السُنّة ، وبالذات أتباع المذهب المالكي بأنه ما عل ظهر الارض كتاب هو أقرب الى القرآن من الموطأ ، وما بعد كتاب الله أنفع منه وأطلق جماعة على الموطأ اسم الصحيح (٣).

ويُقال ان أعظم ما خدم به مالك السُنّة والآثار ، كتابه القيم الفريد ، الذائع الصيت : الموطأ ، وقد لبث في تأليفه وتهذيبه نحو أربعين سنة ، جمع فيه الحديث

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ٦٦.

(٢) المذاهب الفقهية : ٦٦.

(٣) انظر : المذاهب الفقهية : ٦١ ـ ٦٢.

٦٠