بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

بعدم خلع قميص (الخلافة) الذي يريد الثوار خلعه ، ليس موقفاً صائباً ، ومن المحال أن يقف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الموقف ، لأن الذين ثاروا ضد الخليفة عثمان ، هم من كبار الصحابة ، وفي مقدمتهم ، أم المؤمنين عائشة وطلحة (الخير) وحواري رسول الله (الزبير بن العوام) ، كما كان موقف سائر الانصار ـ سلبياً ـ منه ، إذ خذلوه ولم ينصروه إطلاقاً ، وكان مطلب الجميع واضحاً ، وينصبّ في تغيير سياسته الممالئة لبني أميّة ، وتبديل عمّاله من أقاربه وذوي رحمه ، وعدم إيثار بني أميّة وتسليطهم على رقاب المسلمين ، ومنحهم الصلاحيات المالية والادارية والسياسية ، وضرورة العودة إلى الحق والتقيّد بالسُنّة النبوية وإلا يعتزل الحكم ليختار المسلمون خليفة غيره ، فهل هذه الاهداف والمطاليب غير مشروعة ، حتى يأمره رسول الله بعدم خلع قميص (الخلافة)!؟ وهل جُلّ المسلمين من الصحابة والمهاجرين والانصار على باطل ، وعثمان وبني أميّة ـ فقط ـ على حق!؟

١ ـ والمُستغرب في هذا المقام ، أن يأتي شخص مشكوك في إسلامه وهو عبد الله بن سلام ليزعم ان التوراة تروي قصة مقتل الخليفة الثالث ، وتنعته بالخليفة المظلوم الشهيد!! وانه لو دعا الله أن لا تجتمع أمّة محمد ، فسوف لا تجتمع إلى يوم القيامة ، ولكنه دعا الله ، قائلاً : اللهم إجمع أمّة محمد (١).

وتصريحات عبد الله بن سلام هذه ، تفتقد للصدْقية ، وانما أطلقها تملّقاً لبني أميّة الذين كانوا يكنّون له كل المودة ، وكان هو من المنتفعين منهم ، ويضع الاحاديث لصالحهم ، وبالذات لصالح الخليفة عثمان بن عفان.

__________________

(١) المصدر السابق.

٥٠١

تُرى هل إجتمعت أمّة محمد حقاً ، بموجب دعاء الخليفة الثالث ، أم توزّعت إلى مذاهب وفرق متعددة متنازعة ، كلها في النار إلا واحدة طبق قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

انّ ما سطّرته في الصفحات القليلة الآنفة ما هي إلا نماذج وأمثلة محدودة جداً قبال مئات الاحاديث التي وُضعت على لسان رسول الله ، لتمجيد وإضفاء شرعية على «الصحابة والخلفاء الاوائل» على حساب أهل بيت رسول الله وعليّ بن أبي طالب خليفته بالذات ، وبالتالي تحققت خطة الطليق معاوية بن ابي سفيان في إرساء أساس مبني على أحاديث نبوية مكذوبة ، ليُقام عليها بنيان ما يسمّى بمذهب «أهل السُنّة والجماعة» ولو لَلِم أتباع الجمهور ، مدى خسّة المؤامرة المُحْكمة ضد أهل البيت ، التي حيكت من لدن معاوية والرواة الذين صاغوها معه بإحكام ،لما كان هناك مذهب سُنّي يتبعه مئات الملايين من المسلمين ، وهم يعتقدون بأنهم على الحق والصواب والهدى.

وهكذا تتهافت هذه الاحاديث والروايات الموضوعة والمكذوبة واحدة تلو الأخرى؟!! وهكذا يتبيّن المخطط الذي حُبِك بإمعان ، لجعل الصحابة والخلفاء الثلاث الأوائل بديلاً عن أهل البيت الكرام ، وهم العترة الطاهرة والحَفَظة الحقيقيون لسُنّة أبيهم رسول الله «صلوات الله عليه» ، والخلفاء الأُصَلاء له في قيادة الأمّة نحو شاطئ النجاة!!؟

ولا غرو انّ هذا المخطط تم تنفيذه ـ بإحكام ـ من خلال اقتباس واستنساخ المناقب الهاشمية والاحاديث النبوية التي أدلى بها رسول الله «صلوات الله عليه» في حق عليّ وبنيه ، ونسبتها الى الصحابة والخلفاء عبر الوضّاعين والمدلّسين ، وإسناد تلك الاحاديث المروية الى صحابة كبار ومقرّبين منه «صلوات الله عليه» ، وهم منها براء!! فيا له من مخطط محبوك جيداً ، وبعناية فائقة لاسباغ الشرعية المصطنعة على رموز المدرسة السُنّية من صحابة وخلفاء وحكّام على حساب الخلفاء الحقيقيين للبشير النذير.

٥٠٢

ثمن الاختلاف والفرقة

كل ما حذّر منه القرآن الكريم والرسول الاكرم «صلوات الله عليه» من نتائج وخيمة في حال اختلاف الأمّة وتوزّعها والى فرق وطوائف متناحرة ، قد حدث بالفعل ، حيث تمزّقت الأمّة تمزقاً مريعاً ، والسبب كان واضحاً ولا يحتاج الى مزيد من التوضيح أو البيان ، اذ يكمن في عدم التمسّك والاعتصام بأهل البيت واتخاذهم خلفاء وأئمة من بعد الرسول «سلام الله عليه» ، كي يأمنوا من الاختلاف والتفرّق ، سوى قلّة من أتباعهم وأشياعهم ومناصريهم.

ألم يقل رسول الله «صلوات الله عليه» : ان لهذه الأمّة فرقة وجماعة ، فجامعوها إذا إجمتعت ، فاذا افترقت فارقبوا أهل البيت نبيكم ، فان سالموا سالموا ، وان حاربوا فحاربوا ، فانهم مع الحق والحق معهم ، لا يفارقهم ولا يفارقونه؟.

فلِمَ لم تنفّذ الأمّة وصايا نبيها الكريم «صلوات الله عليه» بخصوص أهل بيته وضرورة الالتزام بأوامرهم في الحرب والسلم ، وفي كل الامور والمجريات ، لكي تنجو من الانقسامات والاختلافات المريرة ، كما حصل بعد رحيله «صلوات الله عليه» الى بارئه الأعلى؟

كما لم تعتصم الأمّة ـ جميعها ـ بحبل الله لكي لا يؤول مصيرها الى التفرّق والتمذهب والانقسامات الحادّة ، فقد أخرج الامام الثعلبي في معنى الآية الكريمة : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا (١) ، عن امام الشيعة الصادق قوله : «نحن

__________________

(١) آل عمران ١٠٣.

٥٠٣

حبل الله الذي قال في الآية» كناية عن أئمة أهل البيت الاثني عشر ، كما عدّها ابن حجر في الآيات النازلة في أهل البيت (١).

وفي قول آخر لرسول الله «ص» ، أشار فيه الى ان النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف في الدين ، فاذا خالفتها قبيلة من العرب ، اختلفوا فصاروا حزب إبليس (٢).

ولطالما قال «صلوات الله عليه» لعليّ : يا عليّ أنت تبين لأمّتي ما اختلفوا فيه من بعدي (٣). وذات يوم قال رسول الله «صلوات الله عليه» : ان الله منع بني اسرائيل قطر السماء بسوء رأيهم في أنبيائهم ، واختلافهم في دينهم ، وإنه آخذ هذه الأمّة بالسنين ، ومانعهم قطر السماء ببغضهم علي (٤) ، وذلك لأنه كان من المفروض على الأمّة جميعاً أن تحب علياً ، وتتبعه ـ عقيدة ومنهجاً وقيادة ـ لكي لا تختلف وتتوزّع الى مِلل ونِحل كثيرة ، في حين ان أغلب الأمّة خالفت عليّاً وأبغضته وأخّرته في المرتبة عن الآخرين ولم تقتدِ به في كل شؤونها ، مما أدى الى اختلافات شاسعة بين ابنائها ، وتشرذمها الى عشرات الفرق والطوائف المتناحرة ، مما أفضى الى إضعافها وفشلها وذهاب ريحها كما حذر القرآن الكريم ، خاصة ان النبي «صلوات الله عليه» قد همّ أن يكتب لاصحابه وأمّته كتاباً ـ وهو على فراش المرض الأخير ـ كي لا يختلفوا من بعده ، ويأمنوا من

__________________

(١) تفسير الثعلبي ٣ : ١٦٣ ؛ الصواعق المحرقة ـ ابن حجر ١٥١ ـ ١٥٢ ؛ شواهد التنزيل ـ الحاكم الحسكاني ١ : ١٦٩.

(٢١) المستدرك ـ الحاكم النيسابوري ٣ : ١٤٩ ؛ الخصائص الكبرى ـ السيوطي ٢ : ٢٦٦.

(٣) المستدرك ـ الحاكم النيسابوري ٣ : ١٢٢ ؛ كنز العمال ـ المتقي الهندي ١١ : ٦١٥.

(٤) الموضوعات ـ ابن الجوزي ١ : ٣٨٧.

٥٠٤

الاختلاف ، وانه «صلوات الله عليه» لا يهمّ إلا بحق ، وحين منعه القوم من كتابة الكتاب ، حصل الاختلاف وضلّت الأمّة ضلالاً مبيناً الى يوم القيامة (١).

ومن المسلّم به ان عملية الاستخلاف ، أمر ضروري لصيانة الأمّة من الاختلاف ونشوء الفتن. ألم يقل الخليفة الاول أبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب ، لما أفاق من غيبوبته ، قائلاً لعثمان : إقرأ عليّ فقرأ عليه ، فكبّر وقال بكل صراحة : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي (٢).

وعلى ما يبدو ـ عند الجمهور ـ ان كل الخلفاء والحُكّام وحواشيهم يخشون من اختلاف الناس اذا لم يستخلفوا ، إلا رسول الله فلم يكن يبالي حين أدركته الوفاة أن يخشى على الناس من الاختلاف والتشتّت لأنه لا يهتم بمصير أمّته والعياذ بالله.

__________________

(١) انظر : فتح الباري ـ ابن حجر ١ : ١٨٧.

(٢) تأريخ الطبري ٢ : ٦١٩؛ الكامل في التأريخ ـ ابن الاثير ٢ : ٤٢٥.

٥٠٥

النظرية الشيعية حول الخلافة والحكم مقارنة

بالنظرية السُنية

كنّا قد طرحنا ، على بساط البحث ، الاطروحة السُنّية حول الخلافة والحكم ، وقد اتضح فساد هذه الاطروحة وعدم ارتكازها على اسس حقيقية مستمدة من القرآن الكريم والسُنّة النبوية ، وإنما اتكأت على قواعد مُختلقة وأسس وهمية غير مشروعة لا تمتّ إلى الدين بصلة.

أما النظرية أو الأطروحة الشيعية ، فهي تعتقد بأن أدلته تستند إلى القرآن الكريم والسُنّة النبوية ، وتقتنع اقتناعاً تاماً بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد هيّأ علياً وأهل بيته لتسلّم الأمور بعد وفاته حتى تستمر المسيرة الاسلامية بإستقامة ، دون انحراف أو انقسام أو صراع يؤول بالامّة إلى التجزئة والانحطاط والتخلّف عن الأمم الأخرى.

وفي اعتقاد الشيعة أن رسول الله ومنذ البداية ، انبرى لتربية عليّ واعداده وتوجيهه وتأهيله لأن يكون خليفة له ، في وقت قام صلى‌الله‌عليه‌وآله في الكثير من المناسبات والحوادث ، بابراز عليّ كإمام وحاكم وأمير للمؤمنين وخليفة من بعده كما في حديث الانذار ـ حيث عيّنه ـ صراحة ـ كأخ له ووزير ووصي وخليفة على المسلمين من بعده (١).

ثم توالت وصايا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوامره وتعاليمه في حق عليّ ، في هذا الشأن ، وليست هذه الوصايا والأحاديث تعكس مناقب علي وفضائله فحسب ـ كما يؤكد

__________________

(١) كنز العمال ١٣ : ١١٤.

٥٠٦

الشيعة ـ وإنما هي أوامر جازمة تدعو المسلمين للامتثال لعليّ وطاعته كخليفة ووصي وامتداد للرسول في كل الامور ، أي هو كالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أحق بالناس من أنفسهم ، وينبغي على المسلمين ، اطاعته وأن يكونوا طوع إرادته لأن طاعته ، طاعة لله ورسوله ، وعصيانه عصيانٌ لله ورسوله على حد سواء.

وعلى حد قول الشيعة ، أن على الأمّة ان تتعبّد بنصوص علي كتعبّدها بنصوص رسول الله ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وبأمر من الله تعالى ، أودع القرآن الكريم وسُنّته بكاملها لدى عليّ الذي هو عميد أهل بيته من بعده.

وعلماء الشيعة يستدلّون بأدلة كثيرة على هذه المُسلّمة عندهم ولا يطلقونها جُزافاً وعلى حد رأي رموز الشيعة ، فإن على الأمّة كلها أن تتخذ من عليّ وأهل بيته ، قدوة لها في الحياة إن أرادت النجاة والوصول إلى ساحل الأمان ، وتبقى على الصراط المستقيم حتى النهاية.

من هم أهل البتي ، حقيقة؟

المقصود بأهل البيت أو العترة الطاهرة ـ عند الشيعة ـ هم الذين فرض رسول الله على المسلمين طاعتهم واتّباعهم وعدم الخروج من أقوالهم إلى أقوال غيرهم ، لأنهم مستودع علمه ، وطاعتهم واتّباعهم مقرونان بطاعة واتّباع الله ورسوله. فهم خلفاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وخَزَنة علمه وحكمته وفقهه وسُنّته.

أمّا من هم أهل البيت طبق مواصفات الله ورسوله؟ فهم أهل الكساء ، أي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، والأحاديث النبوية التي حصرت آية ال تطهير في هؤلاء الخمسة ، متواترة

٥٠٧

ومُحكمة ، ثم أضافت إليهم التسعة من ذريته حسب تأكيده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم المقصودون بالثِقل الثاني بعد القرآن الكريم ، وهم عدْل الكتاب ومثلهم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى (١).

هؤلاء فقط تنطبق عليهم مواصفات الخلافة لرسول الله ، وهم امتداد له في كل شيء باستثناء النبوة ، وليس يحق للأمّة تجاوز أقوالهم وأوامرهم ووصاياهم الى غيرهم ، أو إقصائهم أو تهميشهم وان معصيتهم ، معصية لله ورسوله ، وهم الذين تجب الصلاة عليهم دون غيرهم من بني هاشم ، أما بقية قربى الرسول من بني هاشم من الذين تُمنع عنهم الصدقة ، فهؤلاء يجب تبجيلهم واحترامهم لكونه أقارب الرسول ولا تخصّهم آية التطهير.

والاحاديث النبوية المُحكمة الواردة في حق عليّ واهل بيته ، تدعو الأمّة لعدم التخلف عنهم ، لأنهم أعلم الناس قاطبة ، والسُنّة النبوية متجسِّدة في أقوالهم وأفعالهم ، وبالتالي ليست أقوالهم برأي ولا اجتهاد ولا سُنّة إضافية أو ما يسمّى «سُنة الخلفاء» وانما هي السُنّة النبوية بعينها مُودَعة فيهم ، وهم الخلفاء الاثنا عشر الذين اُوصى رسول الله المسلمين باتّباعهم كحُكّام عليهم وأئمة منصوص عليهم من الله تعالى.

هذا هو قول الشيعة في هؤلاء الأئمة الذين يبدأون بعليّ بن أبي طالب وينتهون بمحمد المهدي ، وهم أهل البيت الذين أشار إليهم القرآن فضلاً عن رسول الله وابنته فاطمة الزهراء ويستدل الشيعة بعشرات من الأحاديث النبوية المبثوثة في كتب الصحاح والسُنن والمسانيد والتفاسير وكتب التأريخ لأهل السُنّة والجماعة ، وهي تدلّ ـ في رأيهم

__________________

(١) المعجم الكبير ـ الطبراني ٣ : ٤٦ ؛ مناقب علي بن أبي طالب ـ ابن الغازلي : ٣٢٤.

٥٠٨

ـ على أن أهل البيت مفترضو الطاعة على كل المسلمين ، ومن تلك الأدلة :

فضلاً عن آية التطهير ، قوله تعالى : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (١). وأهل الذكر ليس إلا أئمة أهل البيت (٢) ، لأنه ليس لدى الخلفاء والعلماء وغيرهم ، تلك الكفاءة والمَلَكة والقدرة للاجابة عن جميع الاسئلة المطروحة مهما كانت صعبة ومعقدة ...

وليس في الأمّة ـ بالطبع ـ أحد له تلك المَلَكة والمقدرة العلمية الكبرى غير أئمة أهل البيت الذين لا تغيب عنهم أية مسألة مهما كانت عميقة ومُعقّدة ، فهم يحيطون بكل العلوم القرآنية والنبوية.

هذا ما يقوله علماء الشيعة وفقهاؤهم ، ويؤكدون بأنه لم يُعرف عن أئمة أهل البيت أن أجابوا بالظن أو الاحتمال أو تلكؤا في مسألة لأنهم مُسدّدون من قبلالله تعالى ، وان العلوم التي أودَعها صلى‌الله‌عليه‌وآله في عليّ تناقلها الأئمة الباقون واحد عن الآخر.

نظرية الشيعة في الخلافة والإمامة

ويقول الشيعة في الدفاع عن نظريتهم في الخلافة والحُكم والمامة :

١ ـ تواتَر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله لعليّ بأنه هو شيعته هم الفائزون يوم القيامة ، ويأتي أعداؤهم غضاباً مقمحين ، وفي عبارات مختلفة (٣) ، فلماذا شدّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على ان

__________________

(١) النحل ٤٣.

(٢) انظر : شواهد التنزيل ـ الحاكم الحسكاني ١ : ٤٣٤ ؛ تفسير القرطبي ١١ : ٢٧٢ ؛ تفسير الثعلبي ٦ : ٢٧٠.

(٣) المعجم الكبير ـ الطبراني ١ : ٣٢٩ ـ حديث ٤٤٨.

٥٠٩

الذين يتشيعون لعليّ ، سيفوزون يوم القيامة دون غيرهم من المسلمين ، إذا لم يكن منهج علي وأتْباعه هو المنهج الحق دون غيره من المناهج والطرق والاتجاهات؟ ولذلك لم يقل صلى‌الله‌عليه‌وآله في أتباع غيره إنهم ناجون أيضاً ، وبذلك ميَّز أتْباع علي وشيعته عن غيرهم من المسلمين.

٢ ـ ان الاحاديث النبوية الواردة في حق عليّ وأهل بيته ، ليست فضائل ومناقب لاحترامهم وتبجيلهم وتجليلهم فحسب ، وانما تعنيهم بالخلافة والامامة دون سواهم ، خاصة الاحاديث التي تعدّ أهل البيت معياراً للحق والباطل ، فإن اتّبعهم المسلمون وأطاعوهم فسيكونون على هدى وحق ، وإن تفرّقوا عنهم وعصوهم فسيكونون على باطل.

٣ ـ حديث الثقلين المروي عن رسول الله (١) ، يربط أهل البيت بالقرآن الكريم ، والمفروض على المسلمين ، الالتزام بهما معاً ، إذا أرادوا النجاة والفوز ، ولا يحق لهم التمسّك بالقرآن وحده ، ولما كان القرآن حبل الله المتين ، وينبغي الاعتصام به ، وتنفيذ أوامره ونواهيه ، فكذلك على الأمّة تنفيذ أوامر الثِقَل الثاني (أهل البيت) ونواهيهم ولكونهم أيضاً عِدْل القرآن ، أي انهم ككتاب الله ، حكّام على الناس دون سواهم.

٤ ـ قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إن أهل بيته كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى () ، ماذا يعني؟ هل يعني احترام اهل البيت وتوقيرهم وتبجيلهم فحسب أم يعني اتّباعهم والتمسك بهم كسفينة نوح حيث ان من ركبها نجا مع نبي الله نوح عليه‌السلام أما من تخلّف عنها وعصا نبيّه فقد غرق وهلك حتى وإن كان ابنه العاصي؟

٥ ـ اقتران عليّ بالحق في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان علياً مع الحق ، والحق مع عليّ يدور معه

__________________

(١) مسند احمد ٣ : ١٧ ـ ١٨.

٥١٠

حيث دار (١) ، أو انه مع القرآن والقرآن معه (٢) ، تعبير نبوي دقيق على ان علياً ملازم للحق ومتجسِّد به في كل أفعاله وأقواله ، وهو مُؤهَّل ـ بذلك ـ لقيادة الأمّة وايصالها الى شاطئ النجاة ، إذ من غير المعقول أن يكون رجل بهذه المواصفات أن يُحْرِف الامّة أو يهوي بها في منحدر الضلال ، لأن مثل هذا الرجل سيكون أميناً على الشرع الاسلامي ، ويمضي به ـ على هدى واستقامة ـ حتى النهاية. وعليه فإن الخليفة الذي يخلف رسول الله لابد أن يمتلك الصفات التي تصون الأمّة من الهلاك في الدنيا والآخرة.

والشخص الذي يكون مطابقاً للقرآن والحق في أقواله وأفعاله وسلوكه ، سيحفظ الأمّة من الانحراف والزيغ والتفرق إلى مذاهب وطوائف وفِرَق ونِحَل مختلفة.

من كل هذا ، يعتقد الشيعة أن الحاكم والخليفة الذي يخلف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يجب أن يتّصف بهذه الصفات والخصائص التي توفّرت كلها في عليّ الذي ـ بحكم أقواله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ هو الوصي والوزير والخليفة بعد الرسول ، لأن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال فيه : «خليفتي من بعدي» ، حيث استخلفه بنفسه ، ليستحق لقب «خليفة رسول الله» ، لا كغيره من الخلفاء الذين ادّعوا انهم خلفاء للرسول دون أن يستخلفهم أو يوصي بهم. وبذلك افتقدوا للشرعية ، حيث أن الإستخلاف عملية جعلية كما يقول الشيعة.

٦ ـ تأكيد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد المدينة ، او فليأتِ فليدخل من الباب (٣) ، أي هي باب واحدة فقط ، وان الأمّة إذا أرادت ، التزوّد من العلوم النبوية ، أن تتجه إلى عليّ دون سواه ، للاستيضاح منه والتقّه على يديه بكل صغيرة وكبيرة من المفاهيم والتعاليم الاسلامية.

__________________

(١) تأريخ مدينة دمشق ٤٢ : ٤٤٩ ؛ تأريخ بغداد ١٤ : ٣٢٢.

(٢) المعجم الصغير ـ الطبراني ١ : ٢٥٥ ؛ مجمع الزوائد ـ الهيثمي ٩ : ١٣٤.

(٣) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢٧ ؛ الاستيعاب ـ ابن عبد البر ٣ : ١١٠٢.

٥١١

٧ ـ قول رسول الله لعليّ : بك يهتدي المهتدون من بعدي (١) ، ولابد ـ بحكم العقل ـ أن تجتمع الامامة والخلافة في رجل واحد ، حتى تكون أوامره السياسية والدينية واحدة.

٨ ـ وفي اعتقاد الشيعة ، ان رسول الله في غدير خم بعد حجة الوداع ، كان موقفه واضحاً في تعيين علي خليفة من بعده ، عندما قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، وأخذل من خذله.

وكانت حجة الوداع آخر حجّة للرسول في حياته ، حيث أكد للحاضرين انه على وشك الرحيل ، ومادام هو أولى الناس بأنفسهم ، أي حاكماً عليهم ومتصرّفاً في نفوسهم ، فعليّ أيضاً هو مولى المسلمين وأولى بهم من أنفسهم ، وعليهم إطاعته واتّباعه وعدم عصيانه ، ثم أعقب قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن الله يوالي من والاه ، ويعادي من عاداه ، وينصر من نصره ويخذل من خذله ، أي ان علياً هو على الحق على الدوام ، فمن ينصره ، سيكون محقاً والله ناصره ، ومن يخذله سيكون مبطلاً والله خاذله ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل قوله هذا ، قد نصح الحضور بالتمسك بالثقلين ، كتاب الله وعترته أهل بيته ، وهو ينظر كيف سيخلفونه فيهما؟ فالقضية عند الشيعة إذاً ، قضية تمسّك وإتّباع وطاعة ونصرة ، وفي مقابلها ، إهمال وعصيان وتخاذل في حق أهل بيت الرسول وعليّ بالذات ، بمعنى ان هؤلاء أوصياء له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومصدر الاحكام الشرعية ، وخلفاء وحكّام على الأمّة ، وأولى بها من نفسها بحيث ان طاعتهم تؤول بالأمّة إلى النجاة في الآخرة ، وعصيانهم يهوي بها إلى النار.

ويعتقد الشيعة ـ بالاستناد الى المصادر السُنّية الوثيقة ـ ان هناك آيات قرآنية نزلت قُبَيل وبعد واقعة الغدير ، لتأكيد أهمية هذه الواقعة التأريخية وتبيان مضمونها الدقيق ،

__________________

(١) انظر : تفسير الرازي ١ : ٢٠٥.

٥١٢

وهدفها تثبيت خلافة عليّ وإمامة العترة النبوية للأمّة ، فالآية ا لأولى نزلت قبل نطق الرسول بالأمر الالهي الهام ، وهي تأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبليغ ذلك الأمر ، فإن لم يَبَح به ويعلنه ، فكأنه لم يبلّغ رسالته التي أُنزلت عليه منذ البعثة. ولما أعلن رسول الله ذلك الأمر ، نزلت آية أخرى تفصح عن إتمام الرسالة الإسلامية وإكمال الدين بعد البوحْ بذلك الأمر الذي كان إعلان ولاية عليّ على الأمة وتعيينه خليفة عليها. هذا هو الرأي الشيعي في خلافة رسول الله (١).

ويستغرب علماء الشيعة ، كيف يحاول أهل السُنّة والجماعة ، إفراغ هذه الواقعة التأريخية المهمة من مضمونها العظيم ، واختزالها بالادّعاء بأن رسول الله إنما أراد إفهام المسلمين بأن علياً ناصرهم وعليهم نصرته ليس إلا ، وذلك هو الهدف من كل تلك المجريات والوقائع التي تخللت حادثة الغدير ، فتناسى هؤلاء أو تجاهلوا ـ متعمّدين ـ حسب رأي الشيعة وأتباع أهل البيت ، ان النبي إنما قصد في يوم الغدير بعبارة «المولى» ، الأوْلى بالانفس او بتعبير آخر ، الحاكم على النفوس (٢).

مواقف الحكاك ... ماذا تعني؟

ويرى الشيعة ، انه لو تتبّعنا موقف الحكّام والخلفاء منذ وفاة رسول الله ، حيال أهل بيته وأبنائهم خاصة في العهدين الاموي والعباسي ، لوجدنا أن أساليب أولئك الخلفاء والحكّام وأعوانهم ، وممارساتهم ازاء أئمة أهل البيت وذويهم ، تنمّ عن شعور بالاثم وانهم غاصبون لحق أولئك الأئمة من أهل البيت ، ولذلك كانوا يحْصون عليهم

__________________

(١) السنن الكبرى النسائي ٥ : ٤٥ ؛ أسباب النزول ـ الواحدي : ١١٥ ـ مطبقة الحلبي.

(٢) تفسير البغوي ٤ : ٢٩٧ ؛ تفسير الرازي ٢٩ : ٢٧٧.

٥١٣

أنفاسهم ، ويراقبونهم ليلاً ونهاراً ، وينكِّلون بأتباعهم خوفاً من تحلّق الناس حولهم ، ولولا معرفة أولئك الحكام والخلفاء بأحقية أهل البيت للخلافة والامامة ، وإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يوصِ بهم من باب تأكيد فضائلهم ومناقبهم فقط ، وإلا كان من العبث أن يتخذ الحكّام سياسة القمع والتنكيل تجاه أهل البيت وابنائهم على مرّ التأريخ ، وفي المقابل فإن علياً وأبناءه لم يكونوا على باطل أو كانوا أدعياء حينما كانوا يعتقدون باغتصاب الخلفاء الأوائل للسلطة منهم؟

هذا ما يقرّ به الشيعة ورموزهم ، لأن اعتصام عليّ وبني هاشم وبعض الصحابة في بيت الزهراء ، ورفضهم البيعة لأبي بكر (١) ، لم تأتِ عبثاً أو إدعاء لا أساس له ، وانما اعتصم عليّ وبنو هاشم والعديد من الصحابة الكبار مثل عمار بن ياسر وطلحة والزبير والمقداد وسلمان وغيرهم في بيت الزهراء لإيمانهم بأن علياً كان مُوصاً به من قبل رسول الله ، لكن القوم أبوْا له تسلّم الخلافة ، وآثروا أن يقصوه عنها ، بحجّة ان قريشاً تكره اجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم ، كما أقرّ الخليفة ، عمر بن الخطاب بذلك (٢).

ويؤمن الشيعة بأن علياً لم يبايع أبا بكر اختياراً ، وإنما بايعه مكرهاً بعد أن هدّده البلاط الحاكم بالقتل ، وعندما رأى انصراف وجوه الناس عنه لأنه الوحيد الذي لم يُبايع ، وبايع سائر المهاجرين والأنصار ، الخليفة الأول ، إما خوفاً ورهبة أو لعلمهم ان البيعة أمر لا مفرَّ منه بالرغم من اعتقادهم بأحقية عليّ للخلافة (٣).

__________________

(١) الامامة والسياسة ١ : ٢٩ ـ ٣٠؛ العقد الفريد ٤ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ـ الطبعة الثانية.

(٢) تأريخ الطبري ٣ : ٢٨٩ ؛ الكامل في التأريخ ـ ابن الاثير ٣ : ٦٣.

(٣) الامامة والسياسة ١ : ١٢ ـ ١٣ ـ مطبعة مصطفى الحلبي ؛ الملل والنحل ـ الشهرستاني ١ : ٥٧ ـ دار المعرفة بيروت.

٥١٤

ولا يخفى أن علياً بايع أبا بكر لتلافي قتله المحتوم ، وهو لمّا كان على الحق في كل تصرفاته وأعماله وأقواله ، لأنه مع الحق والحق معه ، يدور معه حيث دار ، فإن بيعته لأبي بكر كانت مُضطرَّة .. مُكرَهة ، وان الله بهذه البيعة (اللامشروعة) الواقعة تحت التهديد ، حفظه وأهل بيته من التصفية على يد التيار الحاكم. وليس عليّ فقط بايع مضطراً كونه كان مُهدّداً بالقتل ، وإنما أُرغم الكثير من كبار الصحابة والمهاجرين والأنصار ، على البيعة لأبي بكر كما يهد التأريخ بذلك.

على أن الشيعة يرون ان علياً بعد انصرافه عن الخلافة والحكم ، كان يصبو إلى عودة الأمّة إلى رشدها وصوابها قبل أن يستفحل الانحراف الذي بدأ قليلاً في عهد أبي بكر ثم اشتد في عهد عمر بن الخطاب ، إلا ان الخليفة الثاني منعه من خلال الشورى التي عيّنها ، من التصدّي للخلافة ، واتخذت الانحرافات منحى شديداً في عهد الخليفة عثمان بن عفان ، وبدأت الفتن تتوالى كقطع الليل المظلم ، مما دفع علياً بصرف النظر عن فكرة تصدّيه للخلافة ، لكون الانحرافات والفتن والتلاعب بالسُنّة النبوية كانت من العمق ، بحيث ليس من السهل إصلاح الاوضاع المتردية والموغلة في الانحراف والبعد عن سُنّة رسول الله ، ومع أن الأمّة ـ بعد مقتل الخليفة الثالث ـ أحسَّت بالخطأ ووخز الضمير والذنب الكبير الذي ارتكبته بإهمال الوصية النبوية في واقعة الغدير ، فضلاً عن الوصايا والأوامر الأخرى التي حذّر فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أمّته من تجاوز اهل البيت وعميدهم عليّ ، كقادة وزعماء وحكّام عليها ، كان الكيل قد طفح ، وبلغ السيل الزبى ، ولذا شعر عليّ بفداحة الانحراف وعمقه ، بعد ٢٥ عاماً من الانحرافات والبدع الكثيرة التي أحدثها الخلفاء الثلاث الأوائل ، مما جعله لا يفكّر أبداً بالمطالبة بحقه في الخلافة أو اقتراح الأمّة عليه بقبول التصدي لهذا المنصب الخطير ، لولا إجماع المهاجرين والانصار ـ عدا

٥١٥

قلة ، منهم بني أميّة ـ واصرارهم على البيعة له كخليفة ، فاضطر إلى قبولها بقوله : «لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر. وما أخذ الله على العلماء أن لا يُقاروا على كِظة ظالم ولا سغِب مظلوم ، لألقيت حبْلها على غاربها» (١).

وعند قبول علي لتولي الخلافة والبيعة من الأمّة ، اشترط أن يعيد الأمور إلى نصابها ، وأن يستن بسُنّة رسول الله ولا تأخذه فيها لومة لائم ، ولا يعير أهمية لسُنن الخلفاء الثلاث ، لأنها كانت في الكثير من جوانبها ، تُخالف السُنّة النبوية ، فأذعن المبايعون لشروطه ، إلا ان بعضهم نقض تلك الشروط ، وقامت عليه تلك الحروب الظالمة ، فلم يتورّع عن قتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، لكونه الخليفة الشرعي المعيّن من لدن رسول الله بأمر من الله تعالى ، علاوة على بيعة الأمّة له في حالة فريدة لم يشهد لها التأريخ نظيراً في عملية اختيار الحكّام الذين اعتادوا ان يختارهم أشخاص قلائل قبل أن تُرغم الأمّة على بيعتهم بالترغيب والترهيب والإكراه.

ولم يطل الزمن بعليّ سوى أقل من ٥ سنوات قضاها في قتال الاعداء والطامعين حتى قُتل وهو مطمئن إلى مصيره ، حيث قال : «فزت ورب الكعبة» ، بعكس الخلفاء من قبله الذين كانوا قلقين عند الموت ، خائفين من مصيرهم بعد الاستحواذ على الخلافة ، وما تخللت عهودهم من انحرافات وتجاوزات على النصوص الدينية ، هذا هو رأي الشيعة عن موقف عليّ من الحُكم.

وبعد مقتل عليّ بن أبي طالب ، تم تجريد باقي أئمة اهل البيت من الخلافة أيضاً ، وظلّوا أئمة يوجّهون شيعتهم في ظل حكّام العهدين الأموي والعباسي ، اللذين شدّدا الحصار على آل البيت وأئمتهم وذويهم ، وأقدما على إجهاض أية حركة كانت تقوم

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تحقيق صبحي الصالح : ٤٩.

٥١٦

لاعادة الحق المغصوب لاهله واصحابه الحقيقيين.

وعلى حد قول شيعة اهل البيت ، ان ما كان يحذّر منه القرآن الكريم ورسول الله ، قد وقع بالفعل ، نتيجة إقصاء أئمة اهل البيت عن موقعهم الأساسي في الأمّة ، وظلوا أئمة لفئة قليلة من المسلمين وهم الشيعة ، محتفظين بالسُنّة النبوية المودعة فيهم ، بينما انضوى الاكثرون تحت مظلة التيار الحاكم بعد رسول الله ، وهؤلاء قد فرّطوا بالسُنّة النبوية وعطّلوا العديد من السُنن والحدود ، وأضافوا سُنناً أخرى من عندهم ، امتزجت في عقائد وأحكام وشرائع المسلمين ، لتصبح جزءاً من الدين الإسلامي ، من خلال أحاديث كثيرة وضعها أتباع التيار الحاكم لتكريس الشرعية للعهدين الاموي والعباسي الذين استقوا عقائدهما وتعاليمهما من سيرة الخلفاء الثلاث الأوائل الذين أُسبغوا عليهم لقب «الخلفاء الراشدين» لكي تصبح خلافتهم مقدَّسة مشروعة إستمرارً للعهد النبوي.

وهكذا توزّعت الأمّة وتجزّأت إلى مذاهب ومدارس عقائدية وكلامية وفقهية كثيرة جداً ، أدّت إلى ضياع الكثير من الجهود والأموال والقدرات ، بل وإزهاق النفوس ، وذلك وحسب قول ـ علماء الشيعة ـ بسبب إهمال أهل البيت وعدم اتخاذهم ثقلاً مع القرآن الكريم ، وإمتداداً للرسول ، وخَزَنة لسُنّته المطهَّرة ، وحكّاماً على الأمّة من بعده ، حيث بقي أئمة أهل البيت ـ سوى عليّ في حكمه الأمّة بعد الفتنة ـ أئمة لشيعتهم الذين أطاعوا رسول الله في اتخاذ الأئمة الاثني عشر ، خلفاء له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومصدراً لسُنّته ، وبذلك حققوا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عليّ وشيعته ، حينما قال : يا علي أنت وشيعتك الفائزون في يوم القيامة ، تأتون هداة مهديين ويأتي اعداؤكم غضباً مقمحين (١).

__________________

(١) المعجم الكبير ـ الطبراني ١ : ٣١٩ ـ حديث ٤٤٨.

٥١٧

ويؤكد علماء الشيعة ، بأن ما يُسمّى بالمذهب الشيعي ، أو المذهب الجعفري ، أو المذهب الامامي ، أو المذهب الاثنا عشري ، ليس إلا الاسلام المحمدي الأصيل الذي نادى به صلى‌الله‌عليه‌وآله في وصاياه للأمّة باتّباع أهل بيته وفي مقدمتهم ـ بالطبع ـ عليّ بن أبي طالب ، لأنهم الامتداد الحقيقي له ، فأصبح أتباع اهل البيت : «شيعة» ، ومنهج العترة النبوية : «تشيعاً» ، إلا ان نشوء المذاهب السُنّية العديدة في أواسط القرن الهجري الثاني ، والتي تزعم كلها الانتساب للرسول (ص) وإنها الخليفة الشرعي له ، والتي انضوت تحت اسم «أهل السُنّة والجماعة» ، دفعت بأتباع أهل البيت إلى تسمية منهجهم بالمذهب الشيعي ، كي لا يضيع الشيعة في غمرة ذلك العدد الكبير من المذاهب والمدارس السُنّية التي تعتبر نفسها الامتداد الصحيح للمنهج النبوي ، والممثلة له ، وإلا فالاسلام الأصيل ، ليس فيه مذاهب ولا فِرَق ولا نِحل ولا طوائف ، وكما يؤكد رسول الله ، ان النجاة لفرقة واحدة فقط ، حيث يقول الشيعة : هذه الفرقة هي التشيّع لاهل البيت واتّباع منهجهم فحسب ، وهي الفرقة الوحيدة الناجية في رأيهم دون الفرق الأخرى (١).

دفاع الشيعة عن مدرسة اهل البيت

! ـ إن الدين الإسلامي الذي نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مبعثه الخالق عزّ وجل الذي يعلم يحث يجعل رسالته ، ولأنه يعلم ان للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، استعدادات ذاتية لتقبّل الرسالة الإسلامية ، فقام بتسديده وعصمته وإنزال الوحي على قلبه ، فتلقّى القرآن ال كريم ومِثله معه من الحديث الشريف الذي هو شرح وتفصيل للآيات القرآنية.

__________________

(١) تفسير القرطبي ٢ : ٩.

٥١٨

ومثل هذا الدين الإلهي العظيم ، يجب أن تحتضنه عقول وصدور أمينة حتى لا يتعرّض لعبث العابثين ، وجهل الجاهلين ، وأهواء المبتدعين ، خاصة إذا عرفنا ان الإسلام آخر الرسالات السماوية.

٢ ـ كان للرُسُل السابقين ، أوصياء وأئمة ، حيث أودع هؤلاء الانبياء في أوصيائهم ، شرائعهم وتعاليمهم ليفسّروها ويشرحوها لأتباعهم ، فلماذا خُص الانبياء والرسل الذين كانت رسالاتهم مؤقتة ومحدودة بتلك الخصيصة وهي الوصية لأنبياء أو أئمة من أبنائهم وذويهم ، ويُحرم منها رسول الله محمد صلى الله علهي وآله صاحب الرسالة الخاتمة؟ فينقل الجمهور السُنّي ، حديثاً ملفقاً عن رسول الله حين سُئل وهو على فراش الموت ، بماذا توصي؟ فقال : «أوصيكم بكتاب الله»!! (١).

٣ ـ مسألة التوارث في قضية أئمة أهل البيت ، مسألة الهية ، مادام الله تعالى هو الذي خصّهم بالامامة من خلال الوحي إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبر جبرئيل عليه‌السلام ، والقرآن الكريم قد أشار إلى العديد من الأنبياء الذين توارثوا النبوّة بأمر الله تعالى ، ولم يقل أحد ان هذا الأمر ، يمثّل دكتاتورية أو يتعارض مع حرية الاختيار أو مُخالف للحرية الانسانية ، مادام الله تعالى هو الذي اختارهم وعيّنهم ، حيث ورث النبي سليمان داود ، وكذلك النبي يوسف يعقوب ، واسماعيل إبراهيم .. ـ وهناك سلسلة من الأنبياء توارثوا النبوة ، أباً عن جد ، بتسديد وتخصيص من الله تعالى ، فما المانع من تعيين أئمة من آل البيت من قبله تعالى بالتوارث عبر وصايا وأوامر منه ـ عزّ وجل ـ لكونه يمتلكون استعدادات ومَلكَات يفتقدها غيرهم ، لكونهم مسدَّدين من قبله تعالى دون الناس.

__________________

(١) الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ٣ : ٣٣٦ ؛ تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٤٤ : ٤٤٠ ؛ تهذيب الكمال ـ المري ٥ : ١٧٥.

٥١٩

وبالنظر إلى ان القرآن الكريم قد أشار إلى أهل البيت بصورة إجمالية وقضى بأنهم مطهّرون من الرجس ، إلا ان الاحاديث النبوية الشريفة جاءت لتبيّن من هم أهل البيت الذين تجب على الأمّة موالاتهم واتّباعهم والاستمداد منهم دون سواهم من الصحابة والمسلمين ، وحدّدهم رسول الله بأشخاصهم وأسمائهم ، وهم خمسة في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أشار صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تسعة آخرين يأتون من بعده ، ليصبح الأئمة اثني عشر من أهل البيت ، فضلاً عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وابنته الزهراء ، وهؤلاء هم المطهّرون من الرجس ، وأعلم الأمّة إطلاقاً ، وعلى الأمّة الاسلامية جميعها ، موالاتهم وإتباعهم ومشايعتهم وإطاعتهم وأخذ العلوم الدينية والشرعية عنهم.

وهم خلفاؤه والأئمة من بعده على الناس إلى يوم القيامة ، فما داموا عدْلاً للقرآن الكريم والثقل الآخر له ، فلا يأتيهم الباطل ، لا من بين أيديهم ، ولا من خلفهم ، كما القرآن الكريم : لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (١) ، ومادام القرآن الكريم ، موضع هداية للمسلمين ، ويصونهم من الضلال : إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (٢) ، كذلك التمسّك بأهل البيت ، موضع هداية ، وأمان لهم من الضلالة والانحراف : «ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً» (٣).

ويضيف الشيعة ، دليلاً آخر على خلافة أهل البيت ، وهم الأئمة الاثنا عشر ،

__________________

(١) فصلت ٤٢.

(٢) الإسراء ٩.

(٣) المعجم الاوسط ـ الطبراني ٤ : ٣٣ ؛ كنز العمال ١ : ١٨٦ حديث ٩٤٥.

٥٢٠